; logged out
الرئيسية / مناهج التعليم في الخليج..بين الضغوط الخارجية ومطالب التنمية الداخلية

مناهج التعليم في الخليج..بين الضغوط الخارجية ومطالب التنمية الداخلية

الإثنين، 01 أيلول/سبتمبر 2008

تتعرض دول الخليج منذ فترة لضغوط خارجية كبيرة لجعلها تقوم بإجراء بعض الإصلاحات الداخلية التي تستهدف من جهة إعادة ترتيب بيتها الداخلي، ومن جهة أخرى تخليص المحيطين بها من بعض الإفرازات السلبية التي نتجت عن ذلك الخلل في بعض المؤسسات المجتمعية في دول الخليج، وتشمل هذه الإصلاحات بالإضافة إلى الإصلاحات السياسية والاقتصادية قضية إصلاح مناهج التعليم (غير المواكبة لروح العصر والتي تحث على الكراهية والتعصب ونبذ الآخر).

خضعت الإصلاحات السالفة الذكر لجدل مجتمعي كبير، لكن سرعان ما خف اللغط حولها أو تلاشى ولكن وحدها المناهج التعليمية ظلت موضع شد وجذب بين تيارات مجتمعية عديدة بعضها مؤيد والآخر معارض، ليس لتلك الضغوط فقط، بل لتلك الإصلاحات. فعلى الرغم من أن تطوير المناهج التعليمية ليس بقضية جديدة على مجتمعات الخليج، إلا أن الجديد هو زيادة الضغوط الخارجية عليها، خاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، لجعلها تسرع في تعديل ومراجعة مناهجها التعليمية. فهذه المناهج، في زعم بعض الدول الغربية، خاصة الولايات المتحدة، هي المسؤولة عن روح التعصب والتطرف التي فرخت الإرهاب الذي ضرب مصالح الولايات المتحدة في الداخل والخارج. لذا فقضية تعديل المناهج أو (إصلاحها) ليست بقضية داخلية بل هي أمر يخص الغرب تماماً كما يخص دول الخليج.

المناهج الدراسية تقسم الرأي العام في الخليج إلى قسمين مؤيد يدعو إلى السرعة وآخر يرى ضرورة التريث

إن دول الخليج وعلى الرغم من أنها لم تتقبل تلك الضغوط الغربية إلا أنها رضخت لها، ويمكن أن يفسر رضوخها بأكثر من سبب: أولها هو رغبتها في تفادي أي نوع من الصراع الفكري والأيديولوجي مع الغرب. والثاني هو إدراكها بأن مناهجها التعليمية في حاجة فعلية إلى التطوير لتتماشى مع العصر وتلبي متطلبات سوق العمل التي تغيرت كثيراً عما كانت عليه في فترة الثمانينات والتسعينات، الأمر الذي أفرز بطالة كبيرة خاصة بين خريجي التعليم الحكومي، كما أفرز فجوة كبيرة بين مخرجات التعليم ومطالب سوق العمل من الصعب ردمها من دون عملية كبيرة لتطوير المناهج التعليمية وذلك لجعل الخريجين المواطنين قادرين على المنافسة في سوق العمل.

وكما ذكر سالفاً لم تكن عملية (إصلاح) أو تعديل المناهج جديدة على دول الخليج، فقد خضعت تلك المناهج منذ السبعينات وبصورة دورية لعملية تغير وتبديل وإصلاح، لكن كان ذلك التغير دوماً عملية سطحية لا تمس جوهر المناهج ولا توجهاتها الأساسية وقيمها الدينية والروحية. غير أن فترة التسعينات أظهرت الحاجة الماسة إلى التعديل الجذري والجوهري في تلك المناهج وتطويرها. فمخرجات التعليم، خاصة الحكومي، أصبحت غير متوافقة مع متطلبات سوق العمل الذي تطور بصورة كبيرة. إضافة إلى ذلك فقد اتهمت تلك المناهج التعليمية بأنها تخلق جيلاً لا يتقبل الآخر، فهي تحث على الكراهية ونبذ الآخر والعنف والتطرف. وجاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 لتؤكد تلك المخاوف. لذا فليس من المستغرب أن تبدأ في الغرب أكبر عملية ضغط على دول الخليج لتغير مناهجها ولتبدأ في دول الخليج منذ تلك الأحداث أكبر عملية تطوير للمناهج التعليمية في تاريخها: عملية بدأت بالمناهج الدراسية وتطورت لتشمل تأهيل القائمين على العملية التدريسية، كما طالت اللغة المستخدمة في التدريس، والقيم المراد توصيلها والبيئة المدرسية وقضايا أخرى تخص التعليم.

وخلقت تلك الإصلاحات التعليمية جدلاً فكرياً ومجتمعياً كبيراً، فقد خلقت اتجاهات شعبية بعضها كانت موافقة على فكرة التغيرات والتعديلات تلك ومؤيدة لها وأخرى معارضة بل رافضة لها. أما المؤيدة لها فتبني موقفها على أساس أن قضية تطوير المناهج هي قضية أساسية في عملية التنمية المستدامة وفي خلق جيل محلي الهوية عالمي التطلعات، مواكب لتطورات العصر لكي يساهم وبقوة في عملية التنمية المجتمعية. فلكي تنجح مجتمعات الخليج في عملية التنمية تحتاج إلى جيل واع متطور، كما تحتاج إلى استيراد الأفكار الجديدة والاستفادة من خبرات الدول المتقدمة في المجالات العلمية والتقنية. إذاً فهذا التيار يرى في هذا التغير أنجع وسيلة للتخلص من المناهج المترهلة ومن طرق التدريس العقيمة القائمة على حشو المعلومات والتلقين ومن المدرسين غير المؤهلين لحمل عبء العملية التدريسية التي ينتج عنها بالتالي أجيال غير مؤهلة لتحمل عبء العملية التنموية.

أما التيار المعارض فيبني رأيه على فكرة أن (إصلاح) المناهج أو تعديلها هو شأن داخلي يجب ألا يملى من الخارج، وأن أي تعديل يجب أن يؤخذ في الحسبان ظروف المجتمع المحلي واحتياجات سوق العمل والبيئة المحلية. فظروف المجتمعات الإسلامية الشرقية المحافظة تختلف كل الاختلاف عن ظروف المجتمعات الغربية العلمانية، لذا يجب عدم تعميم تجارب الدول الغربية على مجتمعات الخليج المسلمة المحافظة. ولذلك يصر هذا التيار على إيجاد حلول محلية لمشكلات مخرجات التعليم كالبطالة والقضايا الأخرى. إذاً فالتيار الشعبي المعارض، على الرغم من أنه غير رافض لفكرة التغير نفسها، إلا أنه يصر على اعتبار المناهج الدراسية أمراً داخلياً محضاً يجب أن يكون نابعاً من طبيعة المجتمع وليس شأناً يملى من الخارج. فوظيفة التعليم تنموية وليست سياسية، وكل دولة هي أدرى بما يتناسب مع حاجة مجتمعاتها ومدى ملاءمة ما ترغب في إدخاله من إصلاحات في مناهجها مع طبيعة مجتمعها وبيئتها.

ما لم تكن الإصلاحات نابعة من الداخل ومتوافقة مع الحاجة والنظم والقيم فلن تصمد طويلاً

وأسهمت هذه الآراء المتناقضة في إيجاد نوع من الجدل المجتمعي لم تخف حدتها بعد، كما أسهمت في زيادة الضغوط على صناع القرار بشأن تطوير المناهج وتخليصها من كل ما من شأنه أن يؤثر في فاعليتها. وهكذا استطاعت المناهج الدراسية أن تقسم الرأي العام في دول الخليج إلى قسمين: قسم مؤيد يدعو إلى السرعة في قضية التغير ويرى فيها ضرورة ملحة تخدم حاجة هذه المجتمعات التنموية حتى لا تتخلف عن الركب العالمي، وقسم آخر يرى ضرورة التريث قبل تبني أي نوع من التغير لمعرفة مدى ملاءمته لحاجة المجتمع الفعلية. ويبدو أن قوى الشد والجذب بين أنصار هذين التيارين خلقت فجوة شعبية وجدلاً مجتمعياً لا يتعلق بماهية التغيرات في المناهج وجدواها فقط، بل أيضاً بقضية جوهرية أخرى هي: هل من حق قوى أجنبية أن تتدخل لفرض تغير كهذا على هذه المجتمعات؟ فالغرب يبرر ضغوطه تلك بأن هذا التغير مطلب ملح يؤرقه، فهو أصبح اليوم يربط كثيراً بين أمنه القومي ومجريات الأمور في مجتمعات الخليج. لكن في خضم هذه الضغوط الخارجية برز إلى السطح سؤال منطقي هو إلى أي مدى تعتبر قضية تغير المناهج قضية ملحة في مجتمعات الخليج؟

منذ عقدين تقريباً بدأت تظهر في دول الخليج مشكلات عديدة أفرزتها مناهج التعليم غير المواكبة للمتغيرات الاقتصادية التي طرأت على سوق العمل. ويمكن أن يكون أحد أهم إفرازاتها السلبية قضية البطالة بين صفوف الشباب وخاصة خريجي الجامعات. وقد بدأت المؤسسات الرسمية بدراسة أسباب هذه الظاهرة دراسة علمية فأرجعها البعض إلى عجز المناهج الدراسية عن مواكبة متطلبات سوق العمل، بينما أرجعها البعض إلى عوامل أخرى كأساليب التدريس القديمة وعجز القائمين على العملية التعليمية والبيئة المدرسية غير المحفزة وعوامل أخرى كثيرة. والنتيجة العامة هي بطالة بين صفوف الشباب التي وصلت في بعض دول الخليج إلى نسب رهيبة. فأصبح من الشائع أن نجد خريجاً في العلوم الإنسانية والاجتماعية غير قادر على إيجاد وظيفة في سوق العمل الذي يتطلب مهارات تقنية ولغات أجنبية ومهارات حياتية مغايرة لتلك التي تعلمها في المدارس الحكومية. لذا أصبح هذا الخريج غير قادر على منافسة العامل الأجنبي الذي وفد إلى دول الخليج بحثاً عن عمل ولديه المهارات المطلوبة ويكلف الدولة جزءاً ضئيلاً مما يكلفها الخريج المواطن. فلا غرو أن يتهافت القطاع الخاص على استخدام واستقدام العمالة الأجنبية ويئن القطاع الحكومي تحت وطأة أعباء كثيرة أهمها أنه أصبح المسؤول الأول عن تشغيل الخريجين المواطنين، الأمر الذي أصابه بالتخمة والترهل، والأمر الثاني هو تلك الفجوة التقنية والمعرفية بين العاملين في القطاعين العام والخاص. لذا كان لا بد من تعديل المناهج الحكومية لتتناسب مع روح العصر وتلبي احتياجات المجتمع المتزايدة من العمالة الماهرة والمؤهلة.

ولكن ما هو جوهر ذلك الإصلاح؟ هل هو حقيقة نابع من حاجة مجتمعات الخليج الفعلية وحاجات سوق العمل فيها أم مجرد رغبة لإرضاء الغرب مع التفريط في بعض القيم المهمة في المناهج؟

لقد أثبتت المناهج الدراسية حاجتها الفعلية للتطوير حين أصبحت عاجزة عن مواكبة روح العصر، وأصبح تطويرها ضرورة ملحة تتطلبها ليس الأوضاع الاقتصادية وسوق العمل فقط، بل متغيرات المجتمع ككل. فمخرجات النظم التعليمية في الخليج لا تزال قاصرة عن استيعاب المتغيرات التي طرأت على مجتمعات الخليج خاصة من النواحي الاقتصادية. أما اجتماعياً فلم تعد المناهج الدراسية القديمة ملائمة لتلك المجتمعات التي وفدت إليها أجناس سكانية من كافة دول العالم لتعيش وتعمل في هذه المنطقة وتغير من تركيبتها السكانية. وهكذا خرجت هذه المجتمعات من عباءة الصحراء لتدخل وبقوة العصر الحديث، فلم تعد تلك المجتمعات البدوية منعزلة عن محيطها العالمي، بل اختلطت به وغدت أنموذجاً فريداً للمجتمعات العالمية المختلطة. كما لم تعد مجتمعات رفاهية بل أصبح الخليج اليوم قوة فاعلة في الاقتصاد العالمي يخضع للمؤثرات نفسها التي تخضع لها السوق الاقتصادية العالمية.

وبينما تطورت الأوضاع الاقتصادية والبيئة المحلية بصورة كبيرة لتواكب العصر ظلت النظم التعليمية والمناهج الدراسية غير قادرة على مجاراة هذا التغير، الأمر الذي أفرز فجوة كبيرة. وهنا بدأ النظام التعليمي يرزح تحت عبء قضايا عدة أهمها عدم قدرته على خلق المواطن الخليجي القادر على التكيف مع متطلبات سوق العمل والواقع الاقتصادي والديموغرافي الموجود في الخليج.

إن دول الخليج وهي تواجه اليوم الضغوط الغربية للإصلاح الداخلي بدءاً من الإصلاحات السياسية وانتهاء بالمناهج الدراسية يجب أن تضع نصب أعينها مصلحة شعوبها التي هي المستهدف الأول من هذه الإصلاحات. فالضغوط الغربية لن تبقى إلى الأبد، ولكن الباقي هو الإصلاحات الحقيقية التي تتبناها دول الخليج. وما لم تكن تلك الإصلاحات نابعة من الداخل ومتوافقة مع الحاجة الفعلية والنظم والقيم الاجتماعية منها والروحية فلن تصمد طويلاً.

وأخيراً تبقى حقيقة مهمة يجب أن يدركها مواطنو الخليج وهي أن مجتمعاتهم لن تبقى إلى الأبد مجتمعات رفاهية قادرة على خدمة المواطن من المهد إلى اللحد. فالقادم من الأيام سوف ينبئ بمتغيرات داخلية جذرية على مواطني الخليج يجب أن تكون التهيئة لها منذ الآن. فدول الخليج لا تحتاج إلى عمليات جراحية سطحية لإخفاء عيوب وسلبيات مجتمعاتها بل إلى وقفة صريحة مع ذاتها وشعوبها لتدرس ماهية الإصلاحات المطلوبة ومدى ملاءمتها لواقع مجتمعاتها، حيث إن هذه المواجهة مع النفس، وليس مع الغرب، هي التي سوف تقي مجتمعات الخليج من الأخطار، وتقودها إلى طريق التنمية المجتمعية السليمة.

مقالات لنفس الكاتب