; logged out
الرئيسية / مؤسسات الفكر: الأهداف والتحديات

العدد 139

مؤسسات الفكر: الأهداف والتحديات

الخميس، 11 تموز/يوليو 2019

ظهرت مراكز الأبحاث أو مؤسسات الفكر في العالم كأحد أهم وسائل دعم صناعة القرار بكل مستوياته، وتقديم المشورة الصائبة إلى حد كبير حول القضايا التي تهم صانع القرار، وتقوم هذه المراكز بإجراء الدراسات المختلفة التي يعدها خبراء من ذوي الاختصاص والخبرة لمن يطلب الاستفادة سواءً من المسؤولين الحكوميين، أو القطاع الخاص وتتعلق بمختلف القضايا، إضافة إلى قيام هذه المراكز بتنظيم المؤتمرات وورش العمل المتخصصة.

وفيما يتعلق بطبيعة عمل هذه المراكز، منها المتخصص في دراسات واستشارات خاصة بمجالات بعينها، وأخرى متعددة الاهتمامات ويأتي ذلك طبقًا لطبيعة عمل واهتمامات كل مؤسسة فكرية وتخصص واهتمامات باحثيها وأهدافها، بينما يظل القاسم المشترك بينها على اختلاف توجهاتها هو التخصص والعمق والخبرة لدى الباحثين والذين يتسمون في العادة بالوعي والموضوعية والأمانة العلمية.

وكان للغرب عامة، ودول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة خاصة، قصب السبق في إنشاء هذه المراكز التي غالبًا ما تكون داعمة لسياسات هذه الدول، وتقدم الرأي الصائب في الوقت المناسب لصانع القرار، ما يجعلها مشاركة أو مؤثرة في صناعة القرار. ولقد زاد الاهتمام بهذه المراكز مؤخرًا لتشابك القضايا وتنوعها ما أدى إلى الحاجة للتخصص الدقيق بغية دقة التقدير والاستشراف السليم، والتوقع العلمي دون ارتجال أو عشوائية، ومن هنا ظهرت حاجة الشرق الأوسط لوجود مثل هذه المراكز حسب اهتمامات كل دولة وأولويات مصالحها وما يواجهها من تحديات.

وتظل مراكز الأبحاث الغربية العريقة ذات تأثير على صناعة القرار نتيجة للخبرات المتراكمة والرصيد الوافر من الدراسات، وتنظيم المؤتمرات وورش العمل، ولقربها من صانع القرار، وللثقة المتبادلة بينها وصانع القرار، كما أن الباحثين في تلك المراكز وإن كانوا من المتخصصين، فمن بينهم أيضًا كبار مسؤولين سابقين في الحكومات والإدارات الحساسة، أو من الأكاديميين المرموقين.

وفي المنطقة العربية، ظهرت عدة مراكز منها الحكومي، والأكاديمي، والمستقل، وإن كانت هذه المراكز الأحدث من حيث النشأة، إلا أن بعضها قطع شوطًا معقولًا وبعضها تعثر لأسباب تتعلق بالتأسيس وعدم وضوح الأهداف، أو عدم وجود التمويل الكافي، وعلى العموم كثير من هذه المراكز الجادة ـ متى وجدت ـ تطمح إلى التطوير والتنوع والتخصص حتى تستطيع الاضطلاع بمهامها. وطبقًا لتصنيف هذه المراكز ، نجد بينها ما هو حكومي أي التابع لوزارات أو هيآت حكومية ويكون إنتاجها خاص بالجهات التابعة لها وشبه مغلقة على تلبية احتياجات هذه الجهات، وتعتمد هذه المراكز على الحكومات في التمويل المباشر، أو غير المباشر من خلال الاعتمادات المالية والمساعدات والهبات، ويكون لهذه المراكز أدوار كبيرة في تمرير وجهة نظر الحكومات ومواقفها السياسية في الداخل والخارج، أو التمهيد والتهيئة لها، وتعمل على التسويق والسياسات الرسمية مقرونة بالبراهين والأدلة المنطقية في إطار دراسات علمية، وهذا ما فطنت إليه الدول المتقدمة في وقت مبكر منذ النصف الثاني من القرن العشرين ونجحت في تمرير قرارات تاريخية ومواقف كبرى على الساحة الدولية، ومازالت تقوم بهذا الدور.

ومنها أيضًا المراكز التابعة للجامعات والمعاهد العلمية وتكون معنية بالأبحاث الأكاديمية والدراسات التي يجريها أعضاء هيأة التدريس بالجامعات، وفي الغالب يظل إنتاجها في أدراج وأرفف مكتبات الجامعات وتكون في أكثر الأحوال مراجع علمية لطلبة الدراسات العليا وبعيدة عن التطبيق العملي.

كما توجد مراكز خاصة بالشركات الصناعية والتجارية وهذا النوع يكون في الدول المتقدمة التي تعلي من شأن البحث العلمي في تطوير الإنتاج، وتكون مخرجات هذه المراكز قاصرة على الجهات التابعة لها، وتحقق ميزة نسبية لدعم الإنتاج وتطويره والارتقاء به، وتخصص الشركات والمصانع ميزانيات ضخمة لهذه المراكز وتقيض لها كفاءات متميزة من الباحثين المتخصصين.

وتوجد أيضًا مراكز أبحاث تدعي أنها مستقلة، لكن في حقيقة الأمر هي واجهة لجهات حكومية تتلقى منها الدعم وتعمل على تنفيذ سياساتها وهي معروفة للمعنيين والمتخصصين فتبدو كأنها "هجين" بين مراكز الأبحاث وإدارات العلاقات العامة في المؤسسات الحكومية ومن ثم تفقد قدرتها على الإقناع والتأثير نتيجة للخلط في الرؤى والتوجهات، بل تفقد القدرة على الاستمرار في حال تغير موقف الجهات الداعمة أو المانحة.

كما ظهرت عدة مراكز بحثية خاصة لأفراد لهم طموح في العمل البحثي لكن سرعان ما اختفت تحت وطأة ضعف الإنتاج أو ندرته، فالعمل البحثي ليس للوجاهة الاجتماعية بقدر ما هو عمل شاق ودؤوب.

ومن بين المراكز أو مؤسسات الفكر ما هو المستقل، وهذا النوع يقدم خدماته للجهات التي تحتاجها، وفي العادة تكون متنوعة الإنتاج ومتعددة الدراسات، وهي تعتز باستقلاليتها وتتسمك بها رغم المعاناة التي تمر بها خاصة في التمويل حيث تعتمد على ذاتها، وفي العادة تكون هذه المؤسسات بين مطرقة الاستقلال وسندان دقة الإنتاج والبحث الرصين والجودة واختيار الباحثين المتميزين.

من حيث التمويل، تظل مصادر التمويل للمراكز الحكومية أو الأكاديمية أو الهجين معروفة فهي تتلقى الدعم الحكومي، أما المستقلة فكثير منها تعتمد على الوقفيات ويكون ريع أموال الوقف غير كافٍ أحيانًا ، لذلك تتوقف هذه المراكز جزئيًا عن تقديم بعض الأعمال، أو قد تتوقف كليًا في نهاية الأمر. لذلك من الضروري إيجاد صيغة توفر للمؤسسات الفكرية المستقلة القدرة على الاستمرار وهي متمسكة بالموضوعية والرصانة وتقديم الدراسات التي تخدم الدول وتساهم في تثبيت الأمن الوطني والإقليمي، وتستشرف التحديات والمخاطر وتقدم الحلول المناسبة لها، على أن تكون هذه الصيغة واقعية وموضوعية من خلال منح هذه المؤسسات الفرصة في تقديم الدراسات للحكومات، بدلاً من بيوت الخبرة والمراكز الأجنبية وفي ذلك فوائد مشتركة للحكومات والمراكز البحثية الوطنية، حيث تكون دراسات هذه المراكز موضوعية وتناسب احتياجات دولها، مع الأمانة في الطرح والتوصيات وتقديم الحلول مع الحفاظ على السرية ومقتضيات الأمن الوطني ومراعاة ظروف المجتمع، وفي المقابل تستفيد هذه المراكز من تكلفة هذه الدراسات في تطوير ذاتها وتشغيل الباحثين الوطنيين وتدريبهم وتأهيلهم ومن ثم توطين البحث العلمي وخدمة الوطن.

مقالات لنفس الكاتب