array(1) { [0]=> object(stdClass)#12962 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 127

لوزان تنتهي عام 2023 وتركيا تعيد التفاوض على الممرات ومقعد دائم في مجلس الأمن

الخميس، 15 شباط/فبراير 2018

 

كانت تركيا في قلب الأحداث الإقليمية والدولية في السنوات القليلة الماضية، وبالأخص من بداية العقد الثاني من القرن الحالي، فقد كان العقد الأول منه وهو العقد الأول من حكم حزب العدالة والتنمية في تركيا منصبًا على الشؤون التركية الاقتصادية الداخلية، ولكن منذ بداية العقد الثاني منه تسلطت الأضواء الداخلية والخارجية على دور السياسة التركية الخارجية، وبالأوضاع الملتهبة في المنطقة، فيما اصطلح على تسميته ثورات الربيع العربي، وبالأخص تطوراتها العسكرية في سوريا، حيث اضطرت الحكومة التركية لاستضافة أكثر من ثلاثة ملايين لاجئ سوري عبر حدودها الجنوبية أولاً، ثم تطوراتها الخطيرة على الأمن القومي التركي ثانيًا، بسبب محاولة أمريكا منح شمال سوريا للأحزاب الكردية الإرهابية، حزب الاتحاد الديمقراطي السوري (ب ي د) وميليشياته قوات حماية الشعب (ب ي ج)، وكذلك المليشيات التي شكلها البنتاغون الأمريكي باسم قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، بدليل أن الولايات المتحدة أعلنت بتاريخ 14 كانون ثاني/ يناير 2018م، عن تشكيل قوات مسلحة للتحالف شمال سوريا قوامها ثلاثين ألف جندي (كردي)، وهو ما رفضته الحكومة التركية واعتبرته على لسان المتحدث باسم الحكومة التركية لعبا بالنار من طرف أمريكا اتجاه تركيا، بينما قال الرئيس أردوغان:" إن واشنطن تدعم جيشًا إرهابيًا على حدودنا وسوف نتخذ الاجراءات اللازمة للقضاء على تلك القوات"، لأن هذه المليشيات ستكون من أكبر التحديات التي تحدد أولويات السياسة التركية الداخلية والخارجية، وهي تهديد مباشر للأمن القومي التركي، فمستقبل سوريا وشمالها تحديدًا هو محور علاقات تركيا مع أمريكا وروسيا وإيران ومستقبل سوريا أيضًا.

وبالنظر إلى التحديات التي عانتها تركيا في سوريا والعراق والانقلاب العسكري الفاشل في تركيا بتاريخ 15 تموز 2016م، والمواقف الغربية المريبة نحوه، ووقوف بعض العواصم الأوروبية ضد الاستفتاء الدستوري في تركيا في نيسان/ أبريل 2017م، وتأخير انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي لأسباب أيديولوجية وقومية، وعدم استجابة الإدارة الأمريكية لوجهة النظر التركية في مواجهة الإرهاب الدولي وغيرها، فقد وجدت السياسة التركية نفسها مضطرة للاعتماد على نفسها في رسم سياستها الداخلية والخارجية بما يمكنها من الحفاظ على نفسها ضد المشاريع العدوانية أولاً، وبالتعاون مع الدول الصديقية التي تلتقي معها في وجهة نظرها السياسية في المنطقة ثانيًا، بما يجعلها قادرة على التحرك بقدرات أكبر خارج حدودها لمعالجة المشاكل التي تهدد أمنها أولاً، وأمن أصدقائها أو حلفائها في المنطقة ثانيًا، والتي يمكن اعتبارها بطريقة غير مباشرة تحديًا للأمن القومي التركي أيضًا، ومنها مواقف السياسة التركية من أمن البحر الأبيض المتوسط والممرات المائية في البوسفور وبحر إيجه، وكذلك الممرات المائية القريبة من تركيا وأمن الخليج العربي وأمن البحر الأحمر وغيرها، ولا يقل أهمية عن ذلك سعي الحكومات التركية لفتح أسواق اقتصادية كبيرة للشركات التركية الكبيرة في الأسواق المرحبة بها، وبالأخص في دول آسيا وإفريقيا، فالسعي التركي لجعل الدولة التركية في مصاف الدول العشر الأولى في العالم عام 2023م، يفرض عليها صناعة أسواق خارجية تناسب هذه الطموحات، وتناسب النفوذ السياسي المرتقب لمستقبل تركيا الجديدة.

الرؤية التركية السياسية لمنطقة الشرق الأوسط:

تكاد معظم دول الشرق الأوسط أن تكون جزءًا من تاريخ الدولة والشعب التركي أيام الدولة العثمانية وقبلها، فالتاريخ المشترك بينهما لأكثر من خمسة قرون هو علامة مؤثرة على تشكيل الهوية الواحدة أو المتقاربة لشعوبها في الحاضر والمستقبل، ووحدة التراث والهوية الدينية والجغرافيا السياسية أمر لا يمكن تجاهله لراسم السياسة التركية، وقد يكون كتاب العمق الاستراتيجي التركي لرئيس الوزراء ووزير الخارجية التركي الأسبق البروفسور أحمد داود اغلو من أكثر الكتب المتخصصة في بيان ذلك، ولعل السياسة التركية لم تبتعد عن هذه الرؤية الاستراتيجية في رسم سياساتها الاقتصادية في العقود الأخيرة، فالسياسات التركية الرسمية وجدت نفسها أمام رغبات شعبية متواصلة لتأكيد الانتماء لمحيطها الحضاري، وقد تأكد ذلك منذ النصف الثاني من القرن العشرين الماضي مع حكومات عدنان مندريس وتورغت أوزال وسليمان ديمريل ونجم الدين أربكان، وتواصل ذلك مع حكومات رجب طيب أردوغان وأحمد داود اغلو وابن علي يلدرم، فالحكومات التركية تجد ضغوطًا من الشعب التركي لتقوية علاقاتها السياسية والاقتصادية مع محيطها الحضاري، وهذا ما دفعها لتوثيق علاقات تركيا الاستراتيجية مع منتدى التعاون العربي التركي، ومع جامعة الدول العربية منذ عام 2004م، وإنشاء مجلس التعاون عالي المستوى مع مجلس التعاون الخليجي، فضلا عن توقيع اتفاقيات تعاون استراتيجية ثنائية مع معظم دول الشرق الأوسط وفي مقدمتها دول الخليج العربي، فالحكومات التركية المتعاقبة كانت مطالبة من شعبها بتحسين علاقاتها مع الدول العربية والإسلامية، فالشعب التركي يقرأ هذا الانتماء في زيارته الشعبية لهذه الدول، كما يجد نفس المشاعر الأخوية من الشعوب العربية والإسلامية نحو تركيا وشعبها، فالقطاع السياحي العربي لتركيا لا ينقطع مهما كانت ظروفها السياسية، وهو ما أدى إلى تطوير القطاع التجاري والصناعي والسياحي والانشائي والزراعي وغيرها بين الشركات العربية والتركية كثيرًا في السنوات الماضية.

هذا التقارب الشعبي بين شعوب المنطقة فرض على الحكومة التركية أن تكون قريبة من قضايا المنطقة المؤلمة والمصيرية والحروب المشتعلة فيها، ومحاولة المساعدة لإيجاد حلول سياسية للأزمات التي تنهك دول المنطقة في السنوات الأخيرة، منها حروب غزة وحصارها، إلى حروب إيران العدوانية في العراق وسوريا واليمن وغيرها، إلى حروب روسيا العدوانية على سوريا والهيمنة على المنطقة، إلى حروب أمريكا على العالم الاسلامي منذ عام 2001م، وحتى الآن، وجريمتها الأخيرة بقرار الرئيس ترامب في الشهر الماضي باعتبار القدس عاصمة موحدة لإسرائيل، في تحد سافر للدول العربية والإسلامية قاطبة، إلى محاولة الغرب إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط وإحداث تقسيمات سياسية جديدة، بإقامة دول أو كيانات انفصالية في العراق وسوريا وغيرها من دول المنطقة، فكانت المواقف التركية اتجاه كل ذلك تفرضه الإرادة الشعبية بالوقوف إلى جانب الأخوة وشعوب المنطقة، مناصرة لقضايا المظلومين والمستضعفين منها، مهما كلف السياسة التركية من متاعب، ومهما كلف الاقتصاد التركي من أموال، سواء باستضافة اللاجئين داخل تركيا بكلفة فاقت الثلاثين مليار دولار، أو تقديم الدعم لهم في أقطارهم المنكوبة، أو في أقطار اللجوء الأخرى، وحتى لو أدى ذلك إلى رفض الدول الظالمة لذلك أيضًا.  

هذه محاور السياسة الخارجية التركية الراهنة، وهو ما أكده وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو في الأيام الأولى من عام 2018م، بقوله:" إنّ بلاده ستستمر في اتباع سياسة خارجية مبنية على أساس رفع القيم الإنسانية ونصرة المظلومين في المنطقة وكافة أرجاء الأرض"، كما أن تركيا ترغب بحل كل مشاكل المنطقة بالحوار، وتحقيق السلام بين دولها، ولعل أولها المشاكل المحاذية لحدودها ومنها أزمة إقليم شمال العراق، الذي عاد بعد فشل استفتاء الانفصال إلى محاورة انقرة، لإعادة العلاقات الحسنة مع تركيا، وفي ذلك يقول وزير الخارجي التركي:" إن بلاده ترغب في حل الأزمة القائمة بشمال العراق، عن طريق الحوار بين إدارة الإقليم والحكومة المركزية في بغداد، مشيرًا في هذا السياق أنّ تركيا لم تتبع سياسة من شأنها الحاق الضرر بالمدنيين، وقال:" إن الإدارة الكردية في شمال العراق، أدركت بأنّ الدولة الوحيدة التي تعاملت معهم بصدق وقدّمت لهم النصائح، هي تركيا، فمن دون تركيا لا معنى لوجود إدارة إقليم شمال العراق، لأن الإقليم مرتبط بتركيا"، وفي الصراع اليمني قال وزير الخارجية جاويش أوغلو:" إنّ الحرب في هذا البلد تحولت إلى مأساة إنسانية حقيقية، وأنّ العالم بات يدرك بأنّ الحرب لن تكون وسيلة لإحلال السلام في اليمن"، وقال:" إنّ أنقرة ستستمر في دعم الحلول السياسية للأزمة الخليجية الحاصلة بين قطر وعدد من الدول العربية، ودعم دور الوساطة الذي تقوم به الكويت"، وأشار جاويش أوغلو إلى النتائج الإيجابية للجهود التي بذلتها تركيا خلال العام الماضي، سواء على الصعيد الإنساني أو وقف الاشتباكات عبر إنشاء مناطق خفض التوتر، وقال:" صحيح أن بعض الخروقات وقعت في مناطق خفض التوتر، إلا أنّ حالات القتل والقصف تراجعت إلى حد كبير في العام الماضي، مقارنةً مع عام 2016م"، وأضاف:" وخلال العام الجديد سنولي اهتمامًا أكبر للحل السياسي، وسنعمل على إعادة تفعيل محادثات أستانة وجنيف وسوتشي، بشكل نستطيع من خلالها التوصل إلى نتائج إيجابية".  

إن السياسة الخارجية التركية ومن وجهة نظر وزرائها تولي اهتمامًا خاصًا لرعاية المصالح القومية التركية، كما تتبنى القضايا الإسلامية الكبرى على أنها قضايا تركية، بحكم رئاسة تركيا للدورة الثالثة عشرة لمنظمة التعاون الإسلامي، وقد تجلى ذلك بالدور التركي القوي ضد قرار ترامب الأخير بشأن القدس، فاستطاعت تركيا جمع الجهود العربية والإسلامية والعالمية لرفض هذا القرار في القمة الإسلامية في اسطنبول بتاريخ 13 كانون أول/ ديسمبر 2017م، وكذلك في الجمعية العامة للأمم المتحدة بعد أن استعملت أمريكا قرار النقض الفيتو في مجلس الأمن قبل قرار الجمعية العمومية بيومين، ولذلك فإن تركيا تدرك أن سياستها هذه تتطلب إجراءات أمنية داخلية وخارجية أكبر ، لحماية نفسها من الأطماع الخارجية، ولحماية أصدقائها أو من هم يشاركونها وجهات النظر السياسية، ويشاركونها في التعاون الاقتصادي، وهو ما يحمل تركيا مسؤوليات أمنية أو عسكرية بحسب اتفاقاتها الموقعة مع تلك الدول الصديقة.

من المسؤوليات المالية التي أعلنت عنها تركيا مرارًا نحو قضايا المنطقة المساعدات المالية والإنسانية الكبيرة نحو الشعب السوري داخل تركيا وخارجها، وكذلك المساعدات إلى اللاجئين العراقيين ومسلمي الروهينغا والعديد من الدول الإفريقية، كما أعلنت تركيا مؤخرًا عن استعدادها لتقديم الدعم إلى فلسطين، على خلفية تهديدات الولايات المتحدة بقطع دعمها عنها بعد رفض السلطة الفلسطينية لقرار ترامب بشأن القدس، داعيًا وزير الخارجية التركي بقية الدول الإسلامية إلى انتهاج موقف مماثل لبلاده، ولا يتوقف الأمر على المساعدات المالية المباشرة، بل وبحسب الاتفاقيات مع الدول العربية أو الإسلامية أو الصديقة تقوم تركيا بتوفير أسباب تطوير اقتصادها، وتأمين أسباب أمنها، ضمن القدرات التركية التي لا تتجاوز حتى الآن مستوى اتفاقيات التدريب العسكري، كما فعلت تركيا في معسكر بعشيقة في العراق، وكما فعلت بحسب الاتفاقيات الاستراتيجية العسكرية مع دولة قطر والصومال وأخيرًا مع السودان، فهذه الدول وغيرها طلبت من تركيا أن يشمل تعاونهما الثنائي على اتفاقيات أمنية وعسكرية في مجال التدريب، ولو كان ذلك بإرسال قوات عسكرية تركية إلى تلك الدول، أو في مجال التصنيع العسكري المشترك على أراضي تركيا أو أراضي تلك الدول، بما فيها الاتفاقيات العسكرية مع المملكة العربية السعودية بهذا الخصوص.

التعاون التركي السوداني وجزيرة سواكن:

وضعت تركيا إفريقيا أمام أعينها منذ عام 2005م، بهدف تطوير علاقاتها معها لأكثر من سبب، ومن أهمها السبب الاقتصادي، حيث أن تركيا بحاجة إلى أسواق عالمية تلبي طموحات الشركات الصناعية التركية، ولذلك تواصلت زيارة المسؤولين الأتراك إلى الدول الإفريقية كثيرًا، وفي الأيام الأخيرة من عام 2017م، قامت الرئاسة التركية بمجموعة زيارات دولية كبيرة ومهمة من الناحية الاستراتيجية، فقام الرئيس أردوغان بزيارة لثلاث دول إفريقية هي: السودان، وتشاد، وتونس، وقد كانت زيارة السودان من أكثر الزيارات التي تناولتها الصحافة وأقلام الإعلاميين والمحللين السياسيين، وهي بلا شك مهمة جدًا لأنها من حيث المبدأ تواصل بناء العلاقات التركية العربية الإفريقية على أسس متينة، ولكنها قد تكون بحاجة إلى تطمينات لكل الدول التي أثارت تساؤلات حولها، أولها أن زيارة المسؤولين الأتراك لإفريقيا قديمة وليست طارئة، فزيارات أردوغان للدول العربية والإفريقية تعد بالعشرات منذ استلام حزب العدالة والتنمية للسلطة في تركيا عام 2002م، وقد وصل عددها للدول الإفريقية وحدها مع الزيارة الأخيرة للسودان، 28 زيارة، وهذا رقم كبير بالنظر إلى زيارات كبار المسؤولين والرؤساء بين الدول، وهي أيضًا الزيارة الأولى لرئيس تركي منذ استقلال السودان عام 1956م، وقد كانت زيارة أردوغان الأولى لإفريقيا عام 2004م، وهو في منصب رئيس الوزراء، وكانت لمصر في عهد الرئيس حسني مبارك، كما زار عددًا آخر من دول القارة الإفريقية منذ ذلك التاريخ، ليختتم زياراته للقارة الإفريقية بجولته الأخيرة للسودان وتشاد وتونس.

إن تركيا تسعى لتوثيق العلاقات مع الدول الإفريقية على الصعيد السياسي والاقتصادي والسياحي والتصنيعي وغيرها، ورفع نسبة التبادل التجاري مع كل الدول الإفريقية هو هدف متواصل، وقد ارتفعت نسبة حجم الصادرات التركية بين عامي 2012 و2016م، نحو 65 مليار دولار، وارتفع حجم التجارة معها إلى 93.5 مليار دولار، وهذه النسبة تقدر بنحو 200%، وهذا كله نتيجة رؤية استراتيجية لتركيا في علاقاتها مع إفريقيا أطلق عليها منذ أكثر من عشر سنوات «سياسة الانفتاح على القارة الإفريقية».

ودعوة السودان للشركات التركية الزراعية للاستثمار في السودان هي خطوة إيجابية وضرورية لمحاولة تجاوز الصعوبات الاقتصادية التي تواجهها السودان وغيرها من الدول الإفريقية، ولكن هذه الدعوة والاتفاقيات تمثل تحديًا للشركات والدولة التركية أيضًا، فالدول الغربية تضع خطوطًا حمراء لدرجة الوحدة أو التعاون السياسي والاقتصادي والعسكري بين الدول الإسلامية، ولكن الشركات التركية لها خبرة طويلة وكبيرة في المجالات الزراعية أولاً، ولها خبرة كبيرة في التنافس الدولي على صعيد الاستثمارات الزراعية وصادراتها، ولذلك فإن عرض السودان على القطاع الخاص التركي مليون فدان لزراعة قطن وحبوب زيتية خطوة إيجابية، ولا بد أن تكون خطوة أولية، والتكامل التام بين السودان وتركيا بحاجة إلى مزيد من التعاون، وقد تم توقيع 22 اتفاقية تعاون بينهما، وخلال هذه الزيارة أعلن الرئيسان السوداني والتركي في الخرطوم، إنهما يسعيان لرفع حجم التبادل التجاري بين البلدين من 500 مليون إلى 10 مليارات دولار.

هذه الزيارة والاتفاقيات الموقعة فيها لها قيمة اقتصادية كبيرة من وجهة نظر تركية أولاً، ومن وجهة نظر حكومات وشعوب الدول التي تتعاون معها تركيا اقتصاديًا، فقد تميزت هذه الزيارات بمرافقة الرئيس التركي معه نحو مئتين من رجال الأعمال الأتراك من كافة التخصصات، ولكنها لم تكن زيارة مصلحة فقط، وإنما وبحسب التصريحات التركية الرسمية زيارة تجديد وتوثيق للعلاقات الأخوية مع الدول الإفريقية، وبالأخص التي كان لها تاريخ عريق أيام الدولة العثمانية، وفيها الكثير من الآثار التاريخية المشتركة، وبعض مدنها لعبت دورًا تاريخيًا في حركة النقل البحري ومنها جزيرة سواكن السودانية، حيث أن الدولة العثمانية كانت تتخذ من جزيرة «سواكن» مركزًا للبحرية، بهدف توفير أمن البحر الأحمر والحجاز والسودان، ضد الأخطار الخارجية، وقام الاستعمار البريطاني بتدميرها في الحروب السابقة، فإعمارها اليوم هو مطلب شعبي ورسمي سوداني، قابله ترحيب تركي رسمي وشعبي، ولا بد ان يجد ترحيبًا عربيًا وإفريقيًا وإسلاميًا أيضًا، لأن هدفها وعوائدها ستكون لمنافع شعوب الدولتين أولاً، ولشعوب المنطقة ثانيًا، لأنها تطوق لرؤية التعاون بين الدول العربية والإسلامية.

ولذلك فإن الحكومة التركية استغربت المخاوف التي أثيرت حول الاتفاق التركي ــ السوداني، وبالأخص حول إعادة إحياء جزيرة سواكن في البحر الأحمر، وحول المعلومات المغلوطة التي تناولتها بعض وسائل الإعلام العربية بشأنها قال وزير الخارجية التركي بخصوص سواكن:" أجدادنا قاموا بإحياء جزيرة سواكن في الماضي، فهذه الجزيرة مهمة بالنسبة للسودان والعالم الإسلامي، والدول الغربية التي احتلت القارة الإفريقية، أفسدت ودمّرت هذه الجزيرة، ولم تتحمّل رؤية الآثار العثمانية قائمة هناك".  

وحيث أن الاعتراض الأكبر على هذه الاتفاقية قد يأتي من الجانب المصري، ولو على ألسنة الإعلاميين بالوكالة، فإن الرد على ذلك سيكون من خلال اللقاءات الثنائية التركية ــ المصرية قريبًا، حيث من المنتظر أن تشهد المرحلة المقبلة عملية تطبيع العلاقات بين تركيا ومصر بشكل مباشر أو غير مباشر، فبحسب تصريح جاويش أوغلو قوله: "التقيت وزير خارجية مصر سامح شكري في الاجتماعات الدولية، والرئيس أردوغان أشار إلى إمكانية عقد لقاءات مع الجانب المصري على مستوى الوزراء"، وأشار جاويش أوغلو إلى حدوث بعض اللقاءات بين وزيري اقتصاد البلدين في وقت سابق، مشيرًا في هذا السياق إلى أنّ تركيا لا تعاني من مشاكل مع الشعب المصري، وأنّ القاهرة فقط تعارض ما تطلق عليه انقرة الانقلاب العسكري، وأنّ مصر تعتبر من أهم البلدان الإسلامية، وأنّه من الضروري أن تنعم هذه الدولة بالأمن والاستقرار الداخلي والسلام"، وقال:" نحن نرغب في تحسين علاقاتنا مع مصر، لكن على القاهرة الإقدام على خطوات جادة من أجل إحلال الديمقراطية وحل المشاكل الداخلية التي تعاني منها".

عسكرة البحار والممرات المائية الإقليمية والدولية:

تخضع عسكرة البحار والممرات المائية للقانون الدولي الخاص بذلك، وكل دول العالم لها حقوقها الأمنية والعسكرية في حماية مياهها الاقليمية بحسب حدودها الدولية المقررة، كما أن لها حرية عقد الاتفاقيات الأمنية البرية والبحرية مع الدول الأخرى بحسب القانون الدولي أيضًا، وقد أثارت الاتفاقية التركية ـ السودانية مخاوف حول التواجد التركي في البحر الأحمر ، وبالأخص فيما لو تحولت جزيرة سواكن إلى قاعدة عسكرية تركية في المستقبل، لأن الاتفاق الحالي لا يمثل إلا مشروعًا استثماريًا اقتصاديًا وسياحيًا فقط، ولو وجد شيء من الضرورات الأمنية لحماية الجزيرة فلن تكون بمستوى المفهوم التقليدي للقواعد العسكرية، وإنما بتواجد محدود لحماية المشاريع الاقتصادية فيها.

إن موقع تركيا الاستراتيجي جغرافيًا يجعلها مجمع لقاء بين القارات والبحار والممرات المائية الهامة دوليًا، فالبوسفور يمثل ممرًا دوليًا هامًا بين البحر الأسود والبحر الأبيض المتوسط، وقد كانت هذه الممرات من أهم بنود معاهدة لوزان الدولية عام 1923م، والتي تأسست الجمهورية التركية على أساس شروطها، بل وخضوعها للشروط الدولية بالتحكم بهذه الممرات الدولية، وهذه الاتفاقية سوف تنتهي بعض شروطها بعد خمسة أعوام، أي عام 2023م، وهو ما سوف يؤهل تركيا لفتح ملفات جديدة للمفاوضات بشأن الممرات المائية التركية، ومنها التحكم بعائداتها المالية وشروطها الأمنية والعسكرية، ولكن ذلك ليس مبعث خطر ولا تهديد للممرات المائية التركية، وتقوم تركيا في هذه السنوات ببناء أسطول بحري مدني وعسكري كبير يتناسب مع موقعا الاستراتيجي، فالجهود التركية تهدف إلى إيجاد عالم أكثر عدلاً أولاً، وترى أن ذلك منوط بأن يكون أكثر مشاركة من كافة دول العالم وأممه، وليس حصرًا على خمس دول فقط، فتركيا ترى أن العالم أكبر من خمس دول، وترى أن مجلس الأمن يحتاج إلى مقعد يمثل العالم الإسلامي، الذي يمثل سكانه أكثر من خمس البشرية.

إن أهمية البحر الأحمر تأتي من موقعه بين القارات الثلاث آسيا وإفريقيا وأوروبا، وما تؤدي إليه منافذ البحر الأحمر الدولية، فهو يصل البحر الأبيض المتوسط عبر قناة السويس وخليج السويس بالمحيط الهندي عبر باب المندب، وتمر في البحر الأحمر السفن للأغراض التجارية والعسكرية وغيرها، وهو البحر الفاصل بين الجزيرة العربية عن الدول الإفريقية العربية، كما أن البحر الأحمر أهمية سياسية كبيرة لدى القوى الإقليمية والدولية، فقناة السويس في شماله تلعب دورًا مهمًا في الملاحة الدولية، وكذلك باب المندب في جنوبه، ولذلك تلعب قناة السويس وباب المندب أهمية عسكرية أيضًا، وقد اكتسب البحر الأحمر أهمية عسكرية من الموانئ العديدة المطلة عليه، والصالحة للاستخدام العسكري والتجاري، وهذا أوجد تنافسا بين الدول المحيطة به، ولذلك تحاول الدولة الإسرائيلية منذ نشأتها عام (1948م) للهيمنة عليه، من خلال عقد اتفاقيات دولية مع تلك الدول، أو باتباع استراتيجية تمكنها من السيطرة عليه، وليس تأمين ممرات آمنة لها فيه فقط، فابن غورريون وهو أول رئيس وزراء للدولة الإسرائيلية قال:" لو تمكنا من السيطرة على مواقع مهمة في البحر الأحمر، فإننا سنتمكن من مواجهة سور الحصار العربي بل والانتقال إلى محاولة الانقضاض عليه".

لقد بدأت قصة جزيرة سواكن من احتوائها على آثار عثمانية كثيرة قامت منظمة ومؤسسة تيكا التركية بترميم بعض آثارها بموجب اتفاقات ثنائية سابقة مع الهيأة القومية للآثار السودانية، ويقال أن مشاريع الترميم في سواكن قد عرضت على أطراف دولية أخرى قبل تركيا، ولكنها لم تتشجع لذلك، بينما وجدت السودان بتركيا الشريك المستعد لتنفيذ وجهة النظر السودانية لمستقبل سواكن وآثارها ومشاريعها السياحية فيها، بداية بترميم أبنيتها كما كانت سابقًا، ومن ثم لاستثمارها كمدينة سياحية مثلها مثل أي مدينة سياحية في المنطقة والعالم، فموقعها على البحر الأحمر ودورها التاريخي وموجوداتها من الآثار والمباني التاريخية يؤهلها لكل ذلك، فالهدف من هذا الاستثمار مشترك بين تركيا والسودان، حيث تهدف تركيا إلى ترميم الآثار العثمانية التاريخية، وهو ما لم تتمكن الحكومة السودانية من القيام به وحدها من قبل، وتهدف السودان إلى تحويلها منتجعًا سياحيًا عالميًا بإنشاء المنتجعات والفنادق السياحية فيها، وهذا الترميم والاستثمار يتولاه القطاع السياحي الخاص في تركيا، فقصة سواكن قصة ترميم آثار عثمانية، واستثمار جزيرة سياحية، وليس فيها أي اتفاقيات عسكرية تؤثر على المنطقة.

وربما كان لتزامن زيارة أردوغان إلى السودان مع الخلافات السودانية وإثيوبيا من جهة ومصر وإريتريا من جهة أخرى حول تقاسم مياه النيل والمشاريع الاستثمارية أو السدود المائية المتعلقة بمجرى النيل دور في اللغط الذي صاحب ذلك، فالخلافات السودانية ـ المصرية هي في معزل عن التحركات الاستثمارية لتركيا في إفريقيا أو في السودان، فتركيا لا تسعى لتشكيل تحالفات سياسية أو عسكرية ضد أحد من البلاد العربية أو الإسلامية أو الإفريقية، والتحركات العسكرية المصرية الإريترية على الحدود الشرقية للسودان هي قضية أخرى أيضًا، علمًا بأن مصر نفت تواجدًا عسكريًا لها في إريتريا، وكذلك نفاه الرئيس الإريتري أيضًا، وللحكومة السودانية رأي آخر ، ولكن لا صلة له بالتعاون الاستثماري التركي في السودان، بل إن من شروط نجاح المشاريع التركية في السودان أن تضمن عدم تصعيد الوضع العسكري بين السودان ومصر.

خاتمة:

إن توثيق تركيا لعلاقاتها السياسية والاقتصادية مع الدول العربية والإفريقية هدفه واضح، ولا غاية له إلا توثيق هذه العلاقات لمنفعة شعوبها، أو كما قال بعض الإعلاميين الأفارقة بأنها بدايات جادة للنهضة الإفريقية بالنظر إلى التجربة النهضوية التركية الناجحة في العقدين الماضيين، فالمشاريع التركية مع الدول الإفريقية أكثر استقلالية من غيرها، وبالأخص من المشاريع الاقتصادية الغربية أو الإسرائيلية أو غيرها، سواء في القطاع الزراعي أو السياسي أو التصنيعي المدني أو العسكري أو غيرها، فهذه الشراكة التركية مع الدول الإفريقية منفردة لا تنافس المشاريع الإفريقية الأخرى داخليًا، ولا تنافس المشاريع العربية أو الإسلامية الأخرى أيضًا، وإنما من المؤكد أنها لا ترضي المشاريع الإسرائيلية والغربية بالدرجة الأولى، فالمشاريع الاقتصادية والاستثمارية داخل منظمة التعاون الإسلامي ضرورية، وتوقيع الاتفاق الاستراتيجي التركي ــ السوداني سبقه توقيع مماثل مع دول مجلس التعاون الاستراتيجي بين تركيا وعدد من الدول العربية والإسلامية، فقد تم توقيع اتفاقيات تعاون بين تركيا ودول مجلس التعاون الخليجي، أو مع دول التعاون الخليجي منفردة أيضًا.

وفي النهاية فإن تركيا تبقى دولة أوروبية وتسعى بكل إمكانياتها لإتمام عضويتها الكاملة في الاتحاد الأوروبي، وقد رفضت مبدأ الشراكة المميزة مع الاتحاد الأوروبي، وهو المشروع الذي طرحه على أردوغان خلال زيارته الأخيرة لفرنسا، فالرئيس الفرنسي ماكرون يرى أن:" المهم هو تأمين استمرار ارتباط تركيا والشعب التركي بأوروبا"، وفي ذلك دلالة على أن أبواب أوروبا مفتوحة للشراكة الاقتصادية مع تركيا، ولكن تركيا تطالب بحقها الكامل بعضوية الاتحاد الأوروبي، فتركيا جزء من أوروبا جغرافيًا وسياسيًا، ولكنها حريصة على علاقات متينة وسلمية مع الدول العربية والإسلامية، وإثارة المخاوف منها إعلاميًا لا دليل له على أرض الواقع.

إن تركيا جزء مهم من أسرة الشرق الأوسط، وهي شقيق كبير في هذه الأسرة، بكل ما تحمله هذه الكلمة من معان وقيم ومسؤوليات، يؤلمها ما يؤلم أصغر دولة فيها، ورؤيتها لتأمين أمن هذه الأسرة واجب عليها، سواء في حماية أراضيها أو بحارها أو ممراتها المائية، وبقدر التزام تركيا بعدم الدخول في أحلاف دولية ضد أحد من دول الشرق الأوسط، فإنها تأمل أن يكون ذلك الالتزام من جميع دول الشرق الوسط نحو تركيا أولاً، ونحو بعضها بعضًا ثانيًا، فالأحلاف والمشاريع الخارجية لا تخدم إلا نفسها.

مقالات لنفس الكاتب