array(1) { [0]=> object(stdClass)#12962 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 107

المشهد ما بعد ثورة الياسمين: التونس لم تعبر عنق الزجاجة

الإثنين، 09 أيار 2016

تعيش تونس اليوم مرحلة من أهم مراحل تاريخها المعاصر دقة، فبعد الثورة الشعبية التي اندلعت في ديسمبر 2010م، وأطاحت بنظام الحكم في 14 يناير 2014م، وكان شعارها" شغل، حرية، كرامة وطنية " واجه مسار الانتقال الديمقراطي عدة صعوبات كادت أن تعصف بالدولة التي ظلت ثابتة بفضل تماسك المؤسستين العسكرية والأمنية برغم ما أصابها من وهن وتعثر مع ثبات المؤسسة الإدارية والقضائية وقد شهدت سنوات الانتقال الديمقراطي الخمس الماضية توترات مع تزايد العنف واحتدام الصراع على السلطة وانهيار وغلاء المعيشة وعودة بعض رموز النظام السابق واضطرابات وفوضى توحي ببوادر ثورة مضادة، عمومًا ووقعت البلاد في حبائل أزمة سياسية تبدو بلا مخرج. برغم تداول الحكومات، وبرغم مناخ التوافقات الذي جاء به الحوار الوطني ليقلص التأزم السياسي الذي لعب الاتحاد التونسي للشغل  فيه دورًا بارزًا مع الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة و منظمات حقوقية، منها الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الًنسان والهيأة الوطنية للمحامين بتونس والذي عرف باسم الرباعي الراعي للحوار الذي توج بالحصول على جائزة نوبل للسلام لسنة 2015م، مما دفع إلى حلحلة بعض المسائل السياسية التي جعلت التجربة الديمقراطية تتقدم ولو ببطء لكن ظلت مساعي الإصلاح تراوح مكانها، وتبين أن مزاوجة الشرعية الانتخابية مع الشرعية التوافقية كان أمرًا بالغ الصعوبة ولم يقنع عدة أطياف سياسية.

لكن، ماهي أبرز القوى السياسية المؤثرة في البلاد منذ انتخابات أكتوبر 2011م، وإلى أين تتجه تونس اليوم؟ وماهي أسباب أزمة الفاعلية السياسية التي تحولت إلى أزمة فاعلية إنمائية، وماهي التوجهات السياسية والاقتصادية المستقبلية؟ وكيف تحدد تونس علاقاتها بدول مجلس التعاون الخليجي والمواءمة بين المتغيرات الداخلية وعلاقاتها الخارجية على ضوء تصاعد موجات الإرهاب وتنامي تأثير أحزاب الإسلام السياسي والأوضاع في دول الجوار؟

هذا ما سأحاول شرحه في هذه الورقة البحثية.

  1. المشهد السياسي وانتخابات أكتوبر 2011م.

جرت انتخابات المجلس الوطني التأسيسي في 23 أكتوبر 2011م، حيث تنافست 1500 قائمة حزبية ومستقلة ضمت عشرة آلاف وخمسمائة مرشح يمثلون مائة حزب سياسي تنافسوا على 217 مقعدًا في المجلس مما يؤكد أن المشهد السياسي كان على غاية من التنوع والتعقيد. ونتج عن تلك الانتخابات بروز خارطة سياسية جديدة تضم عددًا من القوى ذات البرامج المواقف المختلفة إلى حد التناقض أحيانا في رؤيتها السياسية. وتدريجيا تحول الواقع السياسي من الوفرة العددية والتشتت في المقاربات والرؤى إلى التقلص والتجمع ضمن تكتلات سياسية يؤيد بعضها الشرعية الانتخابية وبعضها يقف معارضًا لها. وتبلورت في هذا المشهد أربع جبهات سياسية هي جبهة "الترويكا "(3 أحزاب حاكمة) والجبهة الليبرالية والجبهة اليسارية القومية وجبهة الإنقاذ.1

تتكون الترويكا من الأحزاب الثلاثة التي أدارت الحكم بعد انتخابات أكتوبر 2011م، وتمثلها حركة النهضة (حركة إسلامية) وفازت بالمرتبة الأولى (89 مقعدًا) من جملة 217 مقعدًا بنسبة (41.47%) يليها "حزب "المؤتمر من أجل الجمهورية" 29 مقعدًا بنسبة 9.68% وحزب "التكتل من أجل العمل والحريات " 20 مقعدًا. ونشأ تحالف من إسلاميين وعلمانيين يضم 138 مقعدًا لإدارة المرحلة الانتقالية، وبعد سنتين ونيف وحكومتين متتاليتين لم تتحقق الوعود في الشغل والتنمية وضبط الأمن والاستقرار ونشطت العمليات الإرهابية على الحدود مع الجزائر وبعض المدن ومع بطء الإصلاحات وبروز انشقاقات في الأحزاب المتحالفة مع "حركة النهضة "بسبب رفض قواعدها لذلك التحالف.

أما الجبهة الليبرالية فقد تشكلت مع عدة أحزاب ليبرالية معارضة لحكومة الترويكا واعتبرت نفسها غير معنية بالتحالف أو المشاركة في حكومة وحدة وطنية، ومن أبرز الأحزاب المكونة لها "الحزب الجمهوري" الذي كان في صدارة الأحزاب المعارضة للنظام السابق والذي ضعُف بشكل بالغ خسارته في الاستحقاق الانتخابي، خسارة أثّرت على حضوره في المشهد السياسي لكنه تدارك ذلك  لاحقاً و تحالف مع حزب "الاتحاد من أجل تونس" وأحزاب أخرى كحزب "آفاق تونس" و"حزب نداء تونس" الذي قاده رئيس الحكومة الانتقالية الثالثة الباجي قائد السبسي، واستطاع هذا التحالف أن يُشكل قوة ضغط وكان في طليعة القوى السياسية الداعية إلى استقالة الترويكا، أما الجبهة اليسارية القومية فهي مُكونة من القطب اليساري المُشكل من عدد من الأحزاب اليسارية القومية الراديكالية وهي لا تحظى بتمثيل واسع داخل المجلس التأسيسي وليس لها عمق شعبي، لكن تتمتع بنفوذ داخل المنظمات النقابية والجمعيات الحقوقية، وتشكلت هذه الجبهة ضمن ما يعرف بالجبهة الشعبية وتضم 14 حزبًا من القوميين وأقصى اليسار وأبرز أحزابها "حركة الشعب" ذات الخلفية القومية و"حزب العمال" بزعامة حمة الهمامي المشهور بمعارضة النظام في العهد السابق.

أظهرت الجبهة الشعبية توجها راديكاليًا في معارضة الترويكا الحاكمة وحركة النهضة خصوصًا متهمة إياها بخيانة الثورة وأنها تحاول إنتاج النظام القديم من خلال تحالفاتها مع رجال أعمال فاسدين واستقطابها للأجهزة الأمنية، ونجحت الجبهة الشعبية في تحريك الشارع.2

أما جبهة "الإنقاذ الوطني" التي تأسست إثر اغتيال عضو المجلس التأسيسي وزعيم التيار الشعبي محمد البراهمي في25 يوليو 2013م، وتكونت من عدة أحزاب سياسية معارضة في صدارتها “نداء تونس” و"الجبهة الشعبية "وعدد من الأحزاب الاشتراكية والليبرالية مع عدد من المنظمات المدنية والحقوقية،

نجحت في حشد الشارع طيلة صيف 2013م، في إطار ما سمي باعتصام الرحيل احتجاجًا على مقتل البراهمي والمطالبين باستقالة الحكومة ما أدى إلى تعليق أعمال المجلس التأسيسي شهرين وانسحب منه 60 نائبًا محتجًا عن الوضع.

أثناء ذلك حافظت المؤسسة العسكرية على حيادها والوقوف على مسافة واحدة من كل الحساسيات السياسية، رافضة الدخول في صراع على السلطة، وساندت المركزية النقابية الحراك الاحتجاجي لأحزاب المعارضة.

يُمكن القول بأن المشهد السياسي في تونس شهد عقب انتخابات 23 أكتوبر 2011 م، شهد عدة متغيرات من أهمها ما يلي:

  • تجمع الأحزاب التي كانت مُشتتة في شكل جبهات سياسية (الترويكا – المعارضة الليبرالية – المعارضة اليسارية).
  • تفكك داخل الترويكا (حزب المؤتمر وحزب التكتل) بسبب فشلها في القيام بإصلاحات اقتصادية واجتماعية مع فشلها في التصدي للإرهاب.
  • صعود أحزاب جديدة (نداء تونس) الذي ضم عددًا كبيرًا من الدساترة (المنتمين للتجمع الدستوري الديمقراطي المنحل).
  • محافظة المؤسسة العسكرية على الحياد مما أدى إلى انتقال سلس للسلطة.
  • انحياز اتحاد الشغل إلى الحراك الاحتجاجي المدني والحزبي المعارض مع تبنيه لمبدأ الحوار في معالجة المسائل السياسية والاقتصادية والاجتماعية
  1. أزمة الفاعلية السياسية والإنمائية

للسلطة السياسية دورًا بالغ الأهمية كان من المرتقب أن تلعبه استجابة للمطالب الشعبية التي قامت من أجلها الثورة وكان يُفترض توافر شرطين أساسيين لذلك، توافر الاستعداد الحقيقي لدى أشخاص النظام السياسي لممارسة هذا الدور وتوفر الشروط والظروف الموضوعية التي تحقق الحد الأدنى من درجات الفاعلية السياسية لتحقيق الحد الأدنى من الفاعلية الإنمائية ولتفحص مدى النجاح أو القصور في الفاعلية السياسية يمكن النظر للنظام القائم في تونس من الزوايا الاساسية المكونة له. الزاوية البنيوية المتعلقة ببناء النظام، الزاوية الوظيفية المتعلقة بوظيفة النظام والزاوية العلائقية المتصلة بعلاقات النظام. ما يُمكننا من رصد مدى توازن النظام السياسي والتوازن العام للسلطة السياسية.

أ‌)       الزاوية البنيوية:

لم يتشكل النظام السياسي أو السلطة وأجهزتها بصفة نهائية. حيث لم تُحدد أيضًا درجة التوازن والتكافؤ بين القوى المختلفة ولم يبرز أسلوب تُحدده أيديولوجيا سائدة لأن ذلك التوازن البنائي يفترض توفر دعامتين أساسيتين، هما وحدانية السلطة العامة بما يضمن وحدة المسؤولية، إضافة لما يترتب عن ذلك من اندماج وطني اجتماعي وسياسي وتكامل أجهزة السلطة المختلفة ومؤسساتها وتمتعها بدرجة عالية من الاستقرار والوحدة التنظيمية فيما بينها.

ب‌)  الزاوية الوظيفية:

تختلف طبيعة السلطة من نظام إلى آخر باختلاف الأيديولوجية وتبعًا لحجم المطالب الشعبية وأن آلية الدولة التي تم اعتمادها بعد الثورة توزع المسؤوليات بشكل بعيد عن الآلية الذاتية التي تتجسد في أكثر الصور ليبرالية وبعيدًا عن الآلية الموجه حيث تترك السلطة معظم الوظائف للأفراد ضمن قيود معينة مع توسيع في وظائف السلطة وليست هي الآلية التحكمية التي تبرز فيها آلية الدولة. وإن تحقيق درجة عالية من الفاعلية الوظيفية يعتمد أساسًا على تمتع السلطة بالقدرات الأساسية هي اليوم غير متوفرة، كالقدرة القيادية وهي التي تُؤهل السلطة للتعامل الفعّال مع مختلف المطالب الشعبية المتعددة حسب رؤية استراتيجية محددة، القدرة التعبوية التي تضمن حشد الموارد المادية والبشرية وتطويعها، قدرة المبادرة التي تمكن السلطة السياسية من أخذ زمام المبادرة في كثير من القضايا والبت فيها قبل أن تتحول إلى مطالب اجتماعية لدى الجماهير وهذا ما يعتبر من أهم قواعد القيادة الرياديّة اللاّزمة لعملية التنمية في البلاد.

ج‌)    الزاوية العلائقية:

يعتبر موضوع علاقات السلطة من أكثر المواضيع حساسية ودقّة سواء لطبيعة التداخل والتشابك بين العلاقات أو نظرًا لدرجة تأثير هذه العلاقات وتحكمها في مقومات التوازن الأساسية للسلطة والنظام ويمكن النظر لها من ناحيتين، علاقات السلطة الداخلية (توازن عضوي) وعلاقات السلطة الخارجية (توازن حركي) وبتفحص هذه العلاقات يتبين أنها ليست علاقات تعاون بقدر ماهي علاقات تنافس وصراع في إطار هيمنة الأغلبية ويبدو أن صورة التحالف الوطني حيث تتعدد الأحزاب ويتعذر على أحدها الحصول على الأغلبية بمفرده يفرض نوعًا من علاقات التصالح والوفاق بين القوى المتواجدة على الساحة السياسية في تونس يتم على أساسها اقتسام مراكز السلطة حسب ثقل كل منها.

وهذا الأنموذج جعل القيادة السياسية تتعثر في إيجاد الحلول العاجلة للأزمات المتراكمة خاصة منها التشغيل والتنمية وكشف عن تردد في جعل عملية بناء الجمهورية مقترنة بعملية رأب الصدع بين الساحل والداخل على المستوى الاجتماعي وكذلك الحد من الانقسام الذي يشق الطبقة المثقفة أفقيا(حداثي/أصولي).

مشهد سياسي جديد:

بعد الانتخابات التشريعية والرئاسية في أكتوبر(2014م) عزز الشعب التونسي التزامه الديمقراطي بفضل انتخابات ذات مصداقية وشفافية، إذ تمكن التونسيون برغم عُزوف عدد كبير من الشباب عن التصويت. وأظهرت نتائج الانتخابات فوز حزب نداء تونس العلماني بنحو 85 مقعدًا من أصل 127 مقعدًا وهو الحزب الذي احتلّ المشهد السياسي التونسي منذ أكثر من سنتين لا سيما بعد اعتصام باردو في صيف 2013م،الذي أعطاه الشرعية الثورية حيث نزل بكل ثقله مطالبًا في احتجاجات بالإطاحة بحكومة الترويكا التي كانت تقودها حركة النهضة وقد صوّت الشعب التونسي بقوة لفائدة حزب نداء تونس لاعتقاده أنه الحزب الأوفر حظّا في إلحاق الهزيمة بحركة النهضة وكذلك الحزب الذي يمكن أن يحافظ على نموذج المجتمع التونسي الوسطي والمعتدل والمنفتح على الحداثة.

ضربت الانتخابات كل الأحزاب التي كانت حليفة لحركة النهضة في إطار الترويكا السابقة فلم يحصل حزب المؤتمر الذي يترأسه المنصف المرزوقي إلا على 4 مقاعد في تلك الانتخابات وحصل حزب التكتل الذي يتزعمه رئيس المجلس الوطني التأسيسي الدكتور مصطفى بن جعفر على مقعد واحد بعد أن كان له 21 مقعدًا في 2011م، واندثرت الأحزاب الأخرى التي كانت تؤيد حركة النهضة وكانت كلها أحزاب عاقبها الشعب بسبب توخي سياسة الإقصاء والتآمر والادّعاء بأنها أحزاب تدافع على الثورة وإن كانت لم تشارك فيها إضافة إلى تقسيم التونسيين إلى جماعة ما قبل الثورة و جماعة ما بعدها.

لم تكن الانتخابات الرئاسية مفاجأة إذ كان متوقعًا حصول السيد الباجي قائد السبسي مرشح حزب نداء تونس على نسبة 39.46% واحتل المرتبة الأولى وفاز في الدورة الثانية وحصل الرئيس المرشح محمد المنصف المرزوقي على 33.43% وحصل بقية المترشحين حمة الهمامي 7.82% وأسفرت هذه الانتخابات على سقوط مدوي لقيادات وطنية كبيرة كانت مواقفها متأرجحة وضبابية وتنكرت لأهداف الثورة.

تشكلت على مدى السنوات الفارطة خارطة سياسية جديدة، إذ برزت أحزاب ذات توجهات قومية ويسارية وتم القطع مع ما هو سائد من فوز حزب سياسي وحيد بأغلبية مطلقة برزت تبعا لذلك محاور: محور النمط الرأسمالي الليبرالي الذي مازال يحاول التوقع وإصلاح مقاربته وتمتين مراكز نفوذه، نظرًا أنه فقد الكثير من ثقة الشعب لتردي الوضع الاقتصادي والاجتماعي والعجز عن استنباط حلول فاعلة. ثم محور النمط الرأسمالي المحافظ ذو التوجهات اليمينية، بعضها متحالف مع إيران ودول الخليج.

أما على مستوى الأداء في العمل السياسي فإن أداء الحكومات الانتقالية المتوالية منذ الثورة يخضع إلى ضغط كبير من الشارع بسبب الانتظارات الكبيرة المرتقبة من التغيير السياسي، ونشأت عن ذلك تحديات هامة على المستوى الأمني والاقتصادي والاجتماعي وهو ما جعل الحكومات الانتقالية في مواجهة مسائل خطيرة كإمكانية العجز عن دفع أجور بعض الموظفين. لقد تمثلت أهم تحديات عمل الحكومة في ثلاثة محاور رئيسية، ضمان الانتقال الديمقراطي، تحقيق الأمن، وضمان التسيير الناجع للملفات الاقتصادية والاجتماعية.3

بالنسبة لمسار الانتقال الديمقراطي وبرغم كل التردد والصعوبات المُعترضة انتظمت الانتخابات وتمكنت الحكومة من تجاوز عدة أزمات عبر المشاورات مع الأحزاب السياسية ثم بدعوة إلى مؤتمر وطني دعت إليه جميع الأحزاب دون استثناء، وكانت تلك فرصة لتأكيد مسار الوفاق وتجاوز الخلافات. لكن لم يكن أداء الحكومة مقنعًا خاصة في مجالات مقاومة الفساد وإصلاح القضاء ومحاسبة المسؤولين الذين فرّ الكثير منهم خارج البلاد. وكانت أهم المسائل المطروحة على الحكومة ضمان استمرارية الدولة وضمان الأمن والاستقرار ولم يكن أداء الحكومة على ما يرام في هذه الملفات فبرزت مشاكل العروشيّة (القبلية) واستفحلت الإضرابات والاضطرابات، ولم يكن ملف التنمية الاقتصادية والاجتماعية بأحسن حال، فقد تفاقمت المشاكل ولم يتم إيجاد مواطن شغل جديدة مع غلق عديد المصانع والمؤسسات المُنتجة. وتأثر قطاع السياحة بعدم استتباب الأمن وانخفض الترقيم السياسي لتونس بثلاث درجات وتراجعت نسبة النمو الاقتصادي إلى أدنى مستوياتها فبلغت 0.5 بالمائة في 2015 م، مع ارتفاع معدلات البطالة وتفاقم المديونية والعجز التجاري واضطراب في الاستقرار السياسي.

  1. الوضع الاقتصادي

يقوم النموذج الاقتصادي التونسي على جلب استثمارات خارجية في الصناعات التصديرية الأوروبية والاندماج في الاقتصاد والتجارة المُعولمة بدعم الشراكة والتبادل الحر مع الاتحاد الأوروبي وتبين حسب الخبراء " أن تخلي تونس المبكر عن التخطيط الاستراتيجي للتنمية وعن بناء منظومة صناعية وطنية عصرية جاذبة للاستثمارات الغربية ذات القيمة المضافة القادرة على استيعاب وتطوير التقنيات والتكنولوجيا الحديثة وتوظيفها لإنتاج سلع تونسية ذات قدرة تنافسية عالية على غرار البلدان الصناعية الصاعدة هو أحد الأسباب الرئيسية لفشل هذا النموذج الاقتصادي.4

ولعل أهم المآخذ التي يمكن توجيهها للطبقة السياسية الحاكمة بعد الثورة هو تجاهل المخاطر الناجمة عن الخضوع للضغوط والمصالح الخارجية في تحديد الخيارات الاقتصادية الكبرى وما يتصل بها من توجهات على الصعيد الدبلوماسي، خضوع الاقتصاد التونسي بعد الثورة إلى البرامج الإصلاحية لصندوق النقد الدولي الذي يعمل وفق قواعد تحددها المراكز والقوى المالية والمجموعات الاقتصادية والصناعية الكبرى والمهيمنة تقليديا على الأسواق التجارية والمالية الدولية عبر آليات تسعى من خلالها إلى الإبقاء على سيطرتها الاقتصادية وتحكمها في الأسواق والسياسات الاقتصادية للدول الأخرى.

  1. علاقات تونس ببلدان الخليج العربي

لقد ساد الفتور بين تونس والعواصم الخليجية لمدة، بسبب الملفات العالقة وموقف التحالف الحكومي الذي شُكل في 2011 م، الداعم للإخوان في مصر والمواقف المتباينة من بعض الأوضاع الإقليمية في المنطقة.

وكان القضاء في تونس قد كشف في شهر مارس 2014م، أن ست دول عربية من بينها أربع خليجية لم تتعاون مع تونس في استعادة أموالها المنهوبة من طرف عائلة الرئيس السابق وأثارت قضية الصحفي التونسي المحتجز في قطر محمود بوناب منذ 2011م، المتهم بالاختلاس جدلا في تونس وضغطًا من طرف نقابة الصحفيين ومنظمات من المجتمع المدني للمطالبة بإطلاق سراحه وجاءت زيارة رئيس الحكومة المهدي جمعة (2014م) إلى دول الخليج لتصفية الأجواء وإعادة تونس إلى حظيرة التعاون والعمل العربي المشترك ثم تلت تلك الزيارة زيارة رئيس الجمهورية في سنة 2015م، لعدد من البلدان الخليجية بنفس الهدف وكان لتلك الزيارات الأثر الطيب إذ كسرت الجمود الذي طبع العلاقات وأعادتها إلى وضعها الطبيعي وفتحت أمامها آفاق أرحب يمكن أن تقود إلى تطوير هام لتلك العلاقات على كل المستويات.

تجدر الإشارة أيضًا إلى أن العلاقات الاقتصادية التونسية ـ الخليجية لم تكن في المستوى المطلوب ولا في مستوى الطموحات اذ إن حجم التبادل التجاري لا يتجاوز 500 مليون دولار وهو ضئيل. برغم أن هناك إجماع على أن تونس بموقعها الاستراتيجي وتنوع إمكانياتها الطبيعية والبشرية المتميزة وتطور تشريعاتها المرتقبة يمكن أن تصير وجهة استثمارية جاذبة للمستثمرين العرب والخليجيين.

وقد انتظم بتونس المنتدى التونسي الخليجي للاستثمار برعاية رئيس الحكومة مهدي جمعة في مايو 2014م، بحضور ممثلين عن اتحاد غرف مجلس التعاون وعدد من سفراء بلدان خليجية بتونس. وكان هذا المنتدى يهدف لاكتشاف فرص الاستثمار الواعدة في تونس ودول الخليج، وكان من ثمار هذا المنتدى زيارة رئيس الحكومة المهدي جمعة لدول الخليج، وأكد على أن الأطراف التونسية والخليجية ترغب في بناء تعاون مشترك وإقامة شراكات استراتيجية، وبين أنه من المنتظر أن تشهد الفترة القادمة دفع الاستثمارات الخليجية بتونس في قطاعات الفلاحة والسياحة والصناعات التحويلية والغذائية والعقارات والخدمات الصحية والتعليمية ومشاريع الطاقة والكهرباء والنفط ومشتقاته والطاقات البديلة والتعدين.5 وبخصوص العوائق التي تعترض المستثمر الخليجي في تونس تمت الإشارة خلال المنتدى المذكور إلى ثمة شكاوى من الإجراءات الإدارية التي وصفت بالروتينية إضافة إلى عدم وضوح بعص القوانين المتعلقة بالاستثمار وما يترتب عن ذلك من صرف أموال طائلة، كما أن هناك معوقات مالية تتعلق بالبنوك وشركات التمويل وهو ما يتطلب وضع جهاز مالي وبنكي يتمتع بتقنيات عالية لإجراء عمليات التحويل بالسرعة المطلوبة، كما تم التطرق إلى المعوقات في الاعتمادات السندية ومسألة تغطية الإئتمان المطلوب للنهوض بالاستثمارات.

إن العلاقات مع دول الخليج العربي انطلقت بصفة رسمية حتى قبل استقلال البلاد (1956م) حيث استقبل الملك عبد العزيز آل سعود، زعيم الحركة الوطنية التونسية الحبيب بورقيبة عام 1951م، وكانت تلك الزيارة فرصة ثمينة لدعم توجه تونس نحو الاستقلال في غياب أي نوع من أنواع الدعم الخارجي للقضية التونسية ،وفي ديسمبر 2015م، مع بداية بناء الجمهورية الثانية تحول الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي نحو السعودية لتعميق العلاقات بين البلدين ودعم التحالف الإسلامي لمحاربة الإرهاب، وصرح وزير الخارجية التونسي في نوفمبر 2015 م، بأن تونس مستعدة لمكافحة الإرهاب داعيًا إلى أن يكون التعاون قاسمًا مشتركًا بين كل البلدان "قواتنا الأمنية والعسكرية مستعدة لمكافحة الإرهاب ، لكننا لا نستطيع القضاء على الإرهاب وحدنا، لأن الإرهاب آفة إقليمية ودولية ومحاربته لا بد أن تكون قاسمًا مشتركًا بين كل البلدان".

وفي إطار التعاون المشترك حصلت تونس عام 2014 م، على مساعدات وقروض هامة بلغت نحو 500 مليون دولار لتمويل بعض المشاريع الكبرى من خلال الصندوق السعودي للتنمية. ويأمل المستثمرون السعوديون في استقرار الأوضاع في تونس وسن تشريعات تيسر العمل الاستثماري لزيادة الاستثمار في البلاد.

وقد وقّعت تونس مع السعودية اتفاقات شراكة وتعاون في مجال الدفاع والحماية المدنية والنقل البري للبضائع والأشخاص، واتفاقيتي قرض مالي مع كل من الصندوق السعودي للتنمية والبنك الإسلامي للتنمية.

وأكدت مصادر تونسية سياسية ودبلوماسية أن هناك رغبة حقيقية في إعادة التوازن للعلاقات الخارجية وإيجاد ممولين ومستثمرين لإعادة تنشيط الوضع الاقتصادي التونسي الذي يعاني الانكماش منذ الثورة. علمًا أن العلاقات التونسية السعودية تضبطها وتنظمها 54 اتفاقية تطبق من خلال 3 آليات مشتركة، أولها اللجنة المشتركة بين البلدين والثانية تتعلق بلجنة المتابعة والتشاور السياسي على مستوى وزيري الخارجية للبلدين والثالثة لمجلس رجال الأعمال المشترك، وقد ساهمت تلك الاتفاقيات في تعزيز التعاون الاقتصادي والمالي بين البلدين وأصبحت السعودية بذلك ثالث مستثمر عربي في تونس بحجم استثمارات 15.938 مليون دولار.6

وبعد زيارة السعودية بنحو الشهر تحول الرئيس التونسي إلى الكويت في زيارة رسمية تضمن برنامجها توقيع اتفاقية قرض بقيمة 50 مليون دينار كويتي للمساهمة في تمويل مشاريع بتونس، إضافة إلى التوقيع على معونة فنية بقيمة 300 مليون دينار إلى جانب لقاءات مع مدير الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية وممثل الهيأة العامة للاستثمار. وكانت الزيارة الأولى التي يقوم بها رئيس جمهورية منذ إقامة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين. وتوجه رئيس الجمهورية بعد الكويت إلى البحرين حيث تم إمضاء خمسة اتفاقيات تعاون تتعلق بالمجال الأمني والمجال الدفاعي ومجال النقل الجوي والمجال الصحي ومجال حماية البيئة والتنمية المستدامة. كما تم تناول القضايا العربية والإقليمية والدولية وبحث سبل تعزيز العلاقات بين البلدين.

وشهدت العلاقات بين تونس وقطر تطورًا ملحوظًا منذ الثورة، وتعتبر قطر من الدول الأكثر دعمًا لتونس خلال الفترة الانتقالية على الصعيدين حيث تحل في المرتبة الثانية دوليًا والأولى عربيًا في الاستثمارات الأجنبية المباشرة. وبلغ حجم الاستثمارات القطرية في تونس حوالي 2.1 بليون دينار (2014م) بحوالي 13% من جملة الاستثمارات الأجنبية. وبلغت المبادلات التجارية بين البلدين 40 مليون دينار تونسي (20 مليون دولار) وتشمل الاستثمارات القطرية قطاعات السياحة والعقارات والاتصالات ("اوريدو" تعتبر المشغل الأكبر للاتصالات في تونس) وفي نفس السياق دعمت قطر البنك المركزي التونسي بـ 500 مليون دولار وديعة لدعم احتياطاته من العملة الصعبة الأجنبية وإطلاق صندوق الصداقة القطري للشعب التونسي في 2013م، الذي قدم هبة بقيمة 79 مليون دولار وساهم في خلق 4300 فرصة عمل.

قام أمير دولة قطر بزيارة رسمية إلى تونس في أبريل 2014م، أكدت على متانة العلاقات وضرورة تدعيمها وهناك سعي لتمتين تلك العلاقات بعد أن افتتحت الوكالة التونسية للنهوض بالاستثمار الخارجي مكتبًا لها في دولة قطر كنقطة اتصال لجلب المستثمرين القطريين وهو أول مكتب للوكالة في العالم العربي .وتسعى قطر لتنفيذ أكثر من مشروع في تونس منها منتجع توزر الصحراوي باستثمارات 80 مليون دينار وبناء ميناء ترفيهي "مارينا" بمدينة المهدية مع مشروع استثماري آخر بنفس المدينة، تحويل محطة القطارات بمدينة سوسة إلى مدينة ترفيهية متكاملة باستثمارات تقدر بنحو مليار دولار، ومشروع لتكرير زيت المحركات في تونس. علمًا أن صندوق الصداقة القطري يلعب دورًا كبيرًا في تمويل المشاريع الصغرى والمتوسطة.

  1. السّياسة الخارجية والدبلوماسية التونسية

شهدت السياسة الخارجية التونسية تذبذبا في المواقف منذ الثورة سعيًا للمواءمة بين متطلبات الوضع الداخلي المضطرب والمحافظة على علاقات خارجية متينة على ضوء انخراط تونس في حربها على الإرهاب. وظلّ الخطاب الرسمي يؤكد على أنّ الدبلوماسية التونسية يحكمها التوازن وعدم التدخل في شؤون الغير وعدم الانخراط في محاور أو أحلاف إقليميّة أو دوليّة، وأنّ الدبلوماسية التونسية متمسكة بثوابتها، كعدم الانحياز، لكن الواقع الجديد يدفع إلى اتّخاذ سياسات وتوجّهات مختلفة، والواقع الميداني يبين خلاف ذلك.

لقد منح الدستور التونسي لرئيس الجمهورية صلاحيات إدارة السياسة الخارجية وتوجيهها ورسم العلاقات الدولية، ومن خلال رصد التحول في المواقف أو حالات الاصطفاف يبدو أنّ السياسة الخارجية التونسية تحولت من خط إلى آخر على امتداد السنوات الخمس الأخيرة حيث اختارت حكومة الترويكا أن تصطف في المحور القطري – التركي، وأن تزكّي خيارات هذا المحور وتدافع عنها كما هو الشأن في معالجة الملف السوري والمصري والليبي. واليوم أمام المتغيّرات الواقعة في الشرق الأوسط واحتدام الصراع بين السعودية وإيران، نجد من انتقد اصطفاف الترويكا يصطف هو الآخر في المحور السعودي7. ويبدو أنّ السياسة الخارجية التونسيّة سعيًا منها للحفاظ على المصالح العليا للبلاد تتوخّى مبدأ الترضية و "الأخذ بالخاطر"، ممّا يجبر رئيس الجمهوريّة أحيانًا إلى إرسال "مبعوثين خاصّين" لتوضيح المواقف والشرح ورفع اللبس والتأكيد على إصرار الدبلوماسية التونسية على الحفاظ على ثوابتها ونهجها وعدم الخلط بين المصالح والشعارات.

وبما أنّ السياسة الخارجية تعكس على السياسة الداخلية، فإن الدبلوماسية التونسية بعد الثورة تبدو عاكسة لتناقضات الداخل بين رئاسة الجمهوريّة ورئاسة الحكومة وقرارات البرلمان وقيادات الأحزاب السياسية والمنظمات الوطنية، وقد جاء التوجه خلال الحقبة الأولى بعد الثورة للتأكيد على ثوابت السياسة الخارجيّة التونسية المرتكزة على التحرك الدبلوماسي المكثف في الكواليس والإسهام في التقريب بين وجهات نظر الدول المغاربية والعربية والإفريقية مع احترام القاعدة الهامة المتمثلة في الابتعاد عن الأضواء وعن الإعلام. هذا التوجّه الدبلوماسي الحذر الذي تواصل مع الحكومتين الأولى والثانية (محمد الغنوشي والباجي قائد السبسي) (2011م) أكّد على تطوير علاقات تونس بجيرانها وخاصة العواصم الخليجيّة والأوروبيّة والدوليّة، وشارك رئيس الحكومة الباجي قائد السبسي في مناسبات عالميّة كقمّة الثماني في فرنسا ثم التقى في واشنطن الرئيس الأمريكي، واستقبل في تونس مبعوثين كبارًا وبعض قادة الاتحاد الأوروبي، تعهّد أغلبهم بتقديم دعم مالي لتونس ومضاعفة الاستثمارات الأجنبية. وصاحب ذلك تحركات مكثفة للمجتمع المدني والنخب ممّا جعل الدبلوماسية التونسية قبل انتخابات 23 أكتوبر 2011م، "ذات رئتين" الأولى رسمية والأخرى شعبية، وقد مكّن ذلك التوافق من ترشيح تونس للعب دور إقليمي استراتيجي. كما لعبت تونس خلال الأشهر الأولى للثورة الليبية دورًا دبلوماسيًا نشيطًا واستطاعت أن تستقطب في ذات الوقت الرسميين الليبيين وأنصار القذافي وقادة حلف الأطلسي والدول الغربية والخليجية التي أسهمت في دعم المعارضة المسلحة الليبية وفي استقبال أكثر من مليون لاجئ فرّوا من نيران القصف في ليبيا.8

شهدت الدبلوماسية التونسية بعد ذلك تقلبات سريعة وذلك منذ تشكيل أوّل حكومة ائتلافيّة (ترويكا) نوفمبر 2011 بين حزبين علمانيين وحزب النهضة الإسلامي. وقد ورثت الترويكا وعودًا عدّة أوروبية وأمريكية ويابانية وجزائرية وخليجيّة بتطوير شراكاتها مع تونس الجديدة دعمًا للتجربة الديمقراطية الناشئة، لكن ورثت أيضًا تحديات اقتصادية واجتماعية خطيرة ومشاكل أمنية داخلية وإقليمية لاسيما من جهة الحدود الجنوبية الغربية مع ليبيا والجزائر.

وكان من أهم أولويّات الحكومة آنها المواءمة بين ما تقتضيه مصالح البلاد وأمنها الخارجي من جهة ومبادئ الزعامات التي أفرزتها الانتخابات من جهة أخرى، مع تحول ليبيا من شريك تجاري وسياحي هام إلى عبء أمني ودبلوماسي بحكم فرار عدد من رموز نظام القذافي وميليشياته المسلحة إلى تونس.

وسرعان ما برزت التناقضات الإقليمية والدولية في وجه الدبلوماسية التونسية، ونشأ صدام بين مؤسّستي الخارجيّة والرئاسة بحكم اختلاف قيادات من حزب الرئيس المرزوقي ومن حركة النهضة ورموز المعارضة حول طريقة التعامل، خاصّة في ملف رئيس الحكومة الليبية السابق البغدادي المحمودي المعتقل في تونس والذي أصرّ قادة ليبيا الجدد على تسليمه.

واحتدم الصراع عند اختيار السفراء، وعند رسم التوجّهات الدوليّة مثل الموقف من طرد السفير السوري بتونس، واشتد الخلاف عندما انتقد الرئيس المرزوقي طريقة حكم النظام الملكي بالمغرب والنظام الجزائري والنظام الفرنسي والقيادة الليبية، وانفجرت الخلافات والتصريحات المتناقضة وأصبح البعض يتحدث عن حكومة "ذات رأسين" وتحدث آخرون عن حكومة "متعدّدة الرؤوس" ودبلوماسية "بلا رأس". ثمّ جاءت مرحلة تجميد التناقضات من أطراف الائتلاف وتدارك الثغرات وتوافرت شروط تحسن المناخ العام بالبلاد، ونشطت الزيارات إلى عدد من البلدان الأوروبية. فزار تونس عدد من الرؤساء، التركي والفرنسي. وتكريسا للرهان على الشراكة المتميزة مع أوروبا والولايات المتحدة في مجال مكافحة الإرهاب ضربت الحكومة بقوّة نشطاء الجماعات السلفيّة الجهاديّة، وانخرطت البلاد في معركة حامية الوطيس مع الجماعات المتطرفة التي اتخذت من بعض المناطق الجبلية الوعرة ملاذات لها، وشرعت في نصب الكمائن ضد وحدات الأمن والجيش وتحدي السلطة من خلال التّجمهر والدفع إلى الاضطرابات والاعتداءات على المرافق العمومية وضرب الرموز السياسية والثقافية والدينية.

7-مكافحة الإرهاب:

لقد عرفت تونس ظاهرة الإرهاب قبل الثورة لكنها كانت محدودة لم تؤثر بشكل كبير على الحياة السياسية والاقتصادية. كانت الأحداث الإرهابية تتمّ بنسق بطيء ومتباعدة بمعدل عمل إرهابي كل 8 سنوات تقريبًا. لكن مع قدوم حكم التيار الإسلامي لتونس و مع الترويكا وهبوب رياح الحرية، شرع التيار السلفي في جمع أنصاره و التحرك و استطاع عقد أول اجتماع له بمدينة القيروان ،المدينة الرّمز (20 ماي 2012م)حضره قرابة 5000 شخص، ثم مكنت حكومة حمادي الجبالي أمين عام حركة النهضة العديد من الجمعيات السلفية من الرخص القانونية للعمل و تمّ الاعتراف بثلاثة أحزاب سلفيّة و حزب ينتمي لتيار الإسلام الراديكالي، إضافة إلى عدد من الجمعيات الدعوية و الخيرية و التي كانت تخفي توجّها لا يتطابق مع الأنموذج المجتمعي التونسي و رؤيته مخالفة للإسلام الزيتوني المعتدل.

و برزت جماعة أنصار الشريعة وهي من تيارات السلفية الجهادية، و شرعت في القيام بالأنشطة أهمّها الخيام الدعويّة التي انتظمت بالأسواق والمعاهد الثانويّة، وشهدت البلاد العديد من الاعتداءات المتكررة على رجال السياسة ورجال الفكر والمعالم الدينية والزوايا، وظلت السلطة ساكتة على معظم تلك الاعتداءات و غضّت الطّرف، فتواترت الأخبار عن تكوين إمارات إسلاميّة هنا وهناك، و أخبار عن تدريبات لعناصر متشددة في الجبال، وبسرعة تطوّرت الأحداث إلى الاعتداء على السفارة الأمريكيّة و تنفيذ اغتيالين سياسيّين (شكري بلعيد و محمد البراهمي فبراير و يوليو 2013م)، و انطلقت المواجهات مع العناصر الإرهابية في جبال الشعانبي غربي البلاد على الحدود مع الجزائر حيث استقرّت تلك العناصر و أرادت أن تأخذ من تلك المنطقة ملاذًا آمنًا و مكانًا للتدريبات، و تبيّن أنّ تيّار أنصار الشريعة يقف وراء كلّ ذلك من أعمال عنف واستعمال للسلاح ضدّ السلطة. وكانت سنة 2013م، سنة انتشار الإرهاب في تونس، وانطلقت مواجهات جبال الشعانبي المتواصلة إلى اليوم، وتطوّر الخطر الإرهابي بشكل مفزع في حيّز زمني وجيز.

تمّ تصنيف أنصار الشريعة كتنظيم إرهابي وتمّت محاصرته وضرب عناصره وخلاياه في كلّ مكان. تمّ تحطيم بنيته السياسية والإعلامية و جناحيه الاعلامي والقتالي، وتم كشف العديد من مخازن الأسلحة و وشبكات المدّ اللوجيستي، فضُربت حاضنته الاجتماعية بشكل عميق، وتوالت الضربات وكانت سنة 2015م،  برغم قيام العناصر الإرهابية بثلاث عمليات نوعية (عمليّة باردو و سوسة و تونس ضدّ الحرس الرئاسي) إلا أنّ الضربات التي وجّهها الأمن والجيش التونسي كانت قاصمة لهذا التنظيم (عمليّة قفصة القطار و سيدي عيش) أتت على مجمل قيادات التنظيم دفعة واحدة اذ تم القضاء على عشرين قياديًا  كانوا يتأهّبون للذهاب إلى ليبيا لاستقدام سيارات مفخخة، فأصبحت العناصر المتخفية في الجبال بلا قيادات و في ضائقة مالية و لوجستية كبيرة، وباتت لا تتورّع في الخروج ليلاً إلى سكان الأحراش والجبال بحثًا عن المؤونة والأغذية. وكانت سنة 2016 م، سنة حاسمة في التصدّي للإرهاب إذ جاءت عملية بن قردان (مارس 2016م) اذ حاولت العناصر الإرهابية الحاملة للواء داعش أن تقوم بضربة انتقامية قاسية ردّا على الهجوم الأمريكي الذي أتى على قرابة 40 قيادي وإرهابي بمدينة صبراتة الليبية، كانوا يعدّون العدّة للقيام بأعمال إرهابيّة نوعية في تونس، فكان الردّ الحاسم و اليقظة التامة لعناصر الجيش والحرس الوطني والأمن والقمارق الذين هم في حالة طوارئ، سدًّا منيعًا، تساقطت أمامه العناصر الإرهابية فتمّ قتل 51 عنصرًا إرهابيًا من أخطر عناصر التنظيم، و نتج عن الملاحقات والمداهمات إيقاف عدد كبير ممّن بقي على قيد الحياة وحجز كميات كبيرة من الأسلحة والذخائر بالمنطقة. وتتواصل اليوم حرب تونس على الإرهاب وقد تمّ ضبط استراتيجيّة للتصدي تقوم على العمل الميداني الناجح والتصدي الفوري لكن كذلك في إطار برنامج فوري وآخر طويل المدى. وكان من الضروري السيطرة على مسالك الإمداد والتمويل لهذه العناصر وكذلك مسالك الاستقطاب والإنتدابات التي تستهدف الشباب عبر الإنترنت والمساجد والجمعيّات، وطلب من كل الوزارات أن تضع في صلب اهتماماتها مسألة التصدّي للظاهرة الإرهابية والفكر المتطرّف، ورسم خطط وطنيّة للتنمية والشغل، وضبط سياسة شبابيّة فاعلة تحُدّ من عمليات استقطاب الشباب. إجمالا يمكن القول بأنّ تونس تتقدّم اليوم على درب المواجهة بثبات، وهي قادرة بوحدتها الوطنية وتماسك المجتمع وتطوير القوات المسلحة وقوات الأمن الداخلي، وبإعلام حرّ وعدالة فاعلة، أن تتخطى الصعاب وأن تكسر الحبل الجبل الذي يشده الوتد الضعف، مع تدعيم التعاون الدولي في كل المجالات مع البلدان الشقيقة والصديقة.

خاتمة

وختامًا يمكن القول أنه برغم انسداد الآفاق لمدّة عقود و الرزح تحت نير نظام كلياني، جاءت الثورة التونسية لتقلب الموازين وتضع البلاد أمام خيارات جديدة كبرى، و قد شهدت تونس في ظرف وجيز تطوّرات سياسية على غاية من الأهميّة، إذ تمّ تنظيم انتخابات حرّة هي الأولى من نوعها في البلاد، أوصلت حزب حركة النهضة الإسلامي إلى السلطة، لكن شهدت البلاد على امتداد السنوات الخمس منذ الثورة (2011م) تردّيا للوضع الاقتصادي و الاجتماعي و ساءت أحوال الطبقات الشعبية أكثر من ذي قبل مع استفحال أزمة التشغيل إذ بلغ معدّل البطالة 18.5% و انتشر الفقر في ربع سكان البلاد خاصة بالمناطق الداخلية مع ركود النشاط الاقتصادي و تراجع الاستثمار.

وبرغم إعلان رئيس الحكومة التونسية في بداية السنة الجارية بأنّ سنة 2016م، ستكون أفضل من سابقاتها، إلاّ أنّ أغلب المؤشرات توحي بأنّ الوضع العام قد يتواصل في الفترة القادمة على ما هو عليه مع تواصل الشعور بالانتشاء لدى المسؤولين السياسيين عند استعراضهم لنجاح التجربة التونسية في الانتقال الديمقراطي والحديث عن التوافق الناجح والحوار، لكن هذا الشعور بالنخوة والارتياح يقابله عدم تفاؤل وعدم ارتياح المواطن للوضع الاقتصادي والاجتماعي مع مواصلة هشاشة الوضع الأمني. ذلك مع أنّ المسؤولين لا يخفون مخاوفهم من الصعوبات المنتظرة، وتفشّي ظاهرة الفساد والتهريب والفوضى، لذلك لا بدّ من إرادة سياسية واضحة ومصمّمة على المضيّ قدُما في الإصلاح بعيدًا عن التردد والارتباك وأحيانًا الخوف من ردود الأفعال. مع ضبط سياسات واضحة المعالم على المستوى الداخلي والخارجي والعمل على توطيد الوحدة الوطنية وقطع الطريق امام كل المحاولات الرامية إلى إرباك المسيرة أو تعطيلها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

 

المراجع والدراسات .

  1. المشهد السياسي في تونس ، الدرب الطويل نحو التوافق/ المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
  2. الحكومة الانتقالية./محمد شفيق بو صرصار
  3. قراءة في أسباب فشل النمط الاقتصادي التونسي/ (ج 2) أحمد بن مصطفى
  4. العلاقات بين المشرق و المغرب العربيّين،./ جورج جبور
  5. تقرير خاص: زيارة السبسي للسعوديّة:/ دعم خليجي تحت مظلة التحالف الإسلامي
  6.  الدبلوماسية التونسية من المحور القطري التركي إلى المحور السعودي السعودي
  7.  دبلوماسية الرؤوس الثلاثة، تناقضات السياسة الخارجية بعد الثورة، / كمال بن يوسف
  8.  بين نشوة النجاح السياسي وحقيقة الوضع الاقتصادي،/ جريدة الشروق 7 جانفي 2016

 

 

مجلة آراء حول الخليج