; logged out
الرئيسية / العلاقات بين أوروبا والولايات المتحدة في عهد بوش (الحلقة الأولى)

العلاقات بين أوروبا والولايات المتحدة في عهد بوش (الحلقة الأولى)

الإثنين، 01 آب/أغسطس 2005

المصدر: دورية سيرفايفل، المجلد السابع والأربعون، العدد الأول، ربيع 2005، ص 105 ـ 122
المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية 2005 ©

لقد فاز جورج بوش الابن بانتخابات الرئاسة الأمريكية التي جرت في نوفمبر عام 2004، وقوبلت هذه النتيجة باستياء واسع في أوساط الشعوب الأوروبية. نظرياً، يمكن القول إنه كان من الممكن لهذا الحدث أن يعزّز الشعور بالعزلة عبر الأطلسي، وأن يدفع أوروبا إلى التعريف عن نفسها كقوة معارضة لأمريكا. وعملياً، يشكّل فوز الرئيس بوش بولاية ثانية، فرصة سانحة لإبرام معاهدة جديدة بين الولايات المتحدة والدول الأوروبية، هذا في حال تمكُّن الجانبين من استلهام العبر من دروس الأزمة الأطلسية التي سببتها الحرب التي قادتها الولايات المتحدة على العراق. غير أن من المثير للسخرية أن أحد الرؤساء الأمريكيين الأقلّ اهتماماً بالتحالف مع أوروبا، والأقلّ شعبية في القارة القديمة، هو الذي قد ينتهي به الأمر إلى إحداث تحول، كان من المتوقع وقوعه منذ فترة طويلة، هذا التحول يقضي باستبدال العلاقات التي كانت سائدة بين دول جانبي الأطلسي خلال الحرب الباردة بعلاقات براغماتية وأكثر واقعية، تستند إلى إعادة تقييم المصالح الأمريكية ـ الأوروبية المشتركة في عالم ما بعد القطبين.

ومن المنظور الأوروبي، يمكن تحديد الشروط المسبقة لهذه (المعاهدة الجديدة) المحتملة، على أساس فرضيتين، هما:

أولاً: إن الأزمة الأطلسية التي نشبت في عام 2003، والتي ُيعتقد بأن الخلافات حول سبل التعامل مع المسألة العراقية هي التي تسببت بها لها أيضاً أسباب هيكلية كانت قائمة منذ عام 1989، لأن الظروف الدولية التي جعلت من التحالف الأمريكي ـ الأوروبي التقليدي أمراً ممكناً، انتهت مع نهاية الحرب الباردة. ولم يدرك صُنّاع السياسة على جانبي الأطلسي، حقيقة أبعاد هذا التحول إلى حين نشوب الأزمة العراقية التي أبرزتها بكل وضوح. فواشنطن، المتفوّقة من الناحية العسكرية ـ التي تمتلك الإرادة لاستخدام تلك القوة في ظل غياب القيود الدولية التي قد تعيق ذلك ـ افترضت بالفعل أنّ أوروبا ستتبعها في آخر المطاف، مهما كانت الظروف والأحوال، إلا أن الأوروبيين كانوا يرون أنهم كانوا قادرين على ممارسة نفوذهم الدولي، إمّا عبر التعاون مع الولايات المتحدة ـ وهذا ما كان يفضله الأوروبيون المؤمنون بحلف شمالي الأطلسي ـ وإما عبر موازنة الديغوليين الأوروبيين.

ومن المنصف القول إن جميع أطراف هذه المعادلة، بما في ذلك إدارة الرئيس بوش الأولى، قد خسرت رهاناتها. والدليل على ذلك هو أنه عندما وجد الحلفاء الأطلسيون أنفسهم أمام انقسامات حادة بشأن العراق أدركوا أن فاعلية الآليات التي كانت مألوفة لديهم لاحتواء الخلافات المحتملة قد اختفت. وبالتالي، كان من الواضح أن النتائج جاءت عكسية تماماً بالنسبة إلى الأمريكيين والأوروبيين على حد سواء.

أما الفرضية الثانية فهي أيضاً ذات طابع هيكلي، وتتمثل في أن أوروبا، وللمرة الأولى منذ قرون، لم تعد النقطة التي كانت تترابط فيها السياسة العالمية، فخسرت بذلك ما كان لديها من مكانة بارزة في السياسة الخارجية الأمريكية. هذا التراجع في مركزية أوروبا من المنظور الأمريكي الدولي، جاء بشكل أساسي نتيجة لتداعيات أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، ولكنه ظهر أيضاً كنتيجة سلبية لنجاح الاتحاد الأوروبي في تعزيز السلم الأوروبي عبر التكامل بين الدول الأعضاء فيه، ولعله كان من الصعب على الأمريكيين تفهُّم هذا النجاح الأوروبي من خلال تجربتهم مع تحالف نشأ أصلاً للتعامل مع قارة أوروبية كانت منقسمة إلى كتلتين متصارعتين.

ليست أوروبا مصدر أخطر التهديدات التي يشهدها عالم ما بعد عام 1989 والحادي عشر من سبتمبر 2001، لذلك يجب على دول حلف شمالي الأطلسي أن تتكيّف مع هذا الواقع الملموس، وسيعتمد النجاح في تحقيق هذا التكيّف على مدى قدرة الحلفاء الغربيين على العمل معاً، لتحديد مصالحهم المشتركة أو المتوافقة بعضها مع بعض. من هذا المنطلق، يمكن القول إننا أمام لحظة حاسمة في مسيرة العلاقات الدولية، إذ إنه أصبح في حكم المؤكد أن طرفي التحالف الغربي لن يظلا متحالفين إلا عبر إدراك أن الأمور التي تجمع بينهما هي أهم من خلافاتهما الكثيرة.

إذا سلّمنا بصحة هاتين الفرضيتين ـ وقد تم في الحقيقة دعمهما بمجموعة من الوقائع المؤكدة ـ فكيف ستتطوّر إذن العلاقة عبر شاطئي الأطلسي؟ لن يكفي للإجابة عن هذا السؤال تركيز الاهتمام على أجندة السياسة الخارجية، أو البدء بما تتطلبه من مفاوضات ضرورية حول مشروع الشرق الأوسط الموسع، بل ينبغي في الحقيقة، حدوث تغيير جذري في القاعدة الجماهيرية للعلاقات القائمة عبر ضفتي الأطلسي. بعبارة أخرى، يجب تغيير السياسات الداخلية المنتهجة تجاه حلف شمالي الأطلسي، وبخاصة بعد أن أصبح من المعتاد أن يلمس المرء، في النقاشات التي تتناول هذا الحلف، مدى تأثير التوجهات المحلية الأمريكية التي تتحدث عن حقبة ما بعد الأطلسي التي يطرحها جيل من الزعماء السياسيين والعسكريين، وحتى الناخبين الذين يطالبون بإبعاد مركز ثقل الولايات المتحدة عن أوروبا. وهناك وجهة نظر أخرى، تفيد بوجود تيار انعزالي عايش التوسّع العالمي الأمريكي في القرن العشرين، وأنه قد يتخذ الآن شكل تيار يسعى بشكل منهجي إلى أحادية السياسة الأمريكية الخارجية، ولعل التركيز على الجانب الأوروبي من المعادلة لا يقل أهمية عن التركيز على جانبها الأمريكي ـ وإن كانت الصورة هنا أكثر تعقيداً ـ لأن هناك ظاهرتين متناقضتين مقبلتين، تندرجان في سياق التحول غير المكتمل الذي يشهده الاتحاد الأوروبي الناشئ.

فمن ناحية، لم يعد الارتباط بالولايات المتحدة، يشكل العامل الحاسم لشرعية النخب الوطنية في القارة الأوروبية. وبالتالي، فقد تحررت السياسة الأوروبية من القيود الخارجية التي دامت لفترة طويلة، الأمر الذي يمكن اعتباره ظاهرة إيجابية، وخصوصاً أنه يشكل تكيفاً منطقياً للسياسات الأوروبية الداخلية مع التركيبة الجديدة للعلاقات الدولية. ومن ناحية أخرى، يبدو أن النخب المحلية الأوروبية قد تأخّرت في استيعاب هذه الحقيقة الجديدة: إذ منهم من يستمرّون في التشبث بالقيم الأطلسية، ومنهم من يغريهم الحصول على مكاسب محلية قصيرة الأمد، وذلك عبر استغلال التيارات المعارضة لواشنطن. وفي كلتا الحالتين، يبدو أن النخب السياسية الأوروبية لا تستخدم هوامش المناورة الجديدة بشكل منهجي لبلورة موقف أكثر نضجاً وواقعية تُجاه الولايات المتحدة، ولعل أحد الأسباب الواضحة التي أدت إلى هذه الحيرة الأوروبية يتمثل في وجهات النظر الأوروبية المتباينة حول كيفية التعامل مع القوة العظمى الوحيدة، ويشكل هذا التباين جزءاً لا يتجزأ من اختلاف التوجهات المتعلقة بتشكيل الـهُـوية الجديدة للاتحاد الأوروبي الناشئ. أما العامل الأمريكي الذي كان عامل توحيد لأوروبا، فقد أصبح عامل خلاف فيها. ولم تبرز هذه الظاهرة لأن إدارة الرئيس بوش لعبت لعبة (فرِّقْ تسُـدْ)، بل لقد جاءت بشكل أساسي نتيجة للخلافات الأوروبية نفسها، ولأن الأوروبيين أنفسهم ما زالوا منقسمين حول مستقبل الاتحاد الأوروبي. غير أن العامل الأمريكي ما زال حاضراً بوجهيه: الإيجابي والسلبي في هذا النقاش الأوروبي المصيري. إن التوفيق بين مختـلِـف التوجهات الأوروبية شرط أساسي مسبق لإبرام أي معاهدة جديدة مع الولايات المتحدة، وضمان التماسك المستقبلي للاتحاد الأوروبي.

النقاش الداخلي الأوروبي: الولايات المتحدة ونحن الأوروبيين

إن المشهد السائد في الحوارات الداخلية الأوروبية هو ظاهرة المناقشات الحادة التي تدور بين أنصار القيم الأطلسية من جهة، ومن باتوا يُعرفون بالديغوليين الأوروبيين من جهة أخرى. ويسعى كلا المعسكرين إلى تعزيز دور الاتحاد الأوروبي، ولكنهما يختلفان تحديداً حول طبيعة العلاقات الأوروبية ـ الأمريكية: حيث يرى الأطلسيون الأوروبيون أن الاتحاد الأوروبي يحتاج إلى تقوية نفسه لكي يبقى شريكاً فاعلاً للولايات المتحدة. أما الديغوليون الأوروبيون فإنهم يعتقدون بأنه ينبغي للاتحاد الأوروبي أن يعزز قدراته بهدف موازنة قوة الولايات المتحدة. ففي وجهة النظر الأولى، يتمحور اهتمام الاتحاد الأوروبي حول تعزيز هيمنة القطب الغربي الواحد، مع التشديد على جعله متعدد الأطراف والإدارة. أما المنظور الديغولي، فيؤكد ضرورة اهتمام أوروبا بالعمل على الانتقال من عالم القطب الواحد المتمثل في الهيمنة الأمريكية إلى عالم متعدد الأقطاب. وهكذا، سينبغي على الاتحاد الأوروبي برأيهم أن يتطور كقطب دولي جديد مستقل بحد ذاته قد يكون أحياناً مسانداً لأمريكا وغير مساند لها أحياناً أخرى. وإذا كان هذا التحليل انعكاساً للسبب الجوهري المنطقي الذي كان وراء النقاش الأوروبي حول العراق فإنه يمكن تأكيد أمرين أساسيين، هما:

أولاً: إن تباين الآراء بين هذين المعسكرين هو في الحقيقة أكثر تعقيداً من مجرد تقسيمهما إلى أوروبا الجديدة التي تضم الأعضاء الجدد في الاتحاد الأوروبي بقيادة المملكة المتحدة، وأوروبا القديمة التي تقودها فرنسا، ويشكل التحالف الفرنسي ـ الألماني نواتها. ففي الواقع، تسبب النقاش حول الموقع الدولي للاتحاد الأوروبي بانقسامات داخلية في كل بلد أوروبي، وأدت تلك الانقسامات في أغلب الأحيان إلى مواقف داخلية أقل استقراراً مما كانت تبدو عليه. فعلى سبيل المثال، شهدت ألمانيا وإيطاليا ـ وهما بلدان أقل انخراطاً من الناحية التاريخية في السياسة الخارجية من فرنسا والمملكة المتحدة ـ ائتلافات حكومية ذات مواقف متباينة جداً حول هذه القضية.

ثانياً: إن النقاش الدائر حول طبيعة العلاقة مع الولايات المتحدة هو أيضاً إحدى النتائج المهمة الأخرى للخلافات الداخلية الأوروبية، ويرى الأطلسيون الأوروبيون في مواصلة توسيع الاتحاد الأوروبي أكبر نجاح يمكن للسياسة الخارجية الأوروبية أن تحققه، وأن عملية التوسيع هذه، هي أهم بكثير من مدى عمق الروابط القائمة بين دول الاتحاد الأوروبي التي تغيب في الأغلب الرغبة في العمل على ترسيخها، إلا أن الديغوليين الأوروبيين يرون أن التوسيع المفرط للاتحاد الأوروبي محفوف بالمخاطر التي قد تحد من تماسك النادي الأوروبي الأصلي، وقد تعيق مسيرة تقدمه. إذاً ليس من المفاجئ أن ينتمي أكثر المؤيدين حماسة لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي إلى المعسكر الأول، بينما تصدر أشد التحفظات في هذا الشأن عن المعسكر الثاني.

لا شك في أن أي إدارة أمريكية تفضل ظهور اتحاد أوروبي أطلسي التوجه، فالدرس الذي ينبغي تعلمه من أزمة العراق، هو بالتأكيد، أنه ليست هناك أي مصلحة حقيقية للولايات المتحدة في تطبيق لعبة (فرِّقْ تسُـدْ) ضد الأوروبيين، حيث ثبت أن الولايات المتحدة في آخر المطاف لم تستطع الحصول على كثير من دعم الحلفاء عندما كانت أوروبا منقسمة. وقد اتضح أن أي شكل من أشكال التدخل الأمريكي في النقاش الداخلي الأوروبي سيؤدي إلى نتائج عكسية تماماً. لذلك، فإن أي بداية لعلاقات أوروبية ـ أمريكية جديدة في الفترة الثانية من حكم الرئيس بوش ستشير إلى عودة الأمريكيين إلى التمسك بالفكرة القائلة إن أوروبا الموحدة تصب في المصلحة القومية الأمريكية، علماً أن أكثر ما يمكن لواشنطن أن تأمله من الأوروبيين هو رؤية أن الدور الدولي للاتحاد الأوروبي يتطور في الاتجاه الأطلسي.

ومن ناحية الرأي العام الأوروبي، تظهر استطلاعات الرأي تراجعاً كبيراً في تعاطف الأوروبيين مع الولايات المتحدة، وكان ذلك المنحى العام والثابت، أثناء الفترة الأولى من حكم الرئيس بوش، وبالتوازي مع هذه النتيجة، يبدو أن الأوروبيين يدعمون بناء اتحاد أوروبي أكثر حزماً وقوة. يُضاف إلى ذلك هنا، أنه وفقاً لآخر استطلاع للرأي العام الأوروبي، بلغ الدعم للسياسة الأمنية والدفاعية الأوروبية المشتركة رقماً قياسياً جديداً، حيث سجل نسبة 78 في المائة من الذين تم استطلاع آرائهم. ومن اللافت للانتباه أن دعم السياسة الأمنية والدفاعية الأوروبية المشتركة هو على أشده في البلدان التي انضمت مؤخراً إلى منظمة حلف شمالي الأطلسي ـ خصوصاً بولندا وجمهورية التشيك ـ ولا ترى هذه البلدان ـ على ما يبدو ـ أن تعزيز قدرات أوروبا الدفاعية سيشكل بديلاً عن حلف شمالي الأطلسي، بل تعتبره عاملاً مكملاً لقدرات ذلك الحلف.

أخيراً، تُظهر استطلاعات الرأي في أوروبا استياءً متزايداً من الدور الذي تلعبه الولايات المتحدة على الصعيد الدولي، حيث تعتقد أغلبية المواطنين الأوروبيين بأن الولايات المتحدة لا تلعب أي دور إيجابي في القضايا المتعلقة بالسلم العالمي أو بمكافحة الإرهاب. ولعل أكثر البلدان انتقاداً للولايات المتحدة هي فرنسا وبلجيكا وتركيا. 39 في المائة من الأوروبيين فقط يعتقدون حالياً بأن الولايات المتحدة تلعب دوراً إيجابياً في مكافحة الإرهاب، بينما كانت نسبة هؤلاء الأوروبيين، قبل نشوب الأزمة العراقية في أغسطس 2002، قرابة 54 في المائة. (في هذه القضية بالتحديد، تنقسم الآراء الأوروبية، ففي المملكة المتحدة ومعظم الدول الأعضاء الجدد، تسود نسبة المؤيدين للولايات المتحدة، بخلاف نواة القارة الأوروبية القديمة). وكانت نتائج هذه الاستطلاعات واضحة، وقد أكدتها الاستطلاعات الأخرى التي أثبتت أن الأوروبيين إجمالاً هم أكثر انتقاداً لأداء الرئيس بوش على صعيد السياسة الخارجية في الفترة الممتدة بين عامي 2003 و2004 من الأمريكيين بكثير. يُضاف إلى ذلك، أن الأغلبية الساحقة من الأوروبيين، تعتقد بأن حرب العراق أساءت إلى حملة مكافحة الإرهاب.

وإذا استمرت هذه التصورات الأوروبية، فإن هناك تغييراً جذرياً قادماً لا محالة، وهو أن الجماهير الأوروبية ـ للمرة الأولى خلال فترة لا تقل عن ستة عقود ـ لن تنظر إلى الولايات المتحدة على أنها المصدر الطبيعي لحمايتهم من التهديدات الجديدة، بل سيعتبرونها مصدراً محتملاً لمزيد من إمكان تعرضهم للإيذاء. لذلك، يبدو من غير الممكن تجنب الاستنتاج المتمثل في أن الجزء الأكبر من العلاقات القديمة التي كانت قائمة عبر الأطلسي، قد انتهى.

ومنذ خمسينات القرن الماضي، اشتملت الشراكة الأطلسية على معاهدة ضمنية، وهي أن أوروبا كانت تقدم دعماً إضافياً لشرعية الأنشطة الدولية والتحركات السياسية الخارجية الأمريكية، مقابل الالتزام الأمريكي الملموس بالحفاظ على الأمن الإقليمي لأوروبا. أما اليوم، فإن أكثر الأوروبيين يرون أن التهديدات القديمة قد زالت، وأن مسألة ضرورة حماية الأمريكيين لأمنهم الإقليمي قد انتهت، كما تبدو لهم السياسات الأمريكية الحالية سيئة جداً، الأمر الذي يجعلها غير ملائمة لضمان حمايتهم من التهديدات الجديدة. وفي المحصلة، من الملاحظ أن أعداد الأوروبيين غير الراغبين حتى في تقديم الدعم السياسي للأمريكيين ـ أي في الشكل التقليدي لدعم شرعية الأنشطة الدولية الأمريكية ـ في ازدياد مطرد، ويتطلعون إلى دور دولي أوروبي أكثر استقلالية عن الولايات المتحدة، لكن لا بد من الانتباه في هذا السياق إلى أمرين مهمين، هما:

أولاً: إن تاريخ بروز الأوروبيين الداعمين لدور أوروبي دولي فاعل يعود إلى ما قبل انحسار الدعم الأوروبي للقيادة الأمريكية للعالم، وهذا يعني أن العوامل الحقيقية التي أدت إلى هذه الظاهرة كانت قائمة قبل ظهور إدارة الرئيس بوش الأولى.

ثانياً: بالنسبة إلى أغلبية الأوروبيين، ليس القصد من تعزيز قوة الاتحاد الأوروبي منافسة الولايات المتحدة، بل التعاون معها. إذ يبدو أن الشعوب الأوروبية تفضل بناء اتحاد أوروبي يجمع بين رغبة الديغوليين في تعزيز قوة واستقلالية الاتحاد الأوروبي، وأمل الأطلسيين في تعزيز قدرة الاتحاد الأوروبي على التعاون مع الولايات المتحدة بفاعلية أكبر، وبخاصة في القضايا المطروحة على أجندة ما بعد الحادي عشر من سبتمبر. بعبارة أخرى، يرى معظم الأوروبيين فكرة اتحاد أوروبي أقوى وأكثر استقلالية في سياق استمرار الشراكة مع الولايات المتحدة، حتى إن كانت هذه الشراكة المنشودة أكثر واقعية وأقل عاطفية من سابقتها. ومن الحقائق الأساسية التي تدعم هذا الاستنتاج أنه في حين تتوفر الرغبة لدى الشعوب الأوروبية في تحول الاتحاد الأوروبي إلى قوة عظمى قادرة على التصرف بشكل مستقل عن الولايات المتحدة عند الضرورة، تبين أن نسبة 47 في المائة من الأوروبيين لا ترغب في زيادة الإنفاق على الدفاع لتحقيق هذا الهدف.

وهكذا، يمكن القول إن هذه النتيجة تستثني عملياً فكرة بناء أوروبا القادرة على منافسة الولايات المتحدة. يُضاف إلى ذلك، أنه عندما طُلب من الأوروبيين المستطلعة آراؤهم التحدث عن همومهم الرئيسية، تقدمت مشكلة البطالة كثيراً على قضايا الإرهاب، وهو ما يؤكد الانطواء الذاتي النسبي للأوروبيين لانشغالهم بأمورهم الداخلية أكثر من الأمور الدولية. ومن المهم هنا إضافة أن الأوروبيين ما زالوا منقسمين حول الرغبة في القيادة الأمريكية للشؤون الدولية: فأغلبية البريطانيين والهولنديين تعتقد بأن العالم لا يزال بحاجة إلى قيادة أمريكية قوية، بينما الأغلبيات في إسبانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا تعتقد بأن قيادة قوة عظمى وحيدة لهذا العالم أصبحت أمراً غير مرغوب فيه، معللة مواقفها بالحجة الكلاسيكية الداعمة لتعدد الأقطاب. وفي ما عدا بعض الجيوب الوجودية المعادية لأمريكا، يرتبط الانتقاد الأوروبي للولايات المتحدة بسياسات أمريكية بعينها، ومنها تلك المتعلقة بالعراق ومعاهدة كيوتو ومحكمة الجزاء الدولية.

إن هناك خلافات جوهرية على جانبي الأطلسي حول المعايير والسيناريوهات التي تجيز استخدام القوة. وربما يكون الرئيس بوش في ولايته الثانية قد استطاع بالفعل تخفيف التوتر مع حلفائه الأوروبيين عبر تجنب الدخول في مغامرات سياسية خارجية جديدة، ومن خلال إحراز تقدم ملموس نحو تحقيق السلام في

المسار الإسرائيلي ـ الفلسطيني، لكن الخلافات الجوهرية المتعلقة باستخدام القوة ستبقى بالإضافة إلى الخلافات المتعلقة بالأنظمة الدولية وبالترتيب الأمثل لعالم ما بعد الحرب الباردة. ومن الفوارق الواضحة تبين أن 49 في المائة فقط من الأوروبيين، بالمقارنة مع 63 في المائة من الأمريكيين، يعتقدون بأن استخدام القوة هو أنسب وسيلة لمكافحة الإرهاب. وإذا افترضنا أن السياق الاستراتيجي العام يُعرف الآن عبر التوجه الأمريكي حيال الحرب على الإرهاب، أو حتى عبر الهدف الأوسع المتمثل بنشر الحرية، فإن أحد المصادر الأساسية للانقسام سيبقى قائماً، وكأن كل ما يدور ليس سوى مؤشرات على وجود الاستعداد النفسي لدى الولايات المتحدة ومعظم الأوروبيين لإنهاء تحالفهم الشامل الذي جمعهم عقوداً طويلة.

مجلة آراء حول الخليج