; logged out
الرئيسية / خمسة خيارات سيِّئة للتعامل مع العراق

خمسة خيارات سيِّئة للتعامل مع العراق

الأربعاء، 01 حزيران/يونيو 2005

المصدر: دورية 'Survival '، مجلد 46، ربيع 2005، ص ص 7-32
المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية 2005 ©

كان يُفترض في إسقاط نظام صدام حسين أن يشكل فاتحة لعصر السلم بالنسبة للعراق وبداية لأوقات عصيبة بالنسبة لـ أسامة بن لادن وأتباعه، غير أن واقع العراق الراهن يشير إلى أن هذه الأهداف النبيلة باتت في الحقيقة بعيدة المنال. فالعراق اليوم، بلد تمزقه الجريمة المتفشية في شوارعه، ويشلـّـه (التمرد الشرس) الذي يعصف بمعظم أرجائه، كما يبدي سكانه من العرب السنة استياءً متزايداً من الاحتلال الأجنبي لبلدهم، مما ينعكس سلباً على مسيرة الديمقراطية فيه. أما ابن لادن وأتباعه فقد استغلوا غزو العراق بقيادة الولايات المتحدة أداة لتعزيز ادعاءاتهم القائلة إن الولايات المتحدة تريد إخضاع العالم الإسلامي لسيطرتها، وتحظى هذه الادعاءات على ما يبدو بصدقية متنامية لدى المسلمين في أرجاء منطقة الشرق الأوسط كافة، أما في الولايات المتحدة وبريطانيا، فإن حجم التكاليف المالية والخسائر البشرية للحرب على العراق في ارتفاع متواصل، فيما يشك المخطّطون العسكريون والمحللون الماليون في كلا البلدين في قدرة بلديهما على الاستمرار في تحمّل أعباء وجودهما العسكري الحالي المكثف في العراق، ناهيك عن الشكوك القوية في قدرتهما على توسيع ذلك الوجود لتعزيز فرص النجاح في مواجهة التحديات الأمنية الكبيرة هناك.

لا شك في أن أي انسحاب مبكِّر من العراق سيكون بمثابة كارثة مفجعة، لأنه قد يؤدي إلى تحول العراق إلى معقل للجهاديين الذين قد يشرعون بإرسال عناصرهم لمهاجمة الولايات المتّحدة وحلفائها في مختـلِـف أرجاء العالم. أضف إلى ذلك أن أي انسحاب سريع من العراق من شأنه أن يوسع دائرة الاقتتال الداخلي، وأن يعزّز النفوذ الإقليمي لإيران. لكن استمرار الحضور العسكري في العراق أو تأخير الانسحاب منه، لا يعني بالضرورة استمرار الولايات المتّحدة وحلفائها في التصرف على النحو الذي أبدوه منذ مايو 2003. ومن المؤسف حقاً أن المناقشات التي تتناول قضايا العراق لا تزال تتمحور بشكل أساسي حول مدى قانونية قرار الغزو وسوء التخطيط لحقبة ما بعد صدام. أما تدارس مستقبل العراق الذي قلما يتم التطرق إليه، فإنه يقتصر عموماً على مناقشة أحد أمرين، وهما: تحديد ما إذا كان ينبغي الإبقاء على النهج الحالي تجاه العراق، أو النظر في الخروج الفوري منه، من دون إدراك كامل لأبعاد ومدلولات هذين الخيارين الخطيرين، غير أن النجاح النسبـي لانتخابات الثلاثين من يناير 2005، خفف من حجم وحدة موجة الانتقادات الموجهة للولايات المتحدة، مما يعطيها فرصة لإعادة تقييم سياساتها الخاصة بالعراق بكثير من الرصانة والتروي. وتوجد في الوقت الراهن خمسة خيارات أساسية معقولة يمكن للإدارة الأمريكية تدارسها بعناية، إذا كانت ترغب بالفعل في إجراء إعادة تقييم منهجية لسياساتها المنتهجة تجاه العراق، وهي:

الخيار الأول: يقضي من حيث الجوهر بالإبقاء على النهج المتبع حالياً، أي الاستمرار في التوجه السياسي الراهن وعدم إجراء أي تغيير ملحوظ على حجم الوجود العسكري الحالي.

الخيار الثاني: يقضي بتعزيز كبير للوجود العسكري الأمريكي ولقوات بقية دول التحالف، العاملة في العراق.

الخيار الثالث: يستوجب زيادة محدودة في عدد القوات، مع مزيد من التركيز على عمليات مكافحة مختلف حركات التمرد العراقية.

الخيار الرابع: العمل على تخفيض حجم الوجود العسكري الحالي بشكل كبير والاحتفاظ بقوة صغيرة نسبيا توكل إليها مهمات محدودة.

الخيار الخامس: الانسحاب الأمريكي الكامل والسريع من العراق.

ويتطلب التقييم الشامل والدقيق لكل واحد من هذه الخيارات دراسة مستفيضة ومعمقة لمدى تأثيره في استقرار العراق، وفرص إرساء الديمقراطية في هذا البلد، والتغيير الذي قد يطرأ على قدرات الجهاديين الأجانب في العراق، ومدى فاعلية مجمل الحرب الشاملة على الإرهاب، وعلى استقرار منطقة الخليج العربي، وعلى استمرارية الوجود العسكري الأمريكي في العراق، وعلى حجم تكاليف غزو العراق التي سيتعين على الولايات المتحدة دفعها أموالاً وخسائر بشرية.

ومن المؤكد أن جميع هذه الخيارات الخمسة، هي خيارات سيئة. لكن النهج الحالي بالذات يشكل بجميع المقاييس ظاهرة قاتمة ومحزنة جداً، لأنه يتطلب كثيراً من التضحيات الجسام ولا يحقق بالمقابل سوى قدر ضئيل جداً من الإنجازات الحقيقية.

ولعل أفضل الخيارت الخمسة التي أوردتها للتو ـ لأنه الخيار الوحيد الذي يبقي بصيصاً من الأمل في تحقيق النجاح في العراق ـ هو الخيار الذي يقضي بإجراء زيادة محدودة في حجم الحضور العسكري الأمريكي في العراق، مع التحول الواضح نحو مكافحة التمرد الداخلي هناك. بمعنى آخر، أن تتولى القوات الأمريكية العاملة في العراق مهمة حفظ الأمن الداخلي، بدلاً من القيام من حين لآخر بدوريات متفرقة، تُستخدم فيها أعداد كبيرة من الجنود الذين يتنقلون في آلياتهم المدرعة، ويعبرون الأحياء السكنية العراقية من دون أي تواصل مع قاطنيها.

إذا كنا، نحن الأمريكيين، لا نرغب في تحمل مزيد من الأعباء والمخاطر، فإن الخيار القاضي بتخفيض عدد القوات بشكل جزئي يصبح الخيار الأفضل، ولكنه يكاد لا يبعث على أي أمل في تحقيق النصر الحقيقي في العراق، غير أنه سيمكـِّن واشنطن من مواصلة مكافحة (المتمردين) المحليين والجهاديين الأجانب المنتشرين في عدد من المناطق العراقية والاحتفاظ ببعض النفوذ هناك عبر الإبقاء فقط على قوة عسكرية محدودة نسبياً، وذلك إثر استكمال عملية التخفيض. ومن الإيجابيات الأخرى لهذا الخيار، أنه سيحدُث انخفاض ملحوظ في فاتورة العراق، سواء من حيث تخفيف الأعباء المالية وتقليص حجم الخسائر البشرية الأمريكية، بالإضافة إلى تخفيف مستوى الإجهاد الذي قد يعاني منه الجيش الأمريكي.

من جهة ثانية، ربما تتكبد الولايات المتحدة خسائر فادحة على عدد من الصعد الأخرى مقابل تخفيض وجودها العسكري بشكل ملحوظ في العراق، لأن إجراء مثل هذا التخفيض قد يقضي نهائياً على فرص إرساء ديمقراطية حقيقية في العراق، وربما يؤدي إلى انتشار مزيد من الفوضى والاضطرابات في أرجائه كافة، مما قد يضيّع فرصة تحويل العراق إلى بلد مؤيد للغرب في العالم العربي.

وبالرغم من خطورة وتعقيدات جميع المشكلات التي قد تنجم عن تخفيض حجم الوجود العسكري الأمريكي في العراق، فإن هذا الخيار يظل في الظروف الراهنة أفضل الخيارات الخمسة التي نحن بصدد تقييمها، (بل قل إنه أقلها سوءاً) لأنه الخيار الأكثر واقعية من الناحية السياسية.

مشكلات الإبقاء على النهج الحالي

منذ انتهاء العمليات العسكرية التقليدية في مايو 2003 والولايات المتحدة والدول الحليفة تنفذ عمليات مباشرة ضد المتمردين من الطائفة السنية (وأخرى أقل بكثير ضد المتمردين الشيعة) بالإضافة إلى محاربة الجهاديين الأجانب كجزء من خطة شاملة تهدف إلى توفير الأمن للشعب العراقي. وتبدو الاستراتيجية الأمريكية على النحو التالي: عندما يتمتع العراق بقدر معقول من الأمن، ستتمكن الولايات المتحدة من تسليم معظم مسؤوليات إدارة شؤون البلاد إلى حكومة عراقية مدنية شرعية، تكون منتخبة حسب الأصول من قبل الشعب العراقي، وتؤكد إدارة الرئيس بوش أن هذه العملية قد قطعت شوطاً كبيراً نحو الأمام إثر انتخابات الثلاثين من يناير 2005. وبينما يجري العمل على تأسيس هذه الحكومة الشرعية في العراق، تقوم قوات التحالف بتدريب قوى الأمن العراقية، على أمل تسليمها بشكل تدريجي مهام الأمن الداخلي ومكافحة التمرد ومهام أمن الحدود، بما يتناسب مع الازدياد المطرد في حجم وقدرات هذه القوات. فإذا سارت جميع هذه الأمور على ما يُرام، فستكون الولايات المتحدة قادرة على إنجاز الانسحاب الكامل من العراق في غضون بضع سنوات.

وبالرغم من هذه الإنجازات، فإن الأوضاع الأمنية المتردية تبقى مهيمنة على الموقف في العراق، كما أن معظم التوقعات تنبئ بمستقبل قاتم للعراق في المدى المنظور. ففي ديسمبر 2004، وصف أحد كبار مسؤولي وكالة الاستخبارات المركزية في العراق في حديث خاص الأوضاع الأمنية السائدة هناك بالمتدهورة، من دون أن يتوقع أي نهاية قريبة لذلك التدهور.

إن مظاهر الفشل الأمريكي في العراق متعددة الأبعاد: فدائرة العنف كبيرة وربما تتسع، والحكومة العراقية تفتقر إلى الشرعية، والعملية الديمقراطية تواجه عقبات كبيرة، وأنشطة الجهاديين الأجانب في ازدياد، وحدة العنف الذي يمارسه المتمردون لم تتراجع. يُضاف إلى ذلك، أنه خلال السنة الماضية، بلغ عدد الهجمات التي استهدفت قوات التحالف، ثلاثة أضعاف عدد الهجمات التي تعرضت لها تلك القوات، في السنة التي سبقتها، وأن عدد المتمردين البالغ عشرين ألفاً تقريباً، (وهو الرقم الأكثر تداولاً) شيء مرعب ومثبط للعزيمة. وتتركز أخطر أعمال العنف في المناطق السنية، مما يعني أن جميع مدن العراق الكبيرة تقريباً، وخصوصاً بغداد يسودها العنف الدامي، ويغيب فيها الأمن. ويشير أحد تحليلات مجلة (نيويورك تايمز) إلى أن نصف العراقيين يعيشون في مناطق تتعرض لهجمات المتمردين، مرة كل ثلاثة أيام على أقل تقدير. هذا القدر من أعمال العنف يهدد بإشعال حرب طائفية وإثـنية في أرجاء العراق كافة، لأن الوفاق الوطني العراقي الحالي قائم على أسس هشة.

وبالنسبة للمناطق الكردية، فإن الخبراء الأجانب يحذرون من احتمال اندلاع أعمال العنف في جميع المدن الكردية الآمنة حالياً إذا بدا للأكراد أن الحكومة العراقية الجديدة، هي عربية أكثر مما ينبغي. وهكذا، ربما تشهد الموصل وكركوك ومدن مستقرة أخرى، يقطنها خليط من العراقيين العرب والأكراد، مواجهات عرقية بسبب الخلافات الدائرة بينهم، حول الممتلكات والثروات. فهذه الخلافات الخطيرة، تسهم بالتأكيد في تصعيد حدة التوتر، بين مختلف الإثنيات المقيمة في المناطق الكردية من العراق، كما أن الجهاديين الأجانب، يذْكون هذه الخلافات، ويعملون على تعميقها، وبالرغم من صعوبة مراقبة الجهاديين الأجانب بدقة، فإنه يسود الاعتقاد بأن عدد مقاتليهم يقارب مائتين. غير أن المشكلة التي يتسبب بها هؤلاء الجهاديون لا تقتصر على حقيقة أنهم يقتلون الأمريكيين أو أنهم يقفون وراء العديد من الهجمات الدموية والعشوائية التي يشهدها العراق، بل لأن العراق نفسه قد تحول تدريجياً إلى ميدان جهادي جديد، يتم فيه تدريب المتطوعين الجدد، الذين يكتسبون خبراتهم القتالية ويقيمون روابط جهادية وثيقة ودائمة، تمكِّنهم من تنسيق العمل الجهادي خلال السنوات المقبلة، حتى بعد مغادرتهم الأراضي العراقية.

وثمة أمر مثير للقلق العميق، وهو أن معظم قوى وتيارات التمرد العراقية تركز على استهداف الولايات المتحدة، وقد أكد كل من فريدريك بارتون، وباثشيبا كروكر أن وجود القوات متعددة الجنسيات في العراق ضروري للحفاظ على السلم هناك، لكنه تبين في الوقت نفسه أن القوات متعددة الجنسيات نفسها تشكل جزءاً من المشكلة (الأمنية في العراق)، لأنها تثير غضب قوى التمرد. وتتفق معظم القوى والأحزاب العراقية على بعض القضايا، إلا أنها غير متفقة على الرغبة في الزوال القريب للوجود العسكري الأمريكي. وهناك جماعات سنية عدة تتعاطف مع الجهاديين الأجانب، ولكن بالمقابل هناك أيضاً من يحتقرون هؤلاء الجهاديين. على صعيد آخر، فإن الجهود الأمريكية التي بُذلت بهدف طمأنة العراقيين أسفرت في كثير من الأحيان عن نتائج عكسية تماماً، وقد أكد كل من: جيمس ستاينبيرغ، ومايكل أوهانلون، أنه كلما تحدثنا عن البقاء في العراق مع ما يتطلبه الأمر من وقت، بدا ذلك وكأننا نحاول فرض رؤيتنا على العراقيين، وهذا أحد الأسباب التي أدت إلى إحجام الشعب العراقي عن التعاون معنا. بالإضافة إلى هذه المشكلة الخطيرة، فإن الموقف الأمريكي يتصف بالتخبط، بدليل أن الاستراتيجية الأمريكية تركز في أغلب الأحيان على العمليات العسكرية التي تستهدف المواقع الثابتة، بدلاً من العمل على توفير الأمن اليومي بالنسبة للمواطنين العراقيين.

وتبين أن معظم المتمردين يتجنبون الدخول في معارك مباشرة مع القوات الأمريكية. وعندما تهاجمهم القوات الأمريكية يختفون بين السكان، ولا يظهرون ثانية إلا بعد رحيل معظم القوة التي كانت تستهدفهم. ففي أحداث الفلوجة مثلاً، غادر معظم قياديي الجهاديين الأجانب وزعماء تيارات التمرد مدينة الفلوجة، قبل بدء العملية العسكرية الأمريكية بوقت طويل. لذلك، يبدو أن توفير الأمن اليومي للمواطن العراقي يتطلب تحويل العراق نفسه إلى ميدان جديد لمكافحة الجهاديين والمتمردين، بحيث يجري توزيع القوات الأمريكية على أكبر عدد ممكن من الأحياء السكنية العراقية، لتقوم بمهام حفظ الأمن، ولكي تمنع المتمردين من نشر الرعب في نفوس الناس، لكن الولايات المتحدة تجنبت هذا التدبير، وأضاعت بذلك على معظم الأمريكيين الموجودين في العراق فرصة التواصل المباشر والمنتظم مع المواطنين العراقيين. وهذا ما يحدث أيضاً خارج المنطقة الخضراء التي ـ خلافاً لكثير من المناطق الأخرى التي يدير شؤونها مسؤولون مدنيون ـ تحافظ القوات الأمريكية على الأمن فيها، ويدير شؤونها مسؤولون عسكريون. لكن هذه القوات الأمريكية، اعتادت الرجوع إلى أماكن تجمعها، بعد القيام بدورياتها، مبتعدة بذلك عن التواصل المكثف مع سكان المنطقة.

إن الحرص على سلامة القوات أمر طبيعي، وهناك العديد من الأسباب المنطقية التي تبرره، فالقادة السياسيون والعسكريون على حد سواء يحرصون بالتأكيد على سلامة جنودهم، وربما يؤدي ارتفاع الخسائر البشرية إلى تلاشي تأييد المواطنين الأمريكيين للوجود العسكري الأمريكي في العراق. غير أنه من المؤسف أن هذه الحسابات ضيقة الأفق وقصيرة النظر قد تؤدي إلى خسائر فادحة على المدى البعيد. وقد تبين أن المتمردين، نادراً ما يخوضون مواجهات مباشرة مع القوات الأمريكية، وأنهم يبحثون عن المناطق التي يقل فيها الوجود الأمريكي، ويبثون الرعب في نفوس سكانها. ونظراً لغياب الانتشار المستمر للقوات الأمريكية في معظم المناطق العراقية، فإنه لا خيار أمام المواطنين العراقيين سوى التعاون مع المتمردين، وإلاّ سيكونون عرضة لتهديداتهم، عندما يعودون إلى المناطق التي يغادرها الأمريكيون من وقت لآخر. وهكذا، لا يشعر كثير من العراقيين بشيء من الأمان الأمريكي إلا عندما تقبل أرتال القوات الأمريكية حاملة الجنود الذين يصوّبون بنادقهم عبر نوافذ مركباتهم المصفحة. بناءً على ما تقدم، يمكن القول إنه بالرغم من وجود قلة من العراقيين الذين يتمنون النصر للمتمردين، فإن المتمردين بدورهم قادرون على إخافة أي شخص قد يجرؤ على التعاون مع الولايات المتحدة أو الحكومة العراقية. من ناحية أخرى، أدى الحرص المفرط على سلامة القوات الأمريكية إلى الحد من التواصل بين هذه القوات والشعب العراقي، مما جعل من الصعب تجنيد مصادر استخبارية عراقية تعمل لصالح الأمريكيين.

إن ثقة العراقيين بشرطتهم كبيرة، ولكن من المؤسف هنا أن هذه الثـقة قد تكون في غير موضعها، لأن البرنامج الأمريكي الذي وُضع لبناء قوات الشرطة العراقية، واجه سلسلة من الكوارث المتتالية، ولا يزال يفتقر إلى الموارد الضرورية لإنجاحه، كما أن الشرطة العراقية غير مدربة بشكل جيد، وقادة وحداتها غير مؤهلين، وأغلبهم من غير الموالين للحكومة العراقية الحالية، وربما المقبلة أيضاً. وقد أشار بيتر خليل، الذي عمل مديراً لسياسة الأمن القومي، لدى سلطة التحالف المؤقتة حتى صيف عام 2004 إلى أنه حتى لو بلغ عدد قوات الشرطة العراقية ثلاثة أضعاف عددها الحالي، فإنها ستظل ضعيفة. ففي الأغلب، لاذت وحدات من الشرطة العراقية بالفرار أمام هجمات المتمردين، وفي بعض الأحيان، قام عناصر من الشرطة بتسليم بزاتهم الرسمية ثم التحقوا بصفوف العدو.

على صعيد آخر، أساء الإخفاق الاقتصادي للولايات المتحدة والحكومة العراقية إلى شرعيتهما، فنسبة البطالة تتراوح بين 30 و40 في المائة، كما أن معدلات الذين يعانون من سوء التغذية بلغت ضعف ما كانت عليه قبل اندلاع الحرب. ومن الطبيعي أن يحجم المستثمرون الأجانب عن الاستثمار في عراق يغيب فيه الأمن ويفتقر إلى الاستقرار السياسي. أما استهداف الجهاديين لموظفي الإغاثة، تارة عبر الاختطاف وأحياناً عبر قطع رؤوس البعض منهم، فقد جعل من العراق بلداً مرعباً، حتى بالنسبة لموظفي المنظمات الإنسانية الذين يتمتعون بخبرة واسعة بمناطق الكوارث والحروب.

ولا بد من الإشارة إلى أن هناك مسألة أخرى، أثرت بدورها أيضاً في مصداقية الولايات المتحدة وشرعية الحكومة العراقية المؤقتة، وهي عدم تحقيقهما الطموحات غير الواقعية لكثير من العراقيين الذين كانوا يأملون بأن يشكل سقوط صدام حسين انطلاقة حثيثة نحو الانتعاش الاقتصادي، بالرغم من المشكلات الهيكلية الكبيرة والمزمنة التي كان يعاني منها الاقتصاد العراقي، ناهيك عن الأضرار التي تسببت بها الحرب نفسها.

وتعاملت الولايات المتحدة والحكومة العراقية مع شيوخ القبائل وقادة الميليشيات في إطار الجهود الرامية إلى تحسين الوضع الأمني في العراق ـ ويمكن تفهم هذا التحرك من الناحية الأمنية، ولكنه ربما يشكل على المدى البعيد كارثة تقضي على الآمال الكبيرة المتعلقة بديمقراطية العراق، فبالرغم من أن جذور بعض هذه الميليشيات تعود بالفعل إلى حركات تأسست قبل الحرب، وكانت مناوئة لصدام حسين، غير أن بقية هذه الميليشيات تتألف من عصابات للتهريب ومجموعات قبلية وفئوية مسلحة. ولذلك، جاء تحذير دياموند من هذه الميليشيات، مؤكداً أنه: ستكون المرحلة الانتقالية التي ستعقب تسليم السيادة للعراقيين طويلة، وستكون بدايتها دموية للغاية.

ومن الواضح أن فرص استمرارية هذا التوجه الأمريكي لا تزال كبيرة، إذ لا يوجد هناك حتى الآن أي تحول واضح في السياسة الأمريكية الداخلية، لأن التأييد الشعبي للحرب على العراق لم يتراجع كثيراً، ويشير العديد من استطلاعات الرأي إلى أن كثيراً من الأمريكيين غير راضين عن طريقة تعامل إدارة الرئيس بوش مع الحرب العراقية، ولكن على نقيض الحرب الفيتنامية، لم ينظم الأمريكيون بعد، أي تظاهرات شعبية حاشدة ضد الحرب على العراق، وليست هناك أي دلائل تشير إلى وجود أي رفض جماهيري واسع لها.

أضف إلى ذلك أن الحزبين الأمريكيـَـيـْـن الرئيسيـَـيـْـن يواصلان دعمهما للجهود الأمريكية في العراق، كما يؤكد النجاح الكبير الذي حققه الرئيس بوش في الانتخابات الرئاسية الأخيرة استعداد الشعب الأمريكي لدفع تكاليف احتلال العراق. غير أن هذه التكاليف باهظة بمعظم المقاييس المعروفة: إذ قتل حتى الآن أكثر من 1400 أمريكي في العراق، وتشير البيانات المتوفرة (وإن كانت محدودة ومتضاربة) إلى أن عشرة أضعاف هذا العدد هي حصيلة القتلى العراقيين جرَّاء الحرب، ناهيك عن الذين قُتلوا بسبب الجرائم اليومية. ومن الناحية المالية، ربما تكون الولايات المتحدة قد أنفقت في تمويل الحرب والاحتلال 120 مليار دولار حتى الآن، وتبلغ تكلفة الاحتفاظ بحجم الوجود الحالي للقوات الأمريكية في العراق نحو 50 مليار دولار سنوياً، وفي أكتوبر 2004، طلبت إدارة الرئيس بوش موازنة إضافية قيمتها 80 مليار دولار، وذلك لتمويل الوجود العسكري الأمريكي في العراق وأفغانستان. أما بالنسبة للمؤسسة العسكرية الأمريكية والجيش الأمريكي على وجه الخصوص، فإن الجهود المبذولة هائلة جداً، وربما لا يمكن مواصلتها إلا في حال حدوث تغييرات هيكلية جوهرية، فقد تجاوز عدد القوات الأمريكية المنتشرة في العراق منذ انتهاء العمليات العسكرية التقليدية في مايو 2003 مائة ألف جندي بكثير. وقبيل إجراء انتخابات يناير 2005، رفعت الولايات المتحدة عدد قواتها في العراق من 139 ألفاً إلى 150 ألف جندي لتعزيز الأمن هناك. وبرز مؤخراً من يميلون إلى تأكيد أن الاستمرار في نشر القوات الأمريكية في العراق يُـضـعـِـف من الكفاءات القتالية للجنود، ويحدّ من جهوزيتهم لتنفيذ مهمات أخرى، لأن الجيوش الأمريكية النظامية تمضي معظم أوقاتها منتشرة في العراق، بدلاً من تلقي التدريبات الضرورية والكفيلة بتعزيز قدراتها القتالية بما يمكِّنها من الدخول في أي مواجهات كلاسيكية مكثـفة محتملة.

ولجأت الولايات المتحدة إلى جملة من التدابير للحفاظ على استمرارية وجودها العسكري الواسع في العراق، كاستدعاء قوات الاحتياط مثلاً، أو عبر الطلب من القوات الموجودة هناك تمديد فترة بقائها في الخدمة، وعدم إلزامها بالقيام بأي مهمات إضافية خارج العراق، إلا عندما تصبح كل وحدة جاهزة للمهمات الجديدة، وهي بكامل قوامها. هذا النوع من الإجراءات، بما فيها الانتشار الميداني الواسع، يحدّ من عدد الراغبين الجدد في الالتحاق بالجيش الأمريكي ومن قدرة القيادة العسكرية الأمريكية على استبقاء كثيرين في الخدمة لفترات طويلة، وخصوصاً قوات الحرس الوطني وقوات الاحتياط.

إن الأعباء المفروضة على القوات الأمريكية في العراق هي أكبر من مجرد تعداد القوات المنتشرة هناك، فالاحتلال يتطلب قوات تختلف تركيبتها عن تركيبة القوات التي تنفذ عمليات كلاسيكية، لأن الوحدات المدرعة التي تشكل ركيزة الجيش الأمريكي الأولى ليست مجدية كثيراً في استئصال التيارات المتمردة المختلطة بالناس أو في تحقيق النصر على السكان المحليين، وبالرغم من ذلك، تُستخدم القوات الأمريكية حالياً في هذين المجالين، وفي الأغلب تشكل الوحدات الخاصة والمشاة المسلحة بأسلحة خفيفة والشرطة العسكرية وضباط الارتباط أهم القوى العاملة ميدانياً خلال الاحتلال.

لقد تجاوزت تداعيات هذا النهج الأمريكي حدود العراق، حيث أصبحت سمعة الولايات المتحدة لدى الرأي العام في الحضيض، لأن الاحتلال رسم للولايات المتحدة صورة الدولة المستبدة التي تصر على قتل المسلمين، وأظهرت استطلاعات للرأي أُجريت في مارس 2004، أن معظم سكان الدول الغربية ينظرون إلى الولايات المتحدة نظرة سلبية، بينما يرى معظم سكان البلدان الإسلامية أن الولايات المتحدة سيئة للغاية. وكثيراً ما قارنت بعض محطات التلفزة الفضائية في العالم العربي صور الأمريكيين الذين كانوا يحاربون (المتمردين) في مدن كالفلوجة مثلاً، بصور الجنود الإسرائيليين الذين كانوا يهاجمون الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، وازداد التأييد لرسالة تنظيم القاعدة القائلة إن الولايات المتحدة هي سبب مشاكلات العالم الإسلامي.

التصعيد: الخيار الوهمي!
من الناحية النظرية على الأقل، يمكن حل كثير من مشكلات النهج الحالي عبر إجراء تعزيز هائل للوجود العسكري الأمريكي في العراق، بدليل أن السيناتور جون ماكين علق على أسباب تعثر الجهود المبذولة في العراق، قائلاً: الحقيقة هنا هي بكل بساطة أن حجم قواتنا في العراق لا يكفي لتحقيق أهدافنا العسكرية المنشودة هناك. ربما يشكل تحسين الوضع الأمني في العراق الإنجاز الأكبر الذي يمكن تحقيقه عبر نشر قوات أمريكية إضافية ضخمة هناك، وقد تكون هذه القوات الموسعة قادرة على إلحاق الهزيمة الكاملة بالمتمردين أو تقليص أنشطتهم بشكل حاد على الأقل، وربما تستطيع أيضاً تخفيض عدد القوات العراقية الضرورية لحفظ الأمن. وفي المعارك المستقبلية المماثلة لعملية الفلوجة في نوفمبر 2004، ستكون الولايات المتحدة قادرة على احتلال أي مدينة بفاعلية أكبر بالتوازي مع شن هجمات على مواقع أخرى، مما سيجعل إفلات المتمردين أمراً صعباً. وربما تستطيع هذه القوة الموسعة أيضاً أن تضمن الأمن في العراق على نحو أفضل بكثير مما عليه الأمر الآن، مما سيساعد العراقيين على التخلص من كابوس الجرائم اليومية، وقد تكون هذه القوات الإضافية قادرة على تعزيز العمل السياسي السلمي وعلى ردع بلدان أجنبية كإيران مثلاً عن التدخل في شؤون العراق الداخلية، كما أن توسيعاً ضخماً للوجود العسكري الأمريكي في العراق سيبرهن للجهاديين الأجانب وللعراقيين وللعالم أجمع على أن واشنطن ملتزمة بإنجاز العملية التي بدأتها في العراق.

أما الجانب السلبي الأبرز لزيادة حجم القوات فيتمثل في مضاعفة غضب الجهاديين الأجانب جراء الحضور الأمريكي الواسع في العراق، وفي الانتقاص من شرعية أي نظام عراقي جديد. ومن الطبيعي أن يبلغ غضب الجهاديين ذروة جديدة عندما يُضطرون إلى مواجهة مزيد من الأمريكيين. ولا ضير في التضحية بشيء من شرعية النظام الحاكم، في سبيل حفظ الأمن وفرض النظام، ولكن الأمر الأكثر إقلاقاً من مسألة تراجع شرعية النظام العراقي يتمثل في العلاقة القائمة بين الوجود الأمريكي في العراق وقضايا المتمردين. بعبارة أخرى، سيؤدي توسيع الحضور الأمريكي في العراق إلى تعزيز ادعاءات المتمردين القائلة إن الولايات المتحدة لا تنوي مغادرة العراق، مما سيصب مزيداً من الزيت على النار.

وفي الحقيقة، هناك جانب غير واقعي للحديث عن زيادة هائلة في حجم القوات، فالتوسيع العسكري الهائل أمر مستبعد، لأن القضاء على التمرد في أرجاء العراق كافة ومراقبة حدودها ومكافحة الجريمة فيها مهام تتطلّب أعداداً ضخمة من القوات الإضافية ـ ربما 250 ألف جندي أو أكثر ـ وهذه الأعداد هي ببساطة غير متوفرة لدى واشنطن. وكما سبقت الإشارة إلى ذلك، فإنه من غير الواضح ما إذا كانت الولايات المتحدة، ستستطيع الاستمرار في تحمل أعباء القوات المتمركزة حالياً في العراق، مما يجعل إرسالها عشرات الآلاف من القوات الإضافية إلى العراق أمراً مستبعداً جداً. ولو سلمنا بأنه من الممكن تأمين هذه الأعداد الاستثنائية فإن الشعب الأمريكي قد يسأم العنف المتواصل، كما سيكون من الصعب على الإدارة الأمريكية تبرير التكاليف الإضافية الضخمة أو الدفاع عنها، وبخاصة في ظل استمرار المستويات القياسية للعجز في الميزانيات الفيدرالية، حيث إن تأهيل القوات العسكرية الإضافية وحده عملية شاقة ومكلفة جداً، فتكاليف الخدمة الفعلية طويلة الأجل للعسكريين عالية جداً، ناهيك عن الحوافز والعلاوات الميدانية وتكاليف التدريبات والتسليح والعناية الطبية. ولو كانت نسبة العجز في الميزانية منخفضة لكان من الممكن الحصول على المليارات الإضافية الضرورية لإعداد مثل هذه القوات، لكن مضاعفة تكاليف احتلال العراق في ظل الظروف المالية الراهنة سيتطلب إجراء تخفيضات مؤلمة في الإنفاق العام أو فرض ضرائب إضافية على الشعب الأمريكي، وهذان أمران لا يحظى أي منهما بأي دعم سياسي، يُضاف إلى ذلك هنا أن تجنيد وتدريب الأعداد الكبيرة من القوات الجديدة، يستغرق وقتاً طويلاً يُقدَّر بسنوات، مما قد يدفع الولايات المتحدة إلى الإحجام عن هذا الخيار.

تصحيح المسار نحو مكافحة التمرد

إذا كان التصعيد الشامل ليس بالخيار القابل للتطبيق، فهل من غير الممكن أيضاً إجراء تعزيز محدود للقوات المتمركزة حالياً في العراق؟. إن السبب المباشر لطرح هذا السؤال هو أن أحد الخيارات القائمة يقضي بإضافة نحو 30 ألف جندي إلى الأعداد الحالية لقوات التحالف الموجودة في العراق، مع إحداث تغيير جذري في طريقة استخدام مجمل هذه القوات، بحيث تتوقف محاولات حفظ الأمن في المناطق العراقية كافة، بقوات ثبت أنها غير كافية لتحقيق هذه المهمة، ويتم التركيز على عدد المناطق الرئيسية فقط. فقد دعا كل من فريدريك بارتون وباثشيبا كروكر، على سبيل المثال، إلى عزل جميع المناطق السنية التي يسودها العنف، بدلاً من محاولة تسيير دوريات فيها من حين لآخر. كما دعا كلاهما إلى جعل بغداد مدينة آمنة مهما كلّف الثمن. وتقتضي خطتهما أيضاً حفظ الأمن في المناطق الشيعية والمناطق المستقرة الأخرى بالطريقة التي ستُطبَّق في بغداد وضواحيها، مما يعني سحب القوات الأمريكية من الفلوجة وبقية المناطق الساخنة، كما أكدا أن تقنيات المراقبة الأمنية الأمريكية المتطورة المقترنة بالهجمات الجوية والاجتياحات البرية، ستمنع بقاء أي منطقة عراقية محرَّمة على القوات الأمريكية، مع الإقرار بأن هذه المهمة ستكون صعبة للغاية. أما في المناطق المستقرة، فستنتشر قوات أمريكية بين السكان لحفظ الأمن الداخلي في كل تلك المناطق، وفي حال تعرض هذه القوات لأي هجوم فإنها ستتلقى الإسناد والدعم من قوات التحرك السريع القادرة على تأمين كثافة نارية هائلة بسرعة فائقة، كما أنه من المحتمل أن تشرك القوات الأمريكية قوات الأمن العراقية لتنفيذ عدد من هذه العمليات، وعندما يستتب الأمن في هذه المناطق ويسودها الاستقرار الحقيقي، سيتم تسليم أجزاء منها إلى القوات العراقية المتزايدة التعداد والقدرات، وستستطيع الولايات المتحدة، توسيع رقعة كل واحدة من المناطق المستقرة بشكل تدريجي، لتضم باطراد أجزاء العراق غير المستقرة حالياً إلى أن يسود الأمن أرجاء العراق كافة، وعندما يتم الانتهاء من تدريب أعداد كافية من القوات العراقية، وبعد أن تثبت هذه القوات فاعليتها على الأرض، ستبدأ القوات الأمريكية بمغادرة العراق.

هذا التغيير ينطوي على إيجابيات عديدة، منها:

أولاً: إيقاف العنف الذي يهدّد حالياً بالانتقال إلى الأجزاء الآمنة من العراق وكسب الوقت لكي تتمكّن الولايات المتحدة من تدريب مزيد من عناصر الأمن العراقيين الذين سيتحملون كامل الأعباء الأمنية بشكل تدريجي.

ثانياً: سيسهم فرض القانون والنظام في العراق في تعزيز شرعية النظام العراقي المنتخب حديثاً، وسيمكِّن الولايات المتحدة والحكومة العراقية من الشروع بإعادة بناء بعض أجزاء البلاد.

ثالثاً: سيؤدي وجود قوات أمن كبيرة واضحة للعيان إلى إقناع العراقيين بأن التعاون مع السلطات العراقية أو الولايات المتحدة لن يؤدي إلى وقوعهم ضحايا لانتقام (المتمردين) أو المجرمين.

رابعاً: إبقاء النظام العراقي قريباً من الولايات المتحدة، مما سيمكِّنه من الاطلاع على حجم التكاليف المالية التي سترتفع بالتأكيد، علماً بأن هذا الارتفاع لن يكون هائلاً، إذا ما قورن بمستوياته الحالية.

إذا تبنت الولايات المتحدة هذا الخيار، فإنه سيتعين عليها بذل كثير من التضحيات الجسام، في ظروف تغيب فيها الفرص الحقيقية لتحقيق النجاح المنشود في العراق. ويجب تذليل جملة من العقبات الكبيرة قبل أن يسود الاستقرار أرجاء العراق كافة. فالنظام العراقي الجديد، قد لا يتمتع بالشرعية إلا في المناطق المستقرة. وربما تبقى أجزاء كبيرة من حدود العراق مفتوحة، بل ربما تزداد هذه الأجزاء غير المضبوطة من الحدود العراقية في المستقبل. أضف إلى ذلك أن الإطار الزمني لمكافحة التمرد طويل الأمد، إذ يُتوقع أن تطبيق هذه الاستراتيجية بنجاح سيستغرق سنوات، ويُحتمل أيضاً حدوث العديد من النكسات في المدى المنظور. لذلك، فإنه إذا كانت واشنطن تريد لهذا الخيار أن يتكلل بالنجاح، فإنه سيتعين عليها التخطيط لالتزام طويل الأمد بقضايا العراق. وتجدر الإشارة إلى أن هذا الخيار سيسمح للمتمردين بالاحتفاظ بملاذات آمنة في العديد من أجزاء العراق. وتثبت الوقائع التاريخية أن فاعلية المتمردين تزداد بشكل ملحوظ عندما تكون لديهم ملاذات آمنة ينطلقون منها لتنفيذ عملياتهم.

قد يؤدي انسحاب الأمريكيين من المناطق السنية الشديدة الاضطراب إلى بروز مشكلات مماثلة لتلك التي شهدتها مدينة الفلوجة في الماضي، إذ أدى الانسحاب الأمريكي من الفلوجة إلى إقامة المتمردين مختلف أنواع الملاذات الآمنة فيها، مما مكَّنهم من تنظيم أنشطتهم وإجراء التدريبات واستقطاب المجنّدين الجدد والاستراحة عند الضرورة. وبالتالي، قد يحاول المتمردون توسيع نطاق هجماتهم إلى الأجزاء المستقرة من العراق. ونظراً لاحتمال تنامي قوة الجهاديين الأجانب في المناطق السنية، فإنهم قد يتمكنون من توسيع دائرة نفوذهم لتطال أجزاءً أخرى من العراق.

بالإضافة إلى هذه المشكلات المعقدة، يتطلب تصحيح النهج الحالي أربعة تعديلات جوهرية منطقية وممكنة من الناحية العملية، ولكنها جميعاً تبدو غير معقولة وغير واقعية من الناحية السياسية:

التعديل الأول هو زيادة عدد القوات، فبالرغم من أن الولايات المتحدة لن تعمل على حفظ الأمن في جميع أرجاء العراق، فإن مكافحة متمردي العراق ستتطلب قوات كبيرة، حتى إن كان التوجه العام يقتضي عمليات محدودة نسبياً. وتثبت الوقائع التاريخية أن المملكة المتحدة نشرت في إيرلندا الشمالية 20 عنصراً أمنياً لكل 1000 إيرلندي. هذه النسبة تعني أن عدد القوات الضرورية في العراق، يتعين أن يبلغ 500 ألف عنصر. غير أن مستوى التمرد في العراق كبير الآن، (بينما في إيرلندا الشمالية ربما كان مجموع عدد الميليشيات البروتستانتية والجيش الجمهوري الإيرلندي نحو 1.500)، مما يعني أن طبيعة المهمة الأمريكية في العراق، هي أصعب بكثير من مجرد محاولة الشرطة منع اندلاع أعمال العنف. يُضاف إلى ذلك أيضاً أن القوات الأمريكية بوجه عام لا تتحدث اللغة العربية وغير مطلعة على الثقافة العراقية، خلافاً لوضع البريطانيين في إيرلندا الشمالية.

استناداً إلى البيانات الآنفة الذكر، سيكون من الضروري نشر أكثر من نصف مليون جندي لمكافحة التمرد في جميع أرجاء العراق بفاعلية. لذلك، يطرح هذا الخيار التركيز أولاً على مدينة بغداد، وعلى الأجزاء الأكثر أماناً في العراق، مما يشير إلى إمكانية إنجاز مقتضيات هذا الخيار بقوة عسكرية أصغر بكثير من حصيلة النسبة البريطانية. إذ يبلغ تعداد سكان بغداد أكثر من خمسة ملايين نسمة، ويشكل الشيعة والأكراد معاً أغلبية بقية سكان العراق. وعلى الرغم من ذلك، فقد يؤدي الانسحاب من أكثر المناطق خطورة إلى تخفيض عدد القوات الضرورية، ربما إلى نصف العدد الذي توصلنا إليه سابقاً (250 ألفاً تقريباً). ولكن من أين ستأتي الولايات المتحدة بهذه القوات؟ قد تستطيع القوات العراقية ملء جزء من الفراغ عبر الإسهام بعشرات الآلاف من عناصره ولكن معظم وحدات القوات العراقية ليست مدرّبة بما فيه الكفاية، مما لا يؤهلها للمشاركة في العمليات الخطيرة.

ويتطلب التعديل الثاني من الولايات المتحدة تغيير تركيبة قواتها العاملة في العراق. فإذا كانت واشنطن تريد محاربة المتمردين بفاعلية أكبر، فسيتعين عليها الاعتماد بشكل أساسي على الشرطة العسكرية والقوات الخاصة والمشاة الخفيفة التسليح والمدربة بشكل جيد، لأن هذه العناصر الأمنية هي التي أثبتت فاعلية متميزة في عمليات إعادة الأمن وفرض النظام ومنع الاقتتال الداخلي. لذلك، يستلزم هذا التعديل من الولايات المتحدة مزيداً من رجال الشرطة والمترجمين (الوضع المثالي هنا هو شرطة ناطقة بالعربية) بدلاً من الجنود الذين يقومون بدورياتهم القليلة في عرباتهم المدرّعة، وليس لهم أي دور يُذكر في تحسين الوضع الأمني. ويجب أن تكون القوات الأمريكية قادرة أيضاً على الانتشار في وحدات صغيرة لفترات طويلة. إلا أن المسؤولين العسكريين قد يرفضون هذا التكتيك العسكري، لأن طبيعة التركيبة الحالية للجيش الأمريكي لا تسمح بتطبيقه، وربما تستغرق عملية بناء قوة مثالية لمكافحة التمرد سنوات، الأمر الذي قد يحدّ كثيراً من فاعلية القوات الأمريكية في السنوات التي تعقب تاريخ تبني هذا الخيار.

هناك سببان آخران، قد يدفعان كبار ضباط الجيش والمسؤولين السياسيين الأمريكيين إلى رفض هذا الخيار، هما:

أولاً: قد يترتب على إجراء تخفيض كبير في القوات الأمريكية المتمركزة في أوروبا وكوريا الجنوبية تداعيات سياسية خطيرة، نظراً لأن القيام بمثل هذه الخطوة سيحدّ من قدرة الولايات المتحدة على الوفاء بالتزاماتها القديمة الخاصة بضمان أمن هذه الدول.

ثانياً: إن العقيدة العسكرية الأمريكية تركّز على قهر الجيوش المعادية بشكل حاسم، كالهزيمة الأولى التي مُنيت بها قوات صدام حسين في عام 2003. لذلك ستلقى فكرة تحويل الجيش الأمريكي إلى قوات لمكافحة حركات التمرد وإلى قوة احتلال، مقاومة بيروقراطية شرسة.

أما التعديل الثالث فيتعلق بكيفية استخدام القوات لمكافحة الجريمة والتمرد، ويؤكد ضرورة تواصل القوات الأمريكية مع سكان القرى والأحياء العراقية، وذلك في إطار الجهود العراقية ـ الأمريكية المشتركة الرامية إلى توفير الأمن للمواطنين العراقيين كبديل عن البقاء في الثكنات أو المرافق العسكرية الأخرى، وستكون تكلفة هذا التواصل مع المواطنين العراقيين باهظة جداً، فالتحرك في مجموعات صغيرة ومتباعدة بعضها عن بعض قد يؤدي على المدى القصير إلى ارتفاع في عدد الإصابات الأمريكية، لأن المجموعات الصغيرة هي أكثر قابلية للتعرض للأذى بهجمات المتمردين.

أما التعديل الرابع والأخير فيتعلق بتغيير الخطاب السياسي بما ينسجم مع إخلاء الولايات المتحدة أجزاءً معينة من المناطق العراقية في إطار محاولاتها لتكثيف وجودها العسكري في المناطق الرئيسية كبغداد وضواحيها مثلاً. فمن الناحية السياسية، سيكون من الضروري إذن أن تعترف إدارة الرئيس بوش علناً بأن المشكلة العراقية كبيرة ومعقدة، وأنها تستدعي تمديد الوجود العسكري الأمريكي في العراق لفترة من الزمن، وتستلزم تعزيز هذا الوجود بمزيد من القوات، ولا شك في أنه لن يكون من السهل على الإدارة الأمريكية الحالية إقناع الرأي العام الأمريكي بضرورة إجراء مثل هذا التغيير في سياساتها المتعلقة باحتلال العراق وحشد التأييد الجماهري الواسع له.

الانسحاب: طرح لخيار خطير

ثمة من يطرحون بقوة خيار مغادرة العراق، ويعللون دعوتهم إلى الانسحاب الكامل منها بأن فرص تحقيق النجاح هناك عبر مواصلة النهج الحالي ضعيفة جداً، ولأن التصعيد العسكري الشامل ضد المتمردين أمر غير مرجح، ولأن حدوث أي تغير في المواقف الأمريكية تجاه العراق شيء غير متوقع، كما أن مقدمات هزيمة فيتنام باتت برأيهم متوفرة في عراق اليوم، وهي: التمرد غير القابل للإخماد، والحكومة المشكوك في شرعيتها، واستراتيجية عسكرية أمريكية فاشلة.

وإذا كان من الممكن بالفعل مقارنة حرب العراق بحرب فيتنام فإن الخيار الأمثل للولايات المتحدة وحلفائها هو الخروج من العراق الآن، بدلاً من الاستمرار في حرب غير مجدية على أمل تأجيل هزيمة حتمية. ومع أن الولايات المتحدة قد انسحبت من فيتنام، فإن الاحتلال الشيوعي لجنوب فيتنام، الذي كان مروّعاً بالنسبة للفيتناميين الجنوبيين، لم يشكل في آخر المطاف أي كارثة على أمن الولايات المتحدة.

وقد يؤدي الانسحاب من العراق على الأقل إلى وقف نزيف الدم الأمريكي، وإلى توفير الأموال الطائلة على الولايات المتحدة، وربما يسهم في تعزيز شرعية الحكومة العراقية الجديدة، حيث من المحتمل أن يمتنع الناس عن النظر إليها كقيادة غريـبة لم تتسلم السلطة إلا بواسطة النفوذ الأمريكي. أما المسلمون الذين يعارضون الاحتلال الأمريكي لأحد المراكز العريقة للعالم الإسلامي فسيشعرون بالارتياح، الأمر الذي قد يزيل على الأقل أحد مصادر المعارضة للولايات المتحدة. ويدّعي أصحاب هذا الطرح ومؤيدوه أيضاً أنه إذا تم الانسحاب من العراق فسيكون من الممكن استخدام الموارد المخصصة حالياً للعراق في محاربة أسامة بن لادن وأتباعه في أفغانستان وباكستان وأماكن أخرى، ويرون أنه ربما يؤدي أيضاً إلى إزالة التوتر الدائم الذي يشوب العلاقات القائمة بين الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين.

إن من شأن أي انسحاب أمريكي وشيك من العراق، أن يقضي علىالآمال في إرساء الديمقراطية هناك، كما أن غياب مستوى الأمن الذي توفره الولايات المتحدة حالياً في العراق سيقلص فرص الحفاظ على وحدة التراب العراقي، وستفقد الحكومة العراقية المنتخبة القوة العسكرية التي تدعمها في تطبيق المراسيم والقرارات الصادرة عنها، وقد يزداد اعتماد العراقيين الخائفين على (أمراء الحرب) لحمايتهم من المجرمين والخصوم. ومن المرجح أن تنعدم الثقة بين مختـلـف أطياف الشعب العراقي، مما سيحول دون التزام هذه الفئات بأي تسويات حكومية طويلة الأمد. ويخشى الأكراد على سبيل المثال، من احتمال تراجع أي حكومة عراقية جديدة قوية عن الوعود القائمة حالياً بالإبقاء على المستوى العالي من الحكم الذاتي الذي يتمتعون به، الأمر الذي قد يدفعهم إلى رفض العمل مع بقية العراقيين من أجل تشكيل أي حكومة عراقية مركزية جديدة.

وإذا انسحبت الولايات المتحدة من العراق فستتحرر إيران من القيود الأمريكية التي تمنعها من استغلال كامل نفوذها القوي في العراق. بيد أن القول إن العراق قد يصبح حليفاً لإيران هو ضرب من المغالاة، لأن إيران لا تحظى بتعاطف أو احترام أغلبية الشيعة وجميع القوميين العراقيين. وبالرغم من هذه الحقيقة، يبدو من المرجح أن يصبح النفوذ الإيراني في العراق كبيراً جداً، نظراً لأن طهران تمتلك من الموارد والعملاء ما يمكِّنها من القضاء على أعدائها المتنفذين داخل العراق، ودعم الشخصيات والتيارات العراقية، التي تبدي استعدادها للحفاظ على المصالح الإيرانية في عراق ينعدم فيه الأمن والاستقرار وتسوده الفوضى السياسية.

ومن نتائج الانسحاب المبكر من العراق أن مصداقية الولايات المتحدة ستهتز في العالم بأسره، وبخاصة لدى الجهاديين، الذين لن يعلنوا عبثاً عن تحقيق نصر عظيم يوازي أو حتى يفوق نجاحهم في طرد السوفييت من أفغانستان. وتجدر الإشارة هنا إلى أن أسامة بن لادن سخر من الولايات المتحدة، عندما أكد أنّها (متورطة في المستنقع العراقي). وإذا نجح ابن لادن في العراق فإنه سيثبت أن الولايات المتحدة تنسحب عندما تواجه مقاومة شديدة، الأمر الذي قد يشجع الجهاديين على زعزعة حكومات يعارضونها وعلى مواصلة مقاومة الوجود الأمريكي في دول أخرى غير العراق، مثل أفغانستان ودول البلقان، وقد تهوي سمعة الولايات المتحدة إلى الحضيض حتى خارج أوساط الجهاديين. بعبارة أخرى، فإن عدم العثور على أي أسلحة دمار شامل في العراق وعدم توفر الأدلة التي تثبت وجود أي علاقة بين نظام البعث وتنظيم القاعدة، سيجعلان الحفاظ على بقايا شرعية الحرب الأمريكية على العراق ـ التي باتت مكروهة عالمياً ـ مرهوناً بضمان بناء حكومة عراقية مقبولة وفعالة، فالسماح بتدمير العراق عبر الاقتتال الداخلي أو السماح بعودته إلى عصر الاستبداد سيجعل من الصعب جداً على الولايات المتحدة في المستقبل تبرير أي تدخل عسكري قد تراه ضرورياً، وقد يتحول الرأي العام العالمي من انتقاد الاحتلال الأمريكي الحالي إلى انتقاد الولايات المتحدة بسبب الفوضى التي خلفتها وراءها بعد مغادرة العراق.

وبالرغم من أهميتهما البالغة، فإن السمعة والمصداقية وحدهما لا تستحقان هذا السيل المتواصل من الدماء والدولارات، إلا أن خيار الانسحاب المبكر من العراق في ظل وجود التهديد الحقيقي الذي يشكله الجهاديون الناشطون هناك قد يضعف أمن الولايات المتحدة بشكل ملحوظ، مما يعني أن خيار الانسحاب المبكر من العراق خيار كارثي.

هل تخفيض القوات هو الخيار الأقل سوءاً؟

ربما يمثل هذا التوجه الخيار الذي قد يحظى بالقبول الأوسع، لأنه يستلزم من الولايات المتحدة تضحيات معقولة يسهل عليها تحملها لفترة طويلة. ويقضي هذا الخيار بإجراء تخفيض محدود في حجم القوات، بحيث يتم الإبقاء على قوة عسكرية تقليدية صغيرة في العراق تتمتع بقدرات تدريـبـية عالية ومعززة بأعداد كبيرة من رجال الأمن السرِّيـين. من الواضح أن هذا التوجه ليس بالخيار المثالي، ولكنه يتطلب من الولايات المتحدة تكاليف تستطيع تحملها بكل سهولة، ويعدها بفرص نجاح معقولة، ولكن على نطاق محدود جداً، ولعل الجانب الإيجابي الأبرز لخيار تخفيض القوات الأمريكية يتمثل في حقيقة أن الولايات المتحدة، ستخفض حجم وجودهما في العراق بشكل متواصل خلال الشهور التي تعقب تبنيها لهذا الخيار، ولكنها لن تنسحب من العراق بشكل كامل، ويفرض هذا الخيار ضرورة أن يشتمل الوجود الأمريكي في العراق على ثلاثة عناصر أساسية هي: فرقة من الجيش، أو لواء من قوات البحرية، يجري تعزيز أي منهما بمجموعات من ذوي الاختصاصات الأخرى، كوحدات تُعنى بالشؤون المدنية (من 15 ألفاً ـ 20 ألف جندي) ومجموعة من المستشارين (أي كتائب عدة من قوات العمليات الخاصة ومشاة البحرية) وانتشار استخباراتي سرِّي كبير.

وسيمكـِّـن هذا النوع من الوجود العسكري الولايات المتحدة من الاحتفاظ بقوة عسكرية ذات نفوذ قوي في العراق، ولكنها ستكون عاجزة عن السيطرة عليه. فالفرقة الأمريكية ستعمل على إسناد القوات العراقية وردع جيران العراق عن الاعتداء عليه، ولكنها نادراً ما ستبادر إلى القتال بمفردها. وقد تشكل هذه القوات عاملاً مضاعفاً للقوة العراقية، عبر ترجيح كفة الميزان لصالح القوات الحكومية على الميليشيات المحلية المتمركزة في العديد من المناطق العراقية.

كما سيسهم الوجود الاستخباراتي الأمريكي المكثف في العراق في استمرار الولايات المتحدة في الحصول على آخر المعلومات المتعلقة بتطورات طبيعة وحجم التهديد الذي سيشكله الجهاديون في المستقبل، وسيمكِّنها أيضاً من الاطلاع المتواصل على أنشطة مختلف الفئات العراقية وعلى جملة من القضايا الرئيسية الأخرى.

وستستطيع الولايات المتحدة عبر الاحتفاظ بهذا القدر المحدود من الوجود العسكري في العراق الإبقاء على قدرتها على التدخل السريع عند الضرورة، كما تستطيع أيضاً تعزيز مكانة من تشاء من الزعماء المحليين أو إسقاط أي زعيم محلي عبر استخدام نفوذها وتقديم الدعم المالي للزعماء المفضلين لديها. وخلاصة القول هنا هي أن هذا الخيار سيسمح للولايات المتحدة بإبقاء جميع الخيارات مفتوحة، وسيمكِّنها من التعامل عن كثب مع معظم الزعماء العراقيين الذين سيبرزون تباعاً في عراق سيتميز حتماً بسرعة تقلباته وعدم استقراره السياسي.

ومن المتوقع أن يعود تخفيض القوات بفوائد كبيرة على الولايات المتّحدة، لأنه سيؤدي إلى تقليص الخسائر البشرية والمالية بشكل كبير، وسيجعلها أكثر قابلية للتحمل من المستويات الحالية. ويشكل هذا الجانب بحد ذاته تقدماً كبيراً، لأنه سيمكِّن الولايات المتحدة، من تحسين مستوى تمويل أولويات أخرى، وسيخفف العبء الكبير الذي يتحمله الجيش الأمريكي حالياً، مما سيقلل من حدة القلق المتعلق بمستقبل القدرة على استقطاب الأمريكيين من أجل الانخراط في صفوف القوات المسلحة، وسيشجع الجنود الحاليين على البقاء لمدد طويلة في الجيش، كما سترتفع قدرة القوات الأمريكية على تحقيق كثير من الأهداف السياسية الأخرى، كالردع في شبه الجزيرة الكورية أو دعم الحكومة الأفغانية.

وكما حدث في أفغانستان، فإن هذا الوجود العسكري الأمريكي المحدود في العراق سيمكِّن الولايات المتحدة أيضاً من الحيلولة دون تحوّل محافظة الأنبار ومناطق سنية أخرى إلى معاقل للجهاديين الأجانب، وربما يشكل احتمال إضاعة هذه الفرصة السلبية الأبرز لخيار الانسحاب الكامل من العراق.

وبعد تخفيض وجودها في العراق، يبدو أن الولايات المتحدة لن تستطيع القضاء الكامل على الجهاديين من دون تلقي دعم كبير من القوات العراقية، ولكنه سيكون من السهل عليها ـ حتى عبر استخدام قوات صغيرة ـ منع تكرار ظهور ملاذات آمنة على شاكلة ملاذات الجهاديين في أفغانستان، حيث كانوا في ظل حكم حركة طالبان يستخدمون عشرات المعسكرات بشكل علني، وكانوا يتمتعون بحرية الحركة في جميع مناطق الريف الأفغاني.

وينطوي تخفيض الوجود العسكري الأمريكي في العراق على كسب الولايات المتحدة مزيداً من الوقت هناك، ليس لأن الوجود المخفض أكثر استدامة من التمركز الحالي بسبب انخفاض التكاليف المالية والخسائر البشرية المرتبطة به فقط، بل لأنه سيكون أقل وقعاً على القوميين العراقيين.

وسيتم تدريب مزيد من القوات العراقية خلال المرحلة الانتقالية نحو إنجاز التخفيض المنشود للوجود العسكري الأمريكي الحالي، إضافة إلى أن الولايات المتحدة ستستطيع بذل المزيد من الجهود الدبلوماسية وغيرها لحل المشكلات الإقليمية الأخرى التي قد تساعد بدورها على إنجاح الجهود المبذولة في العراق. ومن المنطقي أن تخفيض الوجود العسكري الأمريكي لن يقضي على مشاعر العديد من المتمردين بالعداء للأمريكيين، وربما يضغطون من أجل تحقيق الانسحاب الكامل للقوات الأمريكية من بلادهم، غير أن القوة الصغيرة التي ستحتفظ بها الولايات المتحدة في العراق ستكون في غاية الأهمية بالنسبة لواشنطن، وستشكل ذريعة بيد جميع معارضي الحكومة الجديدة لتوجيه الانتقادات لها.

وفي خضم الحديث عن تخفيض حجم الوجود العسكري الأمريكي في العراق، لا بد من الإشارة إلى أن هناك من يشتم في هذا التخفيض رائحة (الفتنمة) عبر مقارنته بمحاولات حفظ ماء الوجه والانسحاب المشرف، التي قام بها الأمريكيون خلال الفترة التي سبقت سيطرة الشيوعيين على جنوب فيتنام. ربما يعلن الجهاديون الأجانب وغيرهم من مناهضي الولايات المتحدة في العراق أن تخفيض الوجود الأمريكي هناك ليس سوى مقدمة للانسحاب الكامل من الأراضي العراقية، وقد يعتبرون (الانسحاب الجزئي) نصراً لهم. وسيكون من الصعب في البداية مواجهة مثل هذه الادعاءات، خصوصاً أن صور القوات الأمريكية المغادرة للعراق ستسهم في تعزيزها. ولا شك في أن العديد من المعلّقين والمراسلين الغربيين، سيصوّرون تخفيض الوجود الأمريكي هذا على أنه خطوة أولى نحو الانسحاب الأمريكي الكامل من العراق. وبالرغم من أنه سيتعين على الولايات المتحدة أن تضغط على حلفائها للبقاء في العراق فإن بعض دول التحالف سترى في تخفيض الأمريكيين لوجودهم فرصة سانحة لسحب كامل قواتها من العراق. وحينها، لن تستطيع حتى أفضل حملات العلاقات العامة أن تغير شيئاً في هذا التوجه، لكن مع مرور الوقت، سيشكل استمرار الالتزام الأمريكي بقضايا العراق الرد المقنع على جميع الادعاءات الباطلة والتكهنات الخاطئة.

يبدو أن إسراع واشنطن بتخفيض وجودها العسكري في العراق لن يكون سلبياً بالكامل، لأنه سيضيف مزيداً من الصدقية إلى التصريحات الأمريكية القائلة إن النظام العراقي الجديد يمثل الصوت الحقيقي للعراق. وعلى سبيل الإيضاح، لا بد من تأكيد أن تخفيض الوجود العسكري الأمريكي في العراق لا يشكل أي استراتيجية جديدة للنصر. غير أن تدريب العراقيين وتسليمهم المهام الأمنية سيظل أفضل وسيلة لتحقيق النجاح المنشود، علماً أن هذه المهمة ستكون في غاية الصعوبة. أضف إلى ذلك أن هذا التدبير التخفيضي لا ينطوي على أي موعد واضح لمغادرة العراق بشكل كامل ونهائي، وبالرغم من سلبياته الكبيرة فإن خيار التخفيض يمنع حدوث نتيجتين من أسوأ نتائج أي انسحاب كامل مبكر، هما: الحيلولة دون تحول العراق إلى معقل للجهاديين، وسهولة الحفاظ على استمرارية الوجود العسكري المخفض. أما معظم الخيارات الأخرى فإنها تتطلب كثيراً من التضحيات الجسام، مما يجعلها غير واقعية من الناحية السياسية، إلا أن خيار الانسحاب الكامل والمبكر من العراق سيعني تخلي الولايات المتحدة عن كثير من الأهداف الاستراتيجية الأولى التي كانت تتطلع إلى تحقيقها عبر غزوها للعراق.

ربما تكون الولايات المتحدة قد بدأت التحرك بالفعل في مسيرة التخفيض، ولكن النهج التخفيضي المتبع حتى الآن لا يشير إلى أن واشنطن تدرك حجم وأبعاد جميع المخاطر التي قد تترتب على تخفيض وجودها العسكري في العراق، حيث أشار قائد القوات الأمريكية في منطقة الخليج العربي الجنرال جون أبي زيد إلى أن الولايات المتّحدة قد تخفض حجم قواتها العاملة في العراق عندما تتحسن قدرة القوات العراقية على حفظ الأمن، وأن المهمة الأساسية للقوات الأمريكية التي ستبقى في العراق ستكون إعداد وتدريب مزيد من القوات العراقية ودعم وإسناد القوات العراقية التي قد تتولى إنجاز مهام أمنية.

وفي الوقت الراهن، لا تمتلك واشنطن أي خيارات جيدة للتعامل مع العراق، فجميع الخيارات المتوفرة لديها سيئة، وإن تفاوتت درجات سوئها. ولا شك في أن النهج الحالي باهظ التكاليف، وسيؤول إلى الفشل. أما تحسين موقفنا عبر التصعيد الشامل فليس ممكناً من الناحية العملية، وخيار الانسحاب الكامل المبكر كوسيلة لتجنب الخسائر الفادحة التي نتكبدها حالياً سيشكل كارثة كبيرة على العراق ومنطقة الخليج والولايات المتحدة نفسها، وربما سيكون من الضروري تبني استراتيجية مكافحة التمرد من أجل الحفاظ على بصيص من الأمل بالنصر، ولكن الحرص المفرط على سلامة القوات، وقلة القوات الإضافية المتوفرة والوقت الضروري لبناء القوة المناسبة لهذه المهمة المعقدة والإحجام الواسع عن تقديم التضحيات الضرورية، كلها أمور تجعل من غير المحتمل أن تتبنى الإدارة الأمريكية هذا الخيار. فإذا كانت الولايات المتحدة سترفض بذل التضحيات الضرورية ودفع فاتورة العراق الباهظة فسيتعين عليها الاعتراف بحقيقة مؤلمة، وهي أنه يجب عليها التخلي عن كثير من طموحاتها.

وسواء واصلت الولايات المتحدة نهجها الحالي، أو خفضت وجودها العسكري في العراق، فإنه سيتعين عليها دائماً أن تبقي تطوير القوات العراقية على رأس سلم الأولويات الأمريكية المتعلقة بمستقبل العراق. فهذه القوات تشكل حجر الأساس لمعظم ما يمكن تصوره من خيارات تخص التعامل مع قضايا العراق، وما لم يتم تأهيل هذه القوات تأهيلاً جيداً، فإن الولايات المتحدة ستغادر العراق، من دون أي أمل في تحقيق أي نجاح هناك، لذلك يجب تكريس جميع الموارد الضرورية لإنجاز هذه المهمة، على أكمل وجه ممكن، وكخطوة أولى، يمكن تدريب وحدات صغيرة عدة عالية الكفاءة توكل إليها مهمات محدودة وحيوية. ومع مرور الوقت، ستشكل هذه الوحدات النواة الأولى لقوة عسكرية أكبر.

أما في ما يتعلق بضرورة زيادة عدد معسكرات التدريب وعدد المدربين المختصين في مختـلـف المجالات فلربما يكون من المجدي الحصول على مزيد من المشاركة الأوروبية، وبخاصة من البلدان التي أرسلت المدربين العسكريين كجزء من الشراكة من أجل السلام القائمة مع منظمة حلف شمالي الأطلسي، وسيتطلب تخفيض الوجود العسكري أو التحول إلى التركيز على مكافحة التمرد شجاعة سياسية فائقة من جانب إدارة الرئيس بوش، ذلك لأنه سيتعين على العديد من مسؤولي هذه الإدارة القبول بأن معظم أهدافهم الطموحة، التي حظيت بالثناء الواسع، باتت بعيدة المنال. كما سيتعين على هؤلاء المسؤولين أيضاً، تحمل جميع الانتقادات التي ستنجم عن هذا الإخفاق (التي قد يصدر كثير منها عن أنصارهم والموالين لهم). وقد نشهد على المدى القريب عراقاً تجتاحه موجات من أعمال العنف، ولا يتمتع إلا بديمقراطية محدودة في أحسن الأحوال.

وأخيراً، إن البديلين المنطقيـَـيْـن الوحيدين هما: إما البقاء في المستنقع العراقي الحالي، أو الانسحاب الكارثي، وأياً كان البديل الذي ستختاره واشنطن، فإنه سيكون بديلاً سيئاً لا يخدم مصالحها ولا حتى المصالح العراقية.

مجلة آراء حول الخليج