; logged out
الرئيسية / مستقبل التنمية المستدامة في ضوء التحديات الجديدة

العدد 87

مستقبل التنمية المستدامة في ضوء التحديات الجديدة

الخميس، 01 كانون1/ديسمبر 2011

 (أنا مشغول بقرع الحوافر عن المزاهر) قالها سيف الدولةعندما دعاه بن عمه الشاعر أبوفراس الحمداني لحضور أمسيةغنائية، فاعتذر لأنه مشغول بتهيئة العدد والعدة لمقابلة البيزنطيين، وكان أصحاب القرار والاقتصاديون مشغولين اليوم بكيفية الاستخدام الرشيد للموارد الناضبة (ماء ونفط وغاز) – تحت وابل الأزمات الاقتصادية، بمعنى آخر حفظ الأصول الطبيعية للأجيال القادمة في بيئة مماثلة، حيث إنه لا توجد بدائل صناعيةلكثير من الأصول البيئية.

أما مفهوم التنمية المستدامة أو (المستمرة) (Sustainable Development) فيعتمد بشكل أساسي على ثلاثة عوامل أساسية هي:

1- مشاركة أفراد المجتمع المحلي في التخطيط والتنفيذ والإدارة للمشروعات التنموية.

2- تنفيذ مشروعات تنموية طبقاً للاحتياجات الحقيقية النابعة من أفراد المجتمع.

3- ضرورة مشاركة المجتمع في توفير النصيب الأكبر من التمويل المطلوب للمشروعات التنموية.

ونتيجة لذلك ولأهمية عملية التنمية المستمرة ظهرت الضرورة لحشد وتعبئة جهود أفراد المجتمع لحثهم على المشاركة في عملية التنمية ومساعدة أنفسهم على النمو بمجتمعهم.

 فالموارد البشرية تعتبر من أهم الركائز الأساسية التي تعتمدعليها التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وفي هذا الصدد يقول مالك بن نبي في كتابه )مشكلات الحضارة): (إن الاقتصاد ليس قضية إنشاء بنك و تشييد مصانعف حسب، بل هو قبل ذلك تشييد الإنسان،وإنشاءسلوكه الجديد أمام كل المشكلات)،فالإنسان هو أساس التنمية يصنعها ويجني ثمارها،فإذالمتستهدف العملية التنموية صناعة إدراك هذا الإنسان بأنه مكرم من قبل الله،وأنه مستخلف في مال الله، بلاشك تستحوذ على إدراكه الثقافي روح النرجسية، بل يعبد طرق الشر من أجل شهواته.

فبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، كان كل مفكر اقتصادي وسياسي إما كينزي المذهب أو اشتراكياً، وظهر في العالم قطبان أيديولوجيان لكل منهما فكر متماسك ويقدم نفسه باعتباره إنموذجاً لحل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية، وكشفت تيارات الفكر لدى اليمين واليسار على السواءعن تجديد العهد في الاحتكام إلى العقل وتجديد الثقة بالنظرية، وشرع القطبان ومنيدور في فلكيهما ببذل جهد للتنمية والإعمار وإعادة البناء في إطار نظريتينمتكاملتين: الرأسمالية التي تدعو إلى الليبرالية ومجتمع الرفاه، أو الاشتراكية ومجتمع المساواة، وفي الربع الأخير من القرن العشرين ظهر نقيضها بالكامل. إذ سقطت التجارب الاشتراكية، وأضحت الهيمنة لقطب واحد، وانحسر دور القوى العاملة مع تطور ثورة المعلومات والاتصالات، وظهرت نظريات تؤكد سقوط الليبرالية وتحولها إلى ما يسمى الليبرالية الجديدة، أي إلى حاكمية السوق المتحررة من كل الضوابط، واتسعت الهوةبين الفقراء والأغنياء، وفي السنوات الأخيرة ظهر اقتصاد المعرفة الذي يعد فرعاً جديداً من فروع العلوم الاقتصادية القائم على المعرفة التي تشكل المعلومات العنصر المهم فيه، والتي أرست مفهومه دول مجلس التعاون في تنمية قدرات العقل العربي والتعامل مع الظواهر المتعددة وكيفية إيجاد أساليب لحلها، مستغلة نظم المعلومات على أحسن وجه، وكان أحد عوامل تعزيز التنمية المستدامة.

ولا بد من لفت النظر إلى أهمية التمييز بين النمو والتنمية، ففي البلدان الصناعية المتقدمة لا أحد يتحدث عن التنمية، ذلك أن المسألة في تلك البلدان هي مسألة نمو وليست مسألة تنمية، لذا فإن الهم الاقتصادي لديهم هو التركيز على تسريع معدلات النمو الاقتصادي في أجواء يسودها الاستقرار، بمعنى عدم تعرض اقتصاداتها إلى هزات أو أزمات حادة، بسبب موجات من التضخم أو البطالة أو الركود، فهي معنية بحركة النمو الاقتصادي المحكوم بقوانين السوق، وقد أشار روبرت صولو في كتابه (نظرية النمو) بالمقومات الأساسية الثلاثة: معدل الادخار، ومعدل نمو القوة العاملة، ومعامل رأس المال- الناتج، فحواها أنها أخذت كأدلة ومعايير، فمعدل الادخار اعتبر انعكاساً لواقع التفضيلات، كما اعتبر معدل نمو عرض العمل واقعاً ديموغرافياً- سوسيولوجياً، أما معامل رأس المال الناتج فهو انعكاس لواقع تكنولوجي، فأي انحراف صغير في هذا الوضع سيكون مصيره التضخم المتناهي، ولجيمس سبيث المدير التنفيذي لبرنامج الأممالمتحدة الإنمائي رأي في التنميةالبشرية المستدامة يعبر عنه بقوله (هي تنمية لا تكتفي بتوليد النمو وحسب، بل توزيع عائداته بشكل عادل أيضاً، وهي تجدد البيئة بدل تدميرها، وتمكن الناس بدل تهميشهم؛ وتوسع خياراتهم وفرصهم وتؤهلهم للمشاركة في القرارات التي تؤثر في حياتهم)، وتقاس التنمية الإنسانية بالمفهوم المعتمد من قبل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، بتوفر الشروط التالية:

أولاً العيش حياة طويلة وصحية، واكتساب المعرفة، وثانياً الوصول إلى المواد اللازمة لمعيشة لائقة، والشرط الثالث توفر الحريات العامة وحقوق الإنسان، ولذلك أولى تقرير التنمية الإنسانية العربية اهتماماً كبيراً للمعرفة واكتسابها والقدرة على توظيفها التوظيف الأمثل، واعتبر ذلك أحد الشروط الثلاثة لإعادة تأسيس المجتمعات العربية بما يتلاءم ومتطلبات العصر، وفي ضوء هذا التحديد للتنمية الإنسانية قدم التقرير عرضاً لمعالم الواقع العربي، مبتدئاً بإدانة الاحتلال الإسرائيلي غير المشروع للأراضي العربية، باعتباره إحدى أكبر العقبات استشراءً كمهدد ومعرقل مسيرة الأمن والتقدم في المنطقة، ومقرراً ما من شيء يقضي على الرؤية النبيلة للتنمية أكثر من إخضاع الناس لاحتلال أجنبي، فيما يحمل الاحتلال مسؤولية إعاقة التنمية، ليس في الأراضي العربية المحتلة فقط، وإنما أيضاً في كثير من الأقطار العربية، إذ إنه أربك الأوليات الوطنية فيها وأعاق التنمية السياسية، فضلاً عن أنه من أهم أسباب تشويه برامج التنمية.

وبالطبع فإن هناك العديد من التحديات التي لا يمكن مواجهتها، على نحو منفرد، فمهما بلغت موارد البلد المالية، أو زاد عدد سكانه، أو اتسعت شبكة علاقاته، فإن تعقيدات الحياة الجديدة، وعمق المشكلات التي يتعرض إليها، تجعل من غير الممكن مواجهة ذلك كله على نحو منفرد. لكن الصورة الكاملة مملوءة بالزوايا المعتمة التي تطرح على دول مجلس التعاون تحديات جمة:

أولها، التحدي المتعلق بالاستقرار السياسي، فقد أظهرت بيانات نشرها صندوق النقد الدولي مؤخراً أن البلدان العربيةالتي ثارت على أنظمتها الاستبدادية وخلعت ثلاثة زعماء حتى الآن، تواجهتباطؤاً اقتصادياً في عام 2011. غير أن بلدان دول مجلس التعاون الغنية التي لمتتعرض إلى موجة الاحتجاجات (لما تمتاز به حكوماتها من عدل ومساواة في معاملة مواطنيها) باتت تتمتع بزيادة في العائدات وفق المراجعة الدولية الاقتصادية الإقليمية التي تصدر كل ثلاثة أشهر والتيصدرت في دبي في 26/10/2011.

فقد سجلت دول مجلس التعاون نمواً يناهز 7 في المائة هذا العام، موضحاً أنها استفادت من ارتفاع أسعار النفط، فضلاً عن زيادة معدلاتالتصدير. إذ توقع نمو الاقتصاد السعودي بمعدل 6.5 في المائة في 2011، بينما سيكون النمو في الإمارات 3.3 في المائة، في حين يستمر نمو الاقتصاد القطري بشكل ضخم بنحو 18.7 في المائة بفضل تنامي صناعةالغاز لديها. ومن المتوقع أن ينمو اقتصادالكويت بـ5.7 في المائة، وأن سلطنة عمان ستسجل 4.4 في المائة نمواً فيالناتج المحلي الإجمالي لديها، أما الاقتصاد البحريني فينمو بمعدل 1.5 في المائة، وتأتي هذه التطوراتالإيجابية في وقت تعاني فيه الكثير من الدول حول العالم من مشكلتين رئيسيتين: الأولى تخفيض المزايا المالية بسبب نقص الموارد المالية، والثانية تباطؤالنمو الاقتصادي.

التحدي الثاني: يتعلق بإدامة التنمية، فمشكلة التنمية مع الموارد الطبيعية المتناقصة قضية ملحة وعاجلة لأنها تحدٍ كبير للمدن على اختلافها، وهي مشكلة مركبة فمن أمن الطاقة المستقبلي إلى احتياطيات النفط المحدودة، ومن الوصول إلى المياه واليابسة ومن الخيارات الوطنية للأولويات والسياسات الاقتصادية إلى الخيارات الشخصية في الاستهلاك، وفي هذا الصدد أوضح صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس دولة الإمارات رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، في المنتدى الاقتصادي العالمي الذي عقد في مدينة داليان الصينية.. حين قال (علينا أن ننتج أكثر ونستهلك أقل، علينا أن نخصص الموارد ونبذل الجهود ونتعاون في البحث عن بدائل للموارد المتناقصة).

التحدي الثالث:التدهور الحاد في الاقتصاد العالمي، والذي قديؤدي بدوره إلى تقليص إيرادات التصدير والاستثمارات الأجنبية. وعلى النقيضمن ذلك، فإذا ما تحسن الوضع الاقتصادي العالمي، فإن من المحتمل أن يتمخض هذا التحسن عن ارتفاع معدلات التضخم، ولذلك، لا يمكن النظر إلى مسألة النمو الاقتصادي على أنها مطابقة تماماً لمسألة التنمية الاجتماعية، وبخاصة في البلدان النامية.

إن من غير الممكن تصور اقتصار دور الدولة الاقتصادي على تنظيم التوازنات الاقتصادية والمالية الكلية، أي الاعتماد على تطبيق السياسات الاقتصادية والمالية النقدية الكلية لتنظيم النشاط الاقتصادي بما يساعد على زيادة النمو بعدئذٍ، بل لا بد للدولة من توجيه الاهتمام الكافي لإقامة البنى الأساسية الاقتصادية والاجتماعية، وبخاصة منها التعليمية والصحية والاهتمام بقضية توزيع الدخول والضمانات الاجتماعية، بالإضافة إلى بناء الطرق ومشاريع الكهرباء والري والحفاظ على الموارد المائية. ومع أن من المناسب دائماً العمل على تحقيق التوازن بين التنمية البشرية والتنمية الاقتصادية، إلا أن من الخطأ الجسيم الافتراض بأن زيادة النمو الاقتصادي وتلقائيته تعنيان توفر متطلبات التنمية المستدامة. فمعالجة المشكلات الإنمائية الرئيسية كالبطالة والفقر لا يجوز تركها للبحث فقط في ضرورات زيادة النمو الاقتصادي وتوسيع النشاط الاستثماري للقطاع الخاص. ولذلك أيضاً، لا ينبغي الافتراض بأن الاندماج في السوق الرأسمالية العالمية سيساعد على نحو آلي في تسريع التنمية الاجتماعية في البلدان النامية ( صبري السعدي، الاقتصادات العربية، ص69).

التحدي الرابع: مصادر المياه، فإذا كانت دول مجلس التعاون الأغنى في مصادر النفط والغاز، إلا أنها الأفقر في مصادر المياه، فمصادر المياه العذبة المتوافرة في المنطقة تساويأقل من واحد في المائة من إجمالي المياه العذبة المتوافرة في العالم. ويعد نمو سكانها من بين الأسرع في العالم، إذ يصل معدل نموهم السنوي المركب لعشرسنوات إلى 3 في المائة (حتى 2010)، بينما انخفض نمو السكان في العالم إلى 1.1 في المائة في  2011، ويبلغ متوسط استهلاك المياه يومياً في السعودية 250 لتراً.

وهو وضعمماثل في دول خليجية أخرى أيضاً. ففي دراسة أخيرة أعدتها مؤسسةمابلكروفت، صنفت البحرين وقطر والكويت والسعودية من بين أكثر الدول التيتعاني ضغوطاً في المياه، إذ تعد حصة الفرد من المياه المتوافرة في هذهالدول الأقل مقارنة بغيرها. ونتج عن تزايد ندرة المياه الجوفية في دول مجلس التعاون انكماش في منسوب المياه يتجاوز وفرة مصادر المياه الطبيعيةالقابلة للتجدد.

لذا أخذت دول مجلس التعاون تستخدم ثرواتها النفطية في تعزيز البنيةالتحتية والخدمات، بالإضافة إلى رفع مستوى المعيشة للمواطنين خصوصاًبالنسبة للشرائح الأقل ثراء في المجتمع، واستجابة للمتطلبات التي أملتهاالأوضاع الاقتصادية العالمية، والحاجة إلى زيادة الاستثمارات المحلية وتعزيز التجارة وتنشيطهماوتقديمالدعمالماليلتحقيقالتنمية المستدامة.

كما لفتت الدراسة إلى أن المياه في دول مجلس التعاون تنتج بشكل رئيسي عنمصانع تحلية، ورغم تكلفتها العالية مقارنة بالمياه التي يتم ضخها من جوفالأرض - على اعتبار أنها تحتاج إلى كميات عالية من الطاقة لتحويل مياهالبحر إلى مياه صالحة للشرب- إلا أنها لا تزال أكثر الحلول العمليةبالنسبة لدول المنطقة. وتشكل دول مجلس التعاون 57 في المائة تقريباً من مجموع طاقة تحليةالمياه في العالم. أما المملكة العربية السعودية التي تشغل 30 مصنع تحلية وتنتج 24 مليونمتر مكعب يومياً من المياه فتعد أكبر منتج لمياه التحلية في العالم.

وباعتبارها منطقة غنية بالنفط، فإن مشاريع تحلية المياه بالنسبة لها أقل تكلفة نسبياً مقارنة ببقية دول العالم. ومع ذلك، هناك حاجة ملحة لوجودعمليات إدارة مياه محسنة وبديلة. ولمعالجة موضوع هذه المصادر المكلفةوالنادرة بطريقة أفضل، تبحث الدول عن خيارات جديدة، إذ تخطط اليوم لمشاريعمعالجة مياه الصرف الصحي وإعادة التدوير.

وتمتلك دول خليجية أخرى خططاً مماثلة. إذ إنإمارة أبوظبي في دولة الإمارات العربيةالمتحدة، استخدمت التخزين الاستراتيجي للمياه باستخدام تقنية الحقن الاصطناعي للمياه في الخزانات الجوفية كما منحت عقداً بقيمة 1.6 مليار درهم إماراتي (436 مليون دولار) لبناء منشأة تخزينفي واحة ليوا الطبيعية التي تقع على أطراف صحراء الربع الخالي الشاسع. أما قطر فبدأت بتنفيذ خططها لإنشاء خزّان هائل بتكلفة (2.75 مليار دولار) قادر على تخزين مياه عذبة لمدّةسبعة أيّام من أجل تفادي أزمة محتملة في حال تعطّلت محطّات تحلية مياهالبحر الضخمة التي توفّر 99 في المائة من المياه في البلاد.

ولذلك فإن دول مجلس التعاون مدعوة لتبني التخطيط الاستراتيجي البعيد المدى من أجل المحافظة علىما حققته من إنجازات تنموية عديدة وتجنب تأثيرات الأزمات المالية علىاقتصاداتها ومسيرتها التنموية، لأن إيرادات اليوم، بما فيها النفطية، ليست دائمة في وجود تحديات عديدة مما يعطل انسيابية العرض. كما أن تكنولوجيا الطاقات البديلة هي في تطور مدهش ومستمر في مختبرات ومراكز البحوث الغربية، وأن الإدارات العامة بحاجة إلى إصلاحات جذرية في القوانين والأداء والمؤسسات بحيث تعمل على تحسين نوعيتها لجذب المستثمر. كما تحتاج دول مجلس التعاون إلى مراجعة حجم ودور القطاع العام في الاقتصاد لاستخدامه في تحفيز النمو وتسهيل عمل القطاع الخاص.

 

 

 

مجلة آراء حول الخليج