; logged out
الرئيسية / 6 أسباب للحراك ضد جمهوريات الربيع .. صلابة الأنظمة الوراثية .. صعود دور الخليج أربعة محددات ترسم مستقبل المنطقة وخمسة تحديات تواجه دول الخليج

العدد 108

6 أسباب للحراك ضد جمهوريات الربيع .. صلابة الأنظمة الوراثية .. صعود دور الخليج أربعة محددات ترسم مستقبل المنطقة وخمسة تحديات تواجه دول الخليج

الإثنين، 06 حزيران/يونيو 2016

من يرصد ظواهر العالم الحديث والمعاصر يجد ما يشير إلى حدوث تغيرات ضخمة كل مائة عام، ولو جعلنا نقطة البداية معاهدة وستفاليا 1648م، حيث ظهر مفهوم الدولة الوطنية على حساب الدولة الدينية، ومفهوم السيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية على حساب سيطرة البابا كسلطة أعلى من سلطة الحكام آنذاك. يلمس التغير الواضح من حيث صعود القوة الاقتصادية الأوروبية نتيجة الثورة الصناعية والكشوف الجغرافية، والاستعمار العالمي وبروز قوى أوروبية صغيرة مثل: أسبانيا، البرتغال، وهولندا ثم قوة أوروبية أكبر مثل: بريطانيا، وفرنسا، ثم جاءت ألمانيا متأخرة ولحقتها إيطاليا واليابان لتحارب التيار المحافظ ولتنشر التيار الداعي للتغيير الثوري وأدى ذلك لتدهور قوى عظمى وصفت بأنها رجل أوروبا المريض وهي الإمبراطورية العثمانية التي سادت المنطقة العربية والإسلامية ،وأدت الحرب العالمية الأولى لتدمير تلك القوة ومن ارتبط بها وتقسيم المنطقة التي أطلق عليها الشرق الأوسط، وأشهر معالم ذلك التقسيم الجديد هو اتفاق سايكس بيكو 1916م.

ومنذ أواخر عام 2015م، ثم بداية 2016م، أقيمت احتفالات وتردد شعار إعادة النظر في تقسيم سايكس بيكو، ومفهوم الدولة الإقليمية الوطنية ذات السيادة إلى الدولة الدينية الإقليمية الصاعدة ذات البعد الوطني أو القومي والطموحة نحو التوسع، وفي المنطقة العربية برزت أربع قوى منذ بداية القرن الحادي والعشرين وهي: إسرائيل، إيران، تركيا، والسعودية وجمع بين هذه القوى فكر ديني من ناحية، وطموح إقليمي من ناحية أخرى، وقوة اقتصادية وتكنولوجية صاعدة من ناحية ثالثة، وفي المقابل تراجعت دول أخرى سادت بالفكر القومي والتراث الحضاري والزعامات الكارزماتية مثل العراق، وسوريا، وإلى حد ما مصر، وكان الصعود والهبوط بدرجات متفاوتة نتيجة التفاعل داخل كل دولة وفي محيطها الإقليمي والتفاعلات العالمية، ولعل المفارقة أن القوى العالمية التي عاشت في مفهوم الثورية والسعي لتغيير العالم تناوبت الأدوار مع القوى العالمية التي كانت تسعى للحفاظ على الأمر الواقع، فأوروبا بعد الحرب العالمية الثانية وأمريكا اعتبرت قوى محافظة تناضل ضد التغيير بينما الاتحاد السوفيتي والصين ومن سار على نهجهما كانت قوى ثورية تسعى للتغيير، في بداية القرن الحادي والعشرين حدث تناوب للأدوار. فطرحت أمريكا وأوروبا مفهوم التغيير والديمقراطية وحقوق الإنسان بقوة، وهو طرح بدأت إرهاصاته منذ أواخر القرن العشرين بينما تحولت الصين واليابان والهند لتصبح قوى محافظة.

وفي حالتي التغيير والمحافظة على مدى القرون الأربعة السابقة منذ معاهدة وستفاليا وحتى الآن كانت أوروبا هي الساحة السياسية ثم تحول ملعب السياسة الدولية إلى منطقة جنوب وغرب آسيا وأفريقيا، وبذلك استمر تهميش المنطقة منذ الكشوف الجغرافية واعتبرت المنطقة ممرًا إلى الشرق، فيما زادت أهميتها مع ظهور الثروة النفطية ثم بروز القوى الإقليمية الأربع التي ذكرناها آنفا مع انقسام هذه القوى بين المحافظة والثورية بل وتبادل الأدوار، ولكن ظل القاسم المشترك هو الفكر القومي الجديد المرتدي الزي الديني الإسلامي واليهودي.

ونظرًا لأن الدول تتبادل الأدوار فلا يمكن رصد صعود قوة بصورة مطلقة أو تراجعها وهبوطها بصورة دائمة نتيجة للتفاعلات الثلاثة وهي التفاعل المحلي الوطني، والتفاعل الإقليمي، والتفاعل الدولي. ولهذا فإن المنطقة العربية في غرب آسيا وشمال أفريقيا والممتدة إلى جنوب آسيا وأفريقيا تمثل قلب الصراع الدولي الراهن و حوافه، وتظل نظريات الصراع الدولي تدور بوجه عام حول السعي للسيطرة على البحار والمضايق المائية (فكر الفرد ماهانAlfred Mahan )  والسعي للسيطرة على قلب العالم (اليابسة)  التي عبر عنها فكر ما كيندر Helford Mackinder  ،

ومن الملفت للنظر أن هذه المنطقة نشأت فيها الأديان السماوية أو الإبراهيمية الثلاثة، والعقائد الأخرى مثل الزرادشتية وما يتفرع عنها من بهائية وأفكار خليط مثل الماسونية وأشباهها، ونتيجة استقرار أوروبا وأمريكا استنادًا إلى تفاهم ديني / سياسي منذ معاهدة وستفاليا1648م، وبالنظر لعدم حدوث مثل هذا التفاهم في جنوب وغرب آسيا بين ما هو ديني وما هو سياسي ظل الصراع قائما بين الطوائف والأعراق بصورة تكاد تكون متكررة بأسماء مختلفة منذ العصور الوسطى، فطوائف الحشاشين والقرامطة حلت محلها طوائف القاعدة وداعش وأنصار الله وحزب الله وما شابهها.

وتنبأ الثعلب هنري كسنجر في مقابلة مع صحيفة أمريكية، أن الشرق الأوسط سوف يسيطر عليه قوتان هما إسرائيل وإيران، وتتراجع القوى الأخرى، وليس بالضرورة أن يتحقق ما ذكره كسينجر ولكنه أحد السيناريوهات المحتملة. فالقوتان إيران وإسرائيل بينهما تشابه كبير في الجوهر والسلوك والطموح رغم ما يبدو بينهما من خلاف ظاهري. فكلاهما طموحاته السيطرة على العالم العربي، وكلاهما يعتمد فكر ديني طائفي ينتمي إلى ما قبل العصور الوسطى، فالزرادشينية أكثر تأثيرًا في الفرس من الإسلام الذي يمثل القشرة الخارجية، وطموحات إيران بلا حدود وتستخدم لتحقيقها مختلف الأدوات بلا تردد.

أما قوى التغيير العالمية وهي أوروبا وأمريكا ففكرها يرتبط بالعالم ككل مع تركيز على الشرق الأوسط والمنطقة العربية تحديدًا، ولعلنا نتذكر نظرية صامويل هانتنجتون وصراع الحضارات ونظرية كونداليزارايس وبوش، الفوضى الخلاقة أو الشرق الأوسط الكبير، ونظرية شيمون بيريز في الشرق الأوسط الجديد ونظرية الخميني في الحكومة الإسلامية وتصدير الثورة، وهي تجديد لفكر أبي الأعلى المودودي في شبه القارة الهندية.

ونقسم بحثنا هذا إلى أربعة أقسام.

الأول: الربيع العربي وتداعياته.

الثاني: تأثير الربيع العربي على النظم الجمهورية وتداعياته على دول مجلس التعاون.

الثالث: انعكاسات أحداث المنطقة العربية على دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية.

الرابع: نظرة مستقبلية: نحو كيفية الخروج من الوضع الراهن والتغلب على الطموحات الإقليمية للسيطرة على المنطقة العربية.

ونقدم تحليلنا هذا في ضوء العوامل الأربعة ذات التأثير وهي القوى الاقتصادية وبخاصة النفطية، والقوة العسكرية وخاصة النووية، والقوة النابعة من الموقع الاستراتيجي للمنطقة وأخيرًا تفاعلات النظام الدولي مع النظام الإقليمي.

أولا: الربيع العربي وتداعياته

 نتناول في هذا القسم أمرين أولهما الوضع في العالم العربي وخاصة دول النظم الجمهورية وثانيهما أسباب حراك ما سمي بالربيع العربي.

الوضع في دول الربيع العربي: شهد العالم العربي بأسره إرهاصات بالتغيير منذ أواخر القرن العشرين، وزادت حدته منذ بداية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين وبالتحديد منذ  17ديسمبر 2010م، حيث انطلقت ثورة تونس وأعقبتها ثورة مصر في 25 يناير 2011م، ثم ليبيا واليمن في فبراير 2011م، وسوريا في مارس 2011م، الملفت أن هذه الثورات التي أطلق عليها الربيع العربي اقتصرت على الدول ذات النظم الجمهورية ولكن تردد صداها في أكثر الدول العربية حيوية وانفتاحًا على الخارج وهي البحرين وبدرجات أقل في الدول الأخرى ذات النظم الوراثية وخاصة المغرب وسلطنة عمان والأردن. استدركت هذه الدول الموقف بسرعة وتعاملت معه بمرونة جمعت بين الحزم والعقاب وبين الإغراءات المادية وإدخال إصلاحات سياسية لوأد الحركة في مهدها، وأما النظم الوراثية الأخرى مثل السعودية، والكويت، والإمارات، وقطر فقد قامت بعمل استباقي بإجراء إصلاحات محدودة وزيادة المرتبات، وتحققت نتائج العمل الاستباقي بفضل سياسة الحزم وضبط حركة المجتمع.

أسباب بدء انطلاق حراك الربيع العربي في الدول العربية الجمهورية

   أدى التفاعل المحلي والإقليميى لما يمكن أن نطلق عليه حراك سياسي شعبي بدرجات متفاوتة وردود فعل مختلفة من دولة لأخرى ومرجع ذلك عدة عوامل في مقدمتها ستة هي: الأول: الجمود السياسي في النظم الجمهورية التي شهدت ذلك الحراك وهي تونس ومصر وليبيا، وسوريا، واليمن. هذا الجمود جعل رئيس الجمهورية يظل في السلطة ما بين 20 عامًا إلى أكثرمن 40 عامًا.

الثاني: تمرد المجتمع والقوى البشرية الناشطة أوالمهمشة بانطلاق حركة المجتمع المدني المرحب بها داخليًا والمدعومة خار جيًا. مع أساليب التحريض الخارجي من مراكز ومؤسسات نشر الديموقراطية وحقوق الإنسان حتى وإن تسمت بالمراكز المستقلة.

الثالث: الترويج السياسي لمفهوم التغيير من قبل أمريكا وأوروبا لتنفيذ خططها المستقبلية والتغير في الأوضاع السياسية الدولية إلى قوى ثورية تسعى للتغيير ليصبح على صورتها وكان ذلك نتيجة حقائق وأوهام، أما الحقائق فهي حدوث انهيار القطبية الدولية وسقوط النظام الشيوعي في روسيا والتحول الديمقراطي في أوروبا الشرقية بل وانضمامها لحلف الناتو وللاتحاد الأوروبي. وظهرت نظريات صراع الحضارات لصموئيل هانتنجتون أما الأوهام فهي تصور إمكانية التغيير المماثل دون الأخذ في الحسبان إختلاف التاريخ ومراحل التطور السياسي والاقتصادي والثقافي وخصائص كل دولة.

الرابع : نظريات وأدوات التغيير الدولية وخاصة الأمريكية وتمثلت في كتابات الباحث الأمريكي في علم الثورات  جان شارب .Jean Sharp التي ترجمت للعديد من اللغات وخاصة كتابه "من الديكتاتورية للديمقراطية" الذي أطلق عليه مجازًا بأنه إنجيل التغيير ونشره على موقع الانترنت بمختلف اللغات بما فيها العربية واستخدمت  أفكاره كأداة ناجحة للثورات في أوروبا الشرقية وبعض الدول النامية ثم جرت محاولة تطبيقها في العالم العربي الذي اعتبر مقاومًا لأي تغيير وإنه يعيش على هامش التطور السياسي العالمي وكما وصفه كتاب التنمية الإنسانية العربية بأنه يعاني من نقائص أربع: الديموقراطية، حقوق الإنسان، ضعف تمكين المرأة، ونقص المعرفة العلمية.

الخامس: دور الأمم المتحدة وخاصة مجلس حقوق الإنسان الذي أتاح لقوى المجتمع المدني منبرًا سياسيًا شبه محايد للتعارف ولتوجيه النقد للنظم السياسية في الدول النامية، وحصول منظمات المجتع المدني الوطنية الداعية للتغييرعلى الحماية والمساندة ومعظمها مرتبط بالخارج وتحصل منه على التمويل.

السادس: استمرار التخلف الاقتصادي واتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء، وبذلك تم نهب ثروات الشعوب ونشر التخلف، وإضعاف الطبقة الوسطى حاملة القيم والحضارة في المجتمعات والقوة الدافعة للتغيير التطوري وليس الثوري. كما تم ربط النقابات المهنية والعمالية بالنظام السياسي وكذلك معظم المثقفين والأكاديميين في حين أهملت باقي فئات المجتمع فازداد الفقر والتخلف وتدني دخول المهمشين.

 

ثانيًا: تداعيات الحراك السياسي في النظم الجمهورية وأثره على دول الخليج ومواقفها:

تمخضت عن أحداث ما سمي بالربيع العربي بروز ظواهر من بينها ما يلي:

الظاهرة الأولى :  وصول الإسلاميين للسلطة في تونس ومصر بعد المرحلة الانتقالية الأولى إثر سقوط النظام السابق ثم إخفاقهم في إدارة النظام السياسي الجديد لمصلحة المجتمع ككل وسعيهم للسيطرة عليه و تغيير هويته الوطنية الإسلامية المعتدلة إلى هوية إسلامية إقصائية إلى حد كبير تعبر عن فكر العصور الوسطى في النظرة للآخر وتتعارض مع أسس بناء الدولة الحديثة وفي مقدمتها التعارض بين فكر وسلوك الإخوان المسلمين العشائري بالتطلع للسلطة وبين فكر الأزهر المعتدل والبعيد عن طموحات للسلطة وإنما مساندتها بوجه عام تماشيًا مع المذهب الأشعري وخاصة مفهوم طاعة ولي الأمر ومساندته ونصحه بالحسنى في حالة الانحراف خشية الاضطرابات وهو ما أطلق عليه في الفكر الإسلامي التقليدي مفهوم الفتنة منذ عثمان بن عفان.

ويلاحظ أنه في الصراع بين الدين والسلطة أي بين المبادئ المثالية والسياسة الواقعية تنتصر عادة الواقعية وهو ما يمكن استخلاصه من التجربة الإسلامية بل وأيضا من التجربة الأوروبية في الصراع بين الكنيسة والملوك، وعدم إدراك التيارات الإسلامية لمفهوم السياسة الواقعية المعتدلة وأهمية العامل الوطني في بناء الدولة ومفهوم المواطن هو أحد أسباب نكبتها في تونس ومصر رغم سلمية الحراك السياسي في الدولتين إلى حد كبير. وساعد على هذه السلمية موقف القوات المسلحة برفض الانحياز للحاكم ضد حراك الشعب السلمي وموقف الشرطة ووجود مؤسسات للدولة رغم ضعفها كل هذا ساعد في الحفاظ على كيان الدولة وعدم انهيارها انهيارًا كاملا رغم وقوع بعض التجاوزات ورفع شعارات فوضوية لإضعاف مقومات الدولة الراسخة وتصور الثوار أن الثورة تظاهرات مستمرة اطلقت عليها شعارات عامة وغامضة ولم يدرك الثوار خاصة الشباب ضرورة وجود أيديلوجية متكاملة وقيادة واعية وكارزماتية ووجود كوادر تنشر الفكرالديموقراطي الجديد ولا تمس ركائز الدولة بخاصة مؤسسات الدفاع والأمن والعدالة ولا تدمر أسس المجتمع وثقافته وقيمه وتمارس العمل والإنتاج لتحقيق المطالب وليس الفوضى.

     أما في حالات سوريا وليبيا واليمن، فإن الجيش انحاز إلى الحاكم في سوريا، وانقسم في اليمن وليبيا مع بعض الاختلافات لكل حالة ولهذا تحولت عملية الحراك الوطني إلى حروب أهلية تدخلت فيها قوى إقليمية ودولية فأزداد الموقف تأزمًا ودموية وعدم استقرار وبلغ نهاية العنف في سوريا بتدخل القوى الإقليمية والدولية والميلشيات العقائدية، وفي اليمن بالانقلاب على ما اتصف بالانقسام العشائري والمناطقي في إطار شعارات إسلامية ما بين التطرف الداعشي والإخواني وبين الاعتدال الواقعي لبعض القوى القبلية والمناطقية.

الظاهرة الثانية : بروز ظاهرة القتل على الهوية في سوريا وليبيا واليمن في صراع ممتد، وتدخل فاشل لجامعة الدول العربية تحول لمرض عضال في سوريا وليبيا، وموت بالسكتة القلبية للجامعة في الحالة اليمنية و مبادرة ناجحة لدول مجلس التعاون تم اختطافها وتشويهها من قبل مبعوث الأمم المتحدة جمال بنعمر والذي أبدى انحيازًا لقوى يمنية مرتبطة بقوى خارج الاقليم وبخاصة جماعة أنصار الله الحوثية المؤمنة بمبدأ ولاية الفقيه الإيرانية، وصمت مطبق بالنسبة للأوضاع في النظم الوراثية وخضوع لواقع التقسيم كما في حالة السودان والصومال مع بعض الاختلاف في التفاصيل .

الظاهرة الثالثة: حالة الهشاشة في باقي نظم الجمهوريات العربية في شمال أفريقيا وحالة المحاصصة الطائفية والعرقية في العراق ولبنان.

الظاهرة الرابعة: بروز قوة وتماسك وصلابة النظم الوراثية العربية خاصة في دول الخليج والأردن والمغرب للاعتبارات الدينية والطائفية والقبلية والموقع الاستراتيجي بالغ الحساسية ولوفرة الموارد الاقتصادية في معظم تلك الدول.

     وهكذا أسفر الربيع العربي عن صعود دول مجلس التعاون حيث تجلى ذلك في دور درع الجزيرة في أمن البحرين وفي تبني مجلس التعاون برنامج دعم تنموي للبحرين وسلطنة عمان، وفي برامج وشراكة تنموية مع الأردن والمغرب، وفي مساعدات ثنائية خليجية لمصر والسودان وجيبوتي وغيرها.

وهنا يلاحظ أن دول مجلس التعاون لم تكن موحدة في مواقفها من اليمن أو السودان أو ليبيا أو العراق أو لبنان أو مصر فرغم الشعارات العامة بالمساندة ودعم الشعوب فإنه يمكن رصد ثلاثة مواقف واضحة بين الدول الست أولها موقف السعودية والإمارات والكويت والبحرين وهو أكثر مساندة للاتجاهات المعتدلة والمحافظة في مصر ضد الاتجاهات الإسلامية المتشددة، ونفس الشيء في لبنان ضد حزب الله وهذا بخلاف موقف قطر المؤيد للإخوان  المسلمين والتي قدمت لهم الملاذ والمال انطلاقا من دعوتها للتغيير في العالم العربي فضلا عن الاتجاهات الإعلامية لقناة الجزيرة بالترويج للتغيير.ومن ناحية أخرى أخذت دول المجلس موقف المساندة للثوار ضد نظام بشار الأسد في سوريا وضد نظام القذافي في ليبيا، وقامت بوساطة ناجحة بشأن اليمن ولكن تدخلات إيران مع الحوثيين وطموحات  علي عبد الله صالح  الذي اضطر للتخلي عن السلطة أفسدت تلك المبادرة وأثرت على موقف المبعوث الدولي جمال بنعمر بانحيازه ضد دول مجلس التعاون ومبادرتها وبصورة أكثر وضوحًا ضد عاصفة الحزم بينما لزم الصمت إزاء استيلاء الحوثيين على السلطة وهروب الرئيس الشرعي المنتخب بعد أن حبسه الحوثيون لفترة في داره وأطاحوا بحكومته وأنتهكوا المصالحة ونتائج الحوار الوطني اليمني وتنكروا له معتبرين إياه ينتمي للماضي . وتفردت سلطنة عمان بموقف ثالث أقرب للحياد في تلك الصراعات العربية بوجه عام.

الخامسة : السياسات الإيرانية والأمريكية والأوروبية المتناقضة والمعبرة عن خطط واستراتيجيات هاتين الدولتين تجاه الثورات العربية إذ أنه بعد الابتهاج بالمرحلة الانتقالية الأولى و بصعود الإسلاميين للسلطة في مصر وتونس والسعي للسيطرة على الحراك السياسي خاصة في مصرمن قبل أمريكا وإيران وفقا لخطط كل من الدولتين وإدعاءاتها، فإنه سرعان ما تغيرت مواقفهم وخاصة تجاه الأحداث في مصر وفرضت أمريكا والدول الغربية عقوبات ثنائية ضد مصر بدعوى تدخل الجيش بانقلاب عسكري ضد السلطة المنتخبة في حين تم الإطاحة بالإسلاميين بثورة شعبية عارمة شملت أكثر من ثلاثين مليونا  من المواطنين تظاهروا في مختلف المحافظات المصرية ولذا ساندتها القوات المسلحة وساعدت بذلك في تجنب وقوع حرب أهلية كما حدث في ليبيا و اليمن و سوريا. ولأن الثوار  في مصر في أحداث ثورة 30 يونيو من الشعب مدعومين بالقوات المسلحة وليسوا من الإسلاميين الذين أعطوا وعودا سرية للغرب وخاصة أمريكا بتعامل في القضية الفلسطينية لمصلحة إسرائيل وضد المصالحة الوطنية، فإن الغرب عارضهم بشدة، ولكن دول مجلس التعاون الأربع وهي السعودية والإمارات والكويت والبحرين انحازت للشرعية الجديدة في مصر وإلى حد ما في تونس ضد الإخوان وأعوانهم وهم الذين ساندتهم تركيا بطموحات أردوغان لبناء إمبراطورية عثمانية جديدة كما ساندتهم قطر لاعتبارات ذاتية ودولية ترتبط بدورها على الساحتين الإقليمية والدولية.

     كما أثرت أحداث الربيع العربي الدموية وشبه الدموية بما في ذلك السلمية خاصة في مصر على علاقات دول مجلس التعاون وخاصة السعودية مع أمريكا التي توترت لعدة أسباب ترتبط بمساندتها لمصر وموقفها في سوريا وإلى حد ما في اليمن وموقفها من البرنامج النووي الإيراني والتقارب الأمريكي الغربي من إيران التي تمثل تهديدا لدول مجلس التعاون ولديها طموحات في السيطرة على الخليج العربي ونشر خلايا نائمة وتصدير ما أسمته بالثورة الإسلامية وتدخلاتها في العراق وسوريا واليمن ولبنان وغيرها، ولتحرك قوات درع الجزيرة في مساندة النظام السياسي في البحرين  ضد حركة 14 فبراير 2011 م، التي عبرت إيران عن مساندتها لها. وتناست أمريكا والغرب أن دخول قوات درع الجزيرة في البحرين كان مبنيا على اتفاقيات أمنية ودفاعية وسياسية بين دول المجلس في إطار التنظيمات الإقليمية التي نص عليها ميثاق الأمم المتحدة في الفصل الثامن. وأن واشنطن ذاتها تدخلت في أوربا وآسيا ضد التوسع السوفيتي بعد الحرب العالمية الثانية وأقامت حلف الأطلنطي وغيره من الأحلاف بل ونشرت القواعد العسكرية في العديد من مناطق العالم.

ثالثًا: انعكاسات الأحداث على المنطقة العربية وخاصة دول مجلس التعاون:

     لا شك أن أحداث ما سمي بالربيع العربي على المنطقة العربية بوجه عام وعلى دول مجلس التعاون بوجه خاص كانت بمثابة زلزال عنيف دمر الكثير من البنية الأساسية في الدول التي وقعت فيها، وهزت الأوضاع الاقتصادية في تلك الدول وأثرت على اقتصاد دول مجلس التعاون، ونلخص هذه الانعكاسات على النحو التالي:

الأولى: بالنسبة لدول المنطقة التي عانت من الأحداث ودورها ويتمثل هذا التأثير في عدة مظاهر أبرزها:

البعد القومي العربي المرتبط بمفهوم الهوية القومية حيث تراجع هذا البعد في سياسات ما كان يطلق عليه بدول محورية مثل العراق التي أصبحت في صراع طائفي وأصبح صاحب القرار الحاسم فيها هو الولي الفقيه الإيراني ثم أمريكا التي احتلت العراق واسقطت نظام صدام حسين العلماني لمصلحة نظرية ولاية الفقيه ولم تعد العراق دولة عربية وفقا لدستورها بل تحولت لدولة بها أغلبية عربية صاحب القرار المؤثر فيه إيران، وفي سوريا التي كادت تنهار لولا التدخل الإيراني ثم التدخل الروسي. أما ليبيا واليمن فإنهما تعانيان من التدخل باسم الطائفية في اليمن وباسم الدين في ليبيا، أما مصر فقد ظلت أكثر صلابة وإن ضعفت قوتها الاقتصادية بدرجة غير مسبوقة وقد دعمتها دول مجلس التعاون الأربع بصورة واضحة سياسيًا واقتصاديًا.

تراجع مفهوم المواطنة والانتماء والولاء الوطني لمصلحة الانتماء الطائفي أو الديني أو العرقي في بعض دول الخليج وفي سوريا والعراق ولبنان والصراع السياسي المتمسح بالدين في مصر وليبيا وتونس نتيجة تدخلات قوى إقليمية ودولية مما أضعف الهوية القومية العربية بدرجة كبيرة، كما أضعف الإحساس بالولاء للوطن. وكانت مصر أكثر تماسكا وقوة في مواجهة الضغوط ومن ثم حافظت على هويتها بفضل دور القوات المسلحة وعقيدتها الوطنية ثم الشرطة والأزهر والكنيسة التي أثبتت ولاءً للوطن وحبًا لمصر أكثر مما حدث في دول أخرى.

الثانية: وهي على نقيض النقطة الأولى إذ شهدت المنطقة عودة روح جديدة للعمل العربي المشترك ممزوجا بعمل إسلامي مشترك نتيجة الدور الخليجي مدفوعا بالدور السعودي وما لديه من قوة اقتصادية ومالية وقوة عسكرية ودفاعية صاعدة، وتمثلت هذه القوة الصاعدة في "عاصفة الحزم" وفي مناورة " رعد الشمال" وهو ما أعطى روحا معنوية قوية للسعودية ودول مجلس التعاون في مواجهة القوى الإقليمية وبخاصة إيران بما في ذلك الاتفاق النووي مع الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن وألمانيا.

الثالثة: تعزيز مفهوم سباق التسلح في المنطقة العربية بوجه عام ودول الخليج بوجه خاص والسعودية والإمارات على وجه الخصوص، فالسعودية أصبحت في المرتبة الثالثة في الإنفاق العسكري عام 2015م، بعد الولايات المتحدة والصين، وسبقت حجم الإنفاق العسكري الروسي. وبلغ الإنفاق العسكري السعودي 87.2 مليار دولار عام 2015م، حسب إحصاءات نشرها معهد استوكهلم الدولي لأبحاث السلام، بينما بلغ الإنفاق العسكري في العالم 1676 مليار دولار عام 2015م، بزيادة 1%، وكان ذلك نتيجة زيادة الإنفاق العسكري في دول أوروبا الشرقية والشرق الأوسط (الميزانية العسكريةلأمريكا 596 مليار دولار وتمثل تراجعا بنسبة 2.4%عن عام 2014م) أما الصين فذكرت الإحصاءات أن موازنتها العسكرية تقدر بـ 215 مليار دولار وهذه نسبة عالية في الزيادة عن الأعوام السابقة بدرجة كبيرة. أما روسيا فقد بلغت الميزانية العسكرية66.4 مليار دولار، وفرنسا أصبحت تمثل المرتبة السابعة بعد بريطانيا والهند.

الرابعة :  تفاقم مشكلة اللاجئين من دول ما يسمى بالربيع العربي وبخاصة سوريا وإلى حد ما ليبيا والعراق وازداد الضغط على الدول الأوروبية وعلى دول الخليج لاستضافة اللاجئين ولكن الدول الأوروبية كانت أكثر انزعاجا فبادرت إلى عقد المؤتمرات الدولية والوطنية لذلك، أما دول الخليج والدول العربية بوجه عام فقد صرحت بأنها تأوي العديد من اللاجئين ولكن دون تحديد إحصاءات دقيقة ما عدا حالات الأردن ولبنان ومصر التي تنشط فيها وكالة المفوض السامي للاجئين، ونتج عن حالة اللجوء هذه عدة ظواهر إجتماعية متنوعة وأمراض بدنية واجتماعية ومعاناة إنسانية غير مسبوقة في تاريخ المنطقة بل ربما في تاريخ العالم بعد الحرب العالمية الثانية .

الخامسة: ستؤثرأحداث المنطقة العربية على دول مجلس التعاون من زوايا أربع: 

   أولها: التركيبة الديمغرافية لهذه الدول المحدودة السكان نتيجة تدفق اللاجئين مهما كان عددهم خاصة في ظل الحساسية الدينية والطائفية، كما في علاقة لبنان والعراق مع معظم دول مجلس التعاون.

       ثانيها: الضغط الاجتماعي لأن سلوكيات وعادات المهاجرين مختلفة عن نظيراتها في دول مجلس التعاون ذات الطابع الأكثر محافظة.

ثالثها: الضغط الاقتصادي خاصة مع تدني أسعار النفط وهو المصدر الأول لثروة دول الخليج واقتصادها وميزانياتها ولذلك توقفت عدة مشروعات تنموية في معظم دول الخليج كما أصدرت دول الخليج ميزانيات أكثر تقشفية وجمدت أو الغت كثيرًا من وسائل الدعم وممارسات الدولة الرعوية.

       رابعها: تعزز صعود الشيعة في الدول الخليجية والشام والعراق وهذا ما سبق أن روج له عدد من المفكرين من أصول إيرانية في أمريكا ومنهم والي نصر في كتابه صعود الشيعة الذي نشره منذ عشر سنوات في شكل مقال في الفورين افيرز  Foreign Affairs ثم في كتاب على غرار ما فعله صامويل هنتنجتون بالنسبة لمفهوم صراع الحضارات الذي نشره كمقال في الفورين أفيرز ثم طوره في شكل كتاب بعد ذلك، وهذا كله يؤثر في التماسك الديمغرافي والتوافق المجتمعي في دول الخليج بل في دول عربية أخرى خاصة في المشرق العربي .

رابعًا نظرة مستقبلية لكيفية الخروج من الأزمة الراهنة

المنطقة العربية بوجه عام والخليجية بوجه خاص، منطقة تغري بتكالب التطلعات الإقليمية و الطموحات الدولية وتصارعها  للسيطرة عليها لأسباب عديدة منها الموارد الطبيعية الوفيرة والعدد القليل من السكان اذا نظرنا  في ضوء مبدأ الاستقلال والسيادة نتيجة التجزئة التي تعرضت لها المنطقة، ومنها الموقع الجيواستراتيجي في إطلالها على البحار والمحيطات، و الموقع المتوسط في قلب العالم كما أسماه هالفورد ماكيندر، و المضايق والخلجان المائية ذات الأهمية للتحكم في طرق الملاحة والتجارة بين الشرق والغرب وفي علاقة دول المنطقة العربية بالدول المجاورة .

 لقدأوضح آل جورفي كتابه "المستقبل: ستة محركات للتغيير العالمي " تقتضي ضرورة إعادة بناء علاقة سليمة متوازنة بين الحضارة الإنسانية والمستقبل وهي:

-1نشوء اقتصادعالمي جديد مترابط.

2 ظهور شبكة اتصالات الكترونية.

3 ظهور توازن جديد بين القوى الدولية السياسية والاقتصادية والعسكرية.

4-تحقق نمو سريع في السكان والمدن والتنمية غير المستدامة مما يؤدي لاستنزاف الموارد الطبيعية والتربة والمياه.

5-ظهور مجموعة جديدة تحدث ثورة جذرية في مجالات البيولوجيا والكيمياء الحيوية والجينات.

6 نشأة علاقة جديدة جذريا بين القوة الشاملة للحضارة البشرية وبين النظم الايكولوجية للأرض بما في ذلك التوازن في المناخ والطاقة.

هذه المحركات الستة التي ذكرها آل جور على المستوى العالمي لها تأثيرها على المنطقة العربية ولذلك ينبغي التفكير المستقبلي والتخطيط الاستراتيجي في بناء حضارة عربية جديدة في ضوء الإجابة على تساؤلات ثلاثة ذات صلة مباشرة ووثيقة بمنطقتنا وهي:

 ما هي محددات المستقبل العربي في العقدين القادمين؟

ما هي التحديات القائمة والمحتملة أمام العالم العربي وخاصة دول مجلس التعاون؟

كيف يمكن التعامل مع التحديات وتحويلها إلى فرص ومع التهديدات السلبية وتحويلها إلى قوة إيجابية؟

وللإجابة على التساؤلات الثلاثة السابقة من خلال الاستعراض التالي.

بالنسبة لمحددات المستقبل العربي تتمثل في أربعة محددات رئيسية هي:

الأول: الموارد الطبيعية والاقتصادية العربية وكيفية التعامل معها.

الثاني: الموارد البشرية وكيفية تحويلها إلى قوة عاملة منتجة ومبتكرة

الثالث: مصادر القوة الشاملة وفي مقدمتها القوة العسكرية كيفية تطويرها وتحديثها حتى تمثل قوة ردع في مواجهة الأعداء.

الرابع التقدم العلمي بما في ذلك التكنولوجي والنووي.

الموارد الطبيعية العربية وفيرة مقارنة بمناطق أخرى مثل: اليابان وأفريقيا أو أوروبا، وهذه الموارد يتم استخراجها وتصديرها من خلال القوى الأجنبية رغم حدوث تطور عربي في السنوات الأخيرة، فلدى العرب النفط والغاز والأنهار والإطلال على البحار والمحيطات، وهذا كله يعزز من مواردها الطبيعية ولديها الموقع الإستراتيجي الذي يجعلها جاذبة للعالم الخارجي.

     أما بالنسبة للموارد البشرية فالعرب يمثلون قوة لا بأس بها إذ يقارب عددهم 400 مليون نسمة ولكن تؤخذ عليهم نزعتان، نزعة التواكل والتكاسل من ناحية ونزعة عدم الدقة والانضباط في العمل والإنتاج؛ ولذا تمثل العمالة الأجنبية الوافدة غير العربية نسبة عالية من السكان وخاصة في دول مجلس التعاون وهذا يجعلها معتمدة على تلك العمالة الأجنبية ورهينة لها من خدم المنازل إلى عمال التكنولوجيا العالية وكبار الإداريين والمستشارين وأغلبهم من شبه القارة الهندية ومن الدول الغربية.

    أما بالنسبة للقوة العسكرية فإن الدول العربية من كبار مستوردي السلاح بشتى أنواعه وهذا يجعل قدراتهم الدفاعية مقيدة بعلاقاتهم بالدول المصدرة للسلاح، كما أنه يجعل الدول العربية وبخاصة دول الخليج العربي تتجه اتجاها غير سليم بالنسبة لثلاثة أمور مهمة هي:

 أولها: الاعتماد على الحلفاء الغربيين في الدفاع وفي التصنيع الحربي المحدود وفي استخراج المواد الأولية وأخيرًا في التعامل مع القضايا الأكثر فنية في الصناعة والخدمات وفي التكنولوجيا بل في الاستشارات والتدريب.

ثانيها: اللجوء لاستضافة قواعد عسكرية أجنبية على أراضيها وهو ما يمثل خطورة أمنية بالغة على المديين المتوسط والبعيد.

وثالثها: استضافة العديد من مراكز الأبحاث والتفكير والجامعا ت الأجنبية.

وهذا كله يجعلها خاضعة أو على الأقل معتمدة على الخارج في الدفاع والتصنيع والإنتاج وفي الفكر أيضًا وهو المؤثر على الهوية الوطنية والقومية والثقافة المجتمعية.

  بالنسبة للتطور التكنولوجي خاصة النووي فمعظم الدول العربية ليست لديها برامج نووية إلا مفاعلات صغيرة للأغراض البحثية، كما أن نسبة مساهمتها في الإبداع متدنية، وهذا يعد نوعًا من التبعية العلمية للخارج، مشكلة العالم العربي أن العقول المتقدمة لديه تتجه للهجرة إلى أمريكا وأوروبا؛ نتيجة عدم التقدير وعدم المشاركة الفاعلة في المجتمع وفي اتخاذ القرارات ذات الصلة باختصاصاتها، ومستوى التعليم متدني بوجه عام والثقافة العلمية للمجتمع محدودة.

2-التحديات أمام العالم العربي وخاصة دول مجلس التعاون:      

 يأتي في مقدمة تلك التحديات ما يلي:

1-التحدي الديمغرافي بالاعتماد على العمالة الوافدة بدرجة كبيرة مما يؤثر على التركيبة العرقية والطائفية الأمر الذي يثير مشكلة الانتماء والمواطنة.

   أما بالنسبة للعالم العربي ككل فإن المشكلة عكسية، فكثافة السكان تؤدي إلى نسبة عالية من البطالة وتدني معدل الدخل الفردي وضعف دور الطبقة المتوسطة، وسعي المثقفين والعلماء للبحث عن العمل والهجرة وهذا يؤدي لتأثير سلبي في تلك المجتمعات ويحرمها من موارد بشرية هامة.

2-التحدي السياسي الاستراتيجي: وهو ناتج عن ضعف الدول العربية وتعددها مما يؤدي إلى التنسيق السياسي والاستراتيجي بين دولها؛ وهذا يجعلها ضعيفة في مواجهة الضغوط الأجنبية وقابلة للخضوع لها بل والخضوع لجيران في المنطقة بفضل تماسك مجتمعاتهم وتركيزهم على التنمية الوطنية والتسلح مما يجعلهم أكثر قدرة على التأثير في التطور السياسي والتنموي في المنطقة العربية.

3-التحدي التنموي: وهو ناتج عن محدودية التطور العلمي والتكنولوجي لاستغلال الموارد المتاحة للمنطقة العربية في تحقيق قفزة صناعية وتكنولوجية، مما يجعل المنطقة أكثر استهلاكا واستيرادا من الخارج بدلا من الاعتماد على إنتاجها والتصدير ما عدا الموارد الأولية والطاقة، وهذا يمثل نقطة ضعف لأنه لا يستفيد من أسعار المواد الخام المصنعة ويصدرها بأسعار بخسة مما يجعل المنطقة العربية عرضة لتقلبات أسواق الموارد الطبيعية ونموذج ذلك تقلبات أسعار النفط والغاز.

4-تحدي الاستقرار والتطور السياسي الديمقراطي: ولعل ذلك يمثل تحديًا كبيرًا وخطيرًا ،إذ عاشت المنطقة العربية لفترة طويلة في حالة سيولة في أنظمتها السياسية والاجتماعية مما أدى لجمود تطورها الديمقراطي، وضعف الحركية الاجتماعية وجعلها غير متماسكة سياسيًا لبروز حالات من الصراع السياسي والاجتماعي وتهميش الأقليات، وكذلك تهميش قطاعات مهمة مثل: الشباب والمرأة والاقليات وسيطرة العقليات البيروقراطية على الإدارة وتسرب الفساد والرشاوى والمحسوبية إليها كما يتضح ذلك من التقارير الدولية عن  التنمية البشرية أو التنافسية والشفافية التي تجعل كثيرًا من الدول في أسفل القائمة ما عدا دول مجلس التعاون الخليجي التي استفادت من مواردها وخصصت نسبة كبيرة منها لتطوير البنية الأساسية؛ مما جعلها في مصاف الدول الأكثر تقدمًا في قائمة تقارير الأمم المتحدة للتنمية البشرية.

تحدي المعيشة المستدامة: تحديات تتعلق بالأمن المائي والأمن الغذائي

 الدول العربية تعاني من نقص الموارد المائية وخاصة دول مجلس التعاون، وتعتمد على تحلية مياه البحار فهي تنتمي للدول الفقيرة مائيًا، كما أن الدول الأخرى مثل العراق وسوريا ومصر تعتمد على الأنهار النابعة من خارج الوطن العربي وهذه تثار بشأنها مشاكل نابعة من سعي بعض دول الجوار للتنمية ومدى استعداد دول المنبع  للتعاون مع دول المصب مما  يؤدي لتأزيم علاقات تلك الدول، ويدفع بعض الخبراء للقول بأن الحروب حول المياه هي أحد الحروب الخطيرة في السنوات القادمة، فالمشروعات الإنمائية وبناء سدود في تركيا  وأثيوبيا وكذلك استنزاف إسرائيل لمياه نهر الأردن وروافده والمياه الجوفية تمثل تهديدًا خطيرًا للشعب الفلسطيني وللأردن، وهذا يحتاج لعقليات عربية جديدة في التعامل مع مثل هذه القضايا، الأمر الذي يستدعي التفكير الإستراتيجي ومنطق البحث عن حلول غير تقليدية. ونفس المسألة تنطبق على الأمن الغذائي فمعظم الدول العربية تستورد نسبة كبيرة من الغذاء رغم أن دولة مثل السودان يمكن أن تكون سلة غذاء عربية ولكن الخلافات السياسية أكثر تأثيرًا سلبيًا على مفاهيم التعاون، وتجعل العمل العربي المشترك محدودًا كما يتجلى ذلك في ضعف تلك المؤسسات في إطار الجامعة العربية التي ما تزال تعيش بدون عقلية إستراتيجية، ولعل إخفاق الجامعة ومؤسساتها في تطوير المفهوم الأمني والتعاون الأمني هو من أخطر التحديات التي تجعل الأمن القومي العربي خاضعًا للقوى الأجنبية.

تحدي دول الجوار للإقليم العربي: ينبع هذا التحدي مما أطلق عليه المفكر الجزائري مالك ابن نبي منذ منتصف القرن الماضي " القابلية للاستعمار " أو ما أسماه المفكرالاقتصادي المصري سمير أمين بالقابلية للتبعية ونضيف إلى ذلك ما نسميه عقدة الضعف العربية تجاه الدول الأخرى سواء على المستوى العالمي أوعلى المستوى الإقليمي. ومن هنا نلاحظ ثلاث ظواهر:

الأولى: صدور مشروعات دولية من أمريكا، والإتحاد الأوروبي وروسيا؛ للسعي نحو أحداث التغيير في المنطقة العربية.

الثانية : صدور مشروعات من دول الجوار الإقليمي خاصة تركيا بطرحها مشروع إعادة إحياء الإمبراطورية العثمانية من رجب طيب أردوغان بعد أن أخفقوا في الانضمام للإتحاد الأوروبي، ولعل سعي تركيا لتكوين تحالف إسلامي إخواني وتحالف مع دول عربية ضد دول عربية أخرى نموذجًا لتلك الطموحات، ونفس الموقف مع المشروعات الإيرانية بتصدير الثورة المسماة بالثورة الإسلامية والسعي لبسط نفوذها على الطائفة الشيعية في الدول العربية، وما حدث في العراق وليبيا وسوريا وتغلغلها في اليمن وخلاياها النائمة في دول الخليج العربية نموذجًا، أما إسرائيل فقد نجحت في التلاعب بالضعف الفلسطيني وتغذية الصراع الداخلي بين الفلسطينيين مما جعل الخلاف بين حماس وفتح أكثر خطورة وفتكا بالفلسطينيين وقضيتهم مقارنة بالعدو الرئيسي وهو إسرائيل واحتلالها للأراضي الفلسطينية ، وقد بلغ الغرور الإسرائيلي وغطرسة القوة أن أعلن رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو أن سوريا لم تعد موجودة وأن الجولان أرض إسرائيلية.

مقترحات للخروج من الهوة السحيقة أمام العالم العربي ودول مجلس التعاون:

   لعل الخروج من المأزق يتمثل في عدد من التصورات التي نطرحها بصورة مبدئية ولكنها تحتاج لدراسات إستراتيجية، وإن تحقيق تلك الخطط يستلزم ثلاثة أمور.

أولها: توافر الإرادة السياسية لدى كل دولة عربية على مستوى الجامعة العربية أو مجلس التعاون أو الاتحاد المغاربي هو نقطة الانطلاق.

ثانيها: التنفيذ الكامل للقرارات التي تتخذ على مستوى منظمات العمل العربي والعمل الخليجي المشترك وليس صدور قرارات لا تنفذ بصورة كاملة ويعيش العرب في دائرة مقولة المفكر السعودي عبد الله القصيمي " إن العرب ظاهرة صوتية "؛ لذا لا تؤخذ قراراتهم وأطروحاتهم وشعاراتهم من أعدائهم مأخذ الجد.

ثالثها: أن تكون هناك آلية للتنفيذ والمتابعة ومحاسبة الدول التي لا تنفذ القرارات، ويتم التخلي بدرجة كبيرة عن عقلية المجاملة ما يكون على حساب التقدم والقوة ولسنا في مجال ذكر أية مقترحات طرحها قادة عرب كبار ومن دول مهمة وآلت إلى النسيان بدعوى الحاجة للدراسة المتأنية.

     فإذا توافرت هذه العناصر يمكن أن تأتي الانطلاقة الجادة ويمكن أن يتحقق التكامل العربي أو الخليجي المنصوص عليه كهدف في المادة الرابعة من النظام الأساسي لمجلس التعاون، كما يمكن أن يتحقق التكامل العربي الذي هو أحد أهداف جامعة الدل العربية منذ إنشائها عام 1945م، بدلا من الاجتماعات العديدة والقرارات المتعددة التي لا يتم الالتزام بها.

    أما بالنسبة لعناصر التخطيط الاستراتيجي والتفكير المستقبلي للخروج من المأزق الراهن الذي يواجه الدول العربية عامة والخليجية خاصة فيمكن أن نذكر النقاط التالية:

1- تطوير برنامج نووي عربي سلمي، فرغم توافر الموارد المالية والموارد البشرية من العلماء والخبراء لم يتم الاستفادة منهم رغم كثرة القرارات والتصريحات في هذا الصدد،بل الأكثر خطورة أن كل دولة عربية تعمل أحيانًا كثيرة منفردة بعيدًا عن التنسيق العربي المشترك الذي أقرته التنظيمات العربية العديدة ويمكن أن يقوم هذا البرنامج النووي العربي  على أساس التوزيع  لوحدات ومكونات البرنامج بين الدول العربية الأعضاء فيه وهذا يكون في إطار التكامل ولتحقيق الأمن للمنشآت النووية وأيضًا لإرضاء طموحات وتطلعات كل دولة عربية أو كل قيادة عربية.

2-تطوير مشروعات البنية الأساسية العربية، وهنا يمكن أن نشير إلى مسألة بناء الجسور العربية بين دول مجلس التعاون وخاصة جسر الملك فهد وجسر الملك حمد اللذين يربطان السعودية والبحرين وأثرهما الإيجابي على التكامل الاقتصادي ليس بين البلدين فحسب وإنما على دول مجلس التعاون، كذلك الجسر  بين السعودية ومصر عبر خليج العقبة يمكن أن يمثل نقطة انطلاق لتكامل اقتصادي وتجاري عربي، أضف إلى هذا خط السكة الحديد الخليجي ويمكن أن يتواصل ويرتبط بالسكك الحديد في دول عربية أخرى مثل مصر ويمتد إلى المغرب العربي.

3-التفكير خارج الصندوق في العمل السياسي العربي في إطار التكامل مع احتفاظ كل دولة بسيادتها ولكن بمشروعات مبتكرة تبعد الخلافات العربية جانبًا وتنحي طموحات وحساسيات كل دولة.

4-تنسيق التعامل الاقتصادي والتنموي والاستثماري بين الدول العربية وفقا لضمانات الائتمان والاستثمار أسوة بما يحدث بين الدول المتقدمة وبعض الدول العربية التي ترتهن أموالها وصناديقها التنموية لدى تلك الدول رغم عدم وجود ضمانات كافية ورغم الخسائر التي تنتج من حين لآخرعلى تلك الأموال بسبب الدورات الاقتصادية في الدول المتقدمة

5-الحاجة للتفكير المستقبلي من المثقف العربي وصاحب القرار السياسي وهذا يساعد في بلورة مشروع النهضة العربية في القرن الحادي والعشرين. لأن أحد أهم مآسي العالم العربي هو استخدام السلطة السياسية للمثقف ورجل الدين والأكاديمي للترويج لأفكارهم مقابل مناصب وزارية ترضي غرورهم ومصالحهم مما يؤدي لتبعية المثقف ورجل الدين والأكاديمي لصاحب القرار السياسي وأحيانا قليلة يسيطر المثقف أو رجل الدين أو الأكاديمي على رجل السياسة. وكلتا الحالتين بالغة الخطورة والسوء. فالمثقف ينبغي أن يكون أكثر استقلالية وكذلك رجل الدين وهذا لا يعني الانعزال بل ما ندعو إليه هو التفاعل الإيجابي بين هؤلاء الأشخاص حتى لا يحدث الصراع بينهم وكذلك عدم تحويل الأكاديميين إلى وزراء إذ يؤدي الأمر للتكالب على المناصب بدلًا من التفرغ للعلم والبحث العلمي.

6-ضرورة بناء ثقافة عربية جديدة تضع معايير الصواب والخطأ وتعمق القيم الأصيلة والتخلي عن التقاليد البالية أو القيم التي لا تتماشى مع مقتضيات العصر واحتياجاته الضرورية في القرن الحادي والعشرين حيث تسود مبادئ حقوق الإنسان والتجارب والممارسات الديموقراطية واحترام آدمية الإنسان بصفته إنسانًا.

7-ومن الضروري أن تتاح الفرصة المتكافئة لجميع فئات المجتمع وأعراقه وقواه المجتمعية من الشباب والمرأة والأقليات العرقية والطائفية والدينية وغيرها للمساهمة في بناء المجتمع والاستفادة من إنتاجه وقدراته على قدم المساواة مثل غيرهم من المواطنين.

   تلك بعض أفكار قابلة للتطوير والدراسة لوضع إستراتيجية شاملة وخطط تنفيذ عربية نأمل أن تتحقق فيتحول العرب إلى قوة فاعلة بدلًا من كونهم قوة مهمشة، ولعل دول مجلس التعاون أكثر القوى والتجمعات الاقتصادية المؤهلة للمبادرة العربية والتي تمثل علامة مضيئة في المسيرة التنموية التكاملية العربية.

مجلة آراء حول الخليج