; logged out
الرئيسية / معضلة الفراغ الاستراتيجي في منطقة الخليج: الدور الإيراني

العدد 126

معضلة الفراغ الاستراتيجي في منطقة الخليج: الدور الإيراني

الثلاثاء، 09 كانون2/يناير 2018

المناطق المهمة في العالم لا تفقد بريقها بسهولة، فتصنيف هذه المناطق بكونه مهمة أو حيوية يعود لاعتبارات استراتيجية قلما تتغير بمرور الزمن. وما يسمى بالمناطق الاستراتيجية على الخارطة العالمية أسست قيمتها، وأهميتها الاستراتيجية بناءً على معطيات محددة، منها موقعها الجغرافي، أو ثرواتها المادية، أو ثرواتها البشرية، أو أي عامل آخر، أو خصائص محددة تجعل من هذه البقعة الجغرافية موقعًا متميزًا ذو قيمة وأهمية دولية.

 

ومنطقة الخليج العربي كانت ومنذ أزمان طويلة تكمن بعمق التاريخ الإنساني، منطقة ذات أهمية خاصة، عملت الإمبراطوريات القديمة على فرض نوع من السيطرة أو النفوذ عليها. وعامل ظهور الثروة النفطية في هذه البقعة الجغرافية الحيوية من العالم لا يعد إلا تطورًا حديثًا برز بشكل فعال بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. لذا فإن أهمية منطقة الخليج العربي الاستراتيجية لا يمكن ربطها بعامل توفر الثورة النفطية. ومما لا شك فيه أن ظهور النفط في هذه المنطقة وبكثافة عالية واستغلال تجاري عزز من قيمة منطقة الخليج الاستراتيجية للسياسية العالمية، ولكن النفط لم يكن العامل الحاسم الوحيد أو العامل الأول في منح هذه المنطقة الخصوصية الاستراتيجية المميزة. فمصدر هذه الخصوصية، تاريخيًا، يعود لموقع المنطقة الجغرافي المميز.  فهي الجسر الرابط بين الحضارات التي نشأت في غرب القارة الآسيوية من دول وامبراطوريات قامت في العراق وفارس وتركيا، وعموم المشرق العربي، ودول وحضارات شرق آسيا التي قامت في شبه القارة الهندية والصين، وغيرها.

والقيمة الاستراتيجية لهذه المنطقة هي التي شجعت القوى الأوربية الاستعمارية مثل البرتغاليون، والهولنديون، وأخيرًا البريطانيون من تأسيس السيطرة أو النفوذ على هذه المنطقة، وذلك لتأمين التواصل مع المستعمرات التي نشأت في شرق وجنوب القارة الأسيوية، ولتامين طرق الملاحة البحرية، والنشاطات التجارية مع هذه المستعمرات.

 

ولم تقتصر طموحات فرض السيطرة أو الهيمنة على منطقة الخليج العربي على الدول الاستعمارية الكبرى حصرًا. فانحسار قوة ونفوذ الدول الكبرى كان دومًا يوفر الفرصة لدول إقليمية طامحة في تأسيس الهيمنة الإقليمية ويغريها في فرض السيطرة على منطقة الخليج العربي. وهنا يأتي دور الطموحات الإيرانية التوسعية، واستهدافها منطقة الخليج العربي.

 

الدور الإيراني في فرض الهيمنة على منطقة الخليج العربي برز بشكل واضح في أوائل السبعينيات من القرن الماضي. فقد جاء عام 1968م، بتطور مهم وهو إعلان الحكومة البريطانية بنيتها التخلي عن دورها التاريخي في منطقة الخليج العربي خلال ثلاثة أعوام قادمة، وإنهاء صفتها المميزة بكونها قوة حماية لجميع إمارات الساحل العربي من الخليج. في هذا المنعطف التاريخي شعرت حكومة إيران تحت حكم الشاه محمد رضا بهلوي أن هناك فرصة تاريخية لإيران لملء الفراغ الاستراتيجي الذي سيخلفه قرار الانسحاب البريطاني، ومهمة إيران هي ملء هذا الفراغ وتأسيس الهيمنة الإيرانية على هذه المنطقة الحيوية من العالم. لذا ومنذ عام 1968م، بدأت إيران ببناء قوة عسكرية كبيرة، والتركيز بشكل خاص على القدرات البحرية والجوية التي ستكون الوسيلة الأساسية في فرض السيطرة على منطقة الخليج العربي. لذا تم توسيع قدرات سلاح البحرية الإيرانية، بجانب قدرات سلاح الجو الإيراني، عبر استثمار مليارات من الدولارات في شراء الأسلحة الحديثة، وبناء القواعد البحرية والجوية التي تهدف غرض التواجد العسكري الفعال في مياه منطقة الخليج العربي.

 

وقد قامت القوى الغربية، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا بتوفير الدعم والإسناد للطموحات الإيرانية في فرض الهيمنة على المنطقة. ودعمت هذه الدولة سياسة إيران الجديدة في التسلح وبناء قوة عسكرية كبيرة لتحقيق الهدف . وقامت إدارة الرئيس الأمريكي نيكسون بمباركة إعلان إيران بكونها "شرطي الخليج" عام 1970م. وكان هدف إيران والدول الغربية بفرض أمر واقع جديد، قبل إتمام الانسحاب البريطاني في أوائل عام 1971م.   

ما نود أن نقوله هنا أن طموحات إيران التوسعية، وطموحاتها في فرض الهيمنة الإقليمية لم تكن وليدة تأسيس نظام الجمهورية الإسلامية في إيران عام 1979م، بل أن هذه النزعة لها جذور تاريخية عميقة، تسبق تأسيس نظام الملالي، وحتى تسبق النظام الشهنشاهي في إيران. وخلال الساعات الأخيرة من إتمام عملية الانفكاك البريطاني الرسمي من مسؤولية حماية الخليج، قامت إيران بأول ترجمة فعلية وعملية لقرار تأسيس الهيمنة، وذلك عبر القيام باحتلال الجزر العربية الثلاث (أبو موسى، طنب الكبرى، وطنب الصغرى)، ذات الأهمية الاستراتيجية، بوسائل استخدام القوة العسكرية.

 

وامتدادً لهذه السياسة التوسعية، واستمرارًا للنهج التدخلي والتوسعي السابق، يقوم نظام الجمهورية الإسلامية بمحاولات تنفيذ نفس الأهداف السابقة في فرض السيطرة والهيمنة على منطقة الخليج العربي، ولكن عبر توظيف أدوات ووسائل جديدة تنبع من طبيعة النظام القائم. فالتحرك الإيراني الراهن لفرض الهيمنة يوظف وسيلتين أساسيتين لتحقيق أهدافه في دول الخليج العربية، وهي:

 

أولاً: تأسيس المليشيات العقائدية المسلحة المرتبطة بإيران. وهذه المليشيات تتمتع بالدعم الرسمي الإيراني الكامل عبر رعاية الحرس الثوري الإيراني، وبالتحديد عبر الخدمات والتسهيلات التي يقدمها "فيلق القدس" للجهاد الخارجي، وهو ذراع الحرس الثوري الإيراني في العمل خارج الحدود الجغرافية للدولة، وهذا الجهاز يقدم الدعم المالي، واللوجستي، والإعلامي، وتوفير السلاح والتدريب والإسناد الميداني، للميليشيات المسلحة التابعة لإيران، والتي تم إنشاؤها بقرار إيراني على أعلى مستويات القيادة السياسية. ومهمة هذه المليشيات العمل على تحقيق الهدف النهائي وهو فرض السيطرة الإيرانية "غير المباشرة" على هذه الدول المستهدفة . وتأسيس حكومات في ظاهرها "مستقلة" وفي حقيقتها تابعة للقرار الإيراني وتعمل بحماية هذه الميليشيات المحلية المدعومة من الحرس الثوري. وهذا ما حدث في لبنان، والعراق، واليمن، وإلى حد ما في سوريا. فالأسلوب الإيراني في فرض السيطرة يقوم إما بإنشاء "الدولة الموازية" التي تتفوق على الدولة الأصلية بقدراتها وبقوتها العسكرية، والتي تقوم بالتسرب إلى مفاصل الدولة الأساسية، ومؤسساتها الحيوية. أو بإزالة الدولة الرسمية، وفرض السيطرة المباشرة على زمام السلطة عبر هذه المليشيات، وإعلان الدولة بكونها "دولة ذات تحالف استراتيجي مع إيران"، وهذا ما يمثله الوضع اليمني منذ استيلاء المليشيات الحوثية بالقوة العسكرية على العاصمة صنعاء في سبتمبر 2014 م، واغتصاب السلطة وتنصيب قيادة المليشيات كحكام جدد للدولة.

وكان عام 2017م، بارزًا في استمرار الجهود الخليجية للتعامل مع مخاطر التمدد الإيراني في جنوب الجزيرة العربية، واستمرار العمليات العسكرية الشرعية الهادفة لإنهاء سيطرة المليشيات الحوثية المدعومة من إيران على مقاليد السلطة في اليمن.

 

ثانيًا: هو أسلوب استخدام ورقة الولاء الطائفي، لتجنيد عناصر ضالة ومضللة من الأقليات الشيعية من أجل العمل كمجموعات إرهابية تستهدف أمن واستقرار الدولة، وهنا يبرز أسلوب العمل الإيراني في المملكة العربية السعودية، مملكة البحرين، ودولة الكويت. وقد أثمرت مساعي إيران في هذا المضمار من تأسيس خلايا إرهابية قامت بعمليات وهجمات إرهابية متعددة استهدفت الأمن والاستقرار الداخلي الخليجي. وتمكنت من زرع شبكات تجسس تعمل على تهديد أمن الدولة وسيادتها. ولكن نجاح النظام الإيراني في هذا المضمار كان محدودًا. فأجهزة الأمن الخليجية في السعودية، والبحرين، والكويت عملت على تفكيك هذه الخلايا الإرهابية والتعامل الحاسم مع العاملين فيها.

وقد كان عام 2017م، عام نجاحات متعددة لأجهزة الأمن الخليجي في تطوير استراتيجية مضادة ومنسقة لاحتواء التهديدات الإيرانية للأمن والاستقرار الخليجي.    

   

 

عام 2018م، ربما سيشهد تصاعدًا ملحوظًا في النشاطات الإيرانية لاستهداف أمن واستقرار دول الخليج العربية، خاصة في ظل تصاعد الضغوط الأمريكية على إيران، ومحاولات المجتمع الدولي في احتواء السلوك الايراني المهدد للأمن والاستقرار الدولي في عدة ملفات، منها: ملف طموحات إيران النووية، ملف تطوير وتصدير الصواريخ البالستية، ملف التوسع الجغرافي الإقليمي، وأخيرًا ملف السياسة التدخلية في الشؤون الداخلية لدولة المنطقة، وتوظيف الورقة الطائفية، وتأجيج الصراع الديني والطائفي لأهداف سياسية. ولكن في نفس الوقت فإن القدرات الأمنية والسياسية الخليجية قد تطورت بشكل كبير من أجل التعامل مع المخاطر الاستراتيجية القادمة من إيران.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*مدير برنامج الأمن والدفاع ـ مركز الخليج للأبحاث 

مجلة آراء حول الخليج