; logged out
الرئيسية / التمويل محدود للمؤسسات البحثية الخليجية ومن يتوفر لها المال تنتج أبحاثًا متدنية

العدد 139

التمويل محدود للمؤسسات البحثية الخليجية ومن يتوفر لها المال تنتج أبحاثًا متدنية

الخميس، 11 تموز/يوليو 2019

يحدثنا المرحوم الدكتور غازي القصيبي في كتابة حياة في الإدارة أن واحدة من أمنياته الأولى بعد تخرجه وعمله في جامعة الملك سعود في الرياض في وسط العقد السادس الميلادي من القرن الماضي أن ينشئ مركزًا للأبحاث يهتم بشؤون دول الخليج، حيث لاحظ قلة الدراسات المتوفرة وقتها عن هذا الإقليم، إلا أن تلك الأمنية لم تتحقق وقتها، على الرغم مما حقق الرجل بعد ذلك من إنجازات، وبعد عقد من تلك الأمنية قام كاتب هذه السطور في الثلث الأول من العقد السابع في القرن الماضي بإنشاء مجلة دورية في جامعة الكويت بعنوان ( مجلة دراسات الخليج و الجزيرة العربية) والتي كانت أول خطوة على طريق ما تم بعد ذلك وهو إنشاء مركز دراسات في الجامعة ، تلك الخطوات المبكرة تشير عن إرهاصات النخب الخليجية التي قيضت لها فرص التعليم العالي في خارج دول الخليج ورغبت أن تنقل ما شاهدت وتعلمت عن أهمية مراكز الدراسات المعمقة حول بلادها ومجتمعاتها التي كانت تطل على الحداثة العالمية وتخرج من براثن الفقر والتخلف بعد أن هيأت لها فرص الدخل النفطي المتعاظم إمكانية تطوير مجتمعاتها. بين الأمس واليوم فرق كبير بل أكاد أقول إنه هائل، حيث تنتشر اليوم مراكز البحث مختلفة التخصصات في جامعات دول والخليج وخارجها رسمية وأهلية، حيث أصبح الوعي بأهمية مثل تلك المراكز في فهم المشكلات التي تواجه دول الخليج منها الاجتماعية والاقتصادية و السكانية وغيرها من المشكلات والتي تحتاج إلى تبصر ودراسة من أجل فهمها أولاً واقتراح الحلول للتغلب عليها ثانيًا ، بل أصبح هناك ( تجمعات اكاديمية مستقلة ) تقوم بدراسة المشكلات التي تواجه مجتمعات الخليج ووضع الحلول لها بعد مناقشتها و نشر ذلك للكافة . كما أسس بعض النشطاء مراكز بحث خاصة تقوم بالعمل البحثي وتنشر أعمالها للاطلاع لمن يهمهم أمر تلك الموضوعات إما بمبالغ مدفوعة أو مجانية، هذا بجانب كما ذكرت المراكز البحثية التابعة لجامعات، أو مراكز بحث تابعة لمؤسسات رسمية و تاريخ مراكز البحوث والاهتمام بها عالميًا تاريخ طويل   بدأ منذ القرن التاسع عشر الميلادي إلا أنه في منطقتنا العربية كان الاهتمام بها متأخرًا وجاء نتيجة أزمات سياسية، فأول مركز منظم هو مركز الأهرام الذي أنشئ لمعرفة أكثر للعدو ! بعد هزيمة عام 1967! و مع ذلك فإن الأرقام لازالت تقول لنا إن عدد المراكز البحثية في منطقتنا ( الشرق الأوسط) لا زال متواضعًا بالنسبة إلى مناطق العالم الأخرى بما فيها مراكز البحث الغربية المهتمة بالمنطقة العربية .

مجتمع المعرفة

في دراسة لكاتب حول مجتمع المعرفة في دول الخليج  حددت خصائص مجتمع المعرفة بشكل على أنها:

1-أهم المكونات التي يتضمنها أي ( عمل أو نشاط) في المجتمع،   فيما يخص نشاطاته المختلفة، يتكون مثل نشاط ( الاقتصاد والسياسة و الثقافة والتعليم إلى آخره من النشاطات الإنسانية ) أي أن أي قرار يخص تلك النشاطات يكون مبنيًا على، ويخضع إلى قاعدة معرفية ومعلوماتية عقلانية، تجمع وتحلل المعطيات و ينظر إلى مساقها ومصيرها لخدمة المجتمع .

2-كما يتميز مجتمع المعرفة بأن (المعرفة) هي أهم، أو من أهم السلع المنتجة في ذلك المجتمع، وأنها اي المعرفة، تعتبر من أهم مكونات رأس المال المنتج في المجتمع المعني، أي النسبة الأكبر في التصدير للخارج.

3-أن يتوفر في المجتمع مستوى عال من التعيلم ( المُجود) في مستوياته المختلفة، الفنية و الأكاديمية في العلوم البحتة و التطبيقية و العلوم الاجتماعية بفروعها .

4-وجود مراكز بحوث مهتمة بالبحوث العلمية وعلى أرفع المستويات، وتوفير المناخ الثقافي و السياسي لأداء مهماتها على أكمل وجه، كما ترصد لها الميزانيات التي تمكنها من أداء عملها بالشكل المطلوب .

5-التمويل المالي ( من الدولة أو القطاع الخاص أو كلاهما ) و مقدار حجم الانفاق على البحث العلمي ونسبته من الناتج القومي المحلي في المجتمع المعني، من أهم مقاييس ( مجتمع المعرفة

دول الخليج ومجتمع المعرفة

اذا قسنا تلك الشروط الخمسة السابقة، والتي يجب أن تكون متطلبات مسبقة للوصول إلى (مجتمع المعرفة) وفي كلياتها في دول الخليج بشكل عام، فإننا نستطيع أن نصل إلى تصور مبدئي، بأن مجتمعات الخليج لم تنخرط بعد كليًا في مسيرة (مجتمع المعرفة) من حيث الإنتاج أولاً ومن حيث تمحيص وغربلة و استخدام المعلومات في اتخاذ القرار ثانيًا، وإن بدا أن هناك بعض الملامح على سطح المجتمع الخليجي تشير بأن هناك توجه للانخرط في تلك المسيرة من حيث الاستهلاك (الاستعمال)، ولكن فقط في مجتمع المعلومات ( حتى الآن)، وليس في مجتمع المعرفة كما يحدد في المؤشرات الدولية أو الشروط المسبقة . ويقرر التقرير الرابع للتنمية الثقافية الذي تصدره مؤسسة الفكر العربي (2012م) أن التواصل على النت بين العرب عام 2010م، كان 29 مليون، ارتفع اليوم إلى حوالي 160 مليون مستخدم ، وهو الأكثر نموًا في العالم ! وكانت القضايا الاقتصادية قد حصلت على نصيب الأسد من التعليقات البينية ( كما يذكر تقرير مؤسسة الفكر 2012م) حيث بلغت 32.7% من المشاركين، أما التدوين Blogging  فإن المفاجئ أن معظم مستخدميه في دول الخليج هم من العنصر النسائي ( التدوين النسائي يكتسح تسع دول عربية) في الخليج 70% من المدونين نساء في السعودية، وفي قطر 76% ،وفي الامارات 70% مما يلفت النظر إلى البعد الاجتماعي في التعامل مع الفضاء المعلوماتي الذي يتيح التواصل (الافتراضي) في غياب التواصل الانساني المباشر!

من جانب آخر وعلى سبيل المثال ليس كل القرارات المتخذة ( بشكل عام ) في دول الخليج قرارات مبنية على (مكون معرفي وبحثي قريب إلى الدقة) أو يشارك فيه أهل ( المعرفة) أو يقوم على دراسات نوعية، ويتفاوت اسهام (المعرفة) في اتخاذ القرار بين نشاط وآخر ، فمثلا في النشاط الاقتصادي قد يكون هناك ( إلى حد ما مكون معرفي في اتخاذ القرار ) ولو أنه مكون معرفي خارجي، قلت إلى حد ما، و خاصة في النشاط الاقتصادي المشترك و الخاص، أما في النشاط الاقتصادي العام، فإن القرار ، بشكل عام، يخضع إلى ضغوط اجتماعية محلية وخارجية تفقده الالتزام ( بشروط المعرفة) كما حددناها سابقًا، فمثلا تعتبر دول الخليج في تصنيف النشاط الإنتاجي العام أنها دول ( ريعية) أي معتمدة على الريع المالي الناتج من بيع النفط أو الغاز ، الدولة هي المستقبلة لهذا الريع، وتقوم بتوزيعه على الأفراد و المؤسسات و المجاميع الاجتماعية ، وفي الغالب لا توجد رقابة فاعلة على هذا الدخل وطريقة توزيعه، ولان الدولة تحتاج الى خلق الولاء السياسي، فإن توزيع الريع يتأثر بمكون ( سياسي و اجتماعي ) ويدخل في اطار توزيع الدخل التأثير الإيجابي في التأييد، و كما يدخل أيضًا في تحديد الأولويات ضغوط المجتمع و الضغوط الدولية، كما يتدخل ( القرار السياسي) في تحديد وتشكيل القيم المجتمعية لذلك فإن المجتمع الخليجي، بطريقة توزيع الريع، يتوجه إلى اللاتجانس ( الاقتصادي) ، أي أكثرية تعيش على دخل ( وظيفي من الدولة) أي خلق ما يعرف بــ Salaried class مدعوم بالخدمات العامة الرخيصة إلى حد ما، كهرباء وماء رخيصة نسبيًا، وسكن ترعاه الدولة، وخدمات تعليمية وصحية شبه مجانية أو مجانية، و ينتج من كل ذلك ( مجتمع اعتمادي) على الدولة، لا يوجد في مساقاته ما يمكن أن يعرف بالتنافسية التي تخلق في الأساس دينمامية لخلق مجمع المعرفة، كما لا يعتمد أصلا في قراراته على معرفة بحثية، رغم كل الأصوات القادمة من النخب لفعل ذلك ! على سبيل المثال الآخر ، فإن مثل هذا المجتمع ( مرة أخرى بشكل عام) لا يمكن أن نحصل منه على ( جودة عالية في التعليم) الذي تعتمد عليه مراكز البحوث، لأن مفهوم التعليم في الدولة الريعية هو الحصول على الوظيفة، التي هي في الغالب مضمونة من الدولة ( كجزء من توزيع الريع) هذا ما يجعل المجتمع الخليجي في مرحلة انتقالية تتميز ( بموقف عصري في الظاهر و سولكيات تقليدية في الجوهر) وتأخر في تنويع وسائل الإنتاج، أي إقامة صناعة حديثة و خدمات متميزة، تصدر منتجها إلى الخارج وتظيف إلى الدخل القومي و تغير من مصادر إنتاج القيم العامة في المجتمع، وأيضًا عدم وجود ( رؤية بحثية معقولة) سوف يبقى المجتمع الخليجي بشكل عام معتمدًا على الدولة.

من هنا فإن الانظمة والمؤسسات البحثية التي يمكن أن تنتج ( من هكذا تشكلية) في الغالب تكون غير قادرة على إنتاج المعرفة، فإنتاج المعرفة يحتاج إلى خلق مؤسسات حديثة، تعتمد في الأغلب على الكفاءة لا العلاقات الاجتماعية و شبكة القرابة Kingship. وعلى الرغم من وجود بعض مراكز الأبحاث التي تنتج بعض الأفكار المعرفية وتقدم حلولاً للمشكلات السياسية و الاجتماعية التي تواجهها مجتمعات الخليج، إلا أنه بسبب التركيبة القائمة فإن الكثير من تلك الأفكار تنتهي إلى عدم التنفيذ أو إلى التجميد، وهناك الكثير من الخطط التي توضع على الورق من أجل النهوض بالمجتمع. فدول الخليج على سبيل المثال تهتم بترقية التعليم، ونجد في الأدبيات الرسمية المختلفة صدى لذلك الاهتمام، إلا أنه بالكاد يتبلور في التنفيذ، لأسباب موضوعية وذاتية كثيرة، منها السياسة العامة في ربط ( الشهادة بالوظيفة) إكمالا لسياسة قديمة وهي ( الدولة الراعية) أي استخدام التوظيف كنوع من توزيع الثروة . في مثل هذه المعادلة لا يستطيع المجتمع أن يتوجه ( بجدية) كاملة لإصلاح مستحق في التعليم، أو إقامة مراكز بحثية تقدم المشورة العلمية لا اتباع السياسات العامة للدولة ! .

     المشهد الخليجي في إطار مجتمع التنمية

يشهد العالم العربي اليوم تغييرات جذرية على كافة المستويات الاقتصادية والاجتماعية. كما تضرب تلك المجتمعات موجات من التحديات غير المسبوقة، على الأقل بداية من العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين وضمن سعى هذه المجتمعات لمواكبة المستجدات المتسارعة والتغيرات المتلاحقة، تواصل دول عدة في المنطقة تبني مبادرات نوعية في إطار جهودها الحثيثة لبناء اقتصاد متكامل قائم على المعرفة والبحث وعلى رأس هذه الدول في منطقتنا دول ( مجلس التعاون الخليجي)، الأمر الذي ينطوي على بعض النتائج الإيجابية الملموسة على صعيد تحسين مؤشرات مجتمع المعرفة. وبالفعل أثمرت تلك الجهود المستمرة عن نجاحات ملحوظة، أبرزها تقدّم كل من دولة قطر و دولة الإمارات في “مؤشر التنافسية العالمية 2015-2016م، المرتبة وقد حصلت كل من قطر و الإمارات على مستوى 14 و17 على التوالي، من أصل 130 دولة في المؤشرات الكلية. وخطت دولة الإمارات خطوة متقدمة على صعيد التحول نحو نموذج الحكومة الذكية، وذلك عقب اختيارها في المرتبة الأولى عالميًا في 6 مؤشرات من إجمالي 114 مؤشر، كما تبذل جهود منظمة في التحول في الاداء العام الى التقنية الحديثة .

وكان هناك العديد من الأرقام الدالة على أنه مؤشرات اقتصاديات المعرفة أخذت في التسارع في منطقة الخليج العربي، فقد أصبحت دولة الإمارات في موقع الصدارة عربيًا بعد أن احتلت المرتبة الأولى في “مؤشر الأداء الإلكتروني العربي للعام 2015″ بمعدل 67.35%.

وتصدرت دول مجلس التعاون الخليجي الست التصنيف العام في مؤشرات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في العالم العربي خلال العام 2015م، وجاءت البحرين في المرتبة الأولى بعد أن سجلت 74.15% في معدلات استخدام شبكة الإنترنت، فيما حققت الكويت أعلى نسبة في انتشار الهواتف النقالة بـ 194.62%.

 وقد رصد مؤشر استخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في العالم العربي أربعة مؤشرات رئيسية لكل دولة من الدول الـ 18 في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، هي مؤشر “مشتركي الهواتف النقالة”، ومؤشر “مشتركي الهواتف الثابتة”، مؤشر “مستخدمي  شبكة الانترنت،  ومؤشر “عدد أجهزة الكمبيوتر المثبتة”. ويتم احتساب  المؤشر العام من خلال جمع نتائج المؤشرات الأربعة الرئيسية لكل دولة، وتقسيمها على إجمالي التعداد السكاني. ويشكّل ارتفاع الدرجة المسجّلة وفق المؤشر العام دليلاً على مستوى النجاح في تبنّي نظم تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، و تعكس نتائج توقعات أعداد مستخدمي الإنترنت في العالم العربي( 2014-2018 ) مدى التوسّع الكبير الذي سوف يشهده قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في ظل التقديرات المتوقعة،  بأن يصل عدد مستخدمي  شبكة الانترنت  في الدول العربية إلى نحو 300 مليون مستخدم  بحلول العام2020م.

إن مسيرة التحوّل إلى إقتصاد المعرفة في المنطقة استحوذت على حصةً كبيرةً من الاهتمام الذي يركّز في المقام الأوّل على دراسة ما يُعرف بـ “المدن الرقمية”، مع تسليط الضوء بشكل خاص على تجربة مدينة دبي التي أثبتت مكانة مرموقة لها ضمن قائمة أفضل 10 مدن في العالم من حيث الحوكمة الرقمية في العام 2014م، متفوّقة بذلك على أبرز العواصم العالمية مثل لندن وأوسلو وستوكهولم وفيينا وهذا أمر ملفت، أي أنها تتفوق على أية مدينة عربية أو غير عربية في الجوار الجغرافي.

ووفقًا لدراسة صادرة في شهر سبتمبر 2014م، من قبل الجامعة الحكومية لولاية نيوجرسي “روتجرز”حول المواقع الإلكترونية الرسمية لـ 100 من المدن الرئيسية في 100 دولة حول العالم، احتلت مدينة دبي ( الإمارات) المرتبة التاسعة وفق المؤشر العام، والمرتبة الرابعة من حيث تسليم الخدمات، والمرتبة الخامسة من حيث الخصوصية والأمن.

وفي دراسة حول عدد البحوث المنشورة في قبل باحثين ( في مجلس التعاون)دول مجلس التعاون تبين هناك، ان العدد الكلي ( 2015\2016 ) هو تقريبًا مائة الف ورقة بحثية ( على وجه الدقة 99,387) وأن هذا العدد لكل ألف نسمة من السكان يقترب من كل من مستوى إيران و تركيا ، وأن السعودية تنتج حولي 65% من المجموع إلا أن العمل المؤسسي (أي اشتراك أكثر من باحث أو مؤسسة في إنتاج البحث) قليلة جدًا و إن وجدت فهي عائدة إلى معرفة شخصية بين الباحثين، و ليس من خلال عمل مؤسسي منظم، وبحسب بيانات اليونسكو فان الميزانيات المخصصة متواضعة ، فالإمارات ترصد ما بين190 مليون دولار إلى 270 مليون دولار تقريبًا ، كما أنها تخطط الإمارات إلى مضاعفة الإنفاق على البحث العلمي ( عن عام 2016) ثلاثة أضعاف، كنسبة من الناتج القومي الإجمالي في عام 2021م، وتحتل المملكة العربية السعودية المرتبة 37 عالميًا فهي تخصص ما يقارب 1.8 مليار دولار سنويًا ، إلا أن الحذر يجب أن يصاحبنا في النظر إلى هذه الارقام، حيث لا توجد مؤسسة أو (مؤسسات) معتمدة تقدم لنا أرقامًا منضبطة في هذا المجال

من الممكن القول بشيء من الثقة أن هناك ( انتقال خجول) في دول مجلس التعاون إلى مجتمع المعرفة، لان ذلك الانتقال يعتمد على ( الاستهلاك لا انتاج المعرفة ) ذلك يتطلب أن تبنى ( كل القرارات) المتخذه في الدولة المعنية على (العلم و المعلومات) ولكن ذلك لم يتحقق لعدد من الأسباب ذكر بعضها عند الحديث عن طبيعة ( الدولة الريعية) آنفًا ومستوى التعليم و السياسات العامة. فكلمة “العلم” في تداولها العام للتدليل على مجموعة منظمة من المعارف والرؤى. ويفرق الكثيرون بين ما يعرف بالعلوم الطبيعية أو البحتة، وبين ما يعرف بالعلوم الإنسانية أو الاجتماعية. على أن مصطلح “العلم” إذا استخدم بمفرده، يُقصد به في أغلب الأحيان العلوم البحتة، أو ذلك اللون من المعرفة الذي يتضمّن فكرة التجربة والمشاهدة والاختبار في أدق صورها، والذي يعرف بالعلوم الطبيعية الأساسية من كيمائية وفيزيقية ورياضية وجيولوجية وفلكية ونباتية وحشرية. كما قد يتطرق التعريف إلى مجالات تطبيق هذه المعارف كافة، سواء في الهندسة أم الزراعة أم الطب أم الصيدلة وما إليها .

ويقودنا هذا إلى تمييز آخر مهمّ بين مجالين أساسيّين يمكن أن يتحقّق فيهما ومن أجلهما العمل العلمي: الأول هو ” البحث Research”، ( وهذا مقصد المطالعة) والثاني هو “التقدم والتنمية Development”. أما التكنولوجيا، فهي أهم مظهر من مظاهر استخدام العلم في مجال التقدم والتنمية إن كانت منتجة في المجتمع المعني، وقد أضحى العلم والتكنولوجيا على درجة من التشابك تثير العجب حين نعلم أن عمر التعاون بين هذين المجالين هو بحدود قرنٍ ونصف القرن من الزمن. والتكنولوجيا هي المعرفة والنشاط المنظّم الذي يستغل عادة في العمليات الصناعية، ولكنه قابل للتطبيق في الواقع على أي نوع من أنواع النشاط العملي بدرجات متفاوتة من الكفاية المادية والإنسانية.

والوسيلة الأساس لانتشار العلم والتكنولوجيا وقيامهما بدورهما في تغيير مجتمع ما، هي التعليم والتدريب ومن ضمنه البحث العلمي. ومن هنا فإن تدريس العلوم الأساسية، والتدريب الفنّي والمهني والقيام بالبحوث، من أهم وجوه العمل العلمي في بلد ما من البلدان. ويكون ذلك من طريق المدارس والجامعات والمعاهد ومراكز التدريب الفني والمهني ومراكز البحث. للعلم إذًا ثلاثة وجوه: بحثي وتطبيقي وتربوي. ولا يكون التقدم العلمي والتكنولوجي وبناء الدولة العصرية إلا بالعمل في هذه المجالات الثلاثة معًا، على نحو متكامل متناغم.

ازداد التلازم بين التنمية الاقتصادية من ناحية والعلوم والتكنولوجيا من ناحية أخرى والبحث العلمي زيادةً أصبح الناس معها يقولون ببساطة عندما يصفون بلدًا بالتخلف: ” إنه يفتقر إلى التجهيزات العلمية والفنية والبحثية ”. فقد أضحت الفوائد الاقتصادية والاجتماعية المترتبة عن استخدام التكنولوجيا واضحة جلية. يظهر ذلك في ارتفاع مستوى المعيشة بصفة عامة، وفي تحسن الخدمات الطبّية وتوفّر التغذية والسكن والملبس والنقل والاتصال السريع.. وقد تنبّه المحلّلون إلى أن هناك عوامل أساسية ثلاثة تتحكّم في التنمية الاقتصادية وهي: العمل (بما فيه الإدارة)، ورأس المال (بأشكاله الاقتصادية والعلمية والاجتماعية والفكرية المختلفة)، ثم المعرفة (وتندرج من ضمنها الأسس العلمية والأساليب التكنولوجية التي يستند إليها الفنّ الإنتاجي ومناهج التنظيم).

وأيًا كانت أهمية نقل المعرفة والعلوم، بوصفها دعامة أساسية للنموّ الاقتصادي، فمن الضرورى لكلّ بلد أن يعتمد على نفسه، وأن يلجأ إلى أسلوبين أساسيين لتحقيق بنائه الذاتي في مجال العلم والتكنولوجيا:

الأول: تخطيط أوجه النشاط العلمي والتكنولوجي، بجانبيه البحثي والعملي، وتنظيم مجالاته المختلفة.

الثاني: الشباب وتدريبهم في المجالات العلمية والتقنية والبحثية.

بهذا، يمكن القول إن بناء الدولة العصرية يقتضي إيلاء اهتمام بالغ للعلم في وجوهه المختلفة البحثية والتطبيقية والتربوية على حدّ سواء، وإن خلق الإنسان الجديد في الدولة العصرية، إنما يتوقف على إحداث ثورة علمية تستطيع أن تحوّل العلم في المجتمع إلى ثقافة. لكن على الدولة العصرية ألا تكون تابعة للخارج علميًا وتكنولوجيًا، لأن الأمر لا يعدو عندئذ كونه صورة لاستعمار جديد يحول دون التقدّم الحرّ للدول النامية. كما أن سعي دولة من الدول النامية لبناء الدولة العصرية لا يمكن أن يعفيها من الدخول في القضايا الفلسفية والسياسية الخاصة بالحرية والمساواة والعدالة، ودراسة مجتمعاتها على هذا النحو من خلال مراكز بحوث متخصصة لأن التقدّم العلمي غير قادر في ذاته على إلغاء مشكلة استغلال الإنسان للإنسان.

تحديات مراكز البحث العلمي في دول الخليج

تواجه المراكز القليلة المهتمة بالبحوث العلمية في العلوم البحتة والتطبيقية ( النادرة) أو في العلوم الاجتماعية في دول الخليج تحديات مزدوجة، فلا تتوفر مرونة عالية السقف من أجل أن يقوم الباحث بالنظر إلى المشكلات ( خاصة في العلوم الاجتماعية) متحررًا من الضغوط التي تفرض محددات لبحثه، الا فيما ندر ، لذلك يتوجه المهتم إلى نتائج البحوث في المؤسسات ( الخارجية) يأتي بعدها عندما توفر كافة المعطيات والحقائق الذي يتوجب أن تكون متوفرة من الدولة وبدقة ومن خلال مؤسسات متحررة من الضغوط ، ثم يأتي موضوع التمويل وهو أساس في إطلاق البحث العلمي، هذا التمويل محدود و غير متوفر، والمؤسسات البحثية القليلة التي يتوفر لها المال اللازم عادة ما تكون تحت ( أجندة) سياسية لإنتاج نوع معين من البحوث الموجهة ذات المصداقية المتدنية. وفي الغالب فإن متخذ القرار لا يتوفر له الوقت ولا ربما الرغبة في الاطلاع الجاد على نتائج البحوث والدراسات ويميل إلى تكليف ( جهة خارجية) لتقديم تلك الدراسات، ودفع مبالغ كبيرة لها، وكثير منها لا يستفاد منه في الغالب إذا التحديات كبيرة و ملحة تدعونا للاهتمام بالمراكز البحثية ورفدها بالخبرات المحلية من أجل استشعار المخاطر و العمل على تجنبها .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*أستاذ الاجتماع السياسي – جامعة الكويت

 

 

مجلة آراء حول الخليج