; logged out
الرئيسية / جماعة الإخوان تعتبر الوصول إلى السلطة ركنًا أساسيًا من أركان الدين تنظيمات الإسلام السياسي: من التطرف إلى العنف

العدد 118

جماعة الإخوان تعتبر الوصول إلى السلطة ركنًا أساسيًا من أركان الدين تنظيمات الإسلام السياسي: من التطرف إلى العنف

الخميس، 30 آذار/مارس 2017

يعود اهتمام الباحثين بموضوع عودة تنظيمات الإسلام السياسي للمشهد العام إلى بداية حقبة الثمانينات من القرن الماضي، وعلى سبيل المثال فقد صدر لي كتابان باللغة الإنجليزية: في هذه الفترة الأول بعنوان الإسلام والسلطة- لندن 1981م، والثاني بعنوان الإحياء الإسلامي في العالم العربي- نيويورك 1982م، وكان البحث يدور وقتذاك حول العوامل التي أدت إلى عودة ظهور هذه التنظيمات ورؤاها لشكل الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومدى احترامها لقواعد الديمقراطية.

 ومع ظهور تنظيم "القاعدة "، بدأ طور جديد من أنشطة جماعات الإسلام السياسي تتسم بالاعتماد على العنف والإرهاب والطابع العابر للحدود. وكانت القاعدة بداية ظهور عشرات التنظيمات الإسلامية التي تبنت أفكارًا متطرفة وشاذة واعتمدت على العنف منهجًا لعملها. وانتشرت خلايا هذه التنظيمات في عديد من الدول، وامتد نشاطها إلى كافة أنحاء المعمورة وأصبحت راهنًا هي المنبع الرئيسي لأعمال العنف والإرهاب في العالم.

وقبل تحليل البيئة والعوامل التي أفرزت هذه الأفكار والتنظيمات، من الضروري الإشارة – بإيجاز-إلى عدد من النقاط كمدخل للموضوع وهي:

  • أن أعمال التطرف والعنف معروفة عبر التاريخ في مختلف الثقافات والمجتمعات، وفي القرن العشرين بدأت الحرب العالمية الأولى بحادث اغتيال في البوسنة، وشهدت فلسطين في مرحلة الانتداب عشرات الأحداث الإرهابية التي قامت بها التنظيمات العسكرية الصهيونية والتي كان من أبرزها اغتيال الوسيط الدولي الكونت برنادوت  بتفجير فندق الملك داود بالقدس ومذبحة دير ياسين، واغتيل الرئيس الأمريكي جون كنيدي في مطلع حقبة الستينيات والتي شهدت سنواتها أيضًا سلسلة اختطاف الطائرات الأمريكية وتحويل مسارها إلى كوبا...إلى غير ذلك من أعمال إرهابية  شهدتها كل القارات .
  • أهمية التمييز بين التطرف كموقف فكري أو سلوك نفسي وعقلي له مؤشراته الرمزية، وسلوك العنف والإرهاب الذي يأخذ شكلاً واقعيًا محددًا يهدف إلى إلحاق الأذى بالآخرين والذي يصل إلى درجة القتل، وتخريب الممتلكات وتدمير مظاهر الحياة. ودرس الباحثون في هذا الشأن آليات وديناميات الانتقال من التطرف أو العنف الرمزي إلى الإرهاب أو العنف السلوكي الفعلي.
  • إن الموجة الجديدة من تنظيمات العنف والإرهاب والتي تجد أبرز إفصاحاتها في " داعش" و"بوكوحرام" وما يرتبط بهما من جماعات أخرى، والكارثة أن هذه التنظيمات تبرر ما تقوم به من أعمال وحشية باسم الإسلام، وبحيث يصبح الانخراط في أنشطتها-من وجهة نظر تابعيها- تقربًا من الله وتضرعًا له.
  • إنه ينبغي التعامل مع هذه التنظيمات على أنها أحزاب وحركات سياسية تسعى للوصول إلى الحكم، وقد تستخدم في سبيل تحقيق هدفها الأساليب السلمية والبرلمانية كحركة الإخوان المسلمين في الأردن وفي مصر 2000-2012م، أو تلجأ إلى أساليب العنف والإرهاب كما هو الحال في أفغانستان وباكستان والعراق وسوريا وليبيا ومصر واليمن. وهدف هذه الجماعات والحركات هو الاستيلاء على السلطة، وهي تستخدم الشعارات الدينية كمصدر للشرعية، وتعيد تأويل  النصوص من وقت لآخر بما يخدم مصالحها المتغيرة .

في هذا السياق، تعددت النظريات التي سعت لتفسير نشأة هذه التنظيمات وأفكارها. وبصفة عامة فقد انقسمت تلك الاجتهادات إلى مدرستين أساسيتين:

المدرسة الأولى هي المدرسة البنائية أو الهيكلية والتي تركز على الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية للبشر باعتبارها البيئة المشجعة لنشأة هذه التنظيمات، وفي هذا المجال، اهتم بعض أنصارها على العوامل الاقتصادية كالفقر والحرمان النسبي، والتفاوت الواسع بين الطبقات وسوء توزيع الدخل والثروة، وانتشار البطالة وتدني مستوى المعيشة بسبب انخفاض معدل التنمية الاقتصادية، وازدياد التضخم وارتفاع الأسعار.

وركز آخرون على العوامل السياسية كغياب الحريات الأساسية، وشيوع النظم والممارسات الاستبدادية والسلطوية، ولتضيق على مؤسسات تمثيل المصالح والحاجات، وضعف قنوات المشاركة السياسية، وتزوير الانتخابات، وضعف رقابة الهيأة التشريعية للسلطة التنفيذية، واحتكار الحكم في أيدي نخبة غير مراقبة دستوريًا وقانونيًا، وازدياد الشقة بين الحاكمين والمحكومين، إلى غير ذلك من عوامل.

ومن ضمن العوامل السياسية، ركز فريق ثالث على الصراعات الدولية ودور الأطراف الخارجية في تشجيع حركات التطرف الديني واللجوء إلى العنف، فقد تلجأ دولة ما إلى دعم هذه الحركات في دولة أخرى بهدف إضعاف أو إسقاط نظام الحكم فيها لبسط نفوذها عليها، وعلى سبيل المثال فإن كثيرًا من تنظيمات الإسلام السياسي المتطرفة تلقت دعمًا عربيًا ودوليًا في فترة أو أخرى من تطورها، واستمرت علاقات التعاون بين تركيا وتنظيم داعش حتى كشفتها أجهزة المخابرات الروسية.

أما المدرسة الثانية وهي المدرسة الفكرية -الأيدلوجية فإنها تركز على سمات النسق الفكري والأيدلوجي الذي تستمد منه تلك التنظيمات تبرير وجودها وتفسير أنشطتها وأفعالها، بمعنى أن هذه التنظيمات تستند إلى مجموعة من الأفكار التي تستخدمها كأداة لتجنيد الأعضاء الجدد، واقناعهم على الانخراط في أنشطة العنف الذي تقوم به.

ولا يمكن بالطبع استبعاد أي من المدرستين فلكل منهما ما تقدمه، ولكل منهما حدوده، فنشأت تنظيمات إرهابية في دول مثل ألمانيا وإيطاليا وأسبانيا واليابان لا يمكن تفسيره وفقًا لحجج المدرسة الأولى، وبنفس المنطق فإن انتشار الأنساق الأيدلوجية المبررة للتطرف والإرهاب يحتاج إلى بيئة اجتماعية مواتية.

 ويركز هذا المقال أولاً على سمات الثقافة والأيديلوجية السائدة في المجتمع والتي تمثل الحاضنة لأفكار التطرف والإرهاب، وفي كثير من الدول العربية فإن الفهم الذي تتبناه المؤسسات الدينية الرسمية، والخطاب الديني الذي يبثه مئات الآلاف من خطباء المساجد، ومضمون الكتب المدرسية، والبرامج الدينية في الإذاعة والتليفزيون تضع بذور التطرف الديني والاجتماعي ثم يتناول ثانيًا ديناميات وآليات الانتقال من التطرف إلى العنف مستفيدًا في ذلك من إسهامات علم النفس السياسي.

 

أولاً: سمات النسق الأيديلوجي المتطرف

ننطلق في هذا التحليل من أن التطرف ليس مجموعة من الأفكار المتناثرة أو العشوائية، ولكنه منظومة من المفاهيم والمعتقدات التي تمثل نسقًا فكريًا، ويرتبط نشوء هذا النسق وتطوره بالثقافة السائدة في المجتمع وبالمفاهيم الدينية والسياسية والاجتماعية التي تتبناها الدولة وتروج لها، فبعض الثقافات والأيدلوجيات توجد البيئة المناسبة لظهور الفكر المتطرف، وبعضها الآخر ينمي القيم والمفاهيم الرافضة للتطرف والمعادية له. وهكذا فإن معرفة السمات السائدة في ثقافة مجتمع ما والأفكار السائدة في مؤسساته الرسمية يساعدنا على فهم أسباب ظهور الأفكار والتنظيمات المتطرفة.

ومن استعراض الآراء التي روجت لما يسمى بالفكر التكفيري والجهادي والإسلام الراديكالي والإسلام السياسي على مدى قرن من الزمان والتي كان من رموزها حسن البنا، أبو الأعلى المودودي، وسيد قطب، وأبو الحسن الندوي، والذين قاموا بإحياء أفكار الخوارج بفرقهم المتعددة كالارارقة، والنجدات، واليزيدية، والميمونية.... الخ.

وانتقلت هذه الأفكار وتم إعادة صياغتها لبناء تنظيمات التطرف والعنف الجديدة في حقبة السبعينيات، والتي كان من أهمها في مصر اجتهادات شكري أحمد مصطفى في "توسمات"، والمهندس عبد السلام فرج في كتاب "الفريضة الغائبة"، وصولاً إلى رسائل أسامه بن لادن وتسجيلاته الصوتية، وأيمن الظواهري في كتابية" فرسان تحت راية النبي صلى الله عليه وسلم" و "الحصاد المر"، وخطب أبو بكر البغدادي، ومؤلف أبو بكر ناجي بعنوان "إدارة التوحش". وانتشرت هذه الأفكار بفعل التقدم في تكنولوجيا المعلومات وشبكة الانترنت إلى كل مكان يعيش فيه المسلمون أغلبية كانوا أو أكثرية أو أقلية.

ومع التسليم بأن هناك تباينات بين كل مفكر وآخر، فإنه يمكن استخلاص السمات العامة التالية لنسق الفكر الذي تتبناه حركات التطرف الإسلامي:

  1. الإطلاق والقطعية ونفي الآخر

  ويعني ذلك الإيمان بفكرة أو بدعوة يعتقد أصحابها أنها الحقيقة الخالصة والحق المطلق وأن ما عداها زائف وخاطئ، وبهذا المعنى فإن أنصار هذا الفكر يعتقدون أن الأفكار والتفسيرات التي يؤمنون بها هي الحقيقة الوحيدة الصحيحة والمطلقة، ويترتب على هذا الاعتقاد الإيمان بخطأ وخطيئة الذين يتبنون آراء مخالفة، وأن العلاقة بين الطرفيين لا يمكن أن تكون علاقة حوار أو قبول متبادل وإنما تصبح في أفضل الأحوال علاقة توجيه وتصحيح وفي أسوئها إرغام وإكراه واستخدام للعنف من جانب أصحاب الفكر المتطرف. وفي مثل هذا السياق، لا يوجد مكان لقيم التسامح، واحترام الآراء الأخرى المخالفة.

  1. الشمولية وادعاء التماهي بين التنظيم والإسلام

والسمة الثانية لهذا النسق الفكري هي ادعاء الشمول والإحاطة بمختلف جوانب حياة الفرد والجماعة وفقًا للتفسير المحدد الذي يتبناه التنظيم أو الجماعة، وعلى سبيل المثال فقد وصف حسن البنا جماعة الإخوان المسلمين بأنها "عقيدة وعبادة، ووطن وجنسية، ودين ودولة، وروحانية وعمل، ومصحف وسيف"، كما وصفها بأنها "دعوة سلفية، وطريقة سنية، وحقيقة صوفية، وهيأة سياسية، وجماعة رياضية، وشركة اقتصادية، وفكرة اجتماعية".

وأعطى هذا الوصف لقادة الجماعة سلطة واسعة وقدرة أكبر على توجيه الأعضاء وتدريبهم على السمع والطاعة، خاصة أنها ركزت في تجنيد الأعضاء الجدد على اليافعين والشباب .

ووفقًا لمذكرات سامح فايز الذي انشق عن الجماعة والتي نشرت عام 2013م، بعنوان " جنة الإخوان: رحلة الخروج من الجماعة"، فإن التنشئة الإخوانية تتأسس منذ الصغر على الحفظ والتلقين، ورفض الآخر فهم "يصنفون غيرهم صنفين لا ثالث لهما إما عميل للنظام الكافر الذي يحارب الإخوان ... وإما علماني كافر يدحض الدين". وأضاف أن هذه التربية تتأسس على تمازج الدعوتين: دعوة الإسلام ودعوة الإخوان "فتجد نفسك لا إراديًا وأنت تدافع عن الجماعة كأنك تدافع عن الإسلام، وعندما تدافع عن الإسلام فكأنك تدافع عن الجماعة". ونتيجة هذه التنشئة فإن "الإخوان في نظر شبابهم هم ظل الله، هم الدين، ومن يكفر بهم فقد كفر بالدين".

  1. الحاكمية لله ورفض الجاهلية المعاصرة

يرجع تطوير هذا الفكر إلى سيد قطب في كتابه" معالم في الطريق " الذي صدر في ستينيات القرن الماضي، والذي ترجم إلى عديد من اللغات المنتشرة في المتجمعات الإسلامية كالفارسية والأردية وغيرها، وأصبحت أفكاره ركنًا أصيلاً من النسق الفكري للحركات المتطرفة الآن. وعرف قطب مبدأ الحاكمية بأنه يعني أن السيادة لله والشرعية مصدرها الله، وأن أي اجتهاد آخر هو مناقض لشرع الله، واستخدمه للتمييز بين نوعين من المجتمعات: المجتمع الجاهلي ومجتمع "الحاكمية"، ووصف المجتمعات المعاصرة كلها بالجاهلية لأن دساتيرها تنص على أن السيادة للشعب وتجرى فيها انتخابات لاختيار ممثلين له، وأنها محكومة بقوانين وضعية، فكتب أن "القانون الوضعي لا يستحق السيادة والسمو به، فهذه المنزلة حققها الله بقانونه الذي يجب على الناس اتباعه".

 وبرر قطب رأيه بأن" الجاهلية ليست اسمًا لمرحلة تاريخية سابقة على الإسلام، بل أنها تنطبق انطباقًا حرفيًا على كل وضع بصرف النظر عن اعتبارات الزمان والمكان"، ويتحقق الشرك بالله وفقًا له "بمجرد إعطاء حق التشريع لغير الله من عباده، ولو لم يصحبه شرك في الاعتقاد بألوهيته، ولو قُدمت الشعائر التعبدية له وحده". ووفقًا لهذا التعريف، يرى قطب "أن العالم يعيش اليوم في جاهلية. هذه الجاهلية تقوم على أساس الاعتداء على سلطان الله على الأرض، وعلى أخص خصائصه الألوهية وهي الحاكمية. أنها تُسند الحاكمية إلى البشر فتجعل بعضهم لبعض أربابًا".

  1.  الجهاد لإقامة المجتمع الإسلامي

أما السمة الرابعة لهذا النسق الفكري المتطرف فهو تعريف الجهاد بمعنى الحرب والقتال، فيشير أنصار هذا الفكر ضرورة الجهاد واستخدام القوة لإقامة المجتمع الإسلامي وإعلاء شرع الله، والحقيقة أن هذه الفكرة تعود إلى فكر حسن البنا التي عبر عنها بشكل غير مباشر، ثم قام قطب وما تلاه من مفكري التطرف والعنف إلى الإفصاح عنها بشكل جلي.

 ففي رسالة المؤتمر الخامس للجماعة في عام 1938م، وردًا على سؤال "هل في عزم الإخوان المسلمين أن يستخدموا القوة في تحقيق أغراضهم والوصول إلى غاياتهم" أجاب البنا بأن "الإخوان المسلمون لابد أن يكونوا أقوياء ولابد أن يعملوا في قوة". وشرح درجات القوة بقوله إن "الإخوان يعلمون أن أول درجة من درجات القوة: قوة العقيدة والإيمان، ويلي ذلك: قوة الوحدة والارتباط، ثم بعدهما: قوة الساعد والسلاح ..ولا يصح أن توصف جماعة بالقوة حتى تتوافر لها هذه المعاني جميعًا، وأنها إذا استخدمت قوة الساعد والسلاح وهى مفككة الأوصال مضطربة النظام أو ضعيفة العقيدة خامدة الإيمان فيكون مصيرها الفناء والهلاك".

واستخدمت كتابات الفكر المتطرف بعض النصوص الدينية وتأويلها بما يتفق مع اهدافهم السياسية، وعلى سبيل المثال تم استخدام حديث الرسول (صلى الله عليه وسلم) "بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري ومن تشبه بقوم فهو منهم" (رواه أحمد بن حنبل عن ابن عمر) ،وحديثه "اسمعوا يا معشر قريش، أما والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بالذبح" (ورد في كتاب الفريضة الغائبة دون تخريج وليس له وجود في كتب السنة). وكذلك يتم توظيف آية السيف التي يعتبرونها ناسخة لكل آية في القرآن فيها ذكر الأعراض والصبر على آذى الأعداء والصفح والعفو.

  1. الحكم هو الهدف

إن الهدف الذي تبتغيه هذه التنظيمات والحركات هو الوصول إلى السلطة، وهذا الهدف يعود إلى فكر البنا وجماعة الإخوان المسلمين، فقد تجاوز هدفه حدود الدعوى، واعتبر الحكم ركنًا أساسيًا من أركان الدين، فكتب "الإسلام الذي يؤمن به الإخوان المسلمون يجعل الحكومة ركنًا من أركانه، ويعتمد على التنفيذ كما يعتمد على الإرشاد ... والحكم معدود في كتبنا الفقهية من العقائد والأصول لا من الفقهيات والفروع"، أي أنه في مرتبة القطعيات والمسلمات التي لا تقبل جدلاً ولا تحتمل تأويلاً.

وحتى لا تبدو الجماعة متطلعة للحكم، كتب البنا " إن الإخوان لا يطلبون الحكم لأنفسهم فإن وجدوا من الأمة من يستعد لحمل العبء وأداء هذه الأمانة والحكم بمنهاج إسلامي قرآني، فهم جنوده وأنصاره وأعوانه، وإن لم يجدوا فالحكم من منهاجهم وسيعملون لاستخلاصه من أيدي كل حكومة لا تنفذ أوامر الله". وفي عام 1948م، كتب البنا أنه "ليس بعد النصيحة أو البيان إلا المفاصلة أو الجهاد". وخاطب الإخوان بقوله "أدعوكم للجهاد العملي بعد الدعوة القولية سندعو كل الهيآت إلي الإسلام، فإن أجابوا الدعوة آزرناهم وإن لجأوا إلى المراوغة والدوران فنحن حرب عليهم ولا هوادة معهم حتى يفتح الله بيننا وبين قومنا بالحق، وهو خير الفاتحين".

توسع سيد قطب في الدعوة إلى استخدام القوة استنادًا إلى وصفه المجتمعات المعاصرة بالجاهلية ومخالفة شرع الله، ووفقًا له فإن المسلم لا يملك الحق في التصالح مع هذه المجتمعات، وأن عليه واجب الجهاد ضدها، فكتب "ليست مهمتنا أن نصطلح مع واقع هذا المجتمع الجاهلي ولا أن ندين له بالولاء ...إن أولى الخطوات في طريقنا هي أن نستّعلي على هذا المجتمع الجاهلي وتصوراته وألا نُعدل من قيمنا وتصوراتنا قليلاً أو كثيرًا لنلتقي معه في منتصف الطريق ... وحين نسايره خطوة واحدة فإننا نفقد المنهج كله ونفقد الطريق". فالإسلام وفقًا له "لا يقبل أنصاف الحلول مع الجاهلية: فإما إسلام وإما جاهلية". ويطبق قطب هذا المنطق على العلاقات بين الدول، فرأى أن "هناك دار واحدة هي دار الإسلام التي تقوم فيها الدولة المسلمة ... وما عداها دار الحرب علاقة المسلمين بها إما القتال أو المهادنة على عهد أمان ولكنها ليست دار إسلام ولا ولاء بين أهلها وبين المسلمين". في هذه الجمل، نجد أفكار التطرف، وعدم قبول الآخر، واستخدام العنف منهجًا لتحقيق الأهداف.

يترتب على هذه الرؤية أن تصبح الحياة حربًا دائمة، ويصبح الإسلام دين عنف لا ينقطع إلا بتحول العالم كله إلى الإسلام وفقًا لفهمهم، هذا الطابع الحركي الجهادي العنيف– وفقًا لسيد قطب-هو الفهم الصحيح للإسلام، فكتب "والذي يدرك طبيعة هذا الدين يدرك حتمية الانطلاق الحركي للإسلام في صورة الجهاد بالسيف إلى جانب الجهاد بالبيان". (لاحظ سبق الإشارة إلى الجهاد بالسيف على الجهاد بالكلمة).

وكان من الطبيعي أن يؤدي هذا التسلسل للأفكار إلى نتيجة حتمية استخدام العنف والدعوة إلى التغيير بالعنف ،فالجهاد بالقوة في هذا الفكر هو عقيدة أصيلة موجهة فحسب سيد قطب "لمقاومة المجتمع الجاهلي وإزالته من الوجود وإزالة الأنظمة والسلطات القائمة عليه".

وعلى مدى الحقب التالية، استلهمت الجماعات الجهادية التي نهضت على تكفير الآخرين واستخدام العنف أفكار سيد قطب، واعتبرته "الأستاذ والمعلم"، ويدل على ذلك اقتباس مفكري هذه الجماعات لعبارات من سيد قطب واستشهادهم بها مثلما ورد في كتاب  صالح سريه بعنوان "رسالة الإيمان"، وكتاب سيد إمام الشريف مفتى تنظيم القاعدة  بعنوان" الجامع في طلب العلم الشريف"، وكتاب عبد الآخر حمادة منظر الجماعة الإسلامية المصرية بعنوان "مراحل الجهاد: نسخ اللاحقة للسابقة"، وكتاب مصعب الزرقاوي قائد تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين بعنوان"وصايا المجاهدين"، وأخيرًا وليس آخر أيمن الظواهري في كتاب  "فرسان تحت راية النبي" والذي وصف فيه  قطب بأنه "شرارة الدعوة إلى الثورة الإسلامية".

 

ثانيًا: ديناميات الانخراط في شبكات التطرف والعنف

 

يتناول هذا الجزء الانتقال من التطرف كتوجه فكري إلى العنف كسلوك فعلي، ويتطلب فهم ذلك دراسة مجموعة من العمليات وديناميات الجماعة Group Dynamics، والتي تشير إلى التفاعلات التي تنشأ في داخل الجماعة الواحدة أو تلك التي تحدث بين الجماعات المختلفة، وعمليتي "التسييس" Politicization و"الردكلة" Radicalization، و الذى سوف يتم توضيحهما فيما بعد  وفي هذا السعي تم الاستفادة من نتائج بحوث علم النفس الاجتماعي وعلم النفس السياسي بما يساعد على فهم عملية "تكوين المتطرف"، ثم كيفية تحوله إلى تبني "العنف" كسبيل لتحقيق أهدافه، والخطوات التي ترافق هذا التحول. وسوف يتم تناول كيفية الانخراط في التطرف والعنف، وكيف يتم هذا التحول من خلال سلسلة من التفاعلات الاجتماعية.

لابد من بحث ما هي العوامل التي تدفع فردًا أو مجموعة من الأفراد لتبني منظومة للقيم والأفكار مخالفة لما هو سائد ومتفق عليه في المجتمع؟ وبعبارة أخرى ماذا يدفع هؤلاء إلى انتهاج سلوك تستهجنه غالبية المجتمع، وتعتبره فكرًا شاذًا وغريبًا؟ ويرتبط بذلك سؤالاً أكثر أهمية، وهو ما هي العوامل التي تدفع بهذا الفرد أو الجماعة من مجرد تبني هذه القيم والأفكار، والتعاطف معها، إلى الانخراط في ممارسات العنف لتحقيقها؟

 ويكمن مفتاح الإجابة على هذا السؤال في التمييز بين عمليتي "التسييس" و"الردكلة".

يشير مفهوم التسييس إلى الاهتمام بالشأن العام وبقضايا وموضوعات تخرج عن دائرة المصالح الذاتية المباشرة، ويحدث عندما يدرك الفاعل أنه ينخرط في صراع سياسي في إطار علاقات قوى غير متكافئة، ومن ثم يصبح هدفه هو تغيير تلك العلاقات بين الجماعات مما يزيد من قدرته وتأثيره على نسق الصراعات بين الفاعلين المختلفين، وهناك اتفاق بين الباحثين في علوم السياسة والاجتماع والنفس على أن التسييس هو نتاج التفاعلات الاجتماعية التي يتعرض لها الفرد أو الجماعة. ويترتب عليها سعيهم للتغيير وتحقيق أهدافهم من خلال الأساليب الدستورية والقانونية.

وتتطور عملية التسييس عادة عبر مجموعة من التفاعلات التي تشمل في بدايتها الشعور بالظلم الحقيقي أو المتصور، فقد يكون هذا الظلم حقيقي وواقعي أو أن يكون بفعل خطاب النخبة السياسية للجماعة التي تجد في مصلحتها إشاعة الشعور بهذا الظلم. وفي كلتا الحالتين يسود الشعور بين أعضاء الجماعة (الفاعل الجماعي) بظلم يلحق بهم بسبب معتقداتهم الدينية أو السياسية أو هوياتهم الأثنية والثقافية، وأنه لا توجد أسباب أخرى لاستمرار هذا الظلم سوى ذلك.

وباستمرار الظلم الذي يشعر به أفراد الجماعة يتبلور "تنامي العداء إزاء ما تعتبره الجماعة عدواً لها"، إذ تربط الجماعة بين الظلم الواقع عليها بجماعة أخرى قد تكون الحكومة أو أحد الأحزاب أو إحدى الجماعات الأثنية، وتتنامى مشاعر العداء تجاه هذا العدو. وأحيانًا، تتسع دائرة العداء لتشمل أطراف ثالثة تعتبرها الجماعة مناصرة ومدعمة للظلم الواقع عليها. ويؤدي ذلك إلى شعور قادة الجماعة بضرورة العمل على رفع الظلم، وذلك من خلال الأدوات المختلفة للاعتراض والاحتجاج التي حددها القانون.

أما "الردكلة"، فتشير إلى تغير في المعتقدات والاتجاهات والمشاعر والسلوك بطريقة تؤدي تدريجيًا إلى تبرير العنف من جانب الجماعة التي تشعر بالغبن تجاه الجماعات الممارسة والمؤيدة له. كما تشير إلى الاعتقاد بأن الحل يكمن في تحقيق تغييرات جذرية تتعلق بأسس المجتمع ونظمه السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وإن هذا التغيير يكون بأساليب خارج الأطر الدستورية والقانونية، ويفضي ذلك إلى اعتبار الفكر المتطرف وسلوك العنف أمرًا "شرعيًا" باعتباره الطريق الوحيد للتغيير وتحقيق الأهداف.

 إن فهم العوامل التي تؤدي إلى ذيوع أفكار وممارسات "الردكلة" هي أمر حيوي ليس فقط لفهم ما حدث، وإنما أيضًا – وهو الأهم – لرسم السياسات والبرامج التي تؤدي إلى خفض "الردكلة" De-Radicalization في المجتمع.

ويمكن في هذا الشأن الإشارة إلى أن الانتقال من "عملية التسييس" إلى "عملية الردكلة" لا يحدث فجأة وبدون مقدمات، فتشير البحوث إلى أن عملية الانتقال عملية تدرجية يتحول فيها الفرد من التعاطف السلبي أو الصامت مع أفكار التطرف وممارسات العنف إلى التعاطف الإيجابي اللفظي إلى المشاركة السلمية من خلال الدعم المالي أو المظاهرات والأعمال الاحتجاجية والحركات الاجتماعية وصولاً إلى الانخراط في أعمال العنف. وهكذا، فإن عملية بناء سمات التطرف لدى الفرد تتسم بالتدرج والانتقال البطيء من جزئية لأخرى.

كما أن هذا التطور يحمل في ثناياه التحول من التسييس إلى "الردكلة"، والانتقال من منظومة القيم التي تدعو إلى التغيير بشكل سلمي ودستوري إلى منظومة أخرى من القيم تجعل استخدام العنف الأداة الرئيسية للتغيير. ويساعد على هذا التحول عدم احترام السلطات الحاكمة للقواعد التي وضعتها للتنظيم السلمي للتعبير عن المطالب والاحتجاج مثل أن يكون هناك نص دستوري بإباحة الحق في التظاهر ثم يأتي القانون والممارسة العملية لتعطيل هذا الحق، أو أن يكون حق الترشح للبرلمان متاحًا لكل المواطنين ثم تقوم هذه السلطات باتخاذ الإجراءات التي تحول دون ضمان ذلك لإحدى الجماعات. ويكون من شأن ذلك ذيوع الاقتناع لدى أعضاء هذه الجماعة بأنه لا بديل عن استخدام العنف، وذلك بعد فشل الأشكال القانونية التقليدية للمعارضة والاحتجاج السياسي.

ومن المهم للغاية عند رسم سياسات مكافحة التطرف والعنف فهم هذه العملية التي أشرت إليها، وكذلك فهم الدوافع والاعتبارات المختلفة التي تؤدي بالأفراد إلى الانخراط في هذه العملية، فهناك عوامل دافعية Motivational منها على سبيل المثال السعي إلى تحقيق المكانة الشخصية أو إظهار التميز أو أحيانًا الثأر. وهناك العامل الإيديولوجي ومنظومة القيم التي تفسر ضرورة استخدام العنف وتبرره كسبيل مشروع لتحقيق الأهداف. وعادة ما تقوم النخب المسيطرة في هذه التنظيمات بدور في تطويع وإعادة تعريف النصوص الدينية بما يجعل استخدام العنف أقرب منالاً، وهناك عامل القيادة والتنظيم بما يوفره من آليات لشحذ الهمم وإثارة العواطف، وتوحيد الجهود، وتوفير وسائل استخدام العنف وطمأنة المنخرطين فيه إلى مستقبل أسرهم بعد وفاتهم. ويزداد الاتجاه نحو "الردكلة" مع وجود نخب مسيطرة في الجماعة يتسم سلوكها السياسي بالمواجهة والصدامية وعدم الرغبة في الوصول إلى حلول وسط. وهناك العامل الخارجي ودوره في الإٍسراع بعملية "الردكلة" من خلال الدعم المالي والسياسي للنظام أو الجماعة. ويتعضد دور الأدوار الخارجية عندما يكون للجماعة فروع وامتدادات دولية. وهناك عامل الظرف التاريخي الذي تتضافر وتتفاعل فيه هذه العوامل بما يوفر السياق المواتي لاستخدام العنف واستمراره.

في هذا الشأن تبرر "الردكلة" العنف باعتباره ضرورة لا غنى عنها لإحداث التغيير السياسي والاجتماعي. وهكذا يبرز الفارق الواضح بين المعارضة والاحتجاج من خلال التسييس واستخدام العنف من خلال "الردكلة"، فبينما يعني التسييس كسب العقول والقلوب في أوساط الناخبين والمواطنين عمومًا والسلطات الحاكمة لإقناعهم بعدالة مطالبهم، وبوطأة الظلم الواقع عليهم، فإن العنف المرتبط بالردكلة يهدف إلى إلحاق الأذى وإيقاع الخسائر المادية والبشرية بالخصوم حتى إن تضمن ذلك إلحاق الضرر بأطراف بريئة لا شأن لها بالموضوع. وباليقين، فإن الهدف هو الترويع والتخويف وليس الإقناع والتواصل. وتتسم البيئة التي تنمو فيها عملية "الردكلة" ونمو التنظيمات الراديكالية بغلبة مشاعر التهديد المتبادل وعدم اليقين واستدعاء القيم المدعمة للعنف والمبررة له.

والخلاصة أن عملية الانتقال من "التسييس إلى الردكلة"، أو بالأحرى الانتقال من السعي إلى التغيير من خلال سبل الاحتجاج الجماعي والحركات الاجتماعية والسبل السلمية إلى استخدام العنف السياسي والاجتماعي، واللجوء إلى القوة بما يرتبط بها من تجاوزات و"قتل على الهوية" ليس أمرًا فرديًا ولا يمكن لفرد واحد أن يقوم به باستقلال عن بيئته، فالأفراد ينتقلون من هذا إلى ذاك ويصبحون أكثر راديكالية في إطار جماعتهم، وفي إطار دينامية العلاقات التي تنشأ في داخل هذه الجماعة، وبينها والجماعات الأخرى. 

إن انتشار أفكار التطرف وممارسات العنف لا يمكن اعتبارها مسألة باثولوجية وحسب، بل هي أيضًا مسـألة تتعلق بأنماط التفاعلات الاجتماعية العلاقة بين مكونات المجتمع. فمن المؤكد أن سلوك الأفراد كذوات مستقلة يختلف عندما ينخرطون في موقف جماعي صراعي. لقد أشارت البحوث الامبيريقية إلى دور التفاعل بين الجماعات في تحديد هويتها، ومنظومات القيم السائدة فيها، ومدى غلبة عناصر التواصل أو الاستقطاب فيها، وينطبق هذا التحليل ليس فقط على الجماعات الكبرى الدينية والمذهبية، ولكن أيضًا إلى ديناميات الجماعات الصغيرة التي تمثل البيئة الحاضنة للتطرف والعنف، وهو ما أثبتته كل البحوث الخاصة بظاهرة الإرهاب، والتي ربطها الباحثون بديناميات الجماعات الصغيرة التي توجد في العالم الواقعي أو الافتراضي.

وهكذا، فإن أي سياسة أو استراتيجية ناجحة لمكافحة أفكار التطرف وممارسة العنف ينبغي أن تنبني على فهم دقيق للأسباب التي تدفع الأفراد والجماعات إلى انتهاج هذا الطريق لأن معرفة هذه الأسباب سوف تجعل متخذي السياسات الثقافية والتعليمية والإعلامية أكثر قدرة على تحديد الأولويات والخطط وبرامج التنفيذ.

مقالات لنفس الكاتب