array(1) { [0]=> object(stdClass)#12962 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 140

الدور المتغير للأمم المتحدة: التحدي الإفريقي وعدوى التفاؤل في السودان

الخميس، 08 آب/أغسطس 2019

ترددت، لأول وهلة، أن أكتب موضوعًا ثلاثي الأبعاد، كما طلب ذلك الأخ رئيس التحرير، خاصة والمعالجة المطلوبة ممتدة بحجم أدوار الأمم المتحدة، واجتهادات الاتحاد الإفريقي، وأزمات وطموحات السودان، وبكل ما يعتمل في علاقات هذه الأطراف من تعاون وتناقض. فاستبقت الأمر بإرسال مقالة "الفضيلة الغائبة"، لأن موضوع الأخلاق ولغة القيم هي المتأرجحة في وصف العلاقات بين هذه المنظمات والدول المنضوية تحت لوائها، بما فيها السودان. إذ غالبًا ما تستخدم الأخلاق والقيم العالمية، إما كعناصر لنظرية متماسكة، كما حاولنا إيراد ذلك، أو ببساطة كأدوات بلاغية تُزَيِّن العبارات الدبلوماسية، من قبل بعض السياسيين الأكثر نفوذًا في عصرنا. فقد أصبحت القيم العالمية أيضًا موضوعًا شائعًا للاستخدام، وخاصة في مجال القانون الدولي، ومحكمتي العدل والجنائية الدولية، غير أن السؤال، الذي نطرحه كثيرًا على أنفسنا هذه الأيام، وبنقد لا يخلو من الصراحة، هو ما إذا كانت الأمم المتحدة، ومثيلاتها الإقليمية، كراعٍ للعلاقات الدولية، قد انتقلت بهذه العلاقات من نظام دولٍ مستقلة وذات سيادة، إلى نظام عالمي، قائم على قيم عالمية ومصالح مشتركة؟ وربما يسأل علماء السياسة أنفسهم سؤالاً مشابهًا؛ كما يمكن للمرء ببساطة استبدال عبارة "القانون الدولي" بكلمة "العالم". فمنذ الأزمنة القديمة، ظل العديد من الفلاسفة، الذين يهتمون بالأفكار أكثر من اهتمامهم بالحالة الفعلية للواقع، يبشرون بعالم تقوده المصالح والقيم المشتركة. وبفضل العولمة، يمكن للمرء أن يرى أنه، في السنوات الأخيرة، قد برز إحياءٌ لهذا النوع من النزعة الكونية، الذي يبدو الآن وصفًا محتملاً للواقع.[1]

إن الذي يدعونا للتأمل هو أنه، على الرغم من كل هذا الاهتمام بالمنظمات الدولية والإقليمية، والآمال العالمية المُعَلَّقة عليها، يظل أداؤها نفسه محل نظرٍ دائم؛ يلاحقه الاختلاف والاتفاق. إذ تختلف قوائم المطلوبات، التي يقترحها الساسة عما يريده الأفراد والمنظمات غير الحكومية من المنظمات الدولية، من حيث المضمون والتنفيذ على حد سواء، ولا يوجد تعريف واضح لما يشكل قيمة عالمية في هذه المعادلة المختلة. لذا، فإن الهدف من تناول هذا الموضوع؛ بأبعاده الثلاثة، هو البدء بإلقاء بعض الضوء على دور الأمم المتحدة في إفريقيا، وتوصيف قدر من علاقتها بالاتحاد الإفريقي، وتحديد نماذج لأهمية عملهما في إفريقيا، بشكل عام؛ على أن يكون جهدهما في السودان أوضح من مجرد الإجمال، وعلى أن ينصب التركيز على الأمم المتحدة، باعتبار أن لها اليد العليا في التنسيق والقيادة للجهود المشتركة للمجتمع الدولي، ولتحقيق ما يتطلع إليه الاتحاد الإفريقي في القارة، وتحتاجه دولة كالسودان. هذا مع التأكيد على أن لدى الأطراف المتعاقدة في هذه الشراكة، في كثير من الأحيان، فرصة للقيام بعمل أفضل مما هو قائم بالفعل، لا يتسع المجل لاستعراض تفاصيله ومقتضياته.

مسرد تاريخي:

شكلت الحرب العالمية الثانية صدمة حادة للوعي الإنساني، الذي فشل أن يضع حدًا لنزعة الشر في تصرفاته الفردية والجمعية. ورغم أن الحربين، اللتين أصطلح على تسميتهما بالعالمية الأولى والثانية، كانتا أوروبيتين بامتياز؛ في إطارهما الديمغرافي والجغرافي، إلا أنه كان لا بد من إعمال الفكر وتنشيط الإرادة السياسية لقادة المجتمع الدولي لتصميم هيأة دولية لديها القدرة على الحد من اندلاع حروب مماثلة أخرى. فجاء ميلاد ميثاق الأمم المتحدة، الذي جسد الرؤية الغالبة في أن تكون المنظمة الدولية "حارسًا للسلام والأمن الدوليين، وكمروج لحقوق الإنسان، وكحامية للقانون الدولي، وكمهندس للتقدم الاجتماعي والاقتصادي."[2] ومنذ ذلك الحين، برزت المنظمة الحكومية الدولية كمنصة أساسية لتعزيز الحكم العالمي، حيث يمكن للدول "وضع القانون الدولي وتوسيع نطاقه في مجالات؛ مثل، حقوق الإنسان، والتجارة الدولية، وقانون البحار، ومكافحة الإرهاب، وغيرها."[3] وإدراكًا من مؤسسيها لفشل عصبة الأمم، أعيد تصميم مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ومنحه "سلطة غير محدودة تقريبًا عندما يتعلق الأمر بمعالجة انتهاكات السلام".[4] وقد أصبح الجهاز الرئيس للمنظمة الدولية، المخوّل بسلطة سن العقوبات الدولية، والتصريح بالعمل العسكري، من خلال قرارات مجلس الأمن الدولي، أداة تمكين أساسية في تعزيز الأهداف الأساسية للأمم المتحدة.

لقد تحولت الجغرافيا السياسية بشكل كبير منذ إنشاء الأمم المتحدة، إلا أن هيكل المنظمة الأصلي، وضرورة وجودها كآلية حيوية للدبلوماسية العالمية لم يتغير. كما بدا من الواضح أن التحولات في ديناميات القوة قد أثرت، في النهاية على الطريقة، التي خاضت بها المنظمة ترتيبات وقف الحروب، مع تزايد الاضطرابات المدنية والصراعات الداخلية، خاصة مع بداية القرن الحادي والعشرين. غير أن التهديد الرئيس لهدف الأمم المتحدة المنشود، المتمثل في السلام والأمن العالميين، هو "حرمان المواطنين من الأمن البشري في دولة واحدة، أو أكثر، نتيجة للصراع الأهلي والصراع".[5] بينما يحاول المجتمع الدولي معالجة الزيادة المضطردة في الاضطرابات، يبقى السؤال الملح، الذي يستبطن الإجابة: "من الذي يستجيب عندما تتعرض الحقوق الأساسية للتهديد، ويتعرض المواطنون لمزيد من الحرمان في حياتهم اليومية؟"[6]ويُستَكْمل بهل الأمم المتحدة، وأجهزتها الرئيسة، قادرة على الاستجابة والتخفيف من حدة الصراع الحديث متعدد الأوجه؟ والمؤكد أن هذه المقالة لا تسعى إلى اقتراح إجابة مباشرة لهذا السؤال، وإنما ستنظر إلى أي مدى تعامل الهيكل الحالي للمنظمة الدولية مع مشكلات إفريقيا، وفقًا لمحددات القانون الدولي، الحاضَّة على التدخل والوساطة والاستجابة للتحديات القاهرة، التي تواجهها.

إن التحديات المعاصرة، التي يشهدها العالم، في عصر الترابط والحاجة المتزايدة إلى التنظيم الدولي، جعلت الأمم المتحدة تسعى لتأسيس مجلس الأمن الدولي تسهيلاً لتعامل القوى الكبرى مع الصراعات، التي تهدد صون السلام العالمي. وقد مُنح مجلس الأمن سلطة فرض "عقوبات، أو حتى السماح باستخدام القوة"،[7] مما يجعله أقوى كيان في الأمم المتحدة. ويجتمع الأعضاء الخمسة الدائمون في المجلس؛ الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وفرنسا، وروسيا، والصين، والعشرة المنتخبون "بانتظام لتقييم التهديدات، التي يتعرض لها الأمن الدولي، ويتناولون القضايا، التي تشمل الحروب الأهلية، والكوارث الطبيعية، والحد من انتشار الأسلحة، والإرهاب."[8]ورغم ذلك، تتعرض الأمم المتحدة للانتقادات في قدرتها على التطور مع التغيرات في الجغرافيا السياسية، وأبرزها نهج المنظمة، الذي ينزع للاستجابة، بدلاً من التفاعل، لمواجهة الأزمات الدولية، كما أنها كثير ما تبدو غير مهتمة ببناء الإجماع الدولي، خاصة ما يتعلق بحماية المدنيين، وتهديد التطرف العنيف، ومعضلات بناء الدولة."[9] ومع ذلك، فإن العقبة الرئيسية، التي تهدد قدرة المنظمة هي "كيفية التعامل مع النزاعات؛ سواء كانت بين الدول، أو داخلها، دون الإخلال بالسيادة الوطنية للدول الأعضاء فيها."[10] بالإضافة إلى ذلك، لا يزال مجلس الأمن الدولي مثيرًا للجدل بسبب افتقاره إلى التمثيل العالمي، مع القدرة على استخدام حق النقض ضد القرارات الحيوية المعروضة على الهيأة. وبالنظر إلى أن المنظمة لم تتغير إلى حد كبير منذ تأسيسها في عام 1946، فإن النقاش حول "فعاليتها وسلطتها كوسيط في مسائل الأمن الدولي" مستمر وينتشر بشكل متزايد في ضوء النزاعات الحديثة المتفاقمة في الوقت الحالي.[11]

وبالتالي، واجه المجتمع الدولي معضلة معالجة شرعية التدخل في النزاع الداخلي، حيث يتم "مراعاة توازن السيادة الوطنية مع السيادة الفردية، على النحو المعترف به في الصكوك الدولية لحقوق الإنسان."[12] فقد وضعت المنظمة معايير تقنن بها قدرة القوى الخارجية على التدخل في بعض الحروب الأهلية، التي تعتبر تهديداً للأمن والسلام الدوليين. ويُكمن التحدي الأساس في تنظيم سلوك الجهات الفاعلة، من غير الدول، ومحاسبتهم على انتهاك القانون الدولي. فقد أصدر مجلس الأمن، بين عامي 1989 و2006م، قرارات تضمنت 1988م، مطالبة محددة للفصائل المتحاربة، "داعيةً إلى زيادة تمسكهم بمعايير السلوك العرفية."[13] ومع التحولات في أشكال الصراعات، وزيادة الحروب الأهلية، وازدياد الجهات الفاعلة من غير الدول، في السنوات الأخيرة، التي أعقبت 2006م، زادت هذه المطالبات، وبات من الواضح أن الأمم المتحدة وأجهزتها الرئيسية تواجه عقبات جمة في التوسط في المخاطر الأمنية الدولية، التي يشكلها الصراع الحديث بمستجداته وتحدياته المُعَقَّدَة.

 

إفريقيا والمنظمة:

إن إفريقيا المُسْتَقِلَّة قد تطلعت لدور المنظمة الفاعل منذ فجر الحرية، وبدايات التخلص من ربقة الاستعمار الأوروبي، الذي جسم على صدرها دهرًا طويلاً، واستغل خيراتها، وأسس لصراعاتها الحاضرة قبل خروجه. ففي أول حديث له أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، قال الزعيم الغاني كوامي نكروما، "إن إحدى الحقائق الأساسية في عصرنا هي التأثير الكبير لإيقاظ إفريقيا على العالم الحديث. إن التيار المتدفق للقومية الإفريقية يجتاح كل شيء أمامه ويشكل تحديًا للقوى الاستعمارية للقيام برد عادل لسنوات الظلم والجريمة المرتكبة ضد قارتنا."[14] وذَكَّر نكروما مستمعيه، في ذلك اليوم، أن إفريقيا كانت لسنوات تحت نير الاستعمار والإمبريالية والاستغلال والتدهور؛ من الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب، وظل أبناؤها في سلاسل من العبودية والإذلال، واستغل المستغلون خيرات أرضها "دون إنسانية، وبقسوة لا تصدق؛ بدون رحمة، وبدون خجل، وبدون شرف."[15]

كان نكروما شامخًا حين قال "أنا إفريقي، أقف أمام هذه الجمعية الموقرة للأمم المتحدة وأتكلم بصوت السلام والحرية، وأعلن للعالم فجر حقبة جديدة. إنني أنظر إلى الأمم المتحدة باعتبارها المنظمة الوحيدة، التي تحمل أي أمل لمستقبل البشرية. لذلك، يجب على الأمم المتحدة أن تتحمل مسؤولياتها، وأن تطلب من أولئك الذين يدفنون رؤوسهم مثل النعامة الشاذة في رمالهم الإمبريالية، أن يسحبوا رؤوسهم إلى الخارج وينظروا إلى الشمس الإفريقية الحارقة، التي تنتقل الآن عبر سماء فداء إفريقيا. يجب على الأمم المتحدة أن تدعو جميع الدول، التي لديها مستعمرات في إفريقيا إلى منح الاستقلال الكامل للأراضي، التي لا تزال تحت سيطرتها. إنه يوم جديد في إفريقيا، وأنا أتكلم الآن، لقد شغلت ثلاث عشرة دولة إفريقية جديدة مقاعدها هذا العام في هذه الجمعية الموقرة كدول مستقلة ذات سيادة؛ يوجد الآن اثنان وعشرون منا في هذه الجمعية وما زال هناك المزيد في المستقبل؟"[16]

والآن، لقد ولت تلك الأيام وذهبت إلى الأبد، وتحقق ما نبه إليه الزعيم الغاني، فجاء أوان ذلك "المستقبل"، وأصبحت كل دول إفريقيا مستقلة وأعضاء في الأمم المتحدة، بل شهدت بجهد نكروما ورفاقه من القادة الكبار قيام منظمة الوحدة الإفريقية عام 1963م، لتستكمل المأمول من نظام الأمم المتحدة. وعندما رأت إفريقيا أن الحفاظ على محيط ثابت للأمن لم يكن كافيًا، بدأت بالتعاون مع الأمم المتحدة في التركيز على الوظائف الإنسانية؛ مثل، مراقبة الانتخابات، وبناء المجتمع المدني، وإصلاحات الشرطة والقضاء، وإعادة الإعمار المدني، وحماية مواقع التراث، والإصلاح المالي، وغيرها من المهام. وقد أصبحت بعثات حفظ السلام متعددة الأبعاد، وغدت مهارات حفظة السلام أكثر تخصصًا. وعلى سبيل المثال، تطورت رعاية الضحايا إلى ما هو أكثر من مجرد توفير إمكانية الوصول إلى الضروريات الأساسية؛ من توفير الغذاء والمأوى والمساعدة الطبية، إلى تقديم المشورة والمساعدة النفسية، لأولئك المصابين بصدمات نفسية عن طريق الاغتصاب وتجنيد الأطفال، وغير ذلك من الفظائع المذهلة.[17]

لهذا، طالبت الحكومات الإفريقية مؤخرًا من مجلس الأمن الدولي تحديد مسؤولياته بوضوح في الحفاظ على السلام والأمن في القارة الإفريقية.[18] وقال ممثلون عن الاتحاد الإفريقي يتألفون من 15 دولة، إن المجلس له دور رئيسي في إفريقيا. وذكرت وزير خارجية جنوب إفريقيا الأسبق نكوسازانا دلاميني زوما[19] أن إفريقيا تحتاج إلى رسم شكل واضح لتقاسم الأعباء بين الأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية، قائلة "يجب أن يكون هذا على أساس أن أهداف الاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة، في صون السلام والأمن الدوليين، هي نفسها." فقد لعب الاتحاد الإفريقي "دورًا مفيدًا" في منطقة دارفور بالسودان، لكن لا يستطيع وحده تحمل جميع المسؤوليات. إذ أن بعثة الاتحاد الإفريقي في دارفور، المعروفة باسم بعثة الاتحاد الإفريقي في السودان، كانت حيئذ يعوزها نقص الموارد، وكانت ترغب في الانسحاب من المنطقة، ولكنها بدلاً من ذلك أجلت القرار، في انتظار نشر قوة مشتركة، عُرِفَت فيما بعد بالـ "يناميد"،[20] التي تألفت من أكثر من 26,000 فردًا، كأكبر قوة حفظ سلام في العالم.

لقد ظلت وتيرة التعاون بين الأمم المتحدة والالتحاد الإفريقي في تنام واتساع لتشمل مجالات عديدة، خاصة قضايا السلم والأمن. ففي في 27 فبراير 2019م، اعتمد مجلس الأمن القرار 2457 بالإجماع، الذي يحدد بوجبه الوسائل الكفيلة بدعم عمليات السلام التابعة للاتحاد الإفريقي، ويرسم الخطوات المؤدية نحو هدف إنهاء الصراع في إفريقيا، من خلال تعزيز التعاون والشراكة الدوليين. وكذلك الدعم القوي لعمليات السلام، التي يقودها الاتحاد الإفريقي، وسط الثناء على الناجحة منها في مالي، والقرن الإفريقي، ومدغشقر، والسودان، وجنوب السودان، وإفريقيا الوسطى، وغيرها. وكان تصميم الاتحاد الإفريقي على تخليص القارة من الصراع من خلال مبادرة "إسكات الأسلحة في إفريقيا بحلول عام 2020"،[21] مصدر ترحيب المجلس وإعرابه عن استعداده للمساهمة في هذا الهدف. وأقَرَّ المجلس أيضًا بأن مهمة بناء إفريقيا خالية من الصراع تقع أساسًا على الاتحاد الإفريقي ودوله الأعضاء البالغ عددها 55 وشعوبها ومؤسساتها. كما أعرب عن دعمه للمبادرات، التي تسعى إلى إيجاد حلول إفريقية للمشاكل الإفريقية، مع الاعتراف في الوقت نفسه بضرورة التعاون والشراكة الدولية، للمساعدة في تسريع التقدم نحو تحقيق هذا الهدف القاري.

إن على مجلس الأمن أن يفعل أكثر من مجرد إصدار قرار، لأن هناك الكثير من القنابل الموقوتة، التي تجمع بين مزيج خطير من الفقر الحضري الطاحن والتدفق المستمر للأسلحة الصغيرة والأسلحة الخفيفة غير المشروعة. ولتغيير المسار الحالي، يجب على الدول الأعضاء وقف تدفق الأسلحة غير المشروعة، والتي يتم إنتاجها كلها تقريبًا خارج إفريقيا، ويجب على المجلس توفير المزيد من الموارد لمنع الصراع وبناء السلام والمساعدة في جعل الصناعات الإفريقية منتجة، لأنه ما لم تتخذ هذه الإجراءات بشكل جماعي، فلن تسكت الأسلحة.[22] فعلى الرغم من الخطوات الكبيرة نحو تعميق الديمقراطية، لا تزال إفريقيا تواجه العديد من تحديات الحكم، بما في ذلك تهميش مجموعات معينة، وانتشار نهج "الفائز يأخذ الجميع"، والفساد، وسوء إدارة الموارد الطبيعية. ومن هنا، جاءت الدعوة إلى بذل مزيد من الجهود لزيادة مشاركة المرأة في العمليات السياسية، والتشديد على أهمية المؤسسات القوية والمجتمعات المرنة كمفتاح لإسكات الأسلحة.

حالة السودان:

وكحالة شهدت أطول الحروب الإفريقية (1955 -2005)، وقادت لانفصال جنوبه عن شماله، ظل السودان يُعرب دائمًا عن دعمه الكامل لجميع الجهود، التي تبذلها الدول الإفريقية لتقديم حلول إفريقية للمشاكل الإفريقية، دون أن يغمط الأمم المتحدة حقها في رعاية هذه الجهود وتمويلها، بما فيها حق تقرير المصير للجنوب. وقد بذلت الدبلوماسية السودانية، لاحقأ، جهودًا سياسية كبيرة، في إطار مبادرة الهيأة الحكومية الدولية للتنمية الـ(إيغاد)، من أجل السلام في جنوب السودان، والتي بلغت ذروتها بالتوقيع في عام 2018م، على إعلان الخرطوم. كما أبرز استمرار تمديد وقف إطلاق النار في جميع أنحاء البلاد لتهيئة البيئة لكل المفاوضات، التي نُظِّمَت محليًا وإقليميًا ودوليًا مع الحركات المسلحة. بالإضافة إلى ذلك، أكد السودان على الموافقة على العديد من المقترحات المقدمة من الشركاء الإقليميين والدوليين لتقديم المساعدة الإنسانية إلى المناطق الخاضعة لسيطرة حركات التمرد في النيل الأزرق وجنوب كردفان، وكذلك الحملة الوطنية لجمع الأسلحة، التي حققت نجاحًا كبيرًا في تحقيق الاستقرار وحماية المدنيين، ووجدت الإشادة والتأييد في المحافل الدولية.

والمعلوم أن بعثة الأمم المتحدة في السودان تتألف من 27 وحدة؛ يشمل عملها التعاون في مجال التنمية، والمساعدات الإنسانية، وعمليات حفظ السلام. كما أن إدارة الأمم المتحدة لشؤون السلامة والأمن أيضًا ممثلة في البلاد. وأُدْرِجَت الاستجابة الجماعية للأمم المتحدة لأولويات التنمية الوطنية في إطار عمل الأمم المتحدة للمساعدة الإنمائية، وهي مدعومة من قبل مكتب المنسق المقيم للأمم المتحدة. بينما تعرض جهود الأمم المتحدة للمساعدة في توفير الاحتياجات الإنسانية في السودان في خطة الاستجابة الإنسانية.[23] وتشمل الاستجابة الإنسانية احتياحات معسكرات النازحين في دارفور، وكما أشرنا، فإن التقليص التدريجي، ومن ثم الانسحاب المزمع للعملية المختلطة للاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة في دارفور (يوناميد)، بحلول 30 يونيو 2020م، يسير على الطريق الصحيح، لكن الوضع السياسي في السودان قد تغير بشكل جذري، ويحاذر القائمون على الأمر في المنظمتين من أن يؤثر هذا التغيير على تنفيذ ولاية البعثة للمضي قدمًا، الأمر الذي يرتب أوضاعًا جديدة على قرارات الاتحاد الإفريقي ومجلس الأمن.

وقالت الممثل الخاص المشترك لمجلس الأمن والاتحاد الإفريقي، في جلسة المجلس رقم 8513، بتاريخ 17 أبريل 2019م، وبعد أن استولى المجلس الانتقالي العسكري على السلطة في 11 أبريل، إنهم يجرون اتصالات ويقيمون علاقات عمل مع السلطات الجديدة. مضيفًا أنه يمكن للمجتمع الدولي أيضًا بدء حوار مع الحكام الجدد للمساعدة في تهيئة بيئة مواتية لرحيل يوناميد وللمشاركة الدولية في دارفور... "الوضع الحالي، بقدر ما قد لا يكون مرغوبًا فيه، يوفر فرصة للسودانيين لاغتنامها لحل جميع صراعاتهم، بما في ذلك الصراع في دارفور."[24] وقال إن "على المجلس أن يحث شعب السودان على اتباع نهج كلي وشامل يمثل جميع السودانيين."[25] هذا مع التنويه إلى أن التأثير المباشر للأحداث السياسية الأخيرة في الخرطوم على العمليات الإنسانية، في أنحاء البلاد المختلفة، قد ظل محدودًا حتى الآن، واستمرت العمليات المنتظمة، بما في ذلك حملات التطعيم والرعاية الصحية.

إن هذا إن دل على شيء إنما يدل أن الأمم المتحدة ماضية في تعاونها مع الوضع السياسي المستجد في السودان، ولم يتخذ مجلس الأمن الدولي موقفًا يشيء بتغير، أو تهديد بعقاب، كما فعل مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الإفريقي، الذي تعجل تعليق عضوية السودان، رغم كثافة برامج الاتحاد في البلاد، وتوسطه في العملية السياسية الجارية الآن، حتى يتمكن جميع أصحاب المصلحة من إكمال انتقال سلس للحكم المدني. فالسودان بدأ مرحلة استقلاله الوطني، في الفاتح من يناير 1956م، بحكم مدني تعددي ديمقراطي استوعب مطالب المزاج السياسي في البلاد. ورغم قلة كسب الفترات الديمقراطية المادي، التي قادت إلى الانقلابات العسكرية، وأزمانها المتطاولة، إلا أن الرغبة في النظام المدني التعددي المنتخب ظلت حية ومتقدة، عبرت عنها ثلاث ثورات شعبية، في أكتوبر 1964م، وأبريل 1985م، وأبريل 2019م، اقتلعت حكم العسكر، وأعادت سلطة الحكم للتنافس المدني، الذي يُعَوَّوَل عليه معالجة الأزمات الحاضرة بالانفتاح الداخلي والخارجي، والابتعاد عن سياسة الانغلاق، أو المحاور.

عدوى التفاؤل:

تُكْثِر الأمم المتحدة من التعبير عن "القلق" في شأن تنحرف فيه الأوضاع عن جادة المألوف، كما أنها تتشبث بخيط رفيع من "التفاؤل" مع كل جهد تبذله في محاولة تصحيح ما يعتور أطراف هذه الأوضاع، بل ارتضت في الحالة اليمنية أن تربط هذا التفاؤل بصفة العدوى، على ما في العبارة من شبهة تنافر.[26] ولأن السودان أبتلي بغير قليل من الصراعات المُنْتِجَة للأزمات، لعدة عقود مضت، فقد كانت المنظمة الدولية شريكًا رئيسًا له، وتناولت شأنه بالقلق حينًا، وبشيء من التفاؤل أحيانًا. ورغم أنها كثيرًا ما ركزت جهودها على "أعراض المرض" بالعمل على إنقاذ الأرواح، والحد من المعاناة الإنسانية، وتوفير الخدمات الاجتماعية الأساسية، ودعم وتعزيز القدرات الوطنية، وخلق المرونة، وكذلك دعم وتعزيز آليات بناء السلام على مستوى القاعدة الشعبية في مناطق النزاعات. وظلت تستخدم نهجًا قائمًا على الحيز الجغرافي لتحديد المجالات ذات الأولوية للتدخلات الإنسانية والتنموية والإنعاش والتركيز عليها. ولكن، ليس لديها سلسلة قوية من القيادة تستطيع من خلالها تكوين إحساس بالمساءلة والمسؤولية اللازمة للتنفيذ الناجح لجداول أعمالها بالمستوى المطلوب. ووفقًا لدونالد بيترسون، سفير واشنطن الأسبق في السودان، كان كبير مسؤولي الأمم المتحدة في الخرطوم يحمل لقب منسق الأمم المتحدة.[27] بقدر ما يمكن ملاحظته، لم يكن المنسق مفوضًا بتوجيه أي من رؤساء الوكالات بشأن ما يجب القيام به. كانت القوة الوحيدة، التي تحت تصرفه هي قوة الإقناع، التي لن تكون ناجحة دائمًا، وذلك لبيان ما هو واضح.[28]

ولما كان التفاؤل هو بذرة الأمل، وقيل لنا "تفاءلوا بالخير تجدوه"، نختتم هذا الموضوع بتساؤل حول: كيف يمكن أن تدعم المنظمة الدولية السودان بشكل أفضل؟ فقد تغير نظامه السياسي، ويُفترض أن تكون ذهبت مع العهد السابق الكثير من القرارات، التي حاصرت البلاد وأقعدتها، وقيدت التعامل الطبيعي بين المنظمة والسودان، وبقي عليها أن تغير نظرتها إليه، وترى فيه، ليس فقط كدولة تعتمد على المساعدات والدعم الدوليين، بل كبلد ذا إمكانات هائلة. إذ يتمثل الغرض العام، المنصوص عليه في الاتفاقيات المبرمة مع أجهزة الأمم المتحدة، في تعزيز بيئة سليمة وسلمية تمكن من الوفاء بحقوق الشعب السوداني في البقاء والحماية، والقدرة على ممارسة خيارات مستنيرة، والتمتع بالكرامة والتنمية على قدم المساواة. وقد أعلن المجلس العسكري الانتقالي عن احترام جميع هذه الاتفاقيات، بما في ذلك تلك المبرمة مع الدول والمنظمات الإقليمية، والتأكيد على الحاجة إلى وجود علاقة تعاونية بين سلطات صنع القرار الوطنية والمجتمع الدولي، إلى جانب اتخاذه لعدة خطوات لتحقيق الاستقرار في البلاد، تبدأ بالشراكة مع حكومة مدنية انتقالية؛ لن تستمر أكثر من الفترة المُتفق عليها مع القوى المؤسسة لها، وتنتهي بتسليم مقاليد الأمر لسلطة منتخبة. وهذا، في حده الأدنى، مدعاة للتفاؤل، الذي نأمل أن يُصيب بعدواه الإيجابية علاقات السودان الداخلية والخارجية، وينعكس خيرًا على مستقبل شعبه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* دبلوماسي، الأمين العام السابق لمنتدى الفكر العربي ـ أديس أبابا، إثيوبيا

 

[1] أوتو سبايككرز، كلية الحقوق بجامعة أوتريخت، "ما الذي يدير العالم: القيم العالمية والقانون العالمي والأمم المتحدة والحكم العالمي"، ورقة قُدِّمت في المؤتمر العالمي الثاني للدراسات الدولية: "ما الذي يميزنا، ما الذي يبقينا معاً"، لجنة الدراسات الدولية العالمية (WISC)، ليوبليانا، سلوفينيا، 23-26 يوليو 2008، تاريخ النشر: 8 مارس 2010.

[2] جوسي هانهيماكي، "الأمم المتحدة: مقدمة قصيرة للغاية"، الطبعة الثانية، مطبعة جامعة أكسفورد، 2015، ص 1.

[3]"مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة"، نُظِرَ في 15 يوليو 2019، http://www.un.org/en/sc/about/، ص 9.

[4] هانهيماكي، "الأمم المتحدة: مقدمة قصيرة للغاية"، ص 2.

[5] توماس ج فايس، وروردن ويلكنسون، محرران، "المنظمة الدولية والحكم العالمي"، الطبعة الثانية، نيويورك: مطبعة روتليدج، 2018، ص 578.

[6] فايس وويلكنسون، ص 576.

[7] " مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة"، ص 1.

[8] "مجلس العلاقات الخارجية"، نُظِرَ في 15 يوليو 2019، https://www.cfr.org/backgrounder/un-security-council، ص 1.

[9] سيمون تشيسترمان، إيان جونستون، وديفيد م. مالون، "قانون وممارسة الأمم المتحدة"، الطبعة الثانية، مطبعة جامعة أكسفورد، 2016، ص 357.

[10] هانهيماكي، الأمم المتحدة، ص 3.

[11] "مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة"، ص 3.

[12] غاريث إيفانز، "المسؤولية عن الحماية: إنهاء جرائم الفظائع الجماعية إلى الأبد"، واشنطن: مطبعة معهد بروكينجز، 2009، ص 37.

[13] جيمس كوكين، ميكولاشيك، وبيري، "مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة والحرب الأهلية: الرؤى الأولى من مجموعة بيانات جديدة، إصدار معهد السلام الدولي، سبتمبر 2010، ص 17.

[14] كوامي نكروما، الجمعية العامة للأمم المتحدة، نيويورك، 23 سبتمبر 1960.

[15] كوامي نكروما، المصدر السابق.

[16] نكروما، المصدر السابق.

[17] دونالد أ. هيمبسون الثالث، "تجنب ويلات الحرب: تحديات عمليات الأمم المتحدة لحفظ السلام"، مجلة أصول، المجلد 5، العدد 1 - أكتوبر 2011، صفحة 2.

[18] الاتحاد الأفريقي يدعو إلى تقاسم الأعباء مع الأمم المتحدة في أفريقيا، مجلس الأمن ، نيويورك، يوم الأربعاء 28 مارس 2007.

[19] نكوسازانا دلاميني زوما، مواليد 7 يناير 1949، وهي طبيبة أطفال، كانت بين الاعوام 1982إلى 1998، متزوجة من جاكوب زوما الذي انتخب عام 2009 رئيساً لجنوب افريقيا، وهي سياسية تقلدت عدداً من الحقائب الوزارية، وتولت منصب رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي، من 2012 إلى 2017.

[20] أنشئت البعثة المشتركة للاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة لعمليات السلام في دارفور رسمياً من قبل مجلس الأمن في 31 يوليو 2007 بعد تبنيه القرار 1769 تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وتعرف البعثة اختصاراً بـ "يوناميد". تسلمت "اليوناميد" مقاليد الأمور من "أميس" رسمياً في 31 ديسمبر 2007،ويجدد التفويض (الولاية) سنوياً، إلى أن جرى الاتفاق على التخفيض التدريجي بلوغاً لإنها المهمة.

[21] احتفلت منظمة الوحدة الأفريقية، في مايو عام 2013، بالذكرى الخمسين لتأسيسها، وقد شهدت إحياء ذكرى اليوبيل الذهبي للاتحاد الأفريقي اعتماد رؤساء الدول والحكومات الأعضاء لـ"رؤية أفريقيا 2063"، وخلصت إلى ترتيب مراحل محددة بأجندة زمنية، شملت: العمل على إسكات صوت البنادق في القارة عام 2020، من خلال العمل على احتواء النزاعات والصراعات داخل القارة.

[22] اعترف رمضان لمرة، الممثل السامي للاتحاد الأفريقي لمبادرة "إسكات الأسلحة بحلول عام 2020"، بالعديد من التحديات الرئيسية المتبقية مع اقتراب الموعد النهائي في ديسمبر 2020 لإنهاء حالة الحرب. ومع ذلك، أكد على الحاجة الملحة لبناء ثقافة قوية لمنع الأزمات مع تعزيز السلام والتسامح في الوقت، الذي لا تزال فيه العديد من البلدان عالقة في حلقة مفرغة من الصراع العنيف وعواقبه القاتلة.

[23] موقع الأمم المتحدة في السودان، نُظِرَ في 18 يوليو 2019، http://sd.one.un.org/content/unct/sudan/ar/home/agencies.html

[24] جريمية نيامان كينغسلي مامابولو،الممثل الخاص المشترك لمجلس الأمن والاتحاد الأفريقي لدارفور، متحدثة عبر الهاتف من الخرطوم في جلسة مجلس الأمن، رقم 8513، بتاريخ 17 أبريل 2019، رقم الوثيقة SC / 13783.

[25] مامابولو، مجلس الأمن، المصدر السابق.

[26] مارتن غريفيث، المبعوث الأممي إلى اليمن، "غريفيث ينجح في نقل عدوى التفاؤل إلى طرفي المشاورات"، صحيفة الشرق الأوسط، لندن، الثلاثاء - 2 شهر ربيع الثاني1440 هـ - 11 ديسمبر 2018 مـ، رقم العدد [ 14623]، https://aawsat.com/home/article/1499196/

[27] دونالد بيترسون، "داخل السودان: الإسلام السياسي، الصراع والكوارث"، مطبعة ويستبروك، نُشِرَ عام 1999، وتمت مراجعته في 2003، ص 11.

[28] دونالد بيترسون، المصدر السابق، 223.

مجلة آراء حول الخليج