; logged out
الرئيسية / الأمم المتحدة ... والإصلاح الصعب

العدد 129

الأمم المتحدة ... والإصلاح الصعب

الإثنين، 02 نيسان/أبريل 2018

         يهدف هذا المقال إلى بحث الوضع الراهن للأمم المتحدة ومدى تعبيرها عن الواقع والتطورات العالمية، واحتمالات اصلاح مؤسساتها لكي تكون أكثر كفاءة وفاعلية في حفظ السلم والأمن الدوليين، وينصب التحليل على العلاقة الملتبسة بين ثلاثة مفاهيم يصف كل منها أحد جوانب الوضع الدولي وهي: النظام الدولي، والتنظيم الدولي، والقانون الدولي العام.

       والحجة الرئيسية لهذا المقال هو ازدياد شقة التباعد بين هذه المفاهيم الثلاثة في الواقع الدولي الراهن، والتي من المفروض– من الناحية النظرية-أن تكون متسقة ومنسجمة مع بعضها البعض. أي أن يكون هناك اتساق بين التنظيم الدولي أي المنظمة الدولية القائمة، وهي في حالتنا هيأة الأمم المتحدة، والنظام الدولي الذي يشير إلى نمط توزيع القوة بين الدول الكبرى وأنماط التعاون والتنافس والصراع بينها، والقانون الدولي العام أي القواعد المستقرة التي تنظم العلاقات بين الدول ووحدات النظام الدولي.

     والحقيقة التي يشهدها عالمنا اليوم، هي عدم الاتساق بين ميثاق الأمم المتحدة، ونمط توزيع القوة بين الدول الكبرى بشكل مغاير لما كان عليه الوضع عند وضع هذا الميثاق، والمفاهيم التي ادخلتها الدول الغربية على قواعد القانون الدولي تحت مسميات جديدة وبشكل يتعارض أيضًا مع المبادئ والأسس التي قامت عليها الأمم المتحدة.

أولاً: التنظيم الدولي كتعبير عن التوازن بين الدول الكبرى

        ترتبط نشأة التنظيمات الدولية بالتوافق الذي يحدث بين الدول الأكثر تأثيرًا ونفوذًا في العالم، والتوافق بينها على المبادئ التي ينهض عليها التنظيم ويكون لها مصلحة في استمراره.

     فعلى المستوى الأوروبي، تعددت المؤتمرات والمواثيق في القرن التاسع عشر التي سعت الدول المنتصرة من خلالها لإقامة ترتيبات للأمن والسلام مثل مؤتمر فيينا عام 1814-1815م، الذي اشتركت فيه الدول المنتصرة في أعقاب الحروب النابوليونية وهي إنجلترا وروسيا والنمسا وبروسيا، وبانضمام فرنسا الى هذا التجمع في 1818م، تبلور "الوفاق الأوروبي" الذي هدف إلى الحفاظ على الأوضاع القائمة في القارة.

     وعلى المستوى الدولي، كان إنشاء عصبة الأمم التي وقع عهدها والاتفاقيات العامة في مؤتمر الصلح في 28 أبريل 1919م، والتي بدأ وجودها القانوني والفعلي في 10 يناير 1920 م، في أعقاب الحرب العالمية الأولى تعبيرًا عن رغبات ومصالح الدول المنتصرة التي شملت بريطانيا، فرنسا، إيطاليا، الولايات المتحدة، وذلك على حساب الدول المهزومة، وهي ألمانيا والامبراطورية النمساوية-المجرية والامبراطورية العثمانية. تم تفكيك الدول المهزومة، واُقتطعت بعض أراضيها وتم إلحاقها بدول أخرى، وفُرضت عقوبات اقتصادية عليها، وتولت الدول المنتصرة مسؤولية " الانتداب" على بعض الأقاليم التي رأت أنها لم تكن مؤهلة بعد للاستقلال، وشمل ذلك بعض بلادنا العربية كسوريا ولبنان والعراق وفلسطين.

     استمرت عصبة الأمم في أداء عملها طالما استمر التوافق بين الدول المنتصرة. وبدأت أزمتها مع ظهور الصراعات بينها، وانتهاك بعضها لمبادئ العصبة دون أن تتمكن المنظمة الدولية من حماية المعتدى عليه، ومنع الدولة المعتدية من الاستمرار في عدوانها، مثل قيام اليابان باعتداءات متتالية على الصين بحجة حماية حقوقها الخاصة بامتياز خط السكة الحديد في منشوريا، وقيام إيطاليا بغزو الحبشة عام 1935م، وكانت القشة التي قسمت ظهر عصبة الامم هو قيام ألمانيا الهتلرية بإعادة تسليح ذاتها وغزو النمسا وتشيكوسلوفاكيا.

     وبنفس المنطق، فإن نشأة الأمم المتحدة واقرار ميثاقها في مؤتمر سان فرانسسكو عام 1945م، كان تعبيرًا عن مصالح الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، وهي دول الحلفاء (الولايات المتحدة، وبريطانيا، وفرنس، والاتحاد السوفيتي، والصين) على حساب دول المحور المهزومة (ألمانيا وايطاليا واليابان)، وتكرر نفس المشهد، فتم تفكيك مستعمرات الدول المهزومة ووضعها تحت نظام الوصاية الذي تولته الدول المنتصرة، وفرضت شروطًا قاسية على ألمانيا واليابان بشأن الجيش والتسليح، كما فُرض عليها دساتير واشكال نظم حكم ديمقراطية.

       ظهرت أزمة الأمم المتحدة مبكرًا في نهاية حقبة الاربعينيات من القرن الماضي باندلاع الحرب الباردة بين الدولتين العملاقتين والمعسكرين الغربي والشرقي، ووقعت الأمم المتحدة ضحية لهذا الخلاف واستخدم كل من الطرفين حق الفيتو في مجلس الأمن لمنع إصدار القرارات التي لا تتفق مع مصالحه. وبعد تفكك الاتحاد السوفيتي في عام 1991م، وانتهاء الحرب الباردة، وانكفاء روسيا على مشاكلها الداخلية، نشطت الأمم المتحدة كأداة في يد السياسة الأمريكية، ولكن انتهى هذا الأمر بعودة روسيا إلى حلبة السياسة الدولية في عهد الرئيس بوتين.

ثانيًا: تباعد المصالح واعادة توزيع مصادر القوة

       كما ذكرنا، فإن استقرار التنظيم الدولي يرتبط بتعبيره عن توازن القوى بين الدول الكبرى من ناحية، واستمرار حد مقبول من التوافق بين مصالحها من ناحية أخرى. والحقيقة، أنه على مدى العقود الأربعة الأخيرة فقد ازدادت الفجوة بين صورة العالم الذي نشأت الأمم المتحدة للتعبير عنه، والتحولات الجسيمة في ميزان القوي الاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية في العالم. وتتمثل أهم ملامح الصورة الجديدة في:

  1. تراجع القوة الأمريكية:

شهدت القدرات الاقتصادية الأمريكية مقارنة بالدول الأخرى تغيرات كبيرة، فبعد أن كان نصيب الناتج المحلي الإجمالي لها نسبة إلى الناتج العالمي الإجمالي ما يقرب من 45 % في منتصف حقبة الأربعينيات من القرن الماضي، تقلصت هذه النسبة إلى ما هو دون 20%، فبلغ في عام 2014م، نسبة 16.14%، وانخفض في عام 2015م، إلى 15.79%، ثم إلى 15.6% في عام 2016م. وحدث هذا الانخفاض لصالح نمو الناتج المحلي الإجمالي للصين وعدد من الدول الأخرى. وفي نفس الاتجاه، تحتل المديونية الأمريكية المرتبة الأولى في العالم، وتشغل الولايات المتحدة المرتبة التاسعة منحيث حجم احتياطيات النقد الأجنبي.

       ورغم هذا التراجع الاقتصادي النسبي مازال الاقتصاد الأمريكي هو أكبر اقتصاد على مستوى العالم، ومازالت الولايات المتحدة تحتل المرتبة الأولى في حجم القدرات العسكرية وعدد القواعد المنتشرة فيه، والمرتبة الأولى في الانفاق على البحث العلمي والتطوير التكنولوجي، والذي مثل نحو 28.4% من الإنفاق العالمي عام 2016م.

وهكذا، فإن القوة الأمريكية تعاني من مفارقة كبيرة بين قدراتها الاقتصادية المتقلصة واستمرار دورها القيادي في المجالين العسكري والتكنولوجي، ويثير هذا مشكلة مدى قدرة الاقتصاد الأمريكي على تحمل هذه الأعباء مما فرض على واشنطن أن تطلب من حلفائها المشاركة في تحملها.

  1. صعود قوة الصين:

في مقابل التراجع النسبي الأمريكي، يرتفع نصيب الناتج المحلي الإجمالي للصين كنسبة من الناتج العالمي الإجمالي بشكل مضطرد، فبلغ في عام 2014م، نسبة 16.32%، ارتفعت في عام 2015م، الى 17.35%، ثم الى 17.9% عام 2016م. وارتبط بذلك توسع هائل في تجارة الصين الخارجية بحيث أصبحت الشريك التجاري الأول للقارة الإفريقية ودول الآسيان، والثاني لدول أمريكا اللاتينية.

تحتل الصين المرتبة الأولى في العالم وفقًا لحجم احتياطي النقد الأجنبي، ويليها في المرتبة الثانية اليابان، وهي أكبر دائن ومشتري لسندات الحكومة الأمريكية، وأكبر مستثمر أجنبي فيها منذ الأزمة المالية العالمية عام 2008م. وفي المجال العسكري، تشغل الصين إحدى المرتبتين الثانية أو الثالثة عالميًا بالتبادل مع روسياوخلف الولايات المتحدة الأمريكية، ويتضح الفارق بين حجم الإنفاق العسكري الصيني مقارنة بأمريكا، فقد بلغ في عام 2016م، نحو 150 مليار دولار وهو ما يماثل ربع نظيره الأمريكي.

وفي نفس السياق، تحتل الصين المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة في الإنفاق على البحث والتطوير التكنولوجي، وبلغ إنفاقها نحو 20.4% من إجمالي الإنفاق العالمي عام 2016م.

ويتفق أغلب الباحثين على أنه في حالة استمرار معدلات النمو الحالية في الصين، فإنها في غضون سنوات سوف تصبح الدولة رقم (1) في العالم.

  1. عودة روسيا:

بعد فترة من الجمود والأزمات الداخلية نتيجة تفكك الاتحاد السوفيتي وسياسات يلتسين، عادت روسيا كقوة سياسية واستراتيجية في العلاقات الدولية، ويتضح ذلك في موقفها الحاسم تجاه تمدد حلف الأطلنطي على حدودها، والأزمة الأوكرانية وشبه جزيرة القرم. كما يتضح في التدخل العسكري المباشر في الأزمة السورية الذي غير من موازين القوى، وفي إقامة علاقات سياسية وعقد صفقات تسليحية مع عدد من الدول العربية، وفي تنفيذ برنامج طموح لتطوير الصناعات العسكرية الروسية في عهد الرئيس بوتين.

تشغل روسيا المرتبة الـ 12 وفقًا لنسبة نصيب الناتج المحلي الإجمالي لها إلى الناتج العالمي الإجمالي، والمرتبة السادسة في حجم احتياطي الذهب في العالم، وتعاني روسيا من حقيقة أن اقتصادها يعتمد على تصدير المواد الأولية، فهي تمتلك أكبر احتياط غاز في العالم، وهي أكبر مصدر له. وهي أكبر منتج للألماس في العالم ويمثل إنتاجها 25% من الإنتاج العالمي.

ومن الواضح أنه لا يمكن اعتبار روسيا ندًا للولايات المتحدة في المجال الاقتصادي، وعندما يتم التحالف بين القدرة الاقتصادية الصينية والقدرة العسكرية والسياسية الروسية، فإننا نكون أمام توازن قوى مختلف تمامًا.

ثالثًا: فرض مفاهيم جديدة في القانون الدولي العام

       في أعقاب انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي، وخروجه من معادلة التوازن العالمي، بل واندفاعه في عهد الرئيس يلتسين في التقارب مع الغرب، أصبح للولايات المتحدة اليد العليا في إدارة شؤون العالم، واستخدمت مجلس الأمن كأداة لتنفيذ أهدافها ولم يكن بوسع روسيا أو الصين مواجهة هذا الاجتياح السياسي والدبلوماسي الأمريكي.

       وفي نفس السياق، قامت الولايات المتحدة بفرض مفاهيم وأفكار في مجال القانون الدولي العام تحقق مصالحها في الوقت الذي تتعارض فيه مع المبادئ الواردة في ميثاق الأمم المتحدة، مثل تركيزها على مكافحة الإرهاب، والقانون الدولي لحقوق الإنسان، وحق التدخل لذرائع أو أسباب إنسانية، وذلك على حساب مبدأ سيادة الدولة.

   ففي المجال الاقتصادي، تم إعطاء الأولوية لتحرير التجارة الدولية، كما انتهت إلى ذلك جولة مفاوضات أورجواي، وإنشاء منظمة التجارة العالمية. فأول المستفيدين من النصوص الخاصة بحقوق الملكية الفكرية وتحرير قطاع الخدمات هو الدول الصناعية المتقدمة وشركاتها العابرة للدول. وسعت الدول الغربية إلى فرض قيمها الاجتماعية وأولوياتها على جدول أعمال العالم من خلال مجموعة من المؤتمرات الدولية التي نظمتها الأمم المتحدة والتي ناقشت قضايا البيئة والسكان والمرأة والفقر وحقوق الإنسان، وشهد كل من هذه المؤتمرات جدالات وحوارات ساخنة بين دول الجنوب التي عارضت توجهات الدول الغربية، واعتبرتها تلحق أضرارًا بالغة بمصالحها وتمثل تهديدًا لقيمها.

        تراجعت قضايا العالم الثالث مثل التحرر الوطني وحوار الشمال-الجنوب ومجموعة الدول 77، ليحل محلها فتح أسواق الدول النامية أمام منتجات الدول الصناعية، وتحرير التجارة العالمية.

       وفي المجال السياسي، تحركت الولايات المتحدة في اتجاهين متناقضين:

الاتجاه الأول، هو إسباغ الحصانة على رعاياها ورفض معاهدة إنشاء المحكمة الجنائية الدولية، وكانت إحدى الدول السبع التي عارضت اتفاقية روما المنشئة للمحكمة عام 1998م، في الوقت الذي أصدر فيه الكونجرس الأمريكي قانون "الجاستا" الذي سمح للمحاكم الأمريكية بالنظر في دعاوى ضد المسؤولين في دول أخرى مخالفة لكل المواثيق والأعراف الدولية، وتدخلت في الشؤون الداخلية للدول الأخرى من خلال تدعيم بعض الجمعيات الأهلية فيها دون علم أو موافقة حكومات هذه الدول، وذلك تحت شعار ترويج الديمقراطية، أو حق التدخل لأسباب إنسانية.

     أما الاتجاه الثاني، فهو تبرير حق استخدام القوة والتهديد بها بما يخالف ميثاق الأمم المتحدة، والذي نصت الفقرة الرابعة من المادة الثانية منه على عدم جواز استخدام القوة المسلحة أو التهديد بها إلا في الحالات التي نص عليها الميثاق، وجرائم الحرب والإبادة الجماعية. فقامت الولايات المتحدة باستخدام القوة منفردة بدون ترخيص من الأمم المتحدة والعمل دون الخضوع لسلطتها وإشرافها، ومن ذلك العمل العسكري ضد السودان في أغسطس 1998م، واستخدام حلف الأطلنطي القوة المسلحة ضد كوسوفا في نفس العام في حملة استغرقت 79 يومًا، والغزو العسكري للعراق في مارس 2003م، رغم فشلها في الحصول على قرار من مجلس الأمن يبيح لها هذا التصرف.

     وجاء هذا التدخل مخالفًا لحكم محكمة العدل الدولية في قضية الأنشطة العسكرية وشبه العسكرية ضد نيكارجوا عام 1986م، والذي تضمن رفضًا كاملاً للتدخل الأمريكي ضدها، وذلك باعتبار أن اختيار شكل نظام الحكم– بغض النظر عن طبيعته -في أي بلد، هو شأن داخلي ولا يمكن أن يكون مبررًا لاتخاذ تدابير عقابية ضده.

     وبررت الولايات المتحدة مسلكها في العراق باستخدام مفهوم" الدفاع الشرعي الوقائي"، وهو مفهوم مفتعل فهو لا ينصب على تهديد داهم أو خطر عاجل وإنما إلى خطر قادم محتمل. وحسب هذا الفهم، فإن الولايات المتحدة تنفرد بتحديد هذا الخطر المحتمل، والدول المسؤولة عنه وتقوم بالتدخل العسكري ضدها، وذلك تحت شعار الحروب الوقائية. ويتناقض هذا التصور بشكل واضح مع نص المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة الخاصة بحق الدولة في الدفاع الشرعي عن النفس والتي اشترطت صراحة لقيام حالة الدفاع الشرعي وقوع عدوان مسلح بالفعل وليس العدوان المحتمل أو المتخيل، وهو المعني الذي أكده قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 3314 في 14 ديسمبر 1974م، والخاص بتعريف العدوان المتصل بتطبيق المادة 51، والذي قصره على العدوان العسكري دون غيره من الأشكال السياسية والتجارية والإعلامية للعدوان. ناهيك عن تناقض هذا الموقف الأمريكي بشأن الحروب الوقائية عن المواقف السابقة التي تبنتها واشنطن في محاكمات طوكيو ونورمبرج عندما رفضت دعاوى المتهمين بأن بلادهم كانت تمارس حربا دفاعية وقائية.

     وكل هذه الأفكار الأمريكية - الغربية تتعارض بشكل مباشر مع مواد الميثاق التي تنص على سيادة الدولة وعدم التدخل في شؤونها الداخلية. فقد نصت الفقرة الأولى من المادة الثانية من الميثاق على "قيام الأمم المتحدة على مبدأ المساواة في السيادة بين جميع أعضائها"، والفقرة السابعة من نفس المادة التي نصت على مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول. وتجلى الفارق بين موقف الولايات المتحدة ومؤيديها من الدول الغربية الذين يرغبون في تجاوز البنية القانونية للأمم المتحدة وفرض مفاهيم جديدة، وأغلبية دول الجنوب تتصدرها روسيا والصين، والتي تصر على التمسك بمبادئ الميثاق.

ظهر ذلك في الجدل القانوني والسياسي الذي دار في مؤتمر الأمم المتحدة عن حقوق الإنسان في فيينا في 1993م، كما ظهر في الحوار الذي شهده مجلس الأمن بخصوص إرسال بعثة تقصي حقائق إلى إقليم تيمور الشرقية لمعرفة رغبات سكانه، فعندما تقدمت دول الاتحاد الأوروبي بهذا الطلب دعمته الولايات المتحدة، بينما عارضته إندونيسيا صاحبة الولاية على هذا الإقليم وقتذاك، وعارضته أيضًا الصين والهند والدول الإسلامية ودول أمريكا اللاتينية.

رابعًا: الإصلاح الصعب

         لا يوجد أدني شك في أن ميثاق الأمم المتحدة يحتاج إلى مراجعة وتغيير، فهذا الميثاق تمت صياغته من أكثر من سبعين سنة، وقد تنبه واضعو الميثاق إلى أهمية هذه النقطة، فأشارت المادة 109 منه إلى الحاجة إلى مراجعته بعد فترة ، وكان تصورهم أن يحدث ذلك في عام 1955م، أي بعد عشر سنوات من إقرار الميثاق، فأجازت هذه المادة الدعوة إلى مؤتمر يحضره كل أعضاء الجمعية العامة لإعادة النظر في الميثاق وفقًا لقرار يصدر من الجمعية العامة، ونصت الفقرة الثالثة من نفس المادة على أنه إذا لم يتم عقد هذا الاجتماع قبل عشر سنوات من إقرار الميثاق، فإنه يتوجب على الجمعية العامة إضافة بند باقتراح الدعوة إلى هذا المؤتمر على جدول أعمالها.

أضف إلى ذلك الحجم الهائل من التغيرات الجذرية التي شهدها العالم ودوله، لعل أبسطها أن الميثاق يشير في الفقرة الثانية من المادة 62 إلى " الدول الأعداء" والتي قصد بها ألمانيا وإيطاليا واليابان، والتي أصبحت فيما بعد جزءًا أصيلاً من المعسكر الغربي بينما خرجت كل من موسكو وبكين من هذا التحالف، فالأعداء أصبحوا حلفاء، والحلفاء أصبحوا خصوم. يضاعف من أهمية هذه النقطة أن نظام الأمن الجماعي الذي أقامه الميثاق افترض استمرار حالة التحالف بين الدول المنتصرة، وهو الأمر الذي انهار في السنوات القليلة التالية لانتهاء الحرب.

     وبسبب هذا الانهيار، لم يتمكن مجلس الأمن من أداء مهامه في حفظ الأمن الدولي بسبب استخدام حق الفيتو من احدى الدول التي تمتلك حق استخدامه، واستحالة تنفيذ المادة 43 من الميثاق التي تنص على إنشاء جيش دولي على أسس ثابتة ودائمة، وإلى تجميد عمل لجنة أركان الحرب المرتبطة بذلك.

     وعلى مدى السنين، تعددت اقتراحات تطوير هيكل الأمم المتحدة وخصوصًا مجلس الأمن، من حيث عدد أعضائه وتمثيلهم الجغرافي، والحاجة إلى نظام جديد لتمويل المنظمة، وأهمية إعادة تحديد العلاقات بين الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى وبمؤسسات المجتمع المدني العالمي، وكان أبرز هذه المقترحات تللك التي أعدها د. بطرس بطرس غالي الأمين العام الأسبق للمنظمة، وذلك بناء على طلب مجلس الأمن الذي اجتمع لأول مرة على مستوى رؤساء الدول في 31 يناير 1992م، والذي كلفه حسب نص القرار "إعداد تحليل وتوصيات بشأن سبل تعزيز وزيادة قدرة الأمم المتحدة، في إطار الميثاق وأحكامه، على الاضطلاع بمهام الدبلوماسية، وصنع وحفظ السلم" والتي استجاب إليها الأمين العام وقدم مقترحاته المعروفة باسم " خطة السلام".

والمشكلة أن كل مقترحات الإصلاح، وبالذات الجوهرية منها تصطدم بعقبة ضرورة موافقة الدول الكبرى صاحبة حق الفيتو عليها. ونتيجة لاختلاف رؤى هذه الدول، ومصالحها، فإن محاولات الإصلاح عادة ما تنتهي إلى الفشل. ولهذا وصفناه بالإصلاح الصعب أو ربما المستحيل.

كما يظهر من هذا التحليل، فإن الأمم المتحدة تواجه تحديات أساسية أهمها اختلاف توازن القوى الراهن في العالم عن ذلك الذي تم تصميم الميثاق وفقًا له، وسعي الولايات المتحدة إلى تجاوز البنية القانونية للأمم المتحدة، وفرض أفكار ومفاهيم تتناقض مع ميثاقها، وتهدد بخفض تمويلها للمنظمة إذا لم يسايرها أغلب أعضائها فيما تراه.

والخلاصة أن الوضع الراهن للأمم المتحدة ليس بالوضع المستدام، ولكن تغييره يحتاج إلى تغيير أساسي في هيكل القوى العالمية لإيجاد مجتمع دولي يتسم بقدر أكبر من ديمقراطية العلاقات الدولية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*استاذ العلوم السياسية – جامعة القاهرة

 

مجلة آراء حول الخليج