; logged out
الرئيسية / أخطـــأت تركيـــا بالمراهنـــة على الربيـــع العربـــي وأيـــدت ثـــورات غيـــر موجـــودة

العدد 136

أخطـــأت تركيـــا بالمراهنـــة على الربيـــع العربـــي وأيـــدت ثـــورات غيـــر موجـــودة

الخميس، 28 آذار/مارس 2019

منذ أن عرف العالم مفهوم الدول العظمى وهيمنتها على العالم تقلص مفهوم الدول الإقليمية، وبالأخص في المجال الأمني والعسكري، فقد كان هدف الدول الكبرى تأكيد سيطرتها على العالم أو على الدول الأصغر منها، وعلى هذا الأساس تم إطلاق مصطلح "النظام العالمي"، أي العالم الذي تحكمه الدولة الكبرى، أو الدول الكبرى، حتى تتحكم بالعالم باسم هذا النظام العالمي، سواء باسم القوانين التي تفرضها الدول الكبرى باسم القانون الدولي، أو باسم المنظمات الدولية، وكان أول تأكيد على فرض النظام العالمي تأسيس عصبة الأمم في بداية القرن العشرين الماضي 1919م، ومن بعدها تأسيس هيأة الأمم المتحدة بتاريخ 26 يونيو/حزيران م، بعد فشل عصبة الأمم في منع قيام الحرب العالمية الثانية.

ومنذ نشوء هيأة الأمم المتحدة وتشكيل مجلس الأمن عاش العالم خمسة وأربعين سنة تقريبًا في ظل حرب باردة بين بين حلف "وارسو" بزعامة الاتحاد السوفيتي ومنظومة الدول الاشتراكية وحلف دول شمال الأطلسي "الناتو" بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي 1989م، حاولت الولايات المتحدة فرض نظام عالمي جديد أحادي القطبية بزعامتها، ولكنها سرعان ما واجهت تحديات كبيرة، من خلال طرح تحديات بعض الدول رفض نظام عالمي أحادي القطب، والدعوة إلى عالم متعدد الأقطاب، وهذا يمثل من حيث الواقع قيام أقطاب إقليمية في العالم، وتأسيس دور إقليمي لعدد من الدول الصاعدة، يمكن أن توصف بالدولة الإقليمية في محيطها الجغرافي والأمني، وهي تتمحور حول الدول الأعضاء في مجموعة العشرين من غير الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن في الغالب.

ولكن هذه الدول الإقليمية لم تنجح في تثبيت نفسها قوى إقليمية من الناحية الواقعية، وبقيت دول إقليمية من الناحية النظرية فقط، وذلك بسبب تغول الدول الكبرى عليها وعلى المناطق التي تتواجد فيها، فمصطلح الحرب على الإرهاب منذ ظهوره عالميًا بداية القرن الحادي والعشرين إنما كان يستهدف بطريقة مباشرة أو غير مباشرة مواجهة ظهور الدول الإقليمية سواء في أوروبا أو في آسيا أو في أمريكا اللاتينية، فالصراعات الحالية بين ألمانيا وإيران وتركيا وكوريا الشمالية وفنزويلا منفردة من جهة مع الولايات المتحدة الأمريكية من جهة أخرى لا تخرج في أحد أبعادها عن الاستراتيجية الأمريكية في منع ظهور قوى إقليمية في العالم أجمع، وهذه الاستراتيجية الأمريكية وضعت في وزارة الدفاع الأمريكية البنتاغون عام 1984م، وحينها كان الاتحاد السوفيتي يلفظ أنفاسه الأخيرة، وكانت الولايات المتحدة الأمريكية تضع خطتها للهيمنة على العالم طوال القرن الحادي والعشرين دون منازع، وهدفها الأول القضاء على الدول الإقليمية في العالم، قبل أن تتحول إلى دول كبرى.

ولكن الولايات المتحدة الأمريكية عجزت خلال عقدين من قيادة نظام عالمي جديد منفردة، وافتتحت القرن الحادي والعشرين بحروب دولية في أفغانستان 2001م، وفي العراق 2003م، انتهت بانهيار اقتصادي عالمي 2008م، وبعدها أخذت عدة دول تعيد بناء نفسها للعب دور إقليمي أو دولي، ومنها دولة روسيا الاتحادية والصين وبعض دول الاتحاد الأوروبي والهند وتركيا وبعض دول أمريكا اللاتينية، وأخذت دول أخرى تطالب بإعادة النظر بقانون الأمم المتحدة والمواد الخاصة بمجلس الأمن، بما فيها ألمانيا وتركيا والبرازيل والهند واليابان وغيرها.

إن تدخل الدول الكبرى المباشر وتواجد جيوشها في مناطق الصراع الأهلية والإقليمية والدولية ومعظمها في منطقة الشرق الأوسط قد أضعف الدور الإقليمي لكل دول الشرق الأوسط، بما فيها مجلس التعاون الخليجي وتركيا وإيران وباكستان ومصر بوصفها محور الدول الإقليمية المحتملة أن تكون قوى إقليمية في المنطقة، بل وتحولت هذه إلى دول تدافع عن نفسها، وأصبح جل سياستها الخارجية حماية أمنها القومي وحراسة حدودها، وبالأخص أن دول منطقة الشرق الأوسط أصبحت تمارس سياسة دفاعية في شؤونها الداخلية والخارجية، فهي بالنظر إلى طبيعة الصراعات الأمنية والعسكرية في المنطقة تمارس سياستها كردود أفعال، وليس بتقديم السياسات البناءة أو التي تخطط للمستقبل، وهذا ما يجعل سياسات بعض الدول الإقليمية مضطربة وغير مستقرة، وهذا ما يجعل الدول الإقليمية في الشرق الأوسط تتوجس من بعضها البعض، بل قد تصل حد فقدان الثقة والصراع الإعلامي أو الدبلوماسي كما وقع بين الدول الخليجية مع إيران.

الدور التركي المأمول لاستقرار الشرق الأوسط:

تزامن فوز حزب العدالة والتنمية في دخول البرلمان والحكومة التركية عام 2002م، مع تحديات كبيرة على مستوى الأمن القومي التركي وأمن الشرق الأوسط والعالم الإسلامي معًا، فالبرلمان الأول والحكومة الأولى لحزب العدالة والتنمية جاءت بعد الاحتلال الأمريكي لأفغانستان بعام واحد عام 2001م، وقبل عام واحد من الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003م، وكلاهما كانا حدثين كبيرين هزا الشرق الأوسط والعالم الإسلامي والعالم أجمع، وقد كانت المدة الزمنية الأولى لحكومة العدالة والتنمية تحديًا كبيرًا لإصلاح الأزمة الاقتصادية الداخلية، بالنظر إلى الضعف الاقتصادي الذي ورثته من الحكومات السابقة، إضافة لإصلاح قضايا اجتماعية وثقافية وسياسية بين كافة أبناء الشعب التركي، وقد كانت علاقات تركيا الإقليمية في تلك الآونة في حالة استقرار حذر، حاولت حكومة العدالة والتنمية الأولى التركيز فيها على الأوضاع الداخلية، وقد نجحت في تأمين نوع من الاستقرار السياسي، فتوقفت الفوضى الحزبية والاغتيالات السياسية الداخلية، وتحسن الاقتصاد التركي ولو بدرجة قليلة، وهذا ما ساعد الحزب للفوز في الانتخابات التالية عام 2006م، فشجع حكومة العدالة والتنمية الثانية على طرح وجهة نظر لمعالجة المشاكل الخارجية بما ينعكس على تحسين الأوضاع الاقتصادية أيضًا، فطرح في عهد حكومة العدالة والتنمية الثانية مبدأ صفر مشاكل من وزير الخارجية البروفسور داود اغلو، وقد حصدت هذه السياسة بعض النجاحات مع دول الخليج ومصر وليبيا وتونس وسوريا والعراق والأردن ولبنان والسلطة الفلسطينية وغيرها، ولكن ما إن بدأت احتجاجات الشارع العربي باسم الثورات أو الربيع العربي حتى بدأت تركيا تخسر علاقاتها السياسية الحسنة شيئًا فشيئًا مع هذه الدول، وبدا أن وجهات النظر من هذه الاحتجاجات مختلفة بين الحكومة التركية والحكومات العربية.

كانت وجهة نظر الحكومة التركية أنها تراهن على خيار الشعوب، وقد ثبت خطأ هذه النظرة لأن نفس الشعوب انقضت على ثوراتها وأفشلتها، إلا أن الحكومة التركية لم تتراجع عن تأييد ثورات غير موجودة، فالحكومة التركية لم تعترف بالفشل الشعبي لإنجاح هذه الاحتجاجات، وحصرت الفشل بدعم الحكومات الرافضة للتغيير، فأصبحت الدول الإقليمية في الشرق الوسط بما فيها تركيا وإيران والدول العربية الخليجية في تناقض في ترتيب مواقفها السياسية من الأحداث الجارية في المنطقة، ودخلت ردود الأفعال للحكومة التركية والإيرانية والعربية في محاربة بعضها إعلاميًا وفصائليًا داخل تلك الثورات، سواء كانت في ليبيا أو مصر أو تونس أو سوريا أو اليمن، بالرغم من بقاء تلك الثورات غير مرضية للحكومات في هذه الدول وحلفائها.

هذه الاختلافات بين تركيا وبعض دول منطقة الشرق الأوسط أصبحت توصف من قبل الإعلاميين والسياسيين في الغالب على أنه صراع على زعامة الإقليم المركزي للشرق الأوسط، بينما الصراع الحقيقي هو بين الدول الكبرى روسيا وأمريكا بالدرجة الأولى، وفرنسا وبريطانيا وألمانيا وإسرائيل بالدرجة الثانية، بينما كان الصراع بين الجمهورية الإيرانية والجمهورية التركية وعدد من الدول العربية والخليجية امتدادًا لأحد أنواع الصراعات الدولية على مستوى رسم واقع الشرق الأوسط الجديد، بل يمكن النظر إليها على أنها كانت ضحايا تخطيط داخلي أو خارجي سيئ، ويمكن القول بأنها بدرجة ما اختلاف في وجهات نظرها في تحقيق مصالحها أو دفع أضرار عنها نتيجة التدخلات الدولية التي تعمل لإدخال منطقة الشرق الأوسط في الفوضى الخلاقة، ورسم خرائط جديدة للشرق الأوسط تغير في خرائط سايكس بيكو الاستعمارية عام 1916م.

الجمهورية الإيرانية ضحية للمشاريع الدولية الاستعمارية وأخطاء داخلية، في هذه الجمهورية المحكومة بعقلية طائفية مذهبية منذ تأسيسها، فقد استغلت القوى الكبرى مبدأ تصدير الثورة الإيرانية في دفع إيران للتورط في الحروب الدولية التي ترعاها الولايات المتحدة، سواء في أفغانستان أو في العراق أو في سوريا أو في اليمن ومياه الخليج وغيرها، فقد استثمرت أمريكا مطامع إيران بالتوسع الإقليمي سرًا لمشاركتها في حروبها القادمة لتغيير الشرق الأوسط، وكانت السياسة الإيرانية من الغباء والعقلية المريضة لتوسيع نفوذها المذهبي مقابل تقديم تسهيلات للحروب الدولية الأمريكية، وكانت الحكومات الإيرانية تظن أن أمريكا سوف تشكرها على هذا التعاون، وخاصة أن هذه السياسة أدت لقتل ملايين المواطنين من سكان الشرق الأوسط، وهم في نظر الذهنية الإيرانية الطائفية أعداء لثورتها المزعومة، كما أنهم أعداء للمشاريع الأمريكية في المنطقة، وأقصى ما حاولت إيران كسبه توقيع اتفاق الملف النووي مع أمريكا يوليو / تموز 2015م، ولكن بعد أن قدم ملالي إيران لأمريكا عربون الوفاء بقتل ملايين المسلمين العرب في العراق وسوريا واليمن وغيرها، وخرج جواد ظريف بعد توقيع الاتفاق النووي ليعلن أن المكسب الأكبر لإيران هو :"كسب ثقة الغرب"، ولكن جواد ظريف وهو الخبير المفترض بالغرب خسر ثقة الغرب بإلغاء الرئيس الأمريكي ذلك الاتفاق 2017م، وخسر ثقة الحرس الثوري بمنع أحد جنرالات الحرس الثوري الإيراني قاسم سليمان جواد ظريف بمنعه من حضور اجتماع بين خامنئي وروحاني مع بشار الأسد بتاريخ 26 فبراير /شباط 2019م، مما اضطره لتقديم استقالته في ذلك اليوم، إضافة لإدخال إيران في عقوبات أمريكية كبيرة وقاسية، أي أن إيران حصدت خسائر فادحة في محاولتها تزعم الإقليم، وهي في الحقيقة لم تكن إلا أداة لتدمير الإقليم بما فيه شعبها.

وأما السياسة التركية فقد خضعت لما تظنه إضاءات لمشاعر الشعب التركي المالك للأصوات الانتخابية أولاً، وخضعت لإرضاء مشاعر الشعب العربي، بما تظنه أنه يكسب ثقة العرب والمسلمين بحكم التأييد الذي كسبته السياسة التركية من تأييد وتضامن شعبي عربي عاطفي، هذه المشاعر الشعبية العاطفية من الشعب التركي والشعب العربي جعلت السياسة التركية في حالة صدام أمام الحكومات العربية والإيرانية معًا، وهذا التعاطف الشعبي جعل البعض يظن بأن السياسة التركية تعمل لكسب موقع قيادي إقليمي، وهذا ظن خاطئ من الطرفين، ظن خاطئ من الإعلاميين الذين كانوا يتهمون تركيا بذلك، كما أنه ظن خاطئ لدى تركيا إذا ظنت أنها يمكن أن تقود الأقاليم بسماع بعض التغريدات أو رفع بعض الصور في المظاهرات في الشارع العربي، فهذه تمثل حالة تعاطف شعبي جزئي وضئيل، لا يعول عليه في بناء قيادات إقليمية، وفي الغالب أن القيادة التركية لا تعول على هذه المواقف الشعبية العربية العاطفية بقدر ما تبادلها التعاطف من خلال رفع شعارات مقابلة، بدليل عدم قدرة تركيا من تغيير شيء من الصراعات الدولية في الإقليم، وبقدر ما انتهت إلى انتظار الضوء الأخضر الأمريكي أو الروسي للتحرك داخل الأراضي السورية لحماية أمنها القومي وحدودها الجنوبية.

لقد كانت السياسة التركية ضد الغزو الإيراني للوطن العربي، في وجهة نظر الحكومة التركية حتى عام 2015م، كانت رفض السياسة الإيرانية الطائفية في العراق وسوريا واليمن وغيرها، وقد أعلنت الحكومة التركية هذه المواقف صراحة، وقد وصف المسؤولون الأتراك العدوان الإيراني على الدول العربية بالغزو الفارسي، وهو ما أوجد تقاربًا بين تركيا والسعودية ودول الخليج في مواجهة النفوذ الإيراني الفارسي في البلاد العربية، ولكن تركيا من وجهة نظر رسمية لم تكن تستطيع الاستغناء عن العلاقات الاقتصادية مع إيران، وهذا ما لم يرض الدول العربية والخليجية.

وجاءت أزمة الخليج الداخلية بين أربعة دول عربية هي السعودية والإمارات والبحرين ومصر مع قطر حزيران/يونيو 2017م، لتضع العلاقات التركية العربية على تحد جديد وخطير، فوجهة النظر العربية في خلافها مع قطر أن دولة قطر قد تجاوزت حدودها وأصبحت دولة تهدد مصالح هذه الدول أمنيًا، وربما كانت تنظر هذه الدول الخليجية أن يكون الموقف التركي قائمًا على الحياد باعتبار أن المشكلة عربية ــ عربية، بل وخليجية بالدرجة الأولى، ولكن وجهة نظر الحكومة التركية أن لها علاقات ومصالح استراتيجية مع قطر تلزمها بمواصلة التعاون معها، مع دعوتها لحل المشكلة بالطرق التفاوضية والسياسية والسلمية، وهو ما اعتبرته بعض الدول الخليجية اصطفافا سياسيًا وعسكريًا مع قطر، إلى جانب هذه المشاكل كانت مشكلة تركيا مع حكومة مصر في ظل رئاسة عبدالفتاح السيسي، وانعكست هذه الخلافات على عدة مسائل عربية ودولية منها القضية الفلسطينية وليبيا وسوريا وغيرها.

في هذه الظروف والاختلافات وردود الأفعال السياسية والإعلامية تزداد حالة التوتر بين دول منطقة الشرق وبالأخص الأطراف الإقليمية الثلاث، إيران وتركيا والدول العربية الخليجية، مما اضطر هذه الدول التي يمكن وصفها نظريًا بأنها دول أو قوى إقليمية، وإن لم تكن كذلك من الناحية الواقعية، وهي ليست كذلك من الناحية الواقعية لأن الدول الكبرى وبالأخص أمريكا وروسيا تقومان بتنافس دولي كبير على نفس القضايا التي تتنافس عليها الدول الإقليمية الثلاث، وقد يكون أكبر نموذج على ذلك الأزمة السورية والصراع الدولي والإقليمي عليها، فإيران دولة عدوانية في سوريا والمنطقة، والدول العربية والخليجية تنظر إلى القضية على أنها قضية عربية وينبغي حلها بما يوافق مطالب الشعب السوري والحفاظ على سوريا دولة عربية موحدة، وأن تبقى جزءًا من الدول العربية وجامعة الدول العربية، بينما تعلن الحكومة التركية على لسان وزير دفاعها خلوصي أكار في مؤتمر ميونخ للأمن في شهر شباط/ فبراير 2019م، أن أهداف تركيا من التدخل في سوريا أمران فقط، وهما الحفاظ على الأمن القومي التركي أولاً، وحماية الحدود المشتركة بينهما ثانيًا، وهو ما أكدته تصريحات كثيرة للمسؤولين الأتراك بعدم وجود أطماع تركية في الأراضي السورية، وهي تعلن في كل المحافل الدولية أنها لن تسمح بإقامة كيان انفصالي كردي شمال سوريا، حتى لو اضطرت لخوض حرب مع من يعارض ذلك.

وعلى هذا الأساس فإن التقارب العربي التركي قابل للتحقق والنجاح في سوريا، لأن إقامة كيان انفصالي للأكراد في سوريا يعني اقتطاع أراض عربية لغير أهلها، فالأكراد في سوريا لا يملكون أرضًا جغرافية متماسكة لإقامة كيان عليها إلا بسرقة أراض عربية من الشعب السوري، وهذا ضد مصالح الدول العربية قوميًا، وهذا يتطلب أن تشجع الحكومة التركية أو أن تتعاون مع الدول العربية لمنع إقامة هذا الكيان الانفصالي أولاً، وأن يتعاونا لإخراج إيران من سوريا ومن الدول العربية ثانيًا، لأن مواقفها من العدوان الإيراني في الدول العربية متقاربة، وأن يعملا معاً للحد من نفوذ إيران الطائفية في الدول التي تجد فيها توابع طائفية، بحيث يقتصر دورها على التعاون مع الدول العربية والإسلامية لمتابعة الشؤون الدينية والمذهبية فقط، ومنع تواجدها العسكري أو المليشياوي الذي يزعزع الأمن القومي للدول العربية والخليجية، كما يزعزع أمن تركيا وغيرها.

إن ما يحد من قدرات الدول الإقليمية في الشرق الأوسط هو أنها ليست لاعبًا قويًا بنفسها، بل إن دورها مقيد ومحدود بما تعقده من اتفاقيات أمنية وعسكرية وسياسية مع الدول الكبرى، فتركيا لم تستطع أن تحرك جنديًا تركيًا واحدًا إلى الداخل السوري قبل أن تأخذ الضوء الأخضر من أمريكا، لأن تركيا لا تسعى للاصطدام مع حليفها الأمريكي، وكذلك بذلت جهودًا كبيرة مع روسيا واستفادت أو استغلت التورط الروسي في سوريا لإيجاد قاعدة تفاهم معها في سوريا، عبر مؤتمر أستانا وسوتشي وبطرسبورغ وموسكو وأنقرة وغيرها، فتركيا أو الدول العربية متهمة بأنها قوى إقليمية توسعية أو طامعة، ولكنها ليست كذلك بدليل أنها لا تتحرك إلا بعد التوافق الدولي، أما إيران فقد استغلت مباحثات الملف النووي مع أمريكا وأخذت ضوءًا أخضر من وزير الخارجية الأمريكي الأسبق في عهد أوباما جون كيري للتحرك العسكري في سوريا، ولكن الإدارة الأمريكية الحالية لا توافق على هذا التواجد الإيراني في سوريا وبالأخص بعد انتفاء الحاجة إليه، بعد فقدان كافة الأطراف المتنازعة في سوريا فكرة الحل العسكري.

إن انتفاء فكرة الحل العسكري في سوريا جعلت الأمور تأخذ مسارًا جديدًا بضرورة خروج كافة القوات العسكرية منها، وبالتأكيد فإن تركيا مطالبة أن تثبت حسن نيتها نحو الحل السياسي في سوريا أولاً، وأن تقف على الحياد من القضايا العربية الشائكة، وأن يكون دورها إيجابيًا بما يوافق تطلعات الشعب العربي بكافة أقطاره ودوله.

من المؤكد أنه لا توجد كراهية راسخة لدى الشعب التركي ضد الدول العربية وشعوبها، والعكس صحيح أيضًا، وهذا يمكن الحكومة التركية والسياسة التركية عمومًا أن تكون عامل تهدئة واستقرار في المنطقة، وأن تكون على مسافة واحدة من جميع الدول في المنطقة، وأن تتعامل مع الدول والأنظمة الشرعية، وليس مع الأحزاب أو الجماعات أو الطوائف على حساب العلاقات مع الأنظمة السياسية، لأن منطق الدول هو في التعامل الدبلوماسي والعلاقات الدولية مع الدول رسميًا، كما أن منطق التعامل الدبلوماسي الدولي غير منطق التعامل مع الأحزاب السياسية، فالأحزاب السياسية يمكن أن تتعامل مع بعضها، ولكن دون أن تعيق عمل الحكومات مع بعضها بعضًا.

تركيا والمشاكل الإقليمية:

لقد تعاملت تركيا في السنوات الأخيرة مع العديد من قضايا المنطقة، وما من قضية تعاملت معها إلا وقد وجدت لها مؤيدين ومعارضين عل المستوى الشعبي، وأما على المستوى الرسمي فقد وصلت إلى حالة اصطدام وتنافر مع معظمها.

إن وجهات نظر عديدة عربية وإسلامية غير راضية عن التحالفات والاتفاقيات التي تجريها الحكومة التركية مع الحكومة الإيرانية، وبالأخص بعد اعتراف الحكومات التركية بأن سلوك إيران في البلاد العربية هو سلوك عدواني وطائفي وتوسع فارسي باعتراف المسؤولين الأتراك أنفسهم، ولكن الحكومة التركية مع ذلك لا تتوقف عن إبرام الاتفاقيات الاقتصادية الكبيرة مع الحكومة الإيرانية، بل مما يستغربه البعض أن تكون الحكومة التركية من أكبر الدول المعارضة لفرض العقوبات على الحكومة الإيرانية التي تمارس العدوان والقتل والتشريد للشعب العربي في العراق وسوريا واليمن وغيرها، هذا الموقف يبدو للعديد من الأطراف العربية بأنه موقف متناقض، ويبحث عن المصالح التركية الاقتصادية فقط، بينما وجهة نظر الحكومة التركية أن مبدأ العقوبات مبدأ ظالم للشعوب ولا يؤثر على الأنظمة السياسية إلا قليلاً، بل وترى الحكومة التركية أن العقوبات الأمريكية تحديدًا إنما تريد المصالح الأمريكية، وأمريكا تفرض العقوبات على الشعوب والحكومات لتحقيق مصالحها فقط، وهذا أمر لا ينبغي أن يمر دون مراجعة الأمر مع الحكومة الأمريكية، لأن للشعب التركي مصالح اقتصادية مع إيران ولا تملك الحكومة التركية أن توافق العقوبات الأمريكية ضد إيران بما يضر بمصالح الشعب التركي، سواء كان في توفير الطاقة والغاز والنفط، أو في زيادة التبادل التجاري الذي يحتاجه السوق التركي في ظل معاناة اقتصادية كبيرة في تركيا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*أكاديمي وباحث وكاتب تركي

مجلة آراء حول الخليج