; logged out
الرئيسية / الأمن الإقليمي: مجموعة الآسيان .. الاتحاد الخليجي العربي التجارب المستفادة

العدد 96

الأمن الإقليمي: مجموعة الآسيان .. الاتحاد الخليجي العربي التجارب المستفادة

الإثنين، 01 حزيران/يونيو 2015

منظمة أمم جنوب شرق آسيا (رابطة "آسيان") هي "أقدم" المنظمات الإقليمية الآسيوية التي لا تزال قائمة، تأسست عام 1967م، في أوج الحرب الباردة والتوترات التي شهدتها المنطقة في تلك الفترة، وقد كانت الآسيان في البداية بمثابة مشروع لتعزيز مساعي إرساء الثقة بين أعضائها المؤسسين بغية التكتل ضمن كيان واحد وتشكيل جبهة لمواجهة أي تدخلات خارجية، وقد كانت المخاوف الأمنية الدافع الرئيسي للتعاون غير الرسمي بين الدول الأعضاء.

وتعرضت رابطة الآسيان في بداية نشأتها إلى التشكيك والسخرية من قبل المراقبين السياسيين في المنطقة وخارجها، وجاء ذلك التشكيك على خلفية إخفاق التجارب السابقة في مجال التعاون الإقليمي مثل حلف جنوب شرق آسيا (سياتو SEATO) وآسيا ن(منظمة دول جنوب شرق آسيا) ومالفيليندو.[1] ففي منطقة تشوبها الحروب والنزاعات الإقليمية الداخلية، كان من الصعب التصديق بأن قادة هذه الدول، التي نالت استقلالها وسيادتها حديثا بعد أن خاضت تجارب تاريخية مختلفة، قد تكون لهم الإرادة السياسية الكفيلة بتخطي الشكوك والعداوات الخفية والانخراط في التشاور المتبادل وتعميق التعاون فيما بينهم، لكن في الواقع إن الشك والقلق لم ينقطعا وظلاّ يشكلان العقبتين الأساسيتين أمام توطيد التعاون، ولهذا السبب توخت رابطة الآسيان في البداية نسقا بطيئا جدا الأمر الذي كان مناسبا للجميع.

و منذ ذلك الوقت قطعت رابطة أمم جنوب شرق آسيا شوطا هائلا و لعبت دورا لا يستهان به في دعم الأمن الإقليمي، ومن خلال مجموعة متنوعة من المؤسسات التي تقودها الرابطة مثل المنتدى الإقليمي لمنظمة آسيان، و قمة شرق آسيا و ADMM Plus (اجتماع وزراء دفاع دول منظمة آسيان، إلى جانب الصين و اليابان و كوريا الجنوبية و الهند و أستراليا و نيوزيلاندا و الولايات المتحدة و روسيا)، تم الاعتراف بمركزية الرابطة من قبل مختلف القوى العظمى، إلا أن هذه المكانة باتت تواجه بعض التحديات في السنوات القليلة الماضية بسبب تصاعد التشدد من الجانب الصيني في المطالبة ببحر شرق وجنوبي الصين، و قد زادت حدة التوترات نتيجة توجه "المحور" الأمريكي صوب آسيا الذي يرى فيه بعض الأطراف في الصين محاولة أمريكية لتوسيع دائرة نفوذها في المنطقة، و في ظل هذا التوتر الإقليمي، تم انتقاد منظمة آسيان و مؤاخذتها على عدم الفعالية والإخفاق في تحقيق اتفاق شامل بين القوى الكبرى في المنطقة، و يشار عادة إلى غياب مؤسسات رسمية لإدارة الأزمات و عدم القدرة على الحديث بصوت واحد على أنها نقاط الضعف الرئيسية لرابطة دول جنوب شرق آسيا.

في هذا المبحث، سوف نحاول رصد النهج الذي اتبعته رابطة آسيان تجاه قضايا الأمن الإقليمية وسنناقش بنية بعض الهياكل الأمنية في المنطقة، ثم نختم بتقديم توقعات حول مدى قدرة المنظمة على الحفاظ على مكانتها المركزية والقيام بدور القوة الدافعة لحفظ السلام والاستقرار في المنطقة.

المقاربة الأمنية لرابطة الآسيان

في السنوات الأولى لنشأتها، كانت رابطة الآسيان تنظر لقضية الأمن من منظور الدولة المركزية للسلامة الترابية و الإقليمية و المفهوم التقليدي للأمن القومي، و كانت هذه النظرة للأمن تستند لإطار واقعي من الردع و توازن القوى، و قد أولت الدول الأعضاء قيمة كبرى لسيادة الدولة و لمبدأ عدم التدخل، ولكن مع عملية التحول الديمقراطي داخل المنطقة و الدور المتزايد للمجتمع المعرفي و نشطاء المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية، وجد مفهوم الأمن الإنساني طريقه إلى الخطاب الأمني في المنطقة، و الأهم من ذلك أن التحديات الإقليمية المتعددة المتراوحة من الأزمة المالية الآسيوية و الضباب البيئي الناتج عن حرق الغابات في اندونيسيا، و التفجيرات الإرهابية في بالي و تفشي وباء السارس إلى تسونامي المحيط الهندي، التي تعاقبت على المنطقة خلال عقد واحد من الزمن، قد حفزت على الترحيب بخطاب الأمن البشري.[2]

على الرغم من الأهمية المتنامية لخطاب الأمن الإنساني والمكانة المحورية للعنصر البشري لدى منظمة آسيان والتي يتم إقحامها ضمن مساعي بناء مجتمع آسياني بحلول 2020م، فإن المقصود من الأمن البشري بالنسبة للعديد من صناع القرار هو بالأساس معنى "الأمن الشامل"، وقد سبق أن تم إدراج مفهوم الأمن الشامل خلال فترة الحرب الباردة في منطقة الآسيان، ويتمحور هذا المفهوم حول نظرة شاملة للأمن تتضمن التهديدات العسكرية وغير العسكرية على حد سواء، ولكن ذلك مرتبط برفاهة الدول بشكل عام.[3] و يظل العنصر الجوهري للأمن الشامل متصلا بالإطار الواقعي " للبقاء السياسي" و "الحفاظ على الدولة".

ولذلك فليس من المستغرب أن تكون رابطة الآسيان في سعيها لإحلال الأمن الإقليمي قد انتهجت مقاربة عملية جداً في ضم وتشريك القوى الكبرى في المنطقة لضمان توازن القوى، وعلى سبيل المثال عندما غزت فيتنام كمبوديا في 1978م، لم تتورع رابطة آسيان في العمل مع الصين الشيوعية لاحتواء فيتنام التي يدعمها الاتحاد السوفييتي، وقد أقدمت الرابطة على تكوين منتديات مثل منتدى آسيان الإقليمي (ARF) في أعقاب الحرب الباردة بدافع الخوف من الوقوع تحت سيطرة أي من القوى العظمى.

الأليات الأمنية التي تقودها الآسيان

أدخلت نهاية الحرب الباردة إلى جانب صعود الصين الشكوك في البيئة الاستراتيجية، وكانت مصدر قلق للعديد من الدول الأعضاء في الرابطة. بناءً على الثقة المتزايدة التي جاءت على خلفية النمو الاقتصادي الممتاز الذي شهدته دول الآسيان خلال عقد من الزمن، بدأت الرابطة في التعبير عن الحاجة إلى منتدى أوسع لمنطقة آسيا والمحيط الهادئ يمكنه أن يعالج بعض المخاوف والشكوك  في منطقة في حالة تغير مستمر. في عام 1994م، انعقد الاجتماع الافتتاحي للمنتدى الإقليمي للآسيان (ARF) الذي ضمّ 18 دولة (خماسي الآسيان، أستراليا، كندا، الصين، الاتحاد الأوروبي، الهند، اليابان، جمهورية لاو الديمقراطية الشعبية، ونيوزيلندا، وبابوا غينيا الجديدة وروسيا وكوريا الجنوبية والولايات المتحدة، وفيتنام)، وقد قام منتدى آسيان الإقليمي في البداية كمنصة للحوار السياسي والأمني ​​حول القضايا الأمنية التقليدية، مع التركيز على بناء الثقة أولا، و يتجه نحو الدبلوماسية الوقائية ومنع الصراعات في مرحلة لاحقة، ومع ذلك، تحت تأثير التطورات في الساحة الدولية والخطابات حول الأمن البشري، بدأ منتدى الآسيان الإقليمي ARF يتجاوز القضايا الأمنية التقليدية نحو التركيز أكثر على القضايا الأمنية العابرة للحدود الوطنية مثل الإغاثة في حالات الكوارث والمساعدة الإنسانية و القضايا الأمنية غير التقليدية الأخرى.

و لاستيعاب صعود الهند و ضمها داخل إطار رابطة أمم جنوب شرق آسيا، و للتخفيف من حدة التوترات المتزايدة بين اليابان و الصين في فترة 2004-2006م، تم إطلاق قمة شرق آسيا EAS في عام 2005 م، و التي ضمت دول الآسيان و الصين و اليابان و كوريا الجنوبية و الهند و أستراليا و نيوزيلاندا، و نظرا لاحتدام التنافس بين الصين و الولايات المتحدة، تم ضم الولايات المتحدة للالتحاق بإطار القمة في 2011 م" كوسيلة إضافية لتشجيع كل من الولايات المتحدة و الصين على إقامة نمط علاقات بناء و ذي توجهات مستقبلية و معالم واضحة".4[4] و حتى قبل ذلك سبق لرابطة الآسيان أن سعت لدعوة كافة القوى الكبرى في المنطقة لاجتماع وزرائها للدفاع مما يبرز نهجا يتسم بالانفتاح والشمولية تجاه مسألة إدارة الأمن الإقليمي، و انعقد الاجتماع الأول لوزراء دفاع دول منظمة آسيان + 8 ( أي الصين و اليابان و كوريا الجنوبية و الهند و أستراليا و نيوزيلاندا و الولايات المتحدة و روسيا) في هانوي في شهر أكتوبر 2010م، و كان جدول الأعمال مركزاً بعناية على القضايا الأمنية غير التقليدية مثل المؤازرة للتخفيف من وقع الكوارث و المساعدة الإنسانية والأمن البحري ومكافحة الإرهاب و ذلك لتفادي تعكير جو الاجتماع بسبب التوترات المتصاعدة المتصلة بمزاعم السيادة على منطقة بحر الصين الجنوبي و الشرقي.

ساهمت مختلف هذه الهياكل في إعادة ترسيخ مكانة رابطة الآسيان ودورها المحوري في كافة المبادرات المؤسسية الإقليمية وفرضت احترام النهج الذي تتوخاه رابطة آسيان الذي يركز على "احترام الاستقلال والسيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأعضاء وعلى مبدأ التشاور والتوافق والمضيّ على نسق مريح لكافة الأطراف".[5] وقد نوهت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلاري كلنتون في خطابها الوارد مباشرة عقب انضمام الولايات المتحدة لقمة شرق آسيا، "بالدور المركزي لرابطة آسيان" كما أعربت عن رغبة الولايات المتحدة في أن ترى هذه القمة تتحول إلى "منتدى للمشاركة الفعالة في القضايا الاستراتيجية والسياسية، بما يشمل الحد من انتشار السلاح النووي والأمن البحري والتغير المناخي".[6]

التشكيك في دور رابطة آسيان   

رغم مكانتها الموصوفة فيما تقدم، أثيرت في الآونة الأخيرة العديد من التساؤلات حول تماسك رابطة الآسيان وتضامنها وقدرتها على توجيه دفة العمليات الإقليمية ومن ثم حول حقيقة دورها المحوري في المنطقة.

ازدادت البيئة الخارجية لرابطة آسيان اليوم تعقيداً وتشعباً مقارنة بحقبة الحرب الباردة، وعلى الجبهة الداخلية تضاعفت أشكال التنوّع الذي طالما شكل الطابع المميز للمنظمة وذلك بالتحاق فيتنام وكمبوديا ولاوس وميانمار بمجموعة آسيان.

إن أخطر التحديات التي تواجه المكانة الدولية للآسيان منذ الحرب الباردة هو انضمام ميانمار إليها كأحد الأعضاء.[7] فقد ازداد الوضع الداخلي سوءًا في ميانمار على خلفية الحملات العنيفة لقمع احتجاجات الرهبان في عام 2007م، بالإضافة إلى الكارثة الإنسانية التي خلّفها إعصار نرجيس في 2008م، كما أدى الوضع السياسي المضطرب في تايلاند إلى مزيد من التصدع لوحدة رابطة الآسيان، حيث سعت الأحزاب السياسية إلى إحياء " مرجعياتها القومية" من خلال التركيز على النزاعات العالقة مع كمبوديا حول بسط السيادة على المنطقة المحيطة بمعبد بريا فيهار. و تعاقبت الأحداث في هذا الاتجاه، حيث تم إلغاء قمة الآسيان في تايلاند في 2008م, بسبب الاشتباكات بين الجماعات المعارضة، و تلتها المناوشات الحدودية بين تايلاند و كمبوديا عام 2010م, التي دامت قرابة عام كامل، و أدى كل هذا إلى تحطيم صورة الرابطة التي استغرق ترميمها بكل عناية أعواما طويلة قبل صياغة ميثاق آسيان، و هكذا عادت الرابطة إلى التعثر و أظهرت عجزها عن الحفاظ على "التماسك السياسي و الاستراتيجي المطلوب لتحقيق وحدة الإرادة و الأهداف الضرورية لتكون عنصرا إقليميا فاعلا في خارطة النظام العالمي".[8]

جاء هذا الانقسام وغياب عنصر القيادة الحكيمة صلب الرابطة في فترة شهدت فيها البيئة الاستراتيجية والاقتصادية لمنطقة آسيا والمحيط الهادي تحولات كبرى في أعقاب الأزمة المالية العالمية عام 2008-2009م، وأدى هذا الوضع المتعثر وغياب التركيز في رابطة الآسيان إلى زيادة إصرار الصين على مصالحها في البحر الجنوبي وتصاعدت التوترات بينها وبين الدول المطالبة بالنفوذ في جنوب شرق آسيا.

و خلال هذه الفترة من التباطؤ التي شهدتها الرابطة بدأ شركاؤها الخارجيون في التشكيك في فعالية و جدوى الهياكل الإقليمية التي تتمحور حولها و دعا البعض إلى تأسيس مؤسسات جديدة مثل "تحالف القوى" التي اقترحها رئيس وزراء أستراليا كيفن راد، أو "مجموعة شرق آسيا" الحصرية – على منوال الاتحاد الأوروبي – المقترحة من قبل رئيس الوزراء الياباني هاتوياما. وقد أدى تصاعد التوترات بين القوتين العظمتين، الولايات المتحدة والصين، إلى جانب "المحور" الأمريكي المتوجه صوب آسيا إلى تقويض "مزاعم الآسيان ومكانتها المركزية في السياق الإقليمي الآسيوي."[9] و قد تمت الاستجابة جزئيا لهذه التحديات التي تتهدد الدور المحوري للرابطة عن طريق القيادة الاندونيسية الماهرة للآسيان في 2011م، و التي فرضت الصبغة الأولوية و المستعجلة لإعادة بناء المجتمع الآسياني و أعادت الروح النضالية لجدول أعمال الكتلة، و مع ذلك، فإن الشكوك لا تزال تحوم حول مزاعم الدور المركزي للمنظمة، فقد تعرضت وحدة هذه الكتلة للاختبار مجددا في يوليو 2012م، عندما عجزت عن إصدار بيان مشترك (لأول مرة في تاريخها) لدى اختتام الاجتماع الخامس والأربعين لوزراء خارجية الدول الأعضاء في رابطة آسيان، وذلك بسبب خلافات داخلية حول كيفية إدارة قضية بحر الصين الجنوبي.

لا شك أن رابطة آسيان قد ساعدت في خلق "حد أدنى من التوازن القياسي بين القوى العظمى في المنطقة" من خلال مختلف الهياكل المنبثقة عنها.[10] وتتمثل الميزة التفاضلية لهذه الرابطة في الإجماع الدولي على دورها الريادي في دفع التكتل الإقليمي في ظل بيئة تسودها الريبة بين القوى العظمى وقلة الثقة، وتلعب رابطة جنوب شرق آسيا حاليا دورا جوهريا في منطقة آسيا والمحيط الهادي، وخاصة في شرق آسيا، وذلك بسبب الميزات الفريدة للبيئة التي تعمل فيها."[11] إذ تنعدم الثقة بين القوتين العظمى في شرق آسيا، الصين و اليابان، نتيجة للعوامل التاريخية و بسبب التوترات الراهنة حول قضية جزر سنكاكو / دياويو في بحر شرق الصين. كما تشكل منطقة آسيا والمحيط الهادئ "بيئة أمنية متميزة" مع تنافس القوى العظمى (الولايات المتحدة والصين واليابان، وإلى حد ما، روسيا والهند) من أجل النفوذ، وقد خلقت هذه الصراعات " فضاءً سياسياً حيث يمكن لرابطة آسيان أن تمارس ما لا يستهان به من السلطة" وأن تعزز مكانتها الاستراتيجية، غير أن مدى قدرة آسيان على "استغلال هذه الميزة يتوقف في جزء منه على الوحدة والتماسك الداخلي للرابطة."[12]

 

لقد استطاعت الرابطة حتى الآن أن تحافظ على دور مركزي لها في مختلف المؤسسات الإقليمية أساسا لأن القوى العظمى تفادت تولي الأدوار القيادية خوفا من التسبب في إثارة شكوك منافسيها، ورغم ذلك فمع تصعيد كل من الصين والولايات المتحدة من وتيرة التنافس المعلن بينها، هناك احتمال حقيقي أن يتعرض تماسك رابطة الآسيان إلى مزيد من الضغط، وبالتالي، يتعين على المنظمة أن تنتقل من "مركزية النوايا الحسنة" إلى " مركزية عملية". هذا يعني أن عليها تعزيز وزنها السياسي والاقتصادي من خلال بناء مجتمع آسياني ناجح، وفي نفس الوقت أن تعمل على توطيد علاقاتها الخارجية مع كافة القوى العظمى لإبراز قدرتها على مواصلة تولي مركز القيادة لمختلف المؤسسات الإقليمية، وإذا لم تفعل فإنها سوف تجد نفسها عرضة للمصاعب والتصدعات.

تجربة الآسيان والاتحاد الخليجي

يتميز مجلس التعاون الخليجي بكثير من التجانس، وهو ما يجعله كيانا مختلفا تماما عن رابطة آسيان وكل ما تتسم به عناصرها من تنوع ففيما يتجه التركيز في مجلس التعاون الخليجي نحو الداخل، تركز رابطة الآسيان على محيطها الخارجي. ونظرا للاختلاف من حيث البيئة الإقليمية التي تعمل ضمنها المنظمتين فإنها تواجه تحديات مختلفة، ومع ذلك، فإن كلتا الكتلتين قد اتخذتا نفس النهج الشامل الذي يتمحور حول الدولة فيما يخص الشأن الأمني وتواجهان بيئة خارجية متقلبة ومتوترة بشكل متزايد. و يمكن تلخيص الدروس التي يمكن استخلاصها من تجربة الآسيان في النقاط التالية:

كان التعاون داخل رابطة آسيان محكوما بالمبادئ والمعايير التي تم تصميمها لدفع القوى العظمى في المنطقة للمشاركة، وخاصة للالتزام بمبدأ المساواة في السيادة وعدم التدخل والأمن التعاوني وعدم استخدام القوة، وقد ثمنت منظمة آسيان هذه المعايير الدولية التي تجسدها منظمة الأمم المتحدةلأنها تدرك نقاط ضعفها في منطقة تسيطر عليها القوى الكبرى – الولايات المتحدة والصين والاتحاد السوفييتي. تقوم العلاقات الداخلية بين الدول الأعضاء، من أكبرها، مثل اندونيسيا، إلى أصغرها، مثل سنغافورة، على مبدأ العدالة السيادية وعدم التدخل من أجل حفظ السلام.

إن النهج البراغماتي الذي اتخذته رابطة آسيان في إنشاء الهياكل الإقليمية لتعزيز أمنها جدير بالثناء، ففي بيئة تفتقر إلى الثقة المتبادلة، يعتبر أسلوب التدرج والانفتاح والشمولية، والاعتراف بمصالح كافة الأطراف والحرص على مراعاة المصالح المختلفة، كلها تشكل أمورا أساسية لتحقيق أي تقدم. دون هذه اليقظة المستمرة والانفتاح على فهم مصلحة الطرف الآخر والتركيز على بناء الثقة، لم تكن رابطة آسيان لتنجح في جلب القوى المتنافسة والخصوم معا في الأطر الإقليمية المختلفة من أجل تحقيق نوع من الانطلاقة أو قفزة نوعية في مجال التعاون، لا بد من التحلي بالقدرة على الاستفادة من الظروف الحرجة، واغتنام الفرصة والمراهنة على الثقة بالآخرين، وهو نهج يمكن انتقاده أيضا بدون شك.

إن مختلف التجارب والمحن التي مرّت بها رابطة آسيان تعكس حقيقة أساسية تتمثل في أنه لا يمكن تحقيق التقدم إلا إذا التقت المصالح وتضافرت الجهود لإرساء الوحدة الداخلية والتماسك، ولم يكن أمام رابطة جنوب شرق آسيا أية وسيلة غير استخدام الحنكة الدبلوماسية للبقاء والنجاة من خطر القوى النابذة التي كانت تهدد بتمزيقها، ومن أجل البقاء أيضا، في بيئة غامضة ومتقلبة على نحو متزايد، لا بد من التمتع باليقظة والمرونة من جهة، وتعزيز القدرة على التحمل من جهة أخرى. وقد أثبتت رابطة دول جنوب شرق آسيا أنها تتحلى بهذه الخصال ولكن عليها أن تستمرّ في ترسيخ التعاون الداخلي لتحقيق مزيد من المرونة حتى تستطيع مقاومة الصدمات الخارجية، ويمثل التقييم المستمر والاستجابة للمتغيرات أحد أهم العوامل المساعدة على بقاء رابطة آسيان، أو أي منظمة إقليمية أخرى، وعلى جدواها بالنسبة للدول الأعضاء فيها.

والخلاصة، من النقاط الهامة التي تحتسب لرابطة آسيان  دورها في دعم استقرار العلاقات بين القوى العظمى في 2010م، عندما أعادت الولايات المتحدة تأكيد اهتمامها و التزامها بمنطقة جنوب شرق آسيا و أظهرت استعدادها لاستخدام مختلف المنتديات متعددة الأطراف مثل منتدى آسيان الإقليمي لدعم مصالحها القومية، و تريد آسيان دون شك أن يستمر اهتمام الولايات المتحدة و التزامها تجاه أمن المنطقة و هي تبدي رضاها بتركيز الولايات المتحدة في ظل إدارة الرئيس أوباما على آسيا و مجموعة آسيان، و مع ذلك، فإنه من قلّة الحكمة أن تبالغ رابطة آسيان في الاعتماد على الولايات المتحدة، و بكل تأكيد، فهي لا تريد أن تترك انطباعا بأنها تسعى لجعل الولايات المتحدة تكبح من مطامح الصين في المنطقة.

وبالتالي تحتاج رابطة الآسيان للكثير من المهارة و المثابرة لإدارة التوترات المحتملة بين الصين والولايات المتحدة في مختلف المحافل الإقليمية، كما أنها قد تكون بحاجة إلى قدر كبير من البراعة الدبلوماسية لإدارة المنافسة الاستراتيجية المتنامية بين القوتين وتحقيق توازن دقيق، ذلك أن الاحتكاك بينهما من شأنه تعقيد الديناميكيات الإقليمية الأوسع، كما أشارت أيلين بافييرا أن "المشاجرات الأخيرة بين الصين واليابان, و بين الصين وفيتنام والصين والولايات المتحدة بشأن وضع الجزر والمياه المتنازع عليها في جنوب وشرق بحر الصين تكتسي أهمية تختلف تماما عن خلافات الماضي. بشكل أكثر تحديدا، فإن النزاعات السابقة بين الدول الساحلية من أجل السيادة، ومصائد الأسماك، وموارد الطاقة والحقوق الملاحية البحرية لا تزال قائمة، إلا أن التنافس الحالي بين القوى الكبرى في السعي لتحقيق الهدف الأوسع لإقامة وتوسيع نفوذها الاستراتيجي قد طغى على هذه النزاعات. "[13]

وبينما تبحث الولايات المتحدة والصين عن نموذج جديد من العلاقات بين القوى العظمى وتعمل على صياغة تسوية مؤقتة جديدة، قد تجد رابطة آسيان نفسها مهمشة أكثر فأكثر، وهذا لا يعني إلغاء دورها بصورة نهائية، إنما قد يتراجع هذا الدور ويفقد جزءا من فعاليته، وسوف تصبح منتديات الآسيان مجرد أدوات تكميلية وليست عوامل حيوية في العلاقات الصينية الأمريكية الناشئة وفي عملية حفظ السلام والاستقرار الشاملة في المنطقة.

 

المراجع

 

آيلين بافييرا. "المنازعات الإقليمية في شرق آسيا: وكالات المنافسة الصينية الأمريكية؟" منتدى شرق آسيا، 27 نوفمبر، 2010.

www.eastasiaforum.org/2010/11/27/territorial-disputes-in-east-asia-proxies-for-china-us-strategic-competition

ديفيد كايبي و بول إيفانز. "المعجم الأمني لمنطقة آسيا و المحيط الهادئ، الطبعة 2. سنغافورة: معهد دراسات جنوب شرق آسيا، 2002.

رالف كوسا أ. و براد غلوسرمان. More the Same, Three Times"" في Comparative Connections، يناير 2011.

Goh, Evelyn. “Institutions and the Great Power Bargain in East Asia: ASEAN’s Limited ‘Brokerage’ Role.” International Relations of the Asia Pacific 11 (2011): 373-401.

Kausikan, Bilahari. “Washington, Beijing Groping to Find a New Equilibrium.” The Straits Times, June 11, 2014.

Jones, Lee. ASEAN, Sovereignty and Intervention in Southeast Asia. Basingstoke and New York: Palgrave MacMillan, 2012.

Narine, Shaun. “ASEAN in the 21st Century: a Skeptical Review.” Cambridge Review of International Affairs 22: 3 (September 2009): 369-370.

Nishikawa, Yukiko. “Human Security in Southeast Asia: Viable Solution or Empty Slogan?” Security Dialogue 40, no. 2 (2009): 213-236.

Weatherbee, Donald. “Southeast Asia and ASEAN Running in Place.”Southeast Asian Affairs 2012, edited by Daljit Singh and PushpaThambipillai. Singapore: ISEAS, 2012, 3-22.

1]سياتو – منظمة حلف جنوب شرق آسيا، نشأت كمنظمة للدفاع الجماعي بمبادرة و دعم من الولايات المتحدة لوقف المدّ الشيوعي في جنوب شرق آسيا. و بشكل عام كانت تعتبر مشروعا فاشلا نتيجة للخلافات الداخلية و تم حلها رسميا في عام 1977. - تضم جمعية جنوب شرق آسيا (ASA) ماليزيا و الفلبين و تايلاندا، وقد أنشئت بمبادرة من رئيس الوزراء الماليزي في ذاك الوقت، تونكو عبد الرحمن. و كانت تهدف لتوظيف التعاون الإقليمي في الشؤون الاقتصادية و الثقافية لتقوية دول جنوب شرق آسيا و حمايتهم من مخاطر التمرّد الشيوعي و التدخل الخارجي. و مع ذلك، أصبحت المنظمة منحلّة بعد مرور عام على نشوب النزاع حول مقاطعة صباح، شمالي بورنيو، بين ماليزيا و الفلبين و الذي أدى إلى تشنج العلاقات الدبلوماسية بين البلدين بين عامي 1962 و 1966. تشكلت رابطة مالفيليندو، و تتكون من ماليزيا و الفلبين و أندونيسيا، في عام 1963 بتوصية من الرئيس الفلبيني وقتها، ديوسدادو ماكاباغال، و بمثابة منتدى استشاري و لكنها انحلت بدورها عند تصاعد التوترات بين ماليزيا و الفلبين.

[2]يوكيكو نيشيكاوا، "الأمن البشري في جنوب شرق آسيا: حلّ حقيقي أم شعار فارغ؟" الحوار الأمني 40، عدد 2 (2009): 217.

[3]دافيد كابي و بول إيفانز، The Asia-Pacific Security Lexicon, 2nd Edition (سنغافورة: معهد دراسات جنوب شرق آسيا، 2002)، 64-75.

[4] بيلا هاري كوسيكان، " واشنطن و بيكين، تحسس الطريق نحو توازن جديد" The Straits Times، 11 يونيو 2014.

[5] رالف أ. كوسا و براد غلوسرمان، "More the SameK Three Times"، Comparative Connections، يناير 2011.

[6] نفس المرجع.

[7] لي جونز، "رابطة آسيان، السيادة و التدخل في جنوب شرق آسيا" (Basingstoke and New York: Palgrave MacMillan, 2012)، 180.

[8] دونالد واذربي، "Southeast Asia and ASEAN Running in Place,” Southeast Asian Affairs 2012"، تحرير دالجيت سينغ و بوشبا تامبيبيلاي (Singapore: ISEAS, 2012)،3.

[9] نفس المرجع.

[10] إيفيلين غوه، "Institutions and the Great Power Bargain in East Asia: ASEAN’s Limited ‘Brokerage’ Role,”، International Relations of the Asia Pacific 11 (2011): 373-401.

[11] شون نارين، "آسيان في القرن 21، وجهة نظر المشككين" مجلة كيمبردج للعلاقات الدولية 22، عدد 3 (سبتمبر 2009): 370.

[12] نفس المرجع.

[13] آيلين بافييرا، "المنازعات الإقليمية في شرق آسيا: وكالات المنافسة الصينية الأمريكية؟" منتدى شرق آسيا، 27 نوفمبر، 2010.

www.eastasiaforum.org/2010/11/27/territorial-disputes-in-east-asia-proxies-for-china-us-strategic-competition

 

مجلة آراء حول الخليج