; logged out
الرئيسية / المبادرة الصينية تسعى لتنويع مصادر الطاقة والممرات البرية والبحرية على حساب المنطقة

المبادرة الصينية تسعى لتنويع مصادر الطاقة والممرات البرية والبحرية على حساب المنطقة

الإثنين، 31 كانون1/ديسمبر 2018

لم يبد العالم العربي اهتمامًا كافيًا بالمبادرة المهمة التي طرحها الرئيس الصيني خلال عام 2013، والتي عُرفت لاحقًا بـ "حزام واحد طريق واحد" One Belt One Road، بمكونيها البري (الحزام الاقتصادي لطريق الحرير) أو البحري (طريق الحرير البحري للقرن الحادي والعشرين)، وذلك رغم الموقع المهم الذي حظي به العالم العربي على مسار مكوني المبادرة. ربما رجع ذلك إلى عدم وضوح المبادرة في ذلك الوقت. لكن مع اتضاح مكونات المبادرة، والزخم الدولي الذي حظيت به، وتأسيس العديد من مؤسساتها، سواء الصينية أو متعددة الأطراف، بل وتنفيذ العديد من مكوناتها، حدث تحول كبير في مستوى تعاطي واهتمام العالم العربي بالمبادرة.

وقد استند هذا الاهتمام إلى افتراض قوي بأن المبادرة تنطوي على مقومات وفرص مهمة لاستفادة مؤكدة للدول العربية، بشكل جماعي أو فردي، من المبادرة، وهو افتراض يستند بالفعل إلى العديد من الشواهد، والعديد من المقومات ذات الصلة بطبيعة المبادرة ذاتها. لكن هذا لا يعني التسليم بصحة هذا الافتراض على طول الخط، أو اعتباره معطى given، بقدر ما يثير عددًا من الشروط على العالم العربي لتعظيم أو ضمان تحقق هذه المكاسب. كما لا يمكن، من ناحية أخرى، استبعاد بعض التأثيرات السلبية للمبادرة على المصالح العربية.

في هذا الإطار، فإننا نطرح في هذا المقال مجموعة من المقومات المهمة لاستفادة الدول العربية -بشكل جماعي أو فردي-من المبادرة، وهي عوامل ترتبط بطبيعة المبادرة ذاتها. كما يطرح المقال مجموعة من التهديدات التي تنطوي عليها المبادرة. وأخيرًا، يطرح المقال مجموعة من الشروط اللازمة لتعظيم المكاسب العربية من المبادرة أو تحجيم بعض المخاطر.

أولاً: مقومات الاستفادة العربية من المبادرة

تتسم مبادرة الحزام والطريق بعدد من السمات المهمة التي تمثل في حد ذاتها فرصة كبيرة لاستفادة العالم العربي منها، نوجزها فيما يلي:

١-الانفتاح الجغرافي: تقوم المبادرة على فلسفة تتجاوز المفهوم الجغرافي التقليدي الضيق لمشروعات التعاون الإقليمي، بمعنى أنها لا تستند إلى تعريف جغرافي وجيو-سياسي مغلق يقصرها على إقليم جغرافي بعينه. في المقابل، تقوم المبادرة على مفهوم يسمح بضم أكبر عدد ممكن من الدول، المتباينة سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا، وأكبر عدد من الأقاليم الجغرافية (شرق آسيا، جنوب شرقي آسيا، جنوبي آسيا، وسط آسيا، الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، شرق إفريقيا، أوروبا). وقد تأكدت هذه السمة مع التحاق عدد كبير من الدول بالمبادرة، واستحداث بعض مؤسساتها المالية متعددة الأطراف (البنك الآسيوي للاستثمار في البنية الأساسية AIIB)، والتحاق عدد كبير من الدول - بما فيها شركاء الولايات المتحدة الأوروبيين-بالبنك.أهمية هذه السمة أنها تحرر المبادرة من إدراكها على أنها مشروع صيني موجه ضد الغرب، أو النظر إليها على أنها جزء من مشروع لتكريس الاستقطاب داخل النظام العالمي، الأمر الذي يخلق هامش حركة كبير لدى الدول العربية للتفاعل مع المبادرة ومشروعاتها.

٢-الربط الوثيق بين التجارة والتنمية. فقد شهد النصف الثاني من القرن العشرين الإعلان عن عدد من مشروعات التكامل الإقليمي وتحرير التجارة في الدول النامية، إلا أنها لم تستطع تحقيق أي من أهدافها المعلنة، خاصة توسيع حجم التجارة الإقليمية بين الاقتصادات الأعضاء، لأسباب عديدة، أهمها أنها لم ترتبط بسياسات ومشروعات تنموية حقيقية. من هنا تأتي أهمية مبادرة الحزام والطريق كونها ليست مجرد مبادرة تسعى إلى تسهيل وتوسيع حجم التجارة بين الأقاليم والدول المندمجة في هذه المبادرة، من خلال إزالة العوائق المادية أمام هذه التجارة وتخفيض تكاليفها، بقدر ما تنطوي أيضًا على أبعاد تنموية من خلال مشروعات مهمة لتنمية البنية الأساسية وتوفير التمويل اللازم لهذه المشروعات. وبهذا المعنى، فإن مبادرة الحزام والطريق تنطوي على مكاسب اقتصادية محتملة للدول المرتبطة بها، بالنظر إلى تضمينها مشروعات تنموية جنبًا إلى جنب مع التجارة.

٣-القدرات المالية الضخمة للمبادرة. يأتي في مقدمة هذه المؤسسات "صندوق طريق الحرير" SRF الذي أسسته الحكومة الصينية في ديسمبر ٢٠١٤م، برأسمال قدره ٤٠ بليون دولار، و"البنك الآسيوي للاستثمار في البنية الأساسية"، الذي دخل اتفاقه حيز النفاذ في ٢٥ ديسمبر ٢٠١٥م، وقد بدأ البنك بالفعل في توفير القروض والتسهيلات المالية لتنفيذ مشروعات المبادرةً. وبالإضافة إلى هذه المؤسسات، لا يمكن إغفال دور البنوك الصينية الأربعة الأساسية المملوكة للدولة، "بنك الصين"، و"بنك الصين الصناعي التجاري"، و"بنك الصين للتعمير"، و"بنك الصين الزراعي". وقد بدأت هذه البنوك بالفعل في تقديم حزمة من القروض والائتمان لتمويل مشروعات المبادرة.

٤-البناء على الأطر الثنائية والإقليمية القائمة واستبعاد بناء تنظيم جديد. باستثناء "صندوق طريق الحرير"، و"البنك الآسيوي للاستثمار في البنية الأساسية"، لم تتضمن المبادرة الحديث عن إنشاء مؤسسات أو أبنية إقليمية regional أو عبر إقليمية inter-regional جديدة. وفي المقابل، تعتمد المبادرة على الأطر الثنائية، والأطر الإقليمية والثنائية القائمة في مختلف الأقاليم ذات الصلة بالمبادرة، مثل "منظمة شنغهاي للتعاون"، ورابطة الآسيان، و"الآسيان+ الصين" المعروفة بصيغة (١٠+١)، ومنتدى "آبك" APEC، و"القمة الآسيوية- الأوروبية" ASEM، و"حوار التعاون الآسيوي"Asia Cooperation Dialogue (ACD)، و"مؤتمر التفاعل وإجراءات بناء الثقة في آسيا" CICA، و"منتدى التعاون بين الصين والدول العربية"CASCF ، و"الحوار الاستراتيجي بين الصين ومجلس التعاون الخليجي"، ومنتدى الصين- إفريقيا للتعاون" FOCAC، وغيرها من الترتيبات والتجمعات الإقليمية وغير الإقليمية القائمة في مختلف الأقاليم. كما تولي المبادرة في هذا الإطار أهمية كبيرة لعدد من المعارض الدولية القائمة وتحويلها كمنصات خادمة لتعزيز وتشجيع التفاعل الاقتصادي والتجاري بين الدول الواقعة على مسار المبادرة، مثل "معرض بوآو لآسيا" Boao Forum for Asia، و"معرض الصين-الآسيان"، و"معرض الصين-أوراسيا"، والمنتدى الاقتصادي الأوروبي-الآسيوي"، و"المعرض الدولي الصيني للاستثمار والتجارة"، و"معرض الصين-جنوبي آسيا"، و"معرض الصين-الدول العربية"، و"معرض الصين-روسيا". وتقترح المبادرة أيضًا تدشين مجموعة من المعارض الجديدة مثل "المعرض الثقافي الدولي لطريق الحرير"، و"المهرجان الدولي للفيلم لطريق الحرير"، و"المعرض الدولي للكتاب لطريق الحرير".

وتأتي أهمية هذا التوجه بالنسبة للعالم العربي أنه لا يكبل المبادرة بالقيود البيروقراطية، كما يخلق نوعًا من المرونة في إدارة المبادرة. كما أنه يحرر المبادرة من ظهور أية إدراكات سلبية قد تتطور في مختلف الأقاليم المعنية بأن المبادرة تمثل مجالاً للنفوذ والهيمنة الصينية على تلك الأقاليم. لكن الأهم أن المبادرة توفر فرصة كبيرة للعالم العربي للنفاذ إلى عدد كبير من التنظيمات والمؤسسات المالية، والمعارض الإقليمية والدولية.

المبادرة وفقًا للسمات والمقومات السابقة تقدم فرصة مهمة لتطوير الدول العربية سياسات حقيقية للتوجه شرقًا، وفرص مهمة أيضًا للاستفادة من الإمكانات المالية التي توفرها المؤسسات المالية الصينية والدولية التي تم تأسيسها في إطار المبادرة، وفرصة لتعميق عملية التكامل بين الاقتصادات العربية والاقتصاد الصيني على قاعدة تعظيم المنافع الاقتصادية المتبادلة، فضلاً عن الفرص المهمة التي تقدمها المبادرة لتوجيه المزيد من الاستثمارات لقطاع البنية التحتية. وأخيرًا، فإن المبادرة تقدم فرصة مهمة لإضعاف هيمنة المؤسسية الاقتصادية الغربية على التمويل الدولي، وعلى النظام الاقتصادي العالمي.

5-تخفيض تكاليف التجارة عبر الممرات والموانئ العربية. أحد مجالات التأثير المهمة لمبادرة الحزام والطريق على العالم العربي يأتي من خلال تأثيرها على خريطة التجارة والملاحة العالمية عبر المضايق والممرات المائية. لقد كان إيجاد مسارات بديلة للمضايق والممرات التقليدية القائمة (خاصة مضيقا ملقا وتايوان، بالإضافة إلى منطقة بحر الصين الجنوبي) أحد الأهداف الأساسية وراء طرح الصين للمبادرة. في هذا السياق، يأتي "الممر الاقتصادي الصين-باكستان" في مقدمة المكونات المهمة للمبادرة، بالنظر إلى قربه من الممرات المائية العربية، الأمر الذي يثير تساؤلا مهما حول التأثير المتوقع لمكونات هذا الممر، خاصة ميناء جوادر وشبكة خطوط السكك الحديدية "جوادار- قاشجار"، على حجم الملاحة عبر المضايق والموانئ العربية.

لاشك أنه حال اكتمال هذا الممر سيؤدي ذلك إلى تحويل النسبة الأكبر من التجارة الصينية مع منطقة الخليج العربي وعدد من الأقاليم الأخرى من المسار التقليدي (الذي يمر عبر خليج البنغال، ومضيق ملقا، وبحر الصين الجنوبي، ومضيق تايوان، وصولاً إلى الموانئ الصينية على السواحل الصينية الشرقية) إلى مسار: "الخليج العربي- جوادر- قاشجار" (بالنسبة للتجارة الصينية مع منطقة الخليج والعديد من دول الشرق الأوسط)، أو مسار: "الموانئ الأوروبية على المحيط الأطلنطي أو البحر المتوسط - البحر المتوسط - قناة السويس- جوادار- قاشجار" (بالنسبة للتجارة الصينية مع أوروبا وشمال إفريقيا).

بهذا المعنى، فإن تطوير ميناء جوادر ومسار "قاشجار-جوادر" ليس من المتوقع أن يكون له تأثيراته السلبية على الممرات والمضايق العربية، بل على العكس يمكن الحديث هنا عن تأثيرات إيجابية لهذا المسار على هذه المضايق والممرات من زاوية الزيادة المتوقعة لحركة التجارة بين الصين والدول الواقعة على المسار الجديد، وذلك بالنظر إلى الانخفاض المتوقع في تكاليف ومدد الشحن، الأمر الذي يساهم بدوره في زيادة حجم التجارة عبر المسار الجديد. بمعنى آخر، فإن مسار "جوادار- قاشجار" لن يلعب دورًا في تحويل التجارة بعيدًا عن الممرات والموانئ العربية بقدر ما قد يلعب دورًا كبيرًا في خلق المزيد من التجارة عبر هذه الممرات، وذلك بالنظر إلى تأثيره المتوقع في تخفيض تكاليف التجارة وتخفيض العوائق على هذه التجارة بين الصين والشرق الأوسط، وشمال إفريقيا، وغرب وجنوب أوروبا عبر هذا المسار.

ثانيًا: مخاطر المبادرة

مقابل المقومات والفرص الإيجابية السابقة، تظل هناك بعض المخاطر التي تثيرها المبادرة بالنسبة للعالم العربي، نشير فيما يلي إلى إثنين منها.

1-هامشية إقليم الشرق الأوسط بالمقارنة بأقاليم أخرى. مع أهمية المقومات والفرص التي تتيحها المبادرة، فإن موقع العالم العربي، وإقليم الشرق الأوسط بشكل عام، يظل أقل من حيث الأهمية النسبية التي تحتلها أقاليم أخرى في إطار المبادرة، خاصة وسط آسيا وجنوب آسيا، وجنوب شرقي آسيا، وجنوب أوروبا، بل وربما شرق إفريقيا أيضًا، وهو أمر تكشف عنه مجموعة الممرات الاقتصادية التي تم الإعلان عنها حتى الآن في إطار الحزام الاقتصادي لطريق الحرير.

وفقا للخرائط المعلنة حتى الآن للمسارات البرية والبحرية لمبادرة الحزام والطريق، فإن إقليم الشرق الأوسط يتماس مع المبادرة من خلال مسارين رئيسيين. الأول، هو المسار البري عبر الممر الاقتصادي الذي يربط منطقة آسيا الوسطى بمنطقة الخليج العربي. الثاني، هو المسار البحري عبر قناة السويس ضمن "طريق الحرير البحري للقرن الحادي والعشرين"، الذي يربط السواحل الشرقية الصينية بالمواني الأوروبية على البحر الأبيض المتوسط، مرورًا بجنوب شرقي آسيا وجنوبي آسيا وشرق إفريقيا وقناة السويس.

ومن ثم، فإن الملاحظة الأولى التي يمكن استنتاجها من الخرائط المختلفة المعلنة حتى الآن لمكونات المبادرة هو إغفال المكون البري من المبادرة لمناطق عدم الاستقرار في إقليم الشرق الأوسط، مقابل التركيز على منطقة الخليج العربي (دول مجلس التعاون الخليجي وإيران) التي تتسم بدرجة أكبر من الاستقرار الأمني والاقتصادي، الأمر الذي يشير إلى تباين واضح في فرص الاستفادة العربية المحتملة من المبادرة، وفقًا لدرجة الاستقرار السياسي-الأمني، والاقتصادي، وتفضيل الصين الابتعاد عن المناطق والدول المأزومة.

بل أكثر من ذلك، فإن المبادرة تنضوي على خطر مهم يجب التحسب له من الآن، ويتمثل في تدشين الابتعاد المحتمل للصين عن إقليم الشرق الأوسط كمصدر للطاقة مقابل تعميق التكامل مع باقي الأقاليم الآسيوية، خاصة تلك التي تمثل مصدرًا مهمًا لمصادر الطاقة (وسط آسيا بالأساس)، مقابل التركيز على المنطقة العربية وإقليم الشرق الأوسط كأسواق لتصريف السلع والمنتجات الصينية أكثر منها مصادر للطاقة. ويرجع هذا الخطر المحتمل إلى الخصائص البنيوية للمنطقة العربية والشرق الأوسط، من حيث انتشار مصادر عدم الاستقرار وانهيار الدولة في عدد من الحالات، فضلاً عن انتشار التحديات الأمنية ممثلة في التنظيمات الإرهابية، بالإضافة إلى الحضور الأمريكي القوي بالإقليم.

وتزداد خطوة المبادرة في هذا الاتجاه بالنظر إلى العديد من التحليلات التي تذهب إلى أن المبادرة تسعى -ضمن أهداف عدة- إلى تحقيق هدفين أساسيين لهما صلة بالشرق الأوسط والمنطقة العربية، أولهما هو العمل على تنويع المصادر الخارجية للنفط بعيدًا عن الشرق الأوسط، وثانيهما هو العمل على تأمين طرق الملاحة الدولية على نحو يقلل من مستوى التهديد الأمني للإمدادات النفطية للصين؛ فالمبادرة من خلال سلسلة الممرات الاقتصادية وطريق نقل الغاز والنفط، تمثل استراتيجية مهمة لتنويع مصادر الموارد الطبيعية، فضلاً عن تنويع الممرات البرية والبحرية المستخدمة في ضمان تدفق هذه الموارد إلى الصين، الأمر الذي يعني تقليل درجة الاعتمادية الصينية على إقليم بعينه، كما تقلل من درجة تحكم القوى المنافسة، وعلى

رأسها الولايات المتحدة، في تدفق الموارد الطبيعية، النفطية أو غيرها، إلى الصين، أو تدفق الصادرات الصينية إلى العالم الخارجي.

2-مزاحمة القدرات الإنتاجية لدول الإقليم. أحد الأهداف الأساسية التي وقفت وراء طرح مبادرة الحزام والطريق أنها مثلت جزءًا من سياسة معالجة مشكلة الفائض في القدرات الإنتاجية في بعض القطاعات الاقتصادية الصينية، من خلال خلق فرص جديدة لنفاذ الاستثمارات والشركات الصينية الكبيرة، العاملة في هذه القطاعات، إلى بعض الأقاليم، ومنها المنطقة العربية والشرق الأوسط، أو من خلال الاستحواذ على الشركات المحلية في بعض الأقاليم. خطورة هذا التوجه أنه قد يؤدي إلى مزاحمة الشركات الصينية الكبيرة للقدرات الإنتاجية والشركات المحلية، بشكل قد يؤدي إلى خروجها من السوق، خاصة في ظل وجود خطط لدى العديد من الدول العربية للتوسع في بعض الصناعات الوطنية التي يعاني فيها الاقتصاد الصيني من وجود فائض في القدرات الإنتاجية، وعلى رأسها الحديد.

ومن ثم، يظل التحدي الأساسي للمبادرة في هذا المجال هو كيفية المساهمة في حل مشكلة الفائض في القدرات الإنتاجية الصينية في بعض القطاعات دون التأثير على القدرات الإنتاجية المماثلة في الاقتصادات والأقاليم الواقعة على مسار المبادرة؟

ثالثًا: شروط مهمة للاستفادة العربية من المبادرة

إن هذا الوضع السلبي للمنطقة العربية، وإقليم الشرق الأوسط بشكل عام، يضع مسؤولية كبيرة على دول المنطقة لتغيير السمات البنيوية للإقليم، كشرط مهم لتعظيم المكاسب المتوقعة من المبادرة وكشرط مهم أيضًا للحفاظ على موقع متميز للإقليم في إطارها.

ولا يمثل استقرار الشرق الأوسط الشرط الوحيد لتعظيم المكاسب العربية المتوقعة من المبادرة، إذ يجب ضرورة الالتحاق العربي المكثف بالنقاشات الجارية حول مستقبل مبادرة الحزام والطريق بهدف تطوير فهم صيني-عربي مشترك حول طبيعة المبادرة ومشروعاتها وآليات تنفيذها. وتجدر الإشارة في هذا الإطار أن الحكومة الصينية توفر خلال هذه المرحلة فرصة كبيرة لتوسيع وتعميق النقاش الصيني-العالمي حول المبادرة من خلال تنظيم الندوات والمؤتمرات وورش العمل الدولية في إطار ما يعرف بآلية "المسار الثاني" Track-Two التي ترفع بالتأكيد تقاريرها إلى الحكومة الصينية حول الإدراك العالمي للمبادرة. كذلك، تأتي أهمية التفاعل العربي-الصيني حول المبادرة في هذه المرحلة المهمة بالنظر إلى غياب الوثائق الحكومية الصينية الرسمية حول المبادرة ومشروعاتها وشكلها النهائي. فقد مثلت الوثيقة المعنونة "رؤى وخطوات دفع البناء المشترك للحزام الاقتصادي لطريق الحرير، وطريق الحرير البحري للقرن الحادي والعشرين"، الصادرة في ٢٨ مارس ٢٠١٥م، عن لجنة التنمية والإصلاح القومية، واحدة من أهم الوثائق الصادرة عن الحكومة الصينية بهذا الشأن، والتي شرحت بشكل أكثر تفصيلاً رؤية الدولة الصينية للمبادرة ومبادئها الأساسية، وأولويات عملها...إلخ، وبشكل ساهم في سد جزء من حالة الغموض حول ماهية المبادرة، لكنها تظل غير كافية بمفردها. بل إنه لم تصدر حتى الآن خريطة تفصيلية لمشروعات المبادرة أو جدولها الزمني، فكل ما تم نشره من خرائط حتى الآن هي خرائط غير رسمية، وهي مجرد تفسيرات أو اجتهادات حول مكونات المبادرة بما في ذلك الصادرة عن جهات إعلامية رسمية قريبة من الدولة. ربما يكون ذلك راجعًا إلى إدراك الحكومة الصينية لأهمية ترك المبادرة للتطور الطوعي بفعل المناقشات والتفاعلات الدولية مع المبادرة، وهو ما يؤكد ضرورة فتح المجال للنقاش الدولي حول الصيغة النهائية للمبادرة ومشروعاتها وجدولها الزمني...إلخ. كذلك لازالت الجداول الزمنية لتطبيق مشروعات المبادرة وما تتضمنه حتى الآن من ممرات اقتصادية وطرق بحرية وموانئ ...إلخ، غير واضحة، وهل سيتم تطبيق هذه المشروعات في إطار تعاون ثنائي بين الصين والدول المعنية، أم في إطار تعاون إقليمي. ورغم تأكيد المبادرة أيضًا على أهمية التعاون بين التنظيمات والأطر الإقليمية وغير الإقليمية، لكن لم يتم حتى الآن تحديد صيغة وآلية التعاون بين المبادرة وهذه الأطر على نحو ما أشير إليه سابقًا.

كل ذلك يعطي أهمية لضرورة التفاعل العربي-الصيني حول المبادرة، وفرصة أيضًا للتأثير العربي على مستقبل المبادرة وموقع العالم العربي فيها. ويمكن في هذا الإطار توظيف "منتدى التعاون الصيني-العربي" الذي يحظى باهتمام كبير من جانب الحكومة الصينية.

وأخيرًا، تجدر الإشارة إلى أن حجم الاستفادة العربية من المبادرة والإمكانات المالية الضخمة التي تقف وراءها سيعتمد أيضًا على قدرة الدول العربية على طرح مشروعات تضمن اندماجها في المبادرة، وتضمن حصولها على أكبر قدر من التمويل والاستثمارات الموجهة للمبادرة، وهو أمر سيعتمد بالتأكيد على قدرة الحكومات العربية على طرح مشروعات لتنمية البنية الأساسية في بلادها.

خلاصة القول إن المبادرة تمثل تحديًا أمام الدول العربية لاقتناص الفرصة التي تقدمها لتعميق التكامل بين الإقليم والاقتصادات العربية، من ناحية، والاقتصاد الصيني وباقي الأقاليم الواقعة على مسار المبادرة، من ناحية أخرى، بشكل يضمن تعميق المكاسب المتبادلة بين الجانبين. لكن الفشل في هذا التحدي سينطوي على تراجع الأهمية النسبية للمنطقة بالنسبة للاقتصاد الصيني-خاصة على مستوى المكون البري للمبادرة ممثلا في "الحزام الاقتصادي لطريق الحرير" وقصر علاقة المنطقة والاقتصادات العربية بالمبادرة وأقاليمها المختلفة على كونها مجرد سوق لتصريف الصادرات الأجنبية.

مجلة آراء حول الخليج