; logged out
الرئيسية / اصطفافات إقليمية جديدة في المنطقة بقيادة دول مجلس التعاون

العدد 88

اصطفافات إقليمية جديدة في المنطقة بقيادة دول مجلس التعاون

الأحد، 01 كانون2/يناير 2012

ألقى الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون خطاباً قبل أكثر من عشر سنوات في لوس أنجلوس قال فيه (بوسعنا أن نحاول استخدام قوتنا العسكرية والاقتصادية غير المسبوقة سعياً إلى الحفاظ على زعامتنا للكتلة العالمية إلى الأبد، لكن الاختيار الأفضل هو أن نحاول استخدام هذا التفوق من أجل إيجاد عالم، حيث يصبح بوسعنا أن نعيش بارتياح عندما نفقد زعامتنا للكتلة العالمية).

لكن تغير كل شيء بعد الهجمات الإرهابية على نيويورك وواشنطن، وشنت واشنطن بعدها حملتين عسكريتين في أفغانستان والعراق واستنهض بوش الابن كل شيء ساكن من أجل الحرب على الإرهاب. وبدلاً من أن يؤسس غزو العراق قواعد لعبة دولية جديدة أي ينسى العالم النظام التعددي (الذي أسسه فرانكلين روزفلت وهاري ترومان)، بات لا يوجد في الكون سوى عصر القوة الكبرى الوحيدة التي ستنتقم لإسقاط البرجين مهما كلف الولايات المتحدة الثمن وبدلاً من ذلك تحملت الولايات المتحدة ديوناً هائلة نتيجة هذا الغزو، وفي المقابل هناك نهوض في بكين ودلهي وأماكن أخرى من العالم حيث يسطر التاريخ مستقبل العالم.

إن كل محاولات بوش باءت بالفشل في الترويج للديمقراطية على ظهر الدبابة في الشرق الأوسط لإعادة تشكيله، لكن الثورات العربية الآن هي التي تعيد تشكيل خريطة الشرق الأوسط وفق مصالح العرب لا وفق مصالح الغرب وبعيداً عن مغامرات شبيهة بمغامرات بوش الابن، وسيثبت الشرق الأوسط أنه ناضج لقبول الديمقراطية، بل إنه عند الاختيار سيختار ديمقراطية تركيا الإسلامية في صورتها المعتدلة لأن الشعوب العربية ترفض ديمقراطية إيران الثورية التي أثبتت فشلها لما تحمله من عدوانية ودكتاتورية مبطنة بالدين.

وليس هذا فقط بل إن ثورات الربيع العربي أصبحت من الوعي بأنها ترفض كل ما يمت بصلة إلى أيديولوجية القاعدة أو ما يشبهها، ولم تعد تقبل الشعوب العربية بعداء العالم ومحاربته، وأن التعددية الطريق الوحيد القادر على احتواء التطرف بدلاً من إقصائه ومحاربته لأنه عندما يصبح مشاركاً في تلك التعددية ستكون أفكاره مرفوضة من قبل المجتمع وغير قادرة على تجييش عواطف المجتمع مرة أخرى لأن الجماعات الإسلامية المعتدلة هي الأكثر قبولاً لدى الشعوب بسبب أن الشعوب العربية أصبحت واعية وملّت من الشعارات المؤدلجة حتى لو كانت ترتدي ثوب الدين.

ويمكن أن يستعيد العرب مستقبلهم الخاص بهم، لأن العرب ملوا من توجهات واجتهادات دكتاتورية قاصرة قادتهم إلى المهالك، وكذلك مل الأمريكيون من اتخاذ قرارات فردية من جانب واحد، وملوا كذلك من الحرب الوقائية التي دشنها بوش الابن وهي غير مناسبة الآن مع أمريكا التي تعاني إفلاساً اقتصادياً سببه مغامرات بوش الابن.

الثورات العربية الآن هي التي تعيد تشكيل خريطة الشرق الأوسط وفق مصالح العرب

وليس بمقدور الولايات المتحدة اليوم تحديد اتجاه الأحداث العالمية بمفردها، خصوصاً بعد نهوض بلدان في آسيا وأمريكا اللاتنية، فلم يعد النظام العالمي ينتمي فقط إلى الغرب، بل هناك تحد استراتيجي للولايات المتحدة، فهل تنضم الثورات العربية إلى محور التحدي وتصبح منطقة الشرق الأوسط مناطق ناشئة للاستقطاب العالمي ومناطق حيوية تتحول إلى محركات نمو عالمي بعد القضاء على مكبلات النهوض عبر ثورات الربيع العربي؟

وكانت حرب بوش هي الأولى في التاريخ التي تدفع تكاليفها بالكامل بالاستدانة، ومع ذهاب أمريكا إلى المعركة في ظل عجز يتزايد خصوصاً مع تخفيضات ضريبية أقرها بوش في عام 2001 وجولة أخرى من الإعفاءات الضريبية لمصلحة الأثرياء في أمريكا مما جعل أمريكا تعاني اليوم عجزاً هائلاً وبطالة مرتفعة بسبب الإنفاق الدفاعي المتزايد في عهده، والذي كان سبباً في انتقال أمريكا من فائض 2 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي عندما انتخب بوش الابن إلى عجز بالغ الخطورة وبلغت تكاليف الحرب التي حسبها ستيغليتز قبل ثلاث سنوات مع ليندا بيلمز ما بين ثلاثة وخمسة تريليونات دولار كما جاء في كتابهما (حرب الثلاثة التريليونات)، مما أضعف أمريكا على صعيد الاقتصاد الكلي، وأدى إلى تفاقم عجزها وأعباء ديونها فأصبحت عاجزة عن أي تدخل دولي بمفردها وانتهاء مرحلة كاملة.

وما يحدث اليوم في العالم العربي من ثورات (الربيع العربي) هو تكرار للمشهد السياسي في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفييتي مطلع عقد التسعينات من القرن الماضي، حيث تنتقل الأحداث من بلد إلى آخر فيما يشبه كرة الثلج المتدحرجة أو الإعصار الهائج الذي يضرب بلداً عقب بلد.

ولا بد من قراءة العولمة بأبعادها المختلفة كنسق جديد يؤثر في مختلف الأحداث التي تشهدها المنطقة، وأصبحت الدولة ليست بمنأى عن تأثيرات العولمة على الدولة ومنظومة القيم الاجتماعية المختلفة رغم أهمية المحافظة على التراث والقيم الدينية التي لا يمكن المساومة عليها إلا أننا لا بد أن ندرك حقيقة طوفان العولمة والتغيير الذي يحرك الأرض من تحتنا.

إننا اليوم في عالم ذي مشكلات متعددة أكبر من أن تتولاه دولة بمفردها. والواقع أن الدبلوماسية الأمريكية الجديدة كانت بارعة في كسب دعم قوى أخرى في المنطقة ثم معرفة الوقت المناسب للابتعاد عن الطريق، لذلك لابد أن يكون للدول العربية دور الدفع فيما يحدث في المنطقة خصوصاً دول الخليج التي يجب أن تقود المرحلة المقبلة باعتبارها مركز ثقل اقتصادياً في المنطقة ودولها الأكثر استقراراً من بقية الدول رغم ما يحاك فيها من مشاريع إقليمية ودولية. لذا قدمت السعودية وبقية دول الخليج دعماً لمصر عوضاً عن الصفقات المشروطة التي عرضتها المؤسسات الدولية ولعبت قطر والإمارات دوراً حيوياً في الثورة الليبية، ودور هذه الدول سيكون أكبر في سوريا لأن سوريا تتصاعد الأزمة فيها إلى الواجهة بإيقاع بطيء.

ليس بمقدور الولايات المتحدة اليوم تحديد اتجاه الأحداث العالمية بمفردها

فاتجاه الحركة في الشرق الأوسط يفيد بأنه سينطلق بقوة على الصعيد العالمي، بينما العالم الغربي رغم تقدمه فهو في حالة تخندق نتيجة الانهيار المالي الذي ألم به وبدأ منذ عام 2008 والتي كانت لحظة جيوبوليتيكية بقدر ما هي اقتصادية، فإخفاق النظام المصرفي وأزمات الديون السيادية جردت الغرب من مواقعه المتقدمة وأظهرت لنا عالماً يمكن أن نشارك فيه بأن الغرب لم يعد سيداً وحيداً للعولمة.

ويمكن للعرب أن يتفوقوا إذا ما تبنوا نماذج اقتصادية خاصة بهم لأن النماذج الاقتصادية الغربية تم دفنها تحت ركام (ليمان براذرز) ويجب أن نشارك في عالم جديد متعدد الأقطاب نعيد فيه رسم خطوط المشهد الجيوبوليتيكي وليس فقط المشهد الاقتصادي.

ولقد استثمر الغرب العلاقة المتوترة بين تركيا وإيران بسبب دعم إيران النظام القمعي في سوريا، فضغط الغرب على تركيا عن طريق إصدار تقرير بالمر الذي يبرئ إسرائيل، فوافقت تركيا على نشر الدرع الصاروخية على أراضيها ضد إيران وروسيا مما أغضب الدولتين من تركيا بعدما كانت تركيا مترددة في القبول بهذه الدرع كي لا تغضب إيران وروسيا.

لكن تركيا في المقابل أرادت أن تستثمر موافقتها على قيام هذه الدرع الصاروخية وهي تدرك في الوقت نفسه عجز الولايات المتحدة وحاجتها إلى شركاء في المنطقة ووجدت الولايات المتحدة في تركيا شريكاً جاهزاً، لكن تركيا لن تترك إسرائيل تسرح وتمرح في حوض البحر المتوسط وستخترق تركيا الحصار المضروب على غزة مرة أخرى، ولكن هذه المرة سترافق سفن كسر الحصار سفن تركية حربية خصوصاً بعدما أثبتت للعرب أن تركيا جادة بعدما خفضت علاقتها مع إسرائيل وطردت السفير الإسرائيلي، وضّحت باتفاقيات مقابل أن تجري اتفاقيات مع دول (الربيع العربي).

وكانت زيارة أردوغان إلى مصر لتفكيك الجدال بين الكيانات السياسية في مصر حول الدولة الدينية والدولة المدنية، وأوضح أردوغان للمصريين أن العلمانية ليست ضد الدين وإن كان هذا الإعلان لم يعجب جماعة الإخوان المسلمين في مصر ولكن سيكون مفيداً كي تخرج جماعة الإخوان من قوقعتها الفكرية التاريخية، ومن جانب آخر أثار إعلان (عصام شرف) رئيس الوزراء المصري السابق أن (اتفاقية كامب ديفيد ليست كتاباً مقدساً لا يمكن مراجعته) حفيظة إسرائيل، كأن إسرائيل أصبحت بين كماشة تركيا من جانب ومصر من جانب آخر وهو ما يعجل باعتراف المجتمع الدولي بدولة فلسطين ورضوخ إسرائيل لإجراء مفاوضات مع الفلسطينيين بدلاً من تكرار الإسطوانة المشروخة (لماذا يكرهوننا؟) مثلما استخدمتها أمريكا بعد أحداث 11 سبتمبر باعتبار أن الأوضاع قد تغيرت في المنطقة.

وهناك صراع على مستقبل سوريا بين إيران وتركيا، فإيران تريد حكومة المستقبل في سوريا حكومة مقاومة، ولذلك فإنها تجري اتصالات مع معارضين يؤيدون أجندتها أو على الأقل لا يلغون الدور الإيراني في المنطقة وهذا لا يروق لتركيا ولا للدول العربية وعلى رأسها السعودية ومصر.

فأمريكا تدرك أن الشرق الأوسط سيصبح منطقة جديدة، ولكن بشرط ألا يخرج عن الإرادة الأمريكية وتثق الولايات المتحدة بتركيا ولكن لا تريدها أن تلغي الدور الإسرائيلي بالكامل في المنطقة.

المحور السعودي لن يسمح للمشروع الإيراني بالاستمرار في التوغل والتمدد في شرق وغرب العالم العربي

ومما لا شك فيه أن تركيا بحاجة إلى الدور السعودي، كما أن السعودية هي الأخرى بحاجة إلى الدور التركي لمحاصرة إيران وعدم السماح لها ليس العبث بالأمن العربي فقط، بل أيضاً العبث بأمن أفغانستان وباكستان والتدخل في الشأن العراقي، إذ اتهمت باكستان إيران بدعم التمرد البلوشي وإيواء زعمائهم لزعزعة الأمن في بلوشستان وقد يزداد الاضطراب فيها مع نية التحالف الغربي الانسحاب من أفغانستان.

وقد عقدت قمة سعودية-باكستانية لمناقشة التحالف باكستاني-الصيني في ظل تراجع الدعم الأمريكي إلى الهند ووقف المساعدات بصفة الصين حليفاً استراتيجياً واقتصادياً طويل المدى مع توقيع العديد من العقود العسكرية والاقتصادية معها.

وأعلنت السعودية عن مباحثات لتدعيم التعاون الصناعي الدفاعي مع تركيا، فتصبح تركيا بحاجة إلى مصر والسعودية للقيام بدور الشراكة في إدارة المنطقة بعد تراجع الدور الأمريكي لتجنيب المنطقة الصراعات ومنع التدخلات الإقليمية والدولية وتحجيم كل من الدورين الإيراني والإسرائيلي في المنطقة.

وبعد أحداث 11 سبتمبر عاث المشروعان الأمريكي والإيراني فساداً في منطقة الشرق الأوسط في ظل غياب مشروع عربي وإقليمي متماسك مما أدى إلى حدوث اضطراب في دولتين احتلتهما الولايات المتحدة هما العراق وأفغانستان.

وبالطبع امتد الاضطراب بسببهما إلى دولة باكستان، واستثمر هذا الاضطراب المشروع الإيراني، حيث أقام تحالفاً قوياً مع سوريا وحزب الله وحماس وكاد يتم مشروعه مع جماعة الإخوان المسلمين في مصر وسوريا والأردن وفي بقية الدول العربية الأخرى، فسواء إيران استخدمت سوريا أو العكس، لكنهما يعبثان سوياً بأمن المنطقة العربية والإقليمية.

وأثناء تلك الاضطرابات والصراع الغربي-الإيراني حول المشروع النووي الإيراني برزت تركيا كوسيط لنزع فتيل الأزمة بين الجانبين وبدأت تتحول تركيا إلى لاعب جديد في منطقة الشرق الأوسط، وكانت ترى في ذلك الوقت أهمية العلاقة التركية-الإيرانية.

لكن الثورات العربية أجهضت وحجمت العديد من المشاريع في المنطقة خصوصاً مع تراجع الدور الأمريكي في المنطقة، لأن توجه واشنطن نحو خفض تريليون دولار يأتي من إنهاء العمليات القتالية في المنطقة وسوف تنسحب أمريكا من العراق وأفغانستان أو على الأقل تحجم وجودها في المنطقة، وكشفت الثورات العربية عن تفكيك المشروع الإيراني-السوري والعربي وكشفت عن وجهه القبيح.

فأصبحت المنطقة جاهزة الآن لقيادة مشروع جديد لإعادة الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط ومواجهة المشروع الإيراني بمشروع إقليمي مشترك بدلاً من البحث عن مخلص وإعطاء أردوغان القيادة المفرطة على اعتبار أن أردوغان استغل العواطف العربية الإسلامية المعادية لإسرائيل وتخفيض العلاقات مع إسرائيل بعد أزمة قتل تسعة أتراك في سفينة الحرية.

فالعرب لم يفهموا المشروع التركي الذي يهتم بمصالح بلاده أكثر من مصالح العرب، وإن كان المشروع التركي غير المشروع الإيراني الذي يريد أن ينال من الأمن القومي العربي بينما المشروع التركي مشروع يعتمد على الاقتصاد والتجارة كأولوية.

ويمكن للسعودية أن تقود هذا المشروع مستغلة الظروف المناسبة خصوصاً بعد موافقة تركيا على نصب رادارات منظومة الصواريخ الدفاعية مما يحجم العلاقة التركية-الإيرانية-الروسية التي تديرها الولايات المتحدة.

والمشروع ضروري كي يستبق قيام أي مشروع آخر يعيد الأمور إلى نصابها، حيث يدعم باكستان ويعيد الاستقرار إلى أفغانستان بدلاً من ترك المنطقة ساحة لإيران والهند تلعبان فيها من أجل أن يستمر الاضطراب فيها، وتصبح منطقة تصدير للإرهاب تهدد المنطقة برمتها، ولكن بعودة دفء العلاقات باكستانية-الهندية مؤخراً أصبح ذلك يصب في صالح المشروع الذي تقوده السعودية لإعادة ترتيب أمن المنطقة مما يزيد من عزلة إيران وتكبيلها من حرية الحركة والتمدد في المنطقة.

فالمشاريع الواضحة والمشتركة هي التي تعمر بسبب الفوائد المشتركة بين جميع الأطراف، ونلاحظ خسارة أحمدي نجاد مشروعه في الشارع العربي والإسلامي لأن المشروع كان مشروعاً أيديولوجياً عاطفياً، بخلاف المشاريع المشتركة والمدروسة التي تنمو وتتحول إلى مشاريع استراتيجية تحمي المنطقة من المشاريع الأخرى.

فمشروع تركيا الكبرى الذي يروج له أوغلو وزير الخارجية التركية هو معادلة (العثمانية الجديدة زائد القومية التركية زائد الإسلام) تساوي تركيا الكبرى التي ذكرها في كتابه (العمق الاستراتيجي: وضع تركيا الدولي) يعتبر مشروعاً أحادياً لا يمكن أن ينجح إذا أرادت تركيا أن تنفذه بعيداً عن الشركاء الآخرين.

إن ذلك من مصلحة تركيا والسعودية ومصر وباكستان التي تصل الأراضي التركية بالبلقان وآسيا الوسطى، والدول العربية بحاجة إلى تعاون وشراكة بين هذه الدول الأربع كدول محورية تعيد السيطرة على المنطقة الممتدة بينهم.

ومن المهم أن يعود الاستقرار إلى أفغانستان وباكستان والعراق وتقيم سياجاً أمنياً مشتركاً يمنع المشاريع الأخرى من التوغل في المنطقة، إلى جانب تعزيز المشاريع الاقتصادية المشتركة والتي تعيد للمنطقة حيويتها كدول ناشئة تستثمر مواردها وتساهم في نمو الاقتصاد العالمي.

فالتفكير في مشاريع أحادية أو إقامة مشاريع ثنائية مثل تفكير تركيا في إقامة مجلس تعاون استراتيجي بين مصر وتركيا، والذي يمكن أن تستبدله بمجلس تعاون استراتيجي بين هذه الدول الأربع وإقامة تعاون تركي-عربي-باكستاني لحماية وسلامة أراضي هذه البلاد أفضل من المشاريع الفردية الأحادية التي تغرس انفرادية الهيمنة على المنطقة يتوجس منها الآخرون.

وهذا المشروع ليس معادياً لدول بعينها بل من أجل إنهاء المشاريع التي وجدت في المنطقة في الفترة الماضية، وأن الظروف السياسية والاستراتيجية في الوقت الحاضر قد تغيرت، وعلى هذه المشاريع أن تنتهي وتخرج من هذه الدول التي اخترقتها تحت ظروف دولية ومحلية مؤاتية في ذلك الوقت.

وبعد أن كان النظام السوري يعد مصلحة إسرائيلية وأولوية لواشنطن، فلم تعد له أهمية تذكر اليوم لا لتل أبيب ولا لواشنطن، وحسب عدد كبير من الاستراتيجيين الذين يرون أن حزب الله يعتبر من أكبر الخاسرين من سقوط نظام بشار الأسد لأسباب استراتيجية واضحة لها علاقة بانهيار محور الممانعة المزعوم.

ويعتقد البعض أن انهيار محور الممانعة قد يتسبب في إحداث خلل في موازين القوى مع إسرائيل، لكن لم يتنبه مثل هؤلاء إلى أن محور الممانعة هو محور مختل قد يكون مقلقاً لإسرائيل ومصدر قلق أمني واستراتيجي، لكن كلّف الأمة العربية والسورية الكثير أهمها تفكك المحور العربي واختراقه من قبل المشروع الإيراني.

ومعروف أن هناك حرباً باردة بين المحورين الإيراني والسعودي، لأن المحور السعودي في ظل تفكك عربي لن يسمح للمشروع الإيراني بالاستمرار في التوغل والتمدد في شرق وغرب العالم العربي يسرح ويمرح متاجراً بالقضية الفلسطينية ومستغلاً عواطف عامة المسلمين وأملهم في تحرير القدس وفلسطين، ومن لا يعرفه فهو نظام براغماتي يتعامل حتى مع إسرائيل في سبيل تحقيق مشروعه القومي حتى لو كان على حساب العرب أو القضية الفلسطينية، لذلك نجد أن أمريكا غضت الطرف كثيراً عن المشروع الإيراني في الأراضي العربية منذ غزوها العراق عام 2003.

لكن نجد اليوم قلقاً كبيراً جداً في إيران وخصوصاً في صفوف حزب الله ومن أمينه العام من انهيار هذا المحور باعتباره دعامة أساسية للمحور الإيراني في المنطقة العربية، ونكتشف هذا القلق من خطاب حسن نصرالله بمناسبة مرور 22 عاماً على وفاة الإمام الخميني حين حذر في خطابه من تقسيم سوريا في حال سقوط النظام، وهدد السعودية في حال تقسيم سوريا فإن التقسيم سيطالها وهي قراءة استراتيجية مرتبكة يشوبها الغموض، ويذكرنا بالقذافي بعد القبض على صدام حسين حينما هدد القادة العرب في أحد المؤتمرات العربية حين قال (إن الدور سيأتي عليكم) وبدأ هذا الدور بالقذافي نفسه لأنه كان أيديولوجيا وغير منفتح ولا يقبل غير رأيه، أي أنني أرى ما لا ترون، كأنه يعتبر الشعب قطعان من الأغنام يسيرها كيفما يشاء.

وستركز إيران مستقبلاً بعد خسارتها سوريا على لبنان لوجود حزب الله وسيدخل لبنان مرحلة صراع إقليمي جديدة.

وفي مثل هذه الظروف يحتاج العرب إلى عقلنة الرؤية، والسعودية ومصر (بعد أن تستعيد استقرارها) لا يريدان من إيران سوى التعاون والاحترام المتبادل وإذا ما توقفت إيران عن تصدير الثورة الخمينية إلى البلاد العربية وأوقفت قضم وتآكل أجزاء من العالم العربي والتنازل عن المناطق التي توغلت فيها نتيجة لتحالفها مع سوريا أو نتيجة لغزو أمريكا للعراق وإنشاء ميليشيات تابعة لها خصوصاً في العراق مدعومة من قبل إيران وهو ما أدى إلى تقسيم العرب وتهديد مناطقهم الحيوية.

فالسعودية تستغل فرصة ثورات (الربيع العربي) لا لتنفيذ أجندة خاصة بها كمشروع أيديولوجي، بل لإعادة رص الصفوف العربية وإعادة التماسك العربي الذي أصبح هشاً ومفتتاً في الفترة الماضية، إلى جانب تدشين مرحلة جديدة من التعاون العربي-التركي، ولا تستبعد السعودية إيران من هذا التعاون بشرط أن تتوقف إيران عن مشروعها التوسعي، وتتنازل عن الاختراقات التي حققتها في الفترة الماضية في أماكن متفرقة من العالم العربي، فلا مانع لدى السعودية من تكوين قوة إقليمية متعاونة.

إن المقاومة الحقيقية هي إعادة الوحدة والتماسك بين أجزاء الوطن العربي القائم على أسس التعاون الاقتصادي لتتمكن من الاندماج العالمي عندها ستحسب إسرائيل للعرب ألف حساب، (كيف ستحسب إسرائيل حساباً للعرب وناتجها القومي قريب من الناتج القومي لمصر وهي أكبر دولة عربية)، فسلاح حزب الله لابد أن يندمج تحت سقف الدولة اللبنانية، ولا يمكن أن يقبل المجتمع الدولي بسلاح لمجموعة أو فئة تهدد به الآخرين.

المقاومة الحقيقية هي في إعادة الوحدة والتماسك بين أجزاء الوطن العربي

لقد أرسلت إيران ميليشيا الباسيج إلى سوريا لتنقل تجربتها إلى سوريا في قمع التظاهرات، لكن فشلت تلك التجربة والآن يرفع السوريون شعارات ضد إيران وحزب الله، فالأزمات تكشف الأقنعة وتفضح حقيقة الشعارات الزائفة التي كانت تنطلي على عامة الشعوب بل حتى على مجموعة كبيرة من المثقفين الذين كنا نستمع إليهم في الفضائيات يدافعون عن تلك الشعارات الزائفة، والشعب السوري يكنّ الاحترام لتركيا على عكس إيران بسبب وقوفها مع الشعب السوري رغم أن أردوغان هو الذي أقنع الغرب بإعطاء فرصة لبشار الأسد لإجراء إصلاح جذري قائم على التعددية، لكن سوريا ترى أن تاريخها يعود إلى سبعة آلاف سنة ومن الصعب أن تقبل نصائح من تركيا.

فبعد أن فشلت إيران في استغلال فرصة ثورات (الربيع العربي) ودعم شيعة البحرين لإعلان جمهورية إسلامية تكون تابعة لإيران، بسبب أن السعودية قامت بخطوة استباقية كعادتها بإرسال قوات درع الجزيرة لحماية البحرين من احتمال احتلال إيران لها أو من تدخل أجنبي بحجة الدفاع عن شيعة البحرين، وفشلت إيران في تقديم يد المساعدة كذلك في سوريا.

فإيران تخسر دولة عربية مهمة تلعب دوراً في مواجهة ومجابهة الاستراتيجية الأمريكية على الأراضي العربية رغم أن هناك توافقاً إيرانياً-أمريكياً من دون اتفاق موقع، لكن وفق مصالح الطرفين جعل كل منهما يغض الطرف عن الآخر.

فإيران اليوم تعيد حساباتها الإقليمية بشكل مختلف في المنطقة العربية مقابل حضور دور السعودية التي تلعب الدور الأبرز في الخليج رغم أنها آثرت عدم الظهور في الصورة بشكل مباشر في كل من الأزمتين الليبية والسورية. فالسعودية بدورها تراقب عن كثب الدور الإيراني في قلب معادلات القوى في الخليج بعد انهيار نظام صدام حسين وتحقق لها ذلك ولو جزئياً.

محصلة الأمر أن الوضع في سوريا وصل إلى نقطة اللاعودة وحتماً سيأتي اليوم الذي يعود فيه العراق إلى الحاضنة العربية، وليس شرطاً أن يقطع العراق علاقاته مع إيران بل يمنع إيران من التدخل في الشأن العراقي، ويصبح العراق دولة مستقلة غير تابعة لأي طرف بل تصبح دولة فاعلة في التماسك العربي الإقليمي، وتلعب دور الريادة إلى جانب السعودية ومصر ضمن معادلة عربية إقليمية جديدة بعيدة عن الأيديولوجيات التي سادت في الفترة الماضية. فالمستقبل ينبئنا بإيجاد ديناميكية إعادة اصطفاف إقليمي مختلف عن سابقه يضعف من الدور الإيراني الذي تصاعد في النصف الثاني من العقد الماضي ويرفع من تأثير السعودية ليس في الخليج فقط وإنما كذلك في المشرق العربي برمته.

 

مقالات لنفس الكاتب