; logged out
الرئيسية / التضامن بلغ ذروته في حرب أكتوبر بتنسيق ثنائي خارج الجامعة القمم العربية: رؤية نقدية

العدد 108

التضامن بلغ ذروته في حرب أكتوبر بتنسيق ثنائي خارج الجامعة القمم العربية: رؤية نقدية

الإثنين، 06 حزيران/يونيو 2016

لم يتضمن ميثاق جامعة الدول العربية، عند تأسيسها في 22 مارس عام 1945م، نصًا يحدد مستوى تمثيل الدول الأعضاء في مجلس الجامعة أعلى سلطة في قمة الهرم التنظيمي لهذه المنظمة الإقليمية، وتعين الانتظار لأكثر من نصف قرن قبل أن تتمكن الدول الأعضاء من الاتفاق على إجراء تعديل في الميثاق يلزم الدول الأعضاء بعقد اجتماعات دورية على مستوى القمة مرة واحدة على الأقل كل عام.

 عام 2000م، وافقت الدول الأعضاء على إضافة "ملحق خاص "نصت مادته الأولى على أن مجلس جامعة الدول العربية "يعقد على المستويات التالية: أ-مستوى ملوك ورؤساء وأمراء الدول العربية أو من يمثلهم على مستوى القمة، ب-مستوى وزراء الخارجية أو من ينوب عنهم، ج-مستوى المندوبون الدائمون". كما نصت مادته الثالثة على أن المجلس "ينعقد على مستوى القمة بصفة منتظمة، في دورة عادية مرة في السنة في شهر مارس، وله عند الضرورة أو بروز مستجدات تتصل بسلامة الأمن القومي العربي، عقد دورات غير عادية إذا تقدمت إحدى الدول الأعضاء أو الأمين العام بطلب ذلك ووافق على عقدها ثلثا الدول الأعضاء". والتزمت الدول الأعضاء بهذا النص وانتظمت القمم العربية منذ تعديل الميثاق عام 2000م، حتى الآن ما عدا عام 2011م، الذي شهد انطلاق ما أصبح يعرف باسم "ثورات الربيع العربي".

غير أن الالتزام بدورية انعقاد القمة العربية سنويًا ما زال إنجازًا هشًا. ففي سابقة خطيرة، قررت المغرب، وهي الدولة التي كان يفترض أن تستضيف مؤتمر القمة العربي عام 2016م، العدول عن استضافة القمة قبل أسابيع من الموعد المحدد لانعقادها، وأصدرت وزارة الخارجية المغربية بيانًا جاء فيه:" القمة العربية لا يمكن أن تشكل غاية في حد ذاتها، أو أن تتحول إلى مجرد اجتماع مناسباتي، وأن الظروف الموضوعية لا تتوفر لعقد قمة عربية ناجحة، قادرة على اتخاذ قرارات في مستوى ما يقتضيه الوضع، وتستجيب لتطلعات الشعوب العربية. وفي غياب قرارات هامة ومبادرات ملموسة يمكن عرضها على قادة الدول العربية، ستكون القمة مجرد مناسبة للمصادقة على توصيات عادية، وإلقاء خطب تعطي الانطباع الخاطئ بالوحدة والتضامن بين دول العالم العربي ... إن العالم العربي يمر بمرحلة عصيبة، بل إنها ساعة الصدق والحقيقة، التي لا يمكن فيها لقادة الدول العربية الاكتفاء بمجرد القيام، مرة أخرى، بالتشخيص المرير لواقع الانقسامات والخلافات الذي يعيشه العالم العربي، دون تقديم الإجابات الجماعية والحازمة لمواجهة هذا الوضع سواء في العراق أو اليمن أو سوريا التي تزداد أزماتها تعقيدًا بسبب كثرة الأجندات الإقليمية والدولية، كما لا يمكنهم الوقوف مكتوفي الأيدي أمام المشاكل الاقتصادية والاجتماعية للشعوب العربية، أو الاقتصار على دور المتفرج، الذي لا حول له ولا قوة، على المآسي التي تمس المواطن العربي في صميمه". وينطوي هذا البيان ليس فقط على رفض الالتزام بدورية القمة العربية لكنه يعد بمثابة شهادة رسمية من دولة عضو بالجامعة على فشل القمم العربية، ولولا قبول موريتانيا استضافة القمة في دورتها السابعة والعشرون لتعطلت القمم العربية من جديد.

إن غياب نص ملزم في الميثاق لمدة 55 عامًا لم يحل دون استشعار الدول الأعضاء بالحاجة لعقد اجتماعات على مستوى القمة. ففي عام 1946م، انعقدت أول قمة طارئة في أنشاص لبحث تطور الأوضاع الفلسطينية، وفي عام 1956م، عقدت قمة عربية طارئة ثانية لبحث العدوان الثلاثي على مصر، ومع ذلك لم تبذل محاولات جادة لمأسسة مؤتمرات القمة العربية وتحويلها إلى دورية إلا في بداية الستينات، حين دعا عبد الناصر لعقد قمة عربية لبحث التهديدات الإسرائيلية بتحويل مجرى مياه نهر الأردن. فالقمة العربية التي انعقدت في القاهرة عام 1964م، استجابة لهذه الدعوة هي أول قمة تتخذ قرارًا بدورية وسنوية القمم العربية. ورغم عدم التزام الدول العربية حرفيًا بتنفيذ هذا القرار، إلا أن أدبيات الجامعة , تؤرخ لدورية القمم بدءًا بمؤتمر القاهرة والذي تشير إليه باعتباره "مؤتمر القمة العربي الأول". وفيما بين دورة الانعقاد الأولى بالقاهرة عام 1964م، ودورة الانعقاد السابعة والعشرون المقرر عقدها في نواكشوط هذا العام، عقد قمم عربية أخرى كثيرة لكنها تصنف باعتبارها طارئة أو غير عادية.

وسوف نحاول في هذا المقال إلقاء نظرة عامة على مسيرة هذه القمم، أملا في التعرف على الأسباب التي أدت لانعقادها والأهداف التي سعت لتحقيقها والنتائج التي تمكنت أو عجزت عن تحقيقها. ولأن التوصل إلى تقييم موضوعي لأداء القمم العربية يتطلب تحليل تفصيلي وشامل لمجمل القرارات التي اتخذتها عبر مسيرتها، وهو ما يتعذر القيام به في مثل هذه الدراسة المحدودة، فسوف نكتفي هنا بفحص إجمالي لقرارات القمم العربية حول القضية الفلسطينية والصراع مع إسرائيل، باعتبارها محور العمل العربي المشترك لعلنا نتمكن من التوصل إلى مؤشرات عامة لبعض عوامل النجاح أو الإخفاق عبر هذه المسيرة.

أولا: صورة بانورامية لمسيرة القمم العربية:

بلغ إجمالي عدد مؤتمرات القمة التي عقدت منذ تأسيس جامعة الدول العربية عام 1945م، وحتى نهاية عام 2015م، أكثر من أربعين مؤتمرًا منها 26 مؤتمرًا تصنف كدورات انعقاد "عادية" والباقي يصنف كمؤتمرات طارئة. يدخل ضمن التصنيف الأخير عدد من المؤتمرات التي انعقدت قبل "مؤتمر القمة العربي الأول" الذي انعقد في القاهرة عام 1964م، مثل مؤتمر أنشاص عام 1946م، لبحث تطور الأوضاع على الساحة الفلسطينية، ومؤتمر بيروت عام 1956م، لبحث العدوان الثلاثي على مصر، كما يدخل ضمنه عدد من المؤتمرات عقدت بعد هذا التاريخ، كمؤتمر القاهرة الذي عقد عام1970م، لبحث تداعيات الصدام المسلح بين المقاومة الفلسطينية والنظام الأردني (أحداث أيلول الأسود)، ومؤتمر الرياض عقد عام 1976م، لبحث تداعيات الحرب الأهلية في لبنان، إضافة إلى سلسلة مؤتمرات عقدت عقب فشل مؤتمر فاس الأول عام 1981م، في إيجاد توافق حول مبادرة تسوية الصراع العربي – الإسرائيلي واستمرت حتى تعديل الميثاق عام 2000 م، للنص على دورية انعقاد القمة.

وبفحص ملابسات انعقاد القمم العربية، يتبين ما يلي:

1-   بلغ متوسط انعقاد القمم العربية عمومًا، العادية والطارئة معًا، ما يقرب من قمة واحدة كل عامين تقريبًا ما بين قمة عادية واحدة كل ثلاث سنوات تقريبًا، وطارئة واحدة كل خمس سنوات تقريبًا.

2-   بلغ عدد السنوات التي لم تعقد فيها أي قمة عربية على الإطلاق، عادية كانت أم طارئة، 25 عامًا من عمر الجامعة البالغ سبعون عامًا، تخللتها فجوات زمنية لم تنعقد فيها أي قمة عربية، أطولها الفترة من 1947-1955م، وبلغت تسع سنوات متتالية، تليها الفترة من 1992-1995م، وبلغت أربع سنوات متتالية، فالفترة من 1997-1999م، وبلغت ثلاث سنوات متتالية.

3-   شهدت بعض السنوات أكثر من مؤتمر واحد للقمة، ففي عام 1964م، وهو عام تدشين دورية القمم العربية، انعقد مؤتمران للقمة، الأول بالقاهرة في يناير والثاني بالإسكندرية في سبتمبر. وتكرر الشيء نفسه عام 1990م، حيث عقد مؤتمران للقمة، الأول في بغداد في مايو والثاني في القاهرة في أغسطس.

4-   جميع مؤتمرات القمة التي عقدت خلال الفترة من 1982م، وحتى عام 2000 م، والتي بلغت ثمانية عشر عامًا كانت طارئة. ولأن دورات الانعقاد العادي للقمم لم تبدأ إلا عام 1964م، ثم توقفت عام 1981م، عقب فشل مؤتمر فاس ولم تستأنف من جديد إلا بعد تعديل الميثاق عام 2000م، لإلزام الدول العربية بدورية انعقاد القمم، فمعنى ذلك أن أغلبية مؤتمرات القمة التي انعقدت حتى عام 2000م، كانت في الواقع طارئة.

5-   بعد تنامي الدعوة لعقد مؤتمرات قمة لمعالجة قضايا "فنية" وتجاوب العديد من الدول العربية، بدأ التفكير في الدعوة لعقد مؤتمرات قمة تهتم بأمور أخرى غير القضايا السياسية المباشرة، خاصة الاقتصادية والاجتماعية، وتمكنت الجامعة بالفعل من عقد مؤتمرين للقمة تحت عنوان "القمم الاقتصادية والتنموية والاجتماعية"، الأول عقد في الكويت عام 2009م، والثاني عقد في الرياض عام 2013م. و تجدر الإشارة إلى أن مؤتمر القمة العادية المنعقد في عمان عام 1980م، ركز جل اهتمامه على القضايا الاقتصادية والاجتماعية، غير أن هذا الاهتمام ما لبث أن فتر ولم ينشط إلا منذ سنوات قليلة، أي بعد مرور أكثر من ربع قرن على انعقاد قمة عمان. كما أن تنامي ظاهرة الإرهاب أدى إلى ظهور دعوات تطالب بتخصيص قمم عربية لمناقشة القضايا الفكرية والثقافية.

نخلص من هذا الفحص الموجز لمسيرة انعقاد القمم العربية وملابسات انعقادها إلى مجموعة من الملاحظات نجملها على النحو التالي:

1-   لم تأخذ مؤتمرات القمم العربية شكل العمل المؤسسي المنظم لأسباب كثيرة، أهمها تفضيل معظم القادة العرب العمل من خلال مشاورات ثنائية أو جماعية محدودة تسمح بانتقاء نوعية محاوريهم، وعدم تحمسهم لمؤتمرات تشمل كافة الدول العربية وتعقد تحت مظلة الجامعة العربية، لاعتقادهم أن هذا النوع من المؤتمرات غالبًا ما يؤدي إلى تعميق الخلافات وليس حلها، ولشكوكهم في أن أطرافًا تسعى لتوظيفها لخدمة مصالح شخصية، ولا تتوافر لدى الجميع نوايا للالتزام بما يتخذ فيها من قرارات. ويلاحظ هنا أن الدول العربية لم تلتزم بمبدأ الدورية إلا بعد تعديل الميثاق عام 2000م، على الرغم من أن "مؤتمر القمة العربي الأول" (القاهرة 1964م) كان اتخذ قرارًا بدورية القمم. لكن من الواضح لا تتوافر حتى الآن أي ضمانات جدية بأن الدول العربية سوف تلتزم بدورية القمم العربية، بدليل ما أقدمت عليه المغرب مؤخرًا. وذلك يدل على خلل في بنية النظام العربي يتعين تصحيحه.

2-   لعبت التطورات الدولية والإقليمية في كل مرحلة دورًا حاسمًا في التأثير على القمم العربية، سواء من حيث القابلية للالتئام أصلًا أو من حيث فاعلية ما قد يتخذ فيها من قرارات، ولم يتراجع تأثير هذه التطورات نسبيًا إلا بعد إقرار دورية القمم العربية عام 2000م، ومع ذلك يصعب إنكار حقيقة مهمة وهي أن الدول العربية كثيرًا ما كانت تنسى خلافاتها وتسارع بتلبية دعوات القمة في كل مرة تتعرض فيها أي من الدول الأعضاء لمخاطر خارجية. والأمثلة كثيرة: فقد سارعت الدول الأعضاء بتلبية دعوة الملك فاروق لعقد قمة عربية في أنشاص عام 1946م، لمواجهة الأخطار الصهيونية المتزايدة على الشعب الفلسطيني، وتلبية دعوة الرئيس اللبناني لعقد قمة عربية في بيروت عام 1956م، لبحث مواجهة العدوان الثلاثي على مصر، وتلبية دعوة الرئيس السوداني لعقد قمة عربية في الخرطوم لبحث نتائج العدوان الإسرائيلي على ثلاث دول عربية عام 1967م.

3-    لعبت الأوضاع الداخلية المأزومة في الدول العربية، سواء في الماضي أو في الحاضر، دورًا مهمًا احيانًا لتهيئة ظروف استدعت الدعوة إلى انعقاد قمم عربية. ففي الماضي دعا الرئيس عبد الناصر إلى عقد قمة عربية في القاهرة عام 1970م، لبحث النتائج المترتبة على أحداث "أيلول الأسود" في الأردن، كما دعا العاهل السعودي لعقد قمة عربية في الرياض عام 1976م، لبحث تطورات الحرب الأهلية في لبنان..الخ. وفي الحاضر ترتب على اندلاع "ثورات الربيع العربي" اشتعال حروب أهلية عجزت مؤسسات العمل العربي المشترك، بما فيها القمم العربية، عن إيجاد حلول عربية خالصة لها، مما فتح المجال أمام تغلغل القوى الإقليمية والدولية في الشؤون الداخلية للدول العربية، وأسفرت في حالات معينة عن تجميد عضوية بعض الدول التي تشكلت فيها حكومات متعددة تدعي كل منها أحقيتها في تمثيل الدولة في جامعة الدول العربية، مما أضعف من هيبة الجامعة العربية عامة، ومؤتمرات القمة خاصة.

الخلاف بين الفقهاء العرب حول تكييف الوضع القانوني لمؤتمرات القمة العربية التي عقدت قبل عام 2001م، ظل محتدمًا لفترة طويلة. فهناك من اعتبرها اجتماعات مجلس جامعة على مستوى القمة، وهناك من اعتبرها مجرد مؤتمرات دبلوماسية منفصلة وقائمة بذاتها، وهو الخلاف الذي لم يحسم فعليًا إلا بعد تعديل الميثاق وتقنينه لوضع القمم العربية كأعلى سلطة في هيكل الجامعة. فبموجب هذا التعديل أصبحت مؤتمرات القمة العربية، حكمًا، اجتماعات دورية لمجلس الجامعة على مستوى القمة. ولأن أغلبية القمم العربية التي عقدت قبل عام 2000م، كانت طارئة خصصت لمناقشة أزمات بعينها ولاتخاذ الإجراءات اللازمة لمواجهة تلك الأزمات أو العمل على إيجاد حلول لها، وليس لمتابعة تنفيذ برامج وأنشطة مؤسسات الجامعة كما يفترض أن يكون حال مؤتمرات القمة الاعتيادية، فقد انصبت معظم القرارات التي اتخذتها على معالجة الأعراض الظاهرة للأزمات التي استدعت انعقادها، ولم يتسع جدول أعمالها لبحث مجمل الأوضاع العربية أو لمناقشة جذور هذه الأزمات ومعالجة الأسباب التي أدت إلى ظهورها.

ويشير الفحص لملابسات انعقاد القمم العربية، الطارئة والعادية، ولجدول أعمالها، ولمجمل قراراتها، إلى أن القمم التي عقدت منذ تأسيس الجامعة وحتى عام 2000م، فرضتها أزمات اختلفت طبيعتها من مرحلة إلى أخرى، وكان يتعين عليها، خصوصًا بعد أن تحولت إلى اجتماعات سنوية منتظمة أن تؤدي إلى تطوير مؤسسات العمل العربي المشترك في مختلف المجالات وفقًا لخطط زمنية مدروسة، وهو ما لم يحدث.

وأيًا كان الأمر، فقد غطت قرارات القمم العربية، سواء ما عقد منها قبل عام 2000م، أو بعده، قضايا كثيرة يمكن تصنيفها إلى أربع مجموعات رئيسية:

المجموعة الأولى: تتعلق بالقضايا ذات الصلة بالجوانب المتعلقة بالصراع العربي-الإسرائيلي. فقد انعقدت أول قمة في أنشاص 1946م، للتعامل مع تطور المشروع الصهيوني قبل قيام الدولة الإسرائيلية. وبعد قيام إسرائيل ودخولها في حروب ومواجهات مسلحة، سواء ضد الدول العربية أو المنظمات التي رفعت شعار المقاومة المسلحة في مراحل مختلفة، انعقدت العديد من مؤتمرات القمة للتعامل مع نتائج هذه المواجهات. وعندما بدأت دول ومنظمات عربية بعينها، كمصر والأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية، تدخل في تسويات سياسية منفردة مع إسرائيل، انعقدت مؤتمرات قمة عديدة للتعامل مع ردود الفعل العنيفة التي أثارتها هذه التسويات. فإذا أضفنا أن قضية تمثيل الشعب الفلسطيني، وما أثارته من خلافات عربية حادة، كانت بين الموضوعات العديدة التي عالجتها قمم عربية خاصة أو تناولتها قرارات عديدة، لأدركنا أن القضية المتعلقة بالصراع العربي الإسرائيلي، والقضية الفلسطينية، هيمنت على أنشطة وغالبية قرارات القمم العربية.

المجموعة الثانية: تتعلق بالقضايا والموضوعات ذات الصلة بالأزمات التي اندلعت بين دولة عربية أو أكثر، من ناحية، ودول أو قوى غير عربية، من ناحية أخرى، أو بسبب التدخلات الخارجية في الشؤون العربية. وهناك أمثلة عديدة لأزمات يمكن تصنيفها ضمن هذه المجموعة: كالعدوان الثلاثي على مصر عام 1956م، واحتلال إيران للجزر الإماراتية عام 1972م، والحرب العراقية الإيرانية خلال الفترة 1980ـ 1988م..الخ. كما يدخل ضمن هذه المجموعة بعض الأزمات المرتبطة باتهامات عربية لإيران بسبب تدخلها في الشؤون الداخلية للدول العربية، خاصة في العراق وسوريا ولبنان واليمن والبحرين وغيرها. وقد عقدت قمم عربية خاصة أو صدرت قرارات تتعلق بهذه القضايا أو بعضها من قمم عربية دورية.

المجموعة الثالثة: تتعلق بخلافات أو منازعات عربية-عربية تطور بعضها إلى صراعات مسلحة. كالصراع المسلح الذي اندلع بين المغرب والجزائر في بداية الستينات، أو الصراع المسلح الذي اندلع بين النظام الأردني والمقاومة الفلسطينية في سبتمبر 1970م، أو الحرب والصراعات المسلحة بين اليمن الشمالي واليمن الجنوبي قبل وبعد الوحدة، أو الحرب الأهلية في لبنان ..الخ. وقد عقدت قمم عربية خاصة وأصدرت قرارات لمعالجة بعض أو كل هذه المنازعات.

المجموعة الرابعة: تتعلق بالقضايا التي تتناول التعاون والتكامل العربي، وكذلك الموضوعات التي تتناول إصلاح الجامعة أو تطوير مؤسسات العمل العربي المشترك. وقد انعقدت قمم خاصة أو صدرت قرارات من قمم دورية لمعالجة بعض أو كل هذه القضايا.

ونظرًا لصعوبة رصد وتحليل كافة القرارات التي صدرت عن كل القمم العربية حول جميع القضايا التي أدرجت على جداول أعمالها، فسنكتفي بتحليل ما صدر منها حول مجموعة واحدة وهي القضايا المتعلقة بالصراع العربي الإسرائيلي. وقع اختيارنا على هذه المجموعة بالذات لأن القضايا المتعلقة بالصراع العربي الإسرائيلي شكلت محور الاهتمام الرئيسي لنشاط الجامعة عامة والقمم العربية خاصة.

 ثانيًا: رؤية تحليلية لفاعلية القمم العربية - القضية الفلسطينية نموذجًا:

تصدرت القضية الفلسطينية جدول أعمال الجامعة العربية منذ اللحظة الأولى لإنشاء الجامعة. فقد كانت حاضرة بقوة أثناء المشاورات التمهيدية حيث أشار إليها "بروتوكول الإسكندرية" عام 1944م، كما كانت حاضرة أثناء المفاوضات التأسيسية حيث أفرد الميثاق ملحقًا خاصًا بفلسطين لضمان مشاركة مندوب عنها في أنشطة الجامعة ومنح حق المشاركة في التصويت على مشروعات القرارات ذات الصلة بالقضية الفلسطينية، ومن أجلها انعقد في أنشاص عام 1946م، أي بعد عام واحد من تأسيس الجامعة العربية، أول مؤتمر قمة عربي. ولأنها ظلت حاضرة في جميع المؤتمرات اللاحقة للقمم، يكفي أن نعقد مقارنة بسيطة بين ما كانت عليه فلسطين حين انعقد أول مؤتمر قمة عربي في أنشاص وما هي عليه الآن، لندرك حجم الإخفاق الذي منيت به القمم العربية في تعاملها مع قضية العرب الأولى أو المركزية، كما يقال دائمًا.

ولتوضيح أسلوب القمم العربية في التعامل مع القضية الفلسطينية وإدارة الصراع مع إسرائيل منذ انعقاد أول قمة عربية طارئة عام 1946م، وحتى الآن، ورصد ما طرأ على هذا الأسلوب من تغير بسبب التطورات المحلية والإقليمية والدولية، يفضل تقسيم هذه الفترة الممتدة إلى مرحلتين: مرحلة المواجهة، ومرحلة التسويات المنفردة.

1-   مرحلة المواجهة والصمود:

حين انعقدت أول قمة عربية طارئة في أنشاص نهاية مايو عام 1946م، تلبية لدعوة الملك فاروق، لم تكن القضية الفلسطينية قد شقت طريقها بعد إلى ساحة الأمم المتحدة التي كانت في طور التأسيس، غير أن التطورات على الأرض الفلسطينية كانت تنذر بانفجار وشيك. وقد لبت جميع الدول الأعضاء في الجامعة، والتي لم يكن قد مر على إنشائها أكثر من عام، دعوة الملك فاروق على الفور. ويلاحظ أنه لم يصدر عن هذه القمة بيان ختامي، لكن صدرت مجموعة القرارات أهمها: 1- التزام الدول الأعضاء بمساعدة الشعوب العربية المستعمرة على نيل استقلالها. 2-النظر إلى فلسطين باعتبارها قطر لا ينفصل عن باقي الأقطار العربية والتعامل مع قضية الشعب الفلسطيني باعتبارها "قلب القضايا القومية" 3-مواجهة الصهيونية، باعتبارها خطر ليس على فلسطين وحدها وإنما على جميع البلاد العربية والإسلامية 4-الدعوة إلى وقف الهجرة اليهودية وقفا تامًا، ومنع تسرب الأراضي العربية إلى أيدي الصهاينة، والعمل على تحقيق استقلال فلسطين. 5- اعتبار أي سياسة عدوانية موجهة ضد فلسطين تأخذ بها حكومتا أمريكا وبريطانيا هي سياسة عدوانية تجاه كافة دول الجامعة العربية. 6- الدفاع عن كيان فلسطين في حالة الاعتداء عليه. 6- مساعدة عرب فلسطين بالمال، وبكل الوسائل الممكنة.

 يلفت النظر هنا أن قرارات قمة أنشاص لم تكن مجرد حبر على ورق، بدليل التزام جميع الدول العربية برفض مشروع تقسيم فلسطين اثناء مناقشته في الجمعية العامة للأم المتحدة عام 1947م، ثم بتدخل جيوشها عسكريًا فور إعلان قيام دولة إسرائيل من جانب واحد. ورغم أن قرار التدخل العسكري، والذي استهدف مساعدة الشعب الفلسطيني، إلا إن إدارة المعارك لم تكن على المستوى المطلوب، وافتقدت للحد الأدنى من التخطيط والتنسيق، وعكست تباين دوافع وأهداف الدول العربية من وراء المشاركة في حرب 1948م، والتي انتهت بهزيمة عربية مكنت إسرائيل ليس فقط من تثبيت أقدامها في المنطقة وإنما أيضًا من الهيمنة على مساحة من الأراضي الفلسطينية تبلغ ضعف ما كان مخصصًا لها في قرار التقسيم، وأجبرت الدول العربية المجاورة على توقيع اتفاقيات هدنة عام 1949م. الأخطر من ذلك أن ما تبقى من فلسطين التاريخية انقسم إلى جزأين غير متصلين جغرافيًا، أحدهما يتاخم إمارة شرق الأردن، وهو الضفة الغربية، والآخر يتاخم مصر وهو قطاع غزة. وبدمج الضفة الغربية وإمارة شرق الأردن في دولة حملت اسم "المملكة الأردنية الهاشمية" ووضع قطاع غزة تحت سلطة الإدارة المصرية، توارت "القضية الفلسطينية" من جدول أعمال الجامعة العربية وحل محلها ما أصبح يعرف باسم "الصراع العربي – الإسرائيلي".

رغم خطورة ما جرى عقب قمة أنشاص، إلا أن أحدًا من القادة العرب، وعلى مدى عشر سنوات كاملة، لم يفكر في الدعوة لعقد قمة تتبنى استراتيجية عربية موحدة لإدارة هذا "الصراع". وحين تعرضت مصر لعدون مسلح عام 1956م، انعقدت قمة بيروت الطارئة وصدر عنها بيان تضمن "مناصرة مصر ضد العدوان الثلاثي"، ولم يرد لإسرائيل ذكر بالاسم في هذا البيان، وتعين الانتظار عشر سنوات أخرى قبل أن تنعقد قمة عربية جديدة. أما المناسبة هذه المرة فكانت الرد على الخطط الإسرائيلية الخاصة بتحويل مياه نهر الأردن.

بدت قمة القاهرة التي انعقدت في مقر الجامعة العربية في يناير عام 1964م، بناء على اقتراح الرئيس عبد الناصر، مختلفة عما سبقها، حيث حاولت وضع تصور جماعي لعمل عربي مشترك يتحرك وفقًا لخطة مدروسة طويلة الأمد. فقد عكست القرارات الصادرة عن هذه القمة رغبة في التحرك على أربعة محاور:

المحور الأول: يتعلق بتصفية الخلافات العربية لتوحيد الجهود لمواجهة الخطر الإسرائيلي على كافة الصعد.

 المحور الثاني: يتعلق بوضع خطط مشتركة لمواجهة مشروعات إسرائيل الخاصة بتحويل مجرى نهر الأردن. وقد أقرت القمة إنشاء "هيأة عربية لاستغلال مياه نهر الأردن"، لها شخصية اعتبارية و "قيادة عسكرية عربية موحدة" للرد على أي استفزازات إسرائيلية.

المحور الثالث: يتعلق بتنظيم صفوف الشعب الفلسطيني لتمكينه من تحرير وطنه وتقرير مصيره في المستقبل. وفي هذا السياق أقرت القمة تفويض السيد أحمد الشقيري للقيام بهذه المهمة.

 المحور الرابع: يتعلق بمأسسة العمل العربي المشترك وتمكين مؤسساته من متابعة المستجدات واتخاذ ما يلزم من قرارات للرد على ما قد تطرحه من تحديات. وقد تم الاتفاق على دورية القمة وعلى ضرورة عقدها مرة واحدة على الأقل كل عام، على أن يكون الاجتماع المقبل في الإسكندرية.

 وتطبيقًا لهذه القرارات، انعقد مؤتمر القمة العربي الثاني في الاسكندرية بالفعل بداية سبتمبر 1964م، وتبنى "خطة عمل عربي جماعي لتحرير فلسطين عاجلا أو آجلا"، وتقرر البدء في "تنفيذ مشروعات استغلال مياه نهر الأردن وحمايتها عسكريًا"، ووافق على قيام "منظمة التحرير الفلسطينية ودعم قرارها بإنشاء جيش التحرير الفلسطيني". واستمرت قوة الدفع في العام التالي، فانعقدت قمة عادية ثالثة بالدار البيضاء في سبتمبر 1965م، شهدت التوقيع على "ميثاق التضامن العربي"، وأعلن الزعماء العرب التزامهم بدعم منظمة التحرير الفلسطينية وجيش التحرير الفلسطيني التابع لها، ووعدوا بدراسة مطلبها الخاص بإنشاء مجلس وطني فلسطيني، وأقروا "خطة عربية موحدة للدفاع عن قضية فلسطين في الأمم المتحدة والمحافل الدولية، ومواصلة استثمار مياه نهر الأردن وروافده طبقًا للخطة المرسومة.

غير أن الرياح أتت بما لا تشتهي السفن. فقد بدأت مزايدات بين الأنظمة العربية حالت دون الالتزام بدورية القمة. لذا لم تنعقد قمة عربية عام 66، وأفضت المزايدات إلى توريط مصر في حرب لم تكن مستعدة لها، انتهت بهزيمة عربية قاسية مكنت إسرائيل ليس فقط من استكمال احتلال بقية فلسطين التاريخية، وإنما احتلال الجولان وسيناء، وفرضت تغييرا جوهريا في الاستراتيجية العربية في مواجهة إسرائيل بعد أن تواضع هدفها، مرحليا على الأقل، من "تحرير فلسطين" إلى "إزالة آثار العدوان"، ولم تعد هناك دولة عربية واحدة تتحدث رسميًا عن هدف إقامة دولة فلسطينية على كامل التراب الوطني الفلسطيني باعتباره هدفًا قابلًا للتحقيق على أرض الواقع.

لم يستسلم عبد الناصر للهزيمة، وساعد صموده على بقاء العمل العربي المشترك حيًا إلى حد ما، وهو ما انعكس في قمة الخرطوم التي عقدت في أغسطس عام 1967م، واشتهرت بلاآتها الثلاث (لا اعتراف بإسرائيل، ولا تفاوض معها، ولا صلح)، وبالتزام الدول المصدرة للنفط بدعم مادي لدول المواجهة لتعظيم قدرتها على الصمود. ومع تصاعد حرب الاستنزاف على الجبهة المصرية وتزايد نشاط المقاومة الفلسطينية المسلحة على الجبهة الأردنية، بدأت تظهر خلافات عربية حول أنسب الاستراتيجيات العربية المطلوبة لمواجهة إسرائيل، مما تعذر عقد قمة عربية في عام 68، وحين التأمت قمة الرباط عام 1969م، جرت محاولة لبلورة استراتيجية تعكس الحد الأدنى من التوافق العربي، لكن القمة انفضت دون بيان ختامي، ولم تعقد القمة التالية إلا عقب اندلاع اشتباكات عنيفة بين الجيش الأردني والمقاومة الفلسطينية في سبتمبر عام 1970م. ورغم نجاح قمة القاهرة، والتي كانت آخر قمة يشارك فيها عبد الناصر الذي رحل في احتواء النزاع الأردني الفلسطيني وفي عقد مصالحة بين ياسر عرفات والملك حسين، إلا أن القمم العربية لم تستأنف إلا بعد حرب أكتوبر 1973م.

ستظل حرب أكتوبر هي أنجح المواجهات العسكرية التي خاضها العرب ضد إسرائيل. ففيها وصل التضامن العربي ذروته، خاصة استخدام النفط فعلا كسلاح في المعركة. ومن المفارقات أن هذا التضامن لم ينجم عن جهد بذلته قمم عربية بقدر ما كان نتاجًا لتنسيق ثنائي بين مصر وسورية على الصعيد العسكري، وبين مصر والسعودية، على الصعيدين السياسي والنفطي. لكن هذا التضامن العربي لم يصمد طويلا رغم نجاحه غير المسبوق، إذ ما لبثت الخلافات العربية أن اشتعلت حول مجموعة من القضايا، أهمها: استراتيجية التعامل مع إسرائيل لتحقيق هدف "إزالة آثار العدوان"، ومن يمثل الفلسطينيين في أي تسوية سياسية محتملة. ورغم نجاح منظمة التحرير الفلسطينية في الحصول من قمة الرباط عام 1974م، على قرار يعتبرها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، إلا أن الخلافات العربية ما لبثت أن تعمقت، خاصة بعد اندلاع حرب أهلية في لبنان عام 1976م، وكانت المنظمة طرفًا فيها. وقد جرت محاولة لاحتواء هذه الخلافات في قمة الرياض الطارئة التي استهدفت وقف الحرب الأهلية في لبنان ثم في قمة القاهرة العادية عام 1976م، لكن هذه المحاولة باءت بالفشل بسبب وصول العالم العربي إلى نقطة تحول في إدارة الصراع مع إسرائيل. فما هي إلا أشهر قليلة حتى بدأ السادات في عقد اتصالات سرية مع إسرائيل، حتى من قبل أن يعلن قراره بزيارة القدس عام 1977م، وهي الاتصالات التي قادته للتوقيع على اتفاقيتي كامب ديفيد عام 1978م، ثم على معاهدة سلام منفردة مع إسرائيل عام 1979م.

2-   مرحلة التسويات المنفردة:

تناقضت السياسة التي انتهجها الرئيس السادات في أعقاب حرب أكتوبر، فيما يتعلق بالعلاقة مع إسرائيل، مع السياسة التي وضعت جامعة الدول العربية أسسها منذ نشأتها. ولأن القمم العربية أرادت أن تظل متسقة مع مواقفها التقليدية، فقد عبرت قمة بغداد عام 1978م، عن رفضها التام لاتفاقيتي كامب ديفيد ودعت مصر "إلى العودة عنهما"، كما دعت إلى "توحيد الجهود العربية لمعالجة الخلل الاستراتيجي العربي" الناجم عن خروج مصر من معادلة الصراع العسكري مع إسرائيل، وإلى "دعم الجبهة الشمالية والشرقية ومنظمة التحرير الفلسطينية"، وأعادت تأكيد موقفها الذي يحظر "عقد صلح منفرد"، ولم تتردد في اتخاذ قرار بنقل مقر الجامعة من القاهرة وتجميد عضوية مصر فيها و"تطبيق قوانين المقاطعة على الشركات والأفراد المتعاملين في مصر مع إسرائيل والتمييز بين الحكومة والشعب" وهو الموقف الذي أعادت قمة تونس المنعقدة عام 1979م، التأكيد عليه. ورغم تعرض عملية التسوية التي بدأتها مصر للاهتزاز، خاصة بعد اغتيال الرئيس السادات عام 1981م، وإقدام إسرائيل على غزو لبنان عام 1982م، وطرد منظمة التحرير الفلسطينية وارتكاب مذابح مروعة في مخيمي صابرا وشاتيلا، إلا أن فشل القمم العربية في بلورة استراتيجية بديلة أكثر مصداقية في إدارة الصراع مع إسرائيل، وتفكك "جبهة الصمود والتصدي" عقب دخول العراق في حرب مع إيران.

كان لافتا عدم تمكن الجامعة من عقد أي قمم عادية خلال الفترة من عام 1982م، وحتى عام 2000م، فجميع القمم التي عقدت خلال تلك الفترة، والتي بلغ عددها 12 مؤتمرًا، كانت طارئة، وجرت خلالها محاولة لطرح "مشروع عربي للسلام" على أساس "انسحاب إسرائيل من جميع الأراضي العربية التي احتلتها عام 1967م، وإزالة المستعمرات في الأراضي المحتلة، وقيام دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس، وتأكيد حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، وتعويض من لا يرغب بالعودة" (فاس: 1982م) غير أن إسرائيل لم تعر هذا المشروع أي اهتمام، لا في حينه ولا بعد إعادة طرحه مرة أخرى في قمة بيروت عام 2002م، لذا لم يكن غريبًا أن تسفر التفاعلات العربية المتناقضة عن تآكل تدريجي للمواقف العربية الداعية لاستمرار المواجهة مع إسرائيل، وبالتالي إلى تحرك عربي جماعي للعودة إلى مصر، وليس العكس.

فقد اتخذت قمة عمان عام 1987م، قرار يؤكد أن "العلاقات الدبلوماسية بين أي دولة عضو في الجامعة العربية وبين مصر هو من أعمال السيادة تقررها كل دولة بموجب دستورها وقانونها"، فاتحة بذلك الطريق أمام تطبيع العلاقات الثنائية بين مصر وبين من يرغب من الدول العربية، ثم أمام مشاركة مصر في قمة الدار البيضاء عام 1989م. وكان لافتًا للنظر أن تعقد أول قمة في القاهرة بعد عودة الجامعة إلى مقرها الدائم في نفس العام الذي أقدم فيه العراق على غزو الكويت، وأن تجيز هذه القمة مشاركة قوات عسكرية عربية في التحالف الدولي الذي فوضه مجلس الأمن باستخدام القوة العسكرية ضد العراق. ولا شك أن حرب "تحرير الكويت" فتحت الطريق أمام انعقاد مؤتمر مدريد عام 1991م، الذي شاركت فيه جميع الدول العربية جنبًا إلى جنب مع إسرائيل، ولأول مرة في تاريخ الصراع، بحثًا عن تسوية سياسية للصراع العربي الإسرائيلي. وكان ذلك إيذانًا بأن صفحة المواجهة المسلحة مع إسرائيل قد طويت رسميًا. وبعد هذا التطور توقفت مؤتمرات القمة العربية تمامًا لست سنوات.

ما إن بدأت التوجهات الرسمية العربية تميل نحو تسوية سياسية مع إسرائيل، أدرك الشعب الفلسطيني أنه لم يعد أمامه سوى الاعتماد على قواه الذاتية. ولأن المقاومة المتصاعدة في جنوب لبنان راحت تحقق انتصارات لافتة تشد من أزر الشعب الفلسطيني، وانطلقت انتفاضة شعبية فلسطينية كبرى، ومن زخم هذه الانتفاضة ولدت حركة (حماس)، وأخذ نفوذها يتعاظم بسرعة. ومع ذلك فقد عجلت التأثيرات السلبية الناجمة عن تفاعلات الغزو العراقي للكويت باندفاع منظمة التحرير الفلسطينية نحو مسار التسوية والتوقيع على اتفاق أوسلو عام 1993م، وتبعتها الأردن بالتوقيع على "اتفاق وادي عربة" عام 1994م. وقد اسهمت هذه التطورات على الساحتين الفلسطينية والأردنية في تمهيد الطريق أمام حماس لتظهر بمظهر القوة البديلة الأكثر تمثيلًا للشعب الفلسطيني والأقدر على طرح مشروع مقاوم بديل للنهج الذي سلكته منظمة التحرير الفلسطينية، خصوصًا بعد أن دخلت اتفاقية أوسلو في مأزق خطير عقب فشل المحاولة التي قام بها كلينتون عام 2000 م، قبل شهور من نهاية ولايته الثانية.

من المفارقات أن المقاومة اللبنانية حققت انتصاراتها في نفس العام الذي تأكد فيه انهيار عملية أوسلو لتسوية القضية الفلسطينية عام 2000م، لذا فعندما عادت القمم العربية لاستئناف اجتماعاتها الدورية العادية اعتبارًا من عام 2001م، وجد القادة العرب أنفسهم في مأزق حقيقي فيما يتعلق بالقدرة على التعامل مع القضية الفلسطينية. ولأن الدول العربية بدت عاجزة عن دفع عملية التسوية، بسبب تعنت إسرائيل ورفضها الحد الأدنى للحقوق العربية، كذلك عدم قدرة هذه الدول في الوقت نفسه على دعم استراتيجية المقاومة المسلحة في مواجهة إسرائيل بسبب تكلفتها السياسية الباهظة، فقد بدأت القمم العربية تدخل مأزقا في تعاملها مع متطلبات إدارة الصراع مع إسرائيل. ولم يكن أمام القادة العرب للخروج من هذا المأزق سوى وعود بتقديم معونات مالية سخية مثل تلك التي قدمت في قمة شرم الشيخ عام 2000م.

          عادت القمم العربية لانتظام في اجتماعات دورية خلال الفترة من 2001-2015م، فيما عدا عام 2011م، غير أن أحداثا عديدة حالت دون تمكنها من إحداث نقلة نوعية تمكنها من تبنى استراتيجية فاعلة سواء لدعم المقاومة أو للتوصل إلى تسوية تستجيب للحد الأدنى من الحقوق العربية. من هذه الأحداث: 1-تعنت إسرائيل وحرصها على فرض تسوية بشروطها، وحصار ياسر عرفات وانتهاء باغتياله بالسم، وإصرارها على سحق المقاومة في أي بلد عربي، بدليل شنها حروبا متتالية على المقاومة اللبنانية (2006م) وعلى حماس والجهاد في قطاع غزة (2008/2009 و2012م) وفرض حصار على قطاع غزة بعد حصول حماس على أغلبية برلمانية ثم سيطرتها منفردة على قطاع غزة. 2- إقدام أمريكا على غزو واحتلال العراق عام 2003م، وما نجم عن ذلك من تدمير لمؤسسات الدولة وإعادة بنائها على أسس طائفية مكنت النفوذ الإيراني من التغلغل فيها والسيطرة عليها 3- اغتيال رفيق الحريري رئيس وزراء لبنان، وما تبع ذلك من توتر في العلاقات السورية اللبنانية، وخلخلة في التوازنات الداخلية اللبنانية 4- هبوب "ثورات الربيع العربي" وما أدت إليه من سقوط رؤوس الأنظمة الحاكمة في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن، واندلاع حروب أهلية في سوريا وليبيا واليمن وتحولها إلى دول فاشلة 5- تعاظم نفوذ الجماعات الإرهابية، وتمكن بعضها، مثل داعش.

كان من الطبيعي في ظل أحداث على هذا القدر من الخطورة أن يفتر اهتمام القمم بالقضية الفلسطينية وبحقوق الشعب الفلسطيني، وأن تظهر مصادر أخرى للتهديد في المنطقة تبدو من وجهة نظر الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية أخطر على أمنها الوطني وعلى الأمن القومي العربي من إسرائيل نفسها.

 

خاتمة:

          تعكس قرارات القمم العربية تجاه القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي طبيعة الخلل البنيوي في مؤسسات الجامعة العربية. ويمكن التمييز هنا بين أربع مجموعات من هذه القرارات عكست اختلاف الأهداف التي سعت الجامعة العربية لتحقيقها عبر مسيرتها الطويلة:

ففي مرحلة أولى، امتدت من تأسيس الجامعة العربية عام 1945م، وحتى إبرام اتفاقيات هدنة مع إسرائيل عام 1949م، كان الهدف تمكين الشعب الفلسطيني من الحصول على استقلاله والحيلولة دون قيام دولة يهودية في فلسطين تعزل المشرق العربي عن مغربه، وبدت الدول الأعضاء على استعداد للذهاب إلى أقصى مدى من أجل تحقيقه، بما في ذلك المشاركة في عمل عسكري، وهو ما عكسته قرارات قمة أنشاص. غير أن الدول العربية اندفعت للقتال وفق أجندات خاصة، بدون خطة مشتركة أو قيادة ميدانية موحدة فهزمت عسكريا واضطرت للتوقيع على اتفاقية للهدنة كان لها نتائج سياسية لم تنجح الجامعة العربية في التعامل معها بالجدية الواجبة.

وفي مرحلة ثانية، امتدت من هدنة 1949م، وحتى نهاية حرب 1973م، ظل الموقف الجماعي العربي الرسمي رافضًا للاعتراف بإسرائيل أو التفاوض أو الصلح معها ومطالبًا بحصول الشعب الفلسطيني على حقوقه. غير أن الجامعة العربية افتقرت مرة أخرى لاستراتيجية جماعية فاعلة، سواء للتوصل إلى تسوية سياسية متوازنة أو للمواجهة الشاملة. لذا بدت الدول العربية خلال هذه المرحلة أكثر ميلا للمحافظة على الأمر الواقع بما في ذلك استمرار سيطرة الأردن ومصر على أجزاء من فلسطين بدعوى الاحتفاظ بها كأمانة إلى أن يتم تحرير الجزء الذي تحتله إسرائيل، واقتصر الهدف العربي خلال تلك المرحلة على محاولة عزل إسرائيل ومنعها من التوسع، وهو ما بدا واضحًا من مبادرة عبد الناصر بالدعوة إلى قمة عربية دورية لمواجهة مشروعات إسرائيل لتحويل نهر الأردن. ورغم وقوع عدة حروب أو مواجهات عسكرية مع إسرائيل في تلك الفترة أعوام 1956 و1967 و1968-1970 و1973م، إلا أن أيا من هذه الحروب أو المواجهات لم يكن عربيًا إسرائيليًا بالمعنى الحقيقي، أي نتاج قرار عربي جماعي للدفاع أو للمواجهة. وبعد هزيمة 67 تقلص الهدف العربي من "تحرير كامل التراب الفلسطيني" إلى "إزالة آثار العدوان".

وفي مرحلة ثالثة، امتدت من نهاية حرب 73 وحتى نهاية عام 2000م، واتسمت بدخول العمل العربي الجماعي في مفترق طرق تعين عليه عنده أن يختار بين البحث عن تسوية تفاوضية أو استمرار المواجهة. ولأن السادات اختار أن يسير منفردًا على طريق التسوية، بينما اختارت بقية الدول العربية طريق المواجهة شكلا دون أن تمتلك وسائلها فعلا، فقد بدأ عقد النظام العربي في الانفراط ولم تفلح قرارات القمة العربية إلى إعادته إلى ما كان عليه قبل عام 1973م. لذا فحين قررت القمم العربية معاقبة مصر لم تدرك بما فيه الكفاية أنها بهذا القرار تضعف مصر وتضعف النظام العربي في الوقت نفسه، وحين قررت التراجع والعودة إلى مصر لم يتمكن الطرفان من استعادة خسائرهما ولم يكن لديهما رؤية واضحة للمستقبل. لذا راحت أوضاع النظام العربي تنتقل من سيء إلى أسوأ إلى أن أصبح مكشوفًا تمامًا حين تبين عجزه عن حماية الحد الأدنى من الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وهو ما بدا واضحًا تمامًا عبر فشل محاولة كلينتون سد الفجوة بين موقفي رابين وعرفات في كامب ديفيد 2000م.

وفي مرحلة رابعة، بدأت مع مطلع القرن الواحد و العشرين وما تزال مستمرة حتى الآن، يبدو العالم العربي وكأنه يصارع من أجل بقائه هو، وليس من أجل استعادة الحقوق الفلسطينية أو تنظيم إدارة الصراع مع إسرائيل. وكان قرار نتانياهو عقد جلسة رسمية لمجلس الوزراء الإسرائيلي في الجولان، وهو مطمئن تمامًا بأن العالم العربي أو غير العربي لن يجرؤ على الاعتراض أو الرد.

أخلص من هذا التحليل إلى أن جامعة الدول العربية تواجه مشكلة هيكلية تتعلق ببنيتها المؤسسية، وليس بنوعية أو بمدى إلزامية القرارات التي يتم التوصل إليها في القمم العربية. فالنظام الإقليمي العربي لا يستطيع أن يعمل إلا إذا توافرت له مؤسسات قادرة على التعامل بكفاءة وبالتزامن مع كافة القضايا التي تهم جميع الشعوب العربية وعلى كافة الأصعدة. وعلى سبيل المثال، فمن الصعب أن يدير النظام العربي بكفاءة صراعه مع إسرائيل أو يدافع عن حقوق الشعب الفلسطيني في غياب مجلس عربي للسلم والأمن الدوليين، و محكمة عدل عربية، و برلمان عربي يمتلك صلاحيات تشريعية حقيقية، ومجلس اقتصادي واجتماعي عربي لتنشيط المجتمع المدني في كل العالم العربي ..الخ. وفي غياب هذه المؤسسات الجماعية لن يكون بمقدور العالم العربي مواجهة أي من التحديات الداخلية أو الخارجية التي تواجهه، خصوصًا تلك التي تتعلق بقضية العرب المركزية وهي القضية الفلسطينية.

مجلة آراء حول الخليج