; logged out
الرئيسية / المبادئ المشتركة تخلق الثقة المتبادلة لتسهيل العمل المشترك التعاون العربي اللاتيني يعزز شراكة الجنوب- الجنوب ويحقق التنمية الشاملة والسلام

العدد 110

المبادئ المشتركة تخلق الثقة المتبادلة لتسهيل العمل المشترك التعاون العربي اللاتيني يعزز شراكة الجنوب- الجنوب ويحقق التنمية الشاملة والسلام

الأربعاء، 03 آب/أغسطس 2016

تهدف هذه الدراسة إلى عرض تطوّر التعاون بين بلدان الجنوب في السياسة الخارجية لدول أمريكا اللاتينية، بما في ذلك مقدمة عن التعاون الإقليمي مع الدول العربية والخليجية.

 

وفي القسم الأول، نلخص السياق الجيوسياسي (الجغرافي السياسي)، والذي انبثق عنه التعاون بين بلدان الجنوب والمبادئ التي توجّه آفاق هذا التعاون: وينصب اهتمامنا على فهم هذا النوع من التعاون باعتباره مرتبطًا بحركات النضال من أجل التحرر، واستغلال بلدان الشمال لبلدان الجنوب ولشعوبها على مر التاريخ.

 

وفي القسم الثاني، نناقش التوسع في مبادرات التعاون بين بلدان الجنوب في دول أمريكا اللاتينية، وتحديداً، على مدى الاثني عشرة سنة الماضية، عندما بدأت مجموعة من الحكومات التقدمية في أمريكا اللاتينية تنفيذ جدول أعمال سياسي طموح لتعزيز التضامن والدعم المتبادل، والذي يهدف إلى تعزيز تنمية إقليمية شاملة، وإلى السلام والديمقراطية. وفي هذا القسم، سوف نوضح البيانات المتعلقة بالأرجنتين والبرازيل، باعتبارهم لاعبين رئيسيين في التعاون بين بلدان الجنوب في أمريكا اللاتينية.

 

          وفي القسم الثالث، اخترنا أن نركز بشكل خاص على وصف الدور الهام لاتحاد دول أمريكا الجنوبية ((UNASUR، وشرح بعض تفاصيل تأسيسها والمبادرات الرئيسية التي قامت بها والتي توسعت بشكل كبير على مدى الخمس سنوات الماضية.

 

وفي القسم الرابع، نقوم بوصف الروابط التاريخية والجهود المشتركة لتعزيز قوى بلدان الجنوب على مستوى العالم بقيادة دول أمريكا اللاتينية والدول العربية والخليجية، وتحديداً مع تأسيس "منظمة البلدان المصدرة للنفط" (أوبك) والتجمع الذي يطلق عليه "قمة الدول العربية ودول أمريكا الجنوبية"  ((ASPA Summits، والتي جمعت كافة بلدان اتحاد دول أمريكا الجنوبية والدول الأعضاء بجامعة الدول العربية جنبًا إلى جنب، بهدف خلق ظروف سياسية، واجتماعية، واقتصادية تمكّن المنطقتين كلتيهما من تعزيز نفوذهما في ظل عالم متعدد الأقطاب سريع التغير.

 

1 – سياق التعاون بين بلدان الجنوب: التاريخ والمبادئ

 

يضرب التعاون بين بلدان الجنوب بجذوره بعيداً، إذ نجده في النضال المشترك ضد الاستعمار الذي فرضته الرأسمالية الغربية (بلدان الشمال). ولذلك، فقد كانت مبادئ وأنشطة التعاون بين بلدان الجنوب متأثرة بنماذج التحرر والتقدم نحو الاستقلال لشعوب وزعماء آسيا وإفريقيا والشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية.

 

وبحلول النصف الثاني من القرن الماضي، تكاتفت الدول والقيادات في تلك المناطق ووحدت سياساتها الخارجية والوطنية من أجل تحقيق رؤيتها في الاستقلال وتقرير المصير والمساواة والتنمية. ويُعتبر مؤتمر باندونغ معلمًا رئيسيًا في هذه العملية، كما يعد خطوة هامة أيضًا نحو تأسيس مجموعة الدول الأفرو آسيوية -وهي كتلة الدول النامية والتي تعرف حاليًا باسم مجموعة الـ 77 -والتي تشمل أيضًا بلدان أمريكا اللاتينية. وتعتبر مجموعة الـ 77 هي إحدى أهم المجموعات في الأمم المتحدة؛ إذ تهدف إلى تغيير الظروف الاجتماعية والسياسية التي تُبقي على بلدان الجنوب على مستوى العالم فقيرة وغير متطورة. وجدير بالذكر أنّ مؤتمر بوينس آيرس (الأرجنتين) في عام 1979م يعتبر منعطفًا هامًا ساعد في تنسيق وتكامل مُختلف الجهود لتعزيز التعاون بين البلدان النامية، وخلال هذا المؤتمر، تم اعتماد "خطة عمل بوينس آيرس" والتي قدمت مبادئ وتوصيات أكثر قوةً ووضوحًا للتعاون بين بلدان الجنوب.

 

وواجهت مبادرات التعاون بين دول الجنوب منذ سبعينيات القرن الماضي عدة انتكاسات بسبب الأحداث الجيوسياسية والاقتصادية. ومع ذلك، فقد زادت أهمية التعاون بين بلدان الجنوب خلال العقد الماضي، واتسعت مجالاته في جميع أنحاء دول أمريكا اللاتينية والعالم. ويرجع ذلك إلى عدة عوامل مختلفة، من ضمنها نمو اقتصاديات بلدان الجنوب على مستوى العالم، وبسبب تطبيق مجموعة من دول الجنوب لبعض السياسات النموذجية للتنمية الشاملة والديمقراطية والسلام، وكذلك الاتجاه العالمي نحو "تعدد الأقطاب"، على عكس نظام ما بعد الحرب الباردة.

 

ويمكن تقديم أحد التعريفات المُتفق عليها إلى حد ما بشأن التعاون فيما بين بلدان الجنوب على النحو التالي: "التقاسم الثنائي والمتعدد الأطراف للموارد والتكنولوجيا والمعرفة بين البلدان النامية، بهدف تعزيز وتحقيق التنمية عن طريق الاعتماد على أنفسهم كدول منفردة، وكذلك بوصفهم كتلة من الدول التابعة لدول الجنوب العالمي".

وخلال مؤتمر نيروبي، وافقت الدول على مبادئ التعاون التالية بين بلدان الجنوب (المبادئ المعيارية):

 أ) احترام السيادة الوطنية، ب) الشراكة بين الدول المتكافئة، ج) عدم فرض شروط , د) عدم التدخل في الشؤون الداخلية، هـ) المنفعة المتبادلة.

أمّا المبادئ التنفيذية المتفق عليها فكانت على النحو التالي:

 أ) المساءلة والشفافية المتبادلة، ب) فعالية التنمية، ج) تنسيق المبادرات القائمة على الأدلة والنتائج، د) تبني نهج تعدد أصحاب المصالح.

وعلى صعيد المبادئ التنفيذية، يعتبر أهم فرق بين التعاون بين بلدان الشمال وبلدان الجنوب من جهة، وبين التعاون فيما بين بلدان الجنوب وبعضها البعض من جهة أخرى، هو التصميم على ضمان احترام القيادة المحلية والوطنية، واحترام الملكية من خلال عدم فرض شروط للتعاون، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية. وتطمح بلدان الجنوب من خلال التزامها بالتعاون فيما بينها إلى التغلب على النماذج التنازلية والاستعلائية لبلدان الشمال، وذلك من خلال ضمان الحوار الأفقي والدعم المتبادل بين الشركاء على قدم المساواة.

2 – التعاون فيما بين بلدان الجنوب في منطقة أمريكا اللاتينية

 

في أمريكا اللاتينية، وصل التعاون بين بلدان الجنوب إلى درجة عالية من الدعم والتأييد على مدى الاثني عشر سنة الماضية، عندما قامت كثير من الحكومات التقدمية بصياغة جداول أعمال وطنية، وإقليمية، تتعلق بالسياسة الداخلية والخارجية. وتُعتبر البرازيل إحدى الدول الرئيسية على الصعيد العالمي ممن يطبق برامج التعاون بين بلدان الجنوب، وذلك مع الأرجنتين والمكسيك وكوبا، ومن حيث كمية ونوعية العمل المشترك الذي يتم بالتعاون مع الشركاء الجنوبيين.

 

وأكد "التقرير الخاص بالتعاون فيما بين بلدان الجنوب في الدول الأيبيرية -الأمريكية لعام 2015" -وهو تقرير يصدر سنويًا من قبل الأمانة العامة لمنظمة الدول الأيبيرية الأمريكية ويُحلل البيانات المُجَمَعَة من كل البلدان الأمريكية اللاتينية – على تعزيز الأنشطة والجهود المُكثفة للمنطقة فيما يخص التعاون بين بلدان الجنوب. ويشير التقرير إلى أنّه "خلال عام 2013م، قامت 19 دولة من أمريكيا اللاتينية بتنفيذ 576 مشروعًا و399 نشاطًا بموجب التعاون الأفقي الثنائي فيما بين دول الجنوب. ووفقًا للتقرير، استحوذت خمس دول يعملون كموردين على ما يقرب من 85٪ من جميع المشاريع في عام 2013م: البرازيل والأرجنتين (البرازيل 166 مشروعًا والأرجنتين 140 مشروعًا، أي ما يعادل أكثر من 50٪ من إجمالي المشاريع)، بالإضافة إلى المكسيك وتشيلي وأوروجواي بنسبة بلغت 10٪ لكل دولة، وهو ما يفيد استحواذهم على نسبة 30.9٪ أخرى من إجمالي 576 مشروعًا. بينما تتوزع حوالي 16% من النسبة المتبقية على تسع دول من بينها كوبا وكولومبيا (كوبا: 34 مشروعًا وكولومبيا: 30 مشروعًا). بينما نفذت بوليفيا وكوستاريكا والإكوادور والسلفادور وغواتيمالا وبيرو وفنزويلا (ما بين 1 و12 مشروع). ولم تلعب كل من باراغواي، جمهورية الدومينيكان وهندوراس ونيكاراغوا، دورًا فعّالاً كمورّدين في عام 2013 ".

 

وتقدر تدفقات المعونة البرازيلية بنحو 900 مليون دولار، تُوجه معظمها من خلال المنظمات الإقليمية والمنظمات متعددة الأطراف. وتركز البرازيل على أمريكا اللاتينية، ولاحقًا على آسيا وإفريقيا. وشهد هذا البلد زيادة كبيرة في ذلك النوع من الاستثمار من عام 2009م، فصاعدًا، وتحديدًا نتيجةً لدورها في حفظ السلام والعمليات الإنسانية بعد الزلزال الذي شهدته دولة هاييتي. ونظرًا لعدم الاستقرار السياسي في البرازيل حاليًا، بالإضافة إلى المشاكل الاقتصادية، فهناك توقعات أن يقل مستوى التعاون بين بلدان الجنوب. ويبدو أن انحياز الحكومة الحالية للتوجّهات السياسية للولايات المتحدة الأمريكية، له تأثيره أيضًا على تباطؤ استثمارات التعاون فيما بين بلدان الجنوب. وتعتبر البرازيل أحد الأعضاء التي تستثمر كمية هائلة من الموارد من خلال مصرف بريكس للتنمية.

 

وعلى عكس البرازيل، فإنّ الأرجنتين لا تنتج ولا تقدم بيانات الميزانية المُجمعة بشأن التعاون فيما بين بلدان الجنوب. ومع ذلك، فإن الأرجنتين هي ثاني دولة أمريكية لاتينية -بعد البرازيل -تهتم بهذا النوع من المبادرات. ففي عام 2009م، وضعت استراتيجية أكثر تكاملاً للتعاون بين بلدان الجنوب، أدت إلى زيادة الاستثمارات ورفع فعالية المبادرات الوطنية. كما، أنشأ مكتب وزارة الخارجية الأرجنتينية الصندوق الأرجنتيني للتعاون الثلاثي بين بلدان الجنوب، وهو الذي يقود تنظيم مشاريع التعاون بين بلدان الجنوب.

 

بموضوعية، يُسلط تقرير الأمانة العامة للمنظمة الأيبيرية الأمريكية الضوء على حجم مشاريع التعاون؛ ويُفيد أن ثلث المشاريع في أمريكا اللاتينية تتركز على تعزيز القدرات الاجتماعية - وتحديدًا في قطاع الصحة، بينما تتركز نسبة 30٪ على المشاريع الاقتصادية، بما في ذلك الزراعة، ومن اللافت أيضًا- وفقًا للتقرير-عدد المبادرات الموجهة نحو تعزيز السياسات العامة والإدارة، والتطور القانوني والقضائي، والأمن القومي والأمن العام وحقوق الإنسان.

 

وأخيرًا، أنه خلال العقد الماضي، شهد مجال التعاون الإقليمي تطورًا ضخمًا من خلال المؤسسات التي تم إنشاؤها حديثًا، بما يشمل "اتحاد دول أمريكا الجنوبية UNASUR " و"مجموعة دول أمريكا اللاتينية والكاريبي CELAC". ويشير التقرير المذكور إلى أهمية دور تلك التجمعات؛ حيث لعبت الآليات والمنظمات الإقليمية دورًا فيما لا يقل عن 92.0 % 96.4٪ من مبادرات التعاون بين بلدان الجنوب. وسوف نبحث في هذه المقالة بمزيد من التفصيل دور "اتحاد دول أمريكا الجنوبية UNASUR".

وفي ظل عالم يسوده عدم الاستقرار، ستترك الأحداث السياسية المتقلبة آثارها على سياسات التعاون بين بلدان الجنوب. لذا سيكون من الضروري رصد التطورات، أثناء بناء روابط أقوى بين تلك البلدان، ليكونوا مستعدين للتفاعل بصورة جماعية مع مختلف الفرص والتحديات.

 

3 – اتحاد دول أمريكا الجنوبية (UNASUR): مبادرة حاسمة للتعاون فيما بين بلدان الجنوب

 

شرعت حكومات دول أمريكا اللاتينية على مدى السنوات الاثني عشر الماضية في تعزيز علاقات إقليمية متينة تقوم على مبادئ التكافل فيما بين بلدان الجنوب. ولذلك، كان إنشاء اتحاد دول أمريكا الجنوبية إنجازًا هامًا في عملية التكامل الإقليمية تلك.

 

  • إنشاء اتحاد دول أمريكا الجنوبيةUNASUR

 

تم إنشاء اتحاد دول أمريكا الجنوبية في 23 مايو 2008م، في احتفال رسمي حضره جميع رؤساء دول أمريكا الجنوبية. وعلى الرغم من كونها مؤسسة حديثة، إلا أنها تتسم بالفعالية، ونظمت بعثات للوساطة في بعض النزاعات، ومراقبة الانتخابات، كما عملت على زيادة ميزانيتها من أجل الاستثمار في مشاريع البنية التحتية والتنمية الاجتماعية والاقتصادية.

 

وكان توقيع المعاهدة التأسيسية لاتحاد دول أمريكا الجنوبية تتويجًا للنقاشات التي بدأت في عام 2000م، من قبل الرؤساء السابقين، هوجو شافيز في (فنزويلا)، ونيستور وكريستينا كيرشنر (الأرجنتين)، ودا سيلفا (البرازيل) وفاسكيز (أوروغواي)، وهم الرؤساء الذين لعبوا دورًا رئيسيًا في التعبئة لإنشاء الاتحاد. ووفقا لتلك المعاهدة، فإنّ على اتحاد دول أمريكا الجنوبية السعي لأجل "بناء قيم المواطنة والهوية الأمريكية الجنوبية، وتعزيز تنمية حيز سياسي واجتماعي وثقافي واقتصادي ومالي وبيئي وهيكلي موحد في جميع أنحاء المنطقة"، وبالتالي المساهمة في "تعزيز وحدة دول أمريكا اللاتينية ودول البحر الكاريبي".

ويُعتبر مفهوم الذاكرة التاريخية أمرًا حيويًا لفهم الدور الذي يلعبه اتحاد دول أمريكا الجنوبية في التحول الديمقراطي والوساطة والتنمية والأمن في أمريكا الجنوبية. وفي العقد الأخير، فكرت بلدان أمريكا اللاتينية في الأحداث السابقة لأخذ العبرة، واتخاذ قرارات استراتيجية لا تقود المنطقة مرة أخرى للاعتماد سياسيًا واقتصاديًا على الولايات المتحدة الأمريكية، أو أي دولة من الدول المتقدمة ممن لديها مصلحة في فرض سيطرتها الجيو استراتيجية بالمنطقة. وكان اتحاد دول أمريكا الجنوبية تجسيدًا لعملية خلق هوية مؤسسية ترتبط بأفكار اللاعودة إلى ديكتاتورية الماضي والمعاناة التي نجمت عن الاستغلال والإقصاء السياسي والاقتصادي.

 

ولدور الأرجنتين أهمية جوهرية على المستوى الإقليمي، فعلى سبيل المثال، أصدرت محكمة وطنية قبل أسابيع حكماً لأول مرة يثبت أن هناك جمعية غير مشروعة في أمريكا اللاتينية، تم تأسيسها لإخفاء المعارضين السياسيين بغض النظر عن الحدود الوطنية -وهو التحقيق المُسمى "خطة كوندور" -وثبت أن أمريكا لعبت دورًا رئيسيًا في تقديم الدعم الإداري واللوجستي والمالي للأنظمة الديكتاتورية في أمريكا اللاتينية لاضطهاد وإبادة أولئك الذين تسميهم "بالإرهابيين". ولا يقتصر التدخل الأمريكي على دعمها الأخير للعديد من الحكومات الديكتاتورية: ففي الحقبة الزمنية من منتصف القرن التاسع عشر، وعام 1989م، غزت الولايات المتحدة كوبا، والدومينيكان، والسلفادور، وغرينادا، وهايتي، والمكسيك، ونيكاراغوا، وهندوراس وبنما وبورتوريكو. وظهرت في الآونة الأخيرة مجموعة من المشروعات البحثية التي تحقق في دور الولايات المتحدة في الدعم المباشر للإطاحة برؤساء دول أمريكا اللاتينية المُنتخبين ديمقراطيًا، بما يشمل فنزويلا (2002) وهندوراس (2009). وفي هذه البيئة، يُنظر أحيانًا إلى منظمة الدول الأمريكية (OAS)-التي تتألف من جميع بلدان قارتي أمريكا الشمالية والجنوبية، بما في ذلك الولايات المتحدة وكندا – باعتبارها بشكل أساسي، منظمة تمكّن الولايات المتحدة من تنفيذ سياساتها الخارجية. فعلى سبيل المثال، لا تضع واشنطن نفسها داخل هذه المنظمة في الموقف نفسه الذي تنتهجه بلدان أمريكا اللاتينية: فالولايات المتحدة لم تصدق على الوثيقة الأمريكية لحقوق الإنسان، التي تضع جميع البلدان الأعضاء في منظمة الدول الأمريكية تحت اختصاص محكمة البلدان الأمريكية لحقوق الإنسان لضمان الدفاع عن حقوق الإنسان في المنطقة. وفي هذا السياق، فإنّ المفاهيم التي تنتهجها دول أمريكا الجنوبية مثل "الاستقلال" و"المساعدات الإقليمية المتبادلة"، قد اكتسبت مزيدًا من القوة، حيث يشير اتحاد دول أمريكا الجنوبية باستمرار إلى نضال القادة من أجل الاستقلال مثل سيمون بوليفار وآخرين ممّن جاهدوا لنيل الحرية وتعزيز العلاقات الإقليمية.

 

  • الثقة والرؤية المشتركة: اتحاد دول أمريكا الجنوبية = "منطقة سلام"

 

أُنشئ اتحاد دول أمريكا الجنوبية واجتمع على رؤية واضحة وقوية: اتحاد دول أمريكا الجنوبية هو "منطقة سلام". وتم الإعراب عن هذه الرؤية في جميع الإقرارات أثناء مؤتمرات قمة زعماء أمريكا اللاتينية، إذ التزم الجميع بتطبيق الحل السلمي للخلافات، والتضامن من أجل تعزيز الديمقراطية والتنمية. وفي هذا الصدد، من المهم أن نذكر عاملين مهمين قد ساهما في بناء الثقة: 1) التوقيع على تدابير الثقة المتبادلة وتأسيس مجلس للدفاع.  2) تعريف الفهم متعدد الأبعاد للسلام.

 

وافق مجلس الدفاع على مشاركة المعلومات العسكرية، وتنسيق الدعم المتبادل في المناطق الحدودية، وصدّق على حماية الديمقراطية وتضمين جميع المعاهدات الدولية داخل الآليات التشريعية لكل بلد. والالتزام بإبقاء أمريكا الجنوبية خالية من الأسلحة النووية.  وتبرز أهمية وشرعية جهود وساطة اتحاد دول أمريكا الجنوبية سواء في حالات النزاع داخل الدولة أو بين الدول، كما في حالة فنزويلا حاليًا. ويتبنى الاتحاد المفهوم متعدد الأبعاد للأمن، الذي يلتقي فيه الأمن البشري والتقليدي، وأيضًا تقوم فيه منظمات المجتمع المدني بدور هام. وتعمل مجالس اتحاد دول أمريكا الجنوبية و"صندوق المبادرة المشتركة" على خلق استثمارات لدعم مشاريع البنية التحتية وتعزيز التنمية.

 

4 – التعاون بين دول أمريكا اللاتينية والدول العربية والخليجية

 

خلال العقد الماضي، نشطت أمريكا اللاتينية في استثمار علاقاتها المتنامية مع دول الجنوب على مستوى العالم. ومن المهم تسليط الضوء على تعزيز العلاقات مع الدول العربية والخليجية. وفي الفقرات التالية، سنقوم بإبراز بعض خصائص هذه العلاقة، مع تقديم تحليل عميق حول العمل المشترك لاتحاد دول أمريكا الجنوبية وجامعة الدول العربية، من خلال تنظيم "قمة الدول العربية ودول أمريكا الجنوبية" (ASPA).

 

  • النفط والموارد الطبيعية الضرورية للتنمية في دول الجنوب

 

كانت العلاقات بين أمريكا اللاتينية ودول الخليج محورًا جوهريًا في تأسيس منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك)، وهي التكتل الأكثر تأثيرًا بين التكتلات متعددة الجنسيات التي تقودها الدول العربية، ويعود التعاون في مجال الحوكمة العالمية بين الحكومات في دول الخليج ودول أمريكا اللاتينية، لعقود عدة. وكانت إحدى نتائج هذا التعاون هو تأسيس أوبك 1960م. وكان بيريز ألفونسو وزير الطاقة الفنزويلي، والشيخ عبد الله الطريقي، وزير النفط السعودي آنذاك هما أول من اقترحا تأسيس هذه المنظمة". وتعتبر فنزويلا والإكوادور من الدول الرئيسية المنتجة للنفط، لذلك لعبت الدولتان دورًا حيويًا في تشكيل المنظمة، والإبقاء على دعم أهدافها.

 

وتمشيًا مع رؤية تعزيز آفاق التعاون بين الجنوب، انبثقت منظمة الأوبك من فكرة خلق أوضاع جديدة لتحدي النظام الذي أقامه سوق النفط العالمي، والذي سيطرت عليه مجموعة بعينها من شركات النفط متعددة الجنسيات والتي كان يطلق عليها "الأخوات السبع". وأكّد "البيان التفسيري لسياسة النفط في الدول الأعضاء" في عام 1968م، على الحق الثابت لجميع الدول في ممارسة السيادة الدائمة على مواردها الطبيعية لمصلحة التنمية الوطنية. وكانت السيادة، والسيطرة على الأراضي المستقلة والموارد الطبيعية من صميم اهتمامات بلدان الجنوب لخلق ظروف أفضل لنيل الحرية وتحقيق التنمية الذاتية.

 

وحققت كل من البرازيل والأرجنتين والمكسيك وكولومبيا، مؤخرًا، اكتشافات هامة في احتياطيات النفط والغاز -بما فيها الأنواع التي تخضع لعمليات التكسير. وفي عام 2009م، زادت الاكتشافات المؤكدة بنسبة 20 % في جميع أنحاء العالم، في حين كانت الزيادة في أمريكا اللاتينية ودول البحر الكاريبي بنسبة 40 %. وتمتلك دول أمريكا اللاتينية ثاني أكبر احتياطي للنفط في العالم بعد منطقة الشرق الأوسط، ونجد مثالا على أهمية صناعة النفط في أمريكا اللاتينية من خلال القرارات في الأرجنتين: فقبل بضع سنوات، قررت البلاد إعادة تأميم شركة النفط (YPF)، و تم خصخصتها في التسعينات بسبب الضغط الذي مارسته ما يُسمى "بإجماع واشنطن النيو ليبرالي"  وعلى الرغم من وجود الحكومات "اليمينية" الجديدة في الأرجنتين والبرازيل، والوضع الهش في فنزويلا، فهناك إجماع متزايد على أهمية حماية الموارد الطبيعية استراتيجيًا لتعزيز التنمية الشاملة.

 

وبطبيعة الحال، فإن أسعار النفط الحالية تؤثر سلبًا على أهداف النمو في أمريكا اللاتينية وسياسات الاستثمار الشاملة. وقد يعني هذا أنه سيكون هناك اهتمامًا متزايدًا بإعادة انضمام بعض القوى من أجل الدفاع عن احتياطيات النفط والصناعة، كوسيلة لضمان الشروط الأساسية التي تسمح بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية. وقد حاول رئيس الإكوادور، رفاييل كوريا، مؤخرًا خلال اجتماع إقليمي مع بعض الدول غير الأعضاء في منظمة الأوبك، بما في ذلك كولومبيا والمكسيك، إلى الوصول إلى موقف مشترك لبلدان أمريكا اللاتينية، بهدف دعم ارتفاع أسعار النفط التي تؤثر بشكل مباشر على الاقتصاديات المحلية.

 

وفي ظل هذا السياق السريع التغير، روّج اتحاد دول أمريكا الجنوبية لفكرة جديدة عن الأمن في أمريكا الجنوبية. وتشمل هذه الفكرة "تأمين الموارد الطبيعية من الطاقة والمياه وغابات الأمازون المطيرة والأراضي الزراعية". ويعزز النظام الأساسي لمجلس دفاع اتحاد دول أمريكا الجنوبية (2009م)، من فكرة العمل المشترك بهدف "دعم الدفاع السيادي عن الموارد الطبيعية في دول أمريكا الجنوبية". ولذلك يُعتبر الربط بين السيادة، والموارد الطبيعية والتنمية المستقلة، من صميم عمل اتحاد دول أمريكا الجنوبية. ولدعم العمل المشترك في هذا الاتجاه، دعا كل من اتحاد دول أمريكا الجنوبية وجامعة الدول العربية، المملكة المتحدة للامتناع عن القيام بأنشطة أحادية الجانب لاكتشاف الموارد الطبيعية غير المتجددة، والتي يتم إجراؤها حاليًا في الجرف القاري الأرجنتيني حول جزر مالفيناس المتنازع عليها.

 

  • اتحاد دول أمريكا الجنوبية والعمل المشترك مع جامعة الدول العربية: قمة الدول العربية ودول أمريكا الجنوبية ASPA))

 

تُعتبر "القمة العربيةـ اللاتينية ASPA" من أهم التجمعات التي تتسع من خلالها العلاقات بين أمريكا الجنوبية وجامعة الدول العربية. وتعتبر مؤتمرات القمة آلية ثنائية إقليمية للتعاون والتنسيق السياسي. وتم انطلاق هذه القمة بناء على اقتراح من الرئيس البرازيلي، لولا دا سيلفا، عام 2005م. وانعقدت القمة الثانية في الدوحة، عام 2009م، وانعقدت القمة الثالثة في ليما، بيرو عام 2012م، وانعقدت آخر قمة في نوفمبر 2015م، بالرياض.

 

التعاون الاقتصادي

شهدت التجارة بين أمريكا الجنوبية والدول العربية نموًا ملحوظًا بدءاً من العام السابق على انطلاق القمة العربية ـ اللاتينية عام (2004م)، إذ ارتفعت من 11 مليار دولار إلى 30 مليارًا في عام (2008م). وقد وقًعَ تكتل ميركوسور اتفاقية تجارة حرة مع مصر، وتونس، ولبنان، وفلسطين. كما وقع التكتل نفسه أيضًا اتفاقيات إطارية مع الأردن، ومجلس التعاون الخليجي، والمغرب، وسوريا. ويبدو أن هذا التعاون آخذ في النمو، إذ تتمثل أهداف أمريكا اللاتينية في تنويع اقتصادها والإبقاء على شراكات أكثر قوة خارج الأسواق التقليدية.

ومن اللافت للنظر في إعلان الرياض، إعراب الدول المتكرر عن أن الطاقة ينبغي أن تصبح أحد محاور العلاقة الثنائية الإقليمية في السنوات المقبلة، وخصوصًا فيما يتعلق بمشروعات إنتاج الطاقة وتحسين كفاءتها، وتطوير استخدام الطاقة المتجددة والطاقات النظيفة، بالإضافة إلى تطوير استراتيجيات أخرى لمعالجة التغير المناخي. وفي هذا الصدد، يمكن لتضامن الدول العربية بشأن أسعار النفط أن يكون أمرًا محوريًا من أجل دعم تمكين بلدان الجنوب على مستوى العالم.

 

التعاون على الصعيد السياسي والأمني وحقوق الإنسان

 

وعلى صعيد التنسيق السياسي، تبنّت القمة العربيةـ اللاتينية مواقف مشابهة للسياسات التقليدية التي طالما نادت بها الدول النامية في المحافل الدولية، مثل إعادة هيكلة الأمم المتحدة، بهدف تعزيز موقف دول "العالم الثالث" – كما كان يطلق عليها سابقًا - داخل هيآت صنع القرار؛ واحترام التعددية والقانون الدولي (في مقابل الإجراءات أحادية الجانب)، واعتماد جدول أعمال موجه نحو التنمية في منظمة التجارة العالمية؛ والحد من الفقر وتنفيذ الأهداف الإنمائية للألفية التي اعتمدتها الأمم المتحدة.

 

وتدرك كلتا المنطقتين التحديات المعاصرة للمبادئ التي تطمحا إلى تحقيقها من إنهاءٍ للاستعمار واحترام الأراضي ذات السيادة وضرورة عدم التدخل في الشؤون الداخلية. وتمشيًا مع تلك المبادئ، أعرب البيان الأخير للقمة عن "رفضه اتخاذ أي إجراءات أحادية الجانب تتعارض مع مبادئ السيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية". فعلى سبيل المثال، خرجت القمة الأخيرة بآراء سياسية دعّمت من خلالها كلتا المنطقتين المفاوضات التي تهدف إلى إقامة دولة فلسطينية تعيش جنبًا إلى جنب في سلام مع إسرائيل، وتعهّدت بعودة المملكة المتحدة للدخول في حوار مع الأرجنتين فيما يتعلق بالنزاع على سيادة جزر مالفيناس / فوكلاند. فضلاً عن ذلك، شجّعت القمة الحوار الجاري بين فنزويلا والولايات المتحدة.

 

وفيما يتعلق بالأمن، فمن المهم تسليط الضوء على أن تأييد نزع السلاح النووي والحد من انتشاره يرتبط بدعم حرية الدول في تطوير الطاقة النووية لاستخدامها في الأغراض السلمية ودعم الجهود المتبادلة للتغلب على الإرهاب والنزاعات، بما يشمل تلك الموجودة في سوريا والعراق ولبنان ودول عربية أخرى. وبالنظر إلى تزايد مستوى الثقة في اتحاد دول أمريكا الجنوبية وطبيعته التي لا تتدخل في شؤون الدول الأخرى، فسيكون من المثير للاهتمام رؤية ما إذا كانت هناك فرص لتدعيم الوساطة يقوم بها نظراؤهم.

 

وأخيرًا، نود الإشارة إلى العزم على تدعيم عملية التعلم والمعرفة فيما بين بلدان الجنوب في مجال حقوق الإنسان: حيث رحّب البيان الأخير لقمة الدول العربية ودول أمريكا الجنوبية، بفكرة إنشاء المحكمة العربية لحقوق الإنسان استجابةَ لتطلعات الشعوب العربية، كما تبنى أهداف المحكمة الأمريكية لحقوق الإنسان التي تقدم الإرشاد والدعم في هذا الصدد. ويُعدّ ذلك تطورًا إيجابيًا بالنظر إلى الدور الهام للمحكمة الأمريكية في دعم الحقوق والسلام في أمريكا اللاتينية.

 

التعاون للقضاء على الفقر وعدم المساواة

 

إعلان الرياض: أكد ممثلي 34 دولة على التزامهم بأهداف خطة الأمم المتحدة لما بعد عام 2015م، بشأن التنمية المستدامة، ومكافحة عدم المساواة والفقر، إلى جانب التركيز على الاستثمارات. وهناك دعوة صريحة لوضع أهداف محددة لزيادة التعاون في مجالات الصحة والتعليم والحد من الفقر، وأيضًا على صعيد شؤون البيئة، والتغير المناخي، والطاقة، وإدارة موارد المياه، والأمن الغذائي والبطالة. وأكدت كلتا المنطقتين مجددًا على أنّ الاستثمار هو أحد ركائز التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ويمثل آلية مهمة تساعد بشكل فعال على خفض معدلات الفقر وعدم المساواة.

 

5 – ملاحظات ختامية: المصالح المشتركة والاختلافات البنّاءة

 

تؤكد هذه الدراسة على أهمية التضامن فيما بين بلدان الجنوب، من أجل خلق عالم أكثر عدلاً. فلا يزال النضال المشترك لتحقيق الحرية والتنمية المستقلة يربط بين دول أمريكا اللاتينية والدول العربية.

 

وخلال العقد الماضي، ارتفعت معدلات التعاون والعمل المشترك بين الجانبين بشكل كبير، وهو ما أدى إلى تحقيق نتائج هامة في مجال التنمية الاقتصادية والقضاء على الفقر، فضلاً عن الإنجازات في مجال حقوق الإنسان. كما اكتسبت كلتا المنطقتين المعرفة اللازمة، وتعلمتا من دروس الماضي وحققتا الإنجازات في عدد من السياقات المتكاملة. فعلى سبيل المثال، نجد الدول العربية وقد نمت وتطورت اقتصاديًا بشكل كبير على مدار السنوات الماضية. ويمكن لدول أمريكا اللاتينية أن تتعلم من هذه التجربة، في الوقت الذي تشارك فيه بخبرتها حول كيفية ضمان توظيف ذلك النمو الاقتصادي لصالح الغالبية العظمى من الناس، وتهيئة الظروف المؤدية إلى خلق مجتمعات تسودها العدالة. وفي الوقت نفسه، استطاعت دول أمريكا اللاتينية التغلب على سنوات من العنف ونجحت في خلق نماذج وطنية تتبنى الحرية ومشاركة الجميع، وتٌقيم الأساس لعالم أكثر سلامًا. ويمكن مشاركة هذه التجربة مع الدول العربية، وفقا لما أظهرته من رغبة في ازدياد خبرتها ببعض القضايا ذات الصلة مثل حقوق الإنسان.

 

وتلعب المبادئ المشتركة بين الجانبين، من عدم التدخل، والحوار الأفقي، وحماية السيادة، دورًا هامًا في خلق شعور من الثقة المتبادلة، باعتبارها شرطًا مسبقًا لتسهيل العمل المشترك. ولذلك، فإننا نتوقع وجود فرصة كبيرة لمزيد من التعاون الذي يقوم على الاحترام المتبادل والرؤية المشتركة لتنمية بلدان الجنوب.

مجلة آراء حول الخليج