; logged out
الرئيسية / الإدارة الرقمية: كيف شكلت الإنترنت بيئة العمل؟

العدد 141

الإدارة الرقمية: كيف شكلت الإنترنت بيئة العمل؟

الإثنين، 09 أيلول/سبتمبر 2019

مدخل قياسي: يمثل التواصل السمة الأساسية للاجتماع البشري، والضرورة الملازمة لفاعلية مكوناته وممارسة حيويتها. وقد ظلت تطورات تقنيات الاتصال عبر العصور؛ منذ الرسومات والنقوش، إلى الكتابة، وصولًا إلى الوسائط الرقمية، تسجل تاريخ الإنسان، وتنقل خبراته وتجاربه ومهاراته، وتشكل مراحله الحضارية، لما لطبيعة التقنية المستحدثة والمستخدمة للتواصل من تأثير كبير على المجتمع، وعلى محتوى أشكال التعبير الثقافيٍ. ويتداخل ذلك التأثير على البيئات المتعددة، التي تكون بنيات المجتمع الحديث، حيث تعد بيئة العمل أبرزها تميزًا في الاستجابة لأنماط التقنية الاتصالية الحديثة. ويُعبر تغيير الوسائط الرقمية عن عملية اجتماعية – تقنية، تتميز بمزيج من الاستمرارية والتطوير الملائم للبيئة العملية. ويمكن إظهار قيمة أداء الكثير منها بالمتابعة المباشرة للخصائص التقنية للتحديثات المعنية، لأنها تؤثر علىأنماط التخزين والتوزيع والوصول إلى المعلومات وتفعيلها واسترجاعها. وتعمل على تغيير أدوار جميع الوسائط التقليدية، بما في ذلك حركة الطباعة. ويتأثر تبعًا لذلك موقف المؤلفين والناشرين وبائعي الكتب،وتتم إعادة هيكلة الصناعات الإعلامية من خلال هذه العملية، بالإضافة إلى تحول موقع القراء، الذين ينصرفون إلى تتبع أنواع المحتوى الجديد على الإنترنت. علاوة على ذلك، يلعب الجمهور، في عصر الوسائط التفاعلية، دورًا جديدًا كمنتج للمحتوى، ومستهلك له في ذات الوقت.

من المهم التذكير بأنه عندما يبحث المرء في أثر وسائط الإعلام على مجال الإدارة الحديثة، يكون هدفه في الغالب التحقق من أداء الإنسان ضمن سياق فريق محدد، أو عمل عام. وقد يؤثر هذا المسار التحقيقي على نقاشات أوسع نطاقًا في مجال النظرية الإدارية، إذا كان تركيزنا هنا على ما لحق بيئة وسائل الإعلام نفسها جراء التقدم المذهل في وسائط التواصل الحديثة. ففي هذا المقال المقتضب، لا نود أن نُعالج كل جوانب هذا الموضوع الواسع، ولكن علينا أن نُفكر قليلاً في طبيعة الإدارة لوسائل التواصل الاجتماعي والدروس، التي قد نتمكن من استخلاصها بالنظر إلى المقاييس الناشئة عن عدد من المنصات. وللتقديم لذلك، سأطرح مجموعة من الأسئلة، أبتدرها باثنين، وأقدم إجابات جزئية لكليهما؛ تاركًا للقارئ ملء الإجابات بمزيد من التفاصيل، وهما: كيف يمكن أن تدعم التقنيات المستقبلية العمق المعرفي، والتفاعل المشترك، والحميمية المطلوبة بين مجموعات العمل الإعلامي في نسق إداري جديد؟ وكيف يمكن أن تساعدنا هذه التقنيات في قضاء وقت أقل من ساعات عملنا الراهنة، أو دوامنا المعروف الآن، ونحصل على تفاعلات ذات معنى، ونحقق أكثر الإنجازات، التي تهم رفاهيتنا؟

ويمكننا أن نعزي السبب في عدم الانشغال بالإجابة، إلى حقيقة أن المقال يطرح فقط إشارات للتغيير في البيئة الإدارية بشكل عام، وما يجري داخل مؤسسات الإعلام التقليدية، التي أوجدت التحولات الثقافية للمجتمع الإنساني بشكل خاص، ولأهمية الوسائط الرقمية وأثرها على بيئة العمل الإعلامي بشكل أخص، مع التركيز على بعض السمات الإدارية، التي تهتم بالجودة والكمية المُنْتَجَة معًا، مع نظرٍ إلى مسألة الاستثمار في الوقت، وعمق التفاعل بين العاملين. ومن هنا، يبدو أن نظام الوسائط الرقمية مختلف إلى حد كبير عن تلك الوسائل الإعلامية الجماهيرية؛ المطبوعة والمقروءة والمسموعة والمشاهدة، التي اعتدنا عليها. لذلك، فإن أكثر ما أثار اهتمامنا مؤخرًا هو المقياس، أو على الأقل القياس المُتَصَوَّر، الذي يمكن أن نُحدد به تأثير المنصات الإعلامية الجديدة على وسائل الإعلام التقليدية. وبعبارة أخرى، النظر إلى طبيعة إدارة هذه الوسائل التقليدية، الذي يجري الآن بشكل مختلف.

لقد وصفت كثير من الدراسات ما نعتقد أنه استخدام واسع الانتشار لوسائل التواصل الاجتماعي. فبعض الناس يستخدمونها لأغراض إدارية وتجارية، وآخرون من أجل التواصل، وغيرهم من أجل المعرفة، وأكثرهم بغرض الترفيه والمتعة. ومن ثم، هناك من يحاول إقحامها واستخدامها على حد سواء في كل منشط ومكره. فهل هناك شيء غير مفهوم وغامض في آلية الاتصال الهائلة هذه، مع برامجها المعقدة وبروتوكولاتها غير الملموسة، وكلها مكرسة لبيع سلعنا، التي يظن البعض أنها مؤامرة كونية بإدراك أن اتصالاتنا مع العائلة والأصدقاء، ومناقشاتنا السياسية الشغوفة والمستنيرة، موجودة فقط لإبلاغ المعلنين بما نُفضله، حتى يتمكنوا من توجيه الدعاية والإعلانات بشكل أكثر دقة إلينا. فنحن، بعد كل شيء، نتواصل مع بعضنا البعض، لكننا ندرك أيضًا أننا مُسْتَخْدِمُون ومُسْتَخْدَمُون، أي أننا سِلْعَةٌ تُبَاع للمعلن.

قد تصدم هذه الحقيقة العارية الكثير من الناس؛ بأننا جزء من نطاق المسح الاستقصائي، الذي تجريه الشبكة العنكبوتية لأغراض التجسس والدعاية والإعلان، لأنه من السهل علينا أن ننسى هذه النقطة الواضحة. فنحن نحتاج إلى أن نُدرك أن علاقاتنا تتأثر باستخدام وسائل التواصل الاجتماعي، ويُصبِح ما نختاره، أو لا نختاره، يؤثر علينا وعلى طريقة أدائنا لوظائفنا وأعمالنا. وهذا هو السبب، الذي يدعونا لتطوير، أو على الأقل تطبيق وجهات نظرنا العلمية، أو التفكير العقلاني، لاستيعاب أهمية التواصل الاجتماعي. بعد كل شيء، إذا كانت نظريتنا الإدارية هي توجيه عملنا لما يضمن النجاح، فما هي الوسيلة الأفضل من التقنية الرقمية، التي ينبغي علينا اللجوء إليها؟

فالحقيقة البَيِّنَة تقول إن معظم سكان العالم يستخدمون الآن الإنترنت، ويشاركون في مجموعة متنوعة من الأنشطة اليومية؛ عبر إرسال واستقبال البريد الإلكتروني، وقراءة الأخبار، وإدارة الخدمات المصرفية، والبحث عن المعلومات العامة، وإدارة الاتصالات في مكان العمل، والحفاظ على بيئة عمل فعالة، والمزيد من التواصل الاجتماعي. وقد شكل إدماج الإنترنت في الأداء الوظيفي، ومكان العمل، نموًا مضطردًا للإنتاج والإنتاجية بسبب طبيعة المعلومات، التي يمكن مشاركتها عبر الوسائط الناقلة، وساهمت في تغيير طبيعة أنواع الأنشطة، والتي يمكنهم القيام بها على أجهزة الحاسوب.

ففي السابق، كان استخدام أجهزة الحاسوب هذه يقتصر على أداء وظائف إدارية، مثل الإيداع الإلكتروني، وغيرها من الأعمال التقليدية. أما اليوم، فتسمح أجهزة الوسائط الشخصية والهواتف الذكية، وغيرها من الأدوات، التي تدعم الإنترنت، للعاملين بالوصول إلى شبكة الويب العالمية من أي مكان. وسهلت طبيعة الإنترنت قيام أصحاب العمل بتطوير وتنفيذ السياسات، التي تنظم طبيعة الأداء في مكان العمل. فيما تحدد سياسات الوسائط الإلكترونية قواعدَ سُلوكٍ يجب على العاملين الالتزام بها أثناء ساعات العمل، أو عند استخدام أجهزة الحاسوب الخاصة بالشركة في مكان بعيد عن مكان العمل. تحدد هذه السياسات مواقع الويب المناسبة للعمل ونوع مواقع الويب، التي يحظر على الموظف الوصول إليها في وقت العمل. وتتضمن السياسات أيضًا، عدم السماح للموظف بفحص البريد الإلكتروني الشخصي، أو زيارة مواقع التواصل الاجتماعي أثناء العمل.

لقد غير استخدام الإنترنت الطريقة، التي يتواصل بها الموظفون في مكان العمل. تاريخيًا، كان العمال يتواصلون عبر الهاتف والبريد الداخلي والزيارات المباشرة. فقامت الإنترنت بتبسيط طريقة تبادل الموظفين للمعلومات من خلال السماح لهم بالتواصل إلكترونيًا. الاتصالات الإلكترونية، مثل البريد الإلكتروني والرسائل الفورية ومؤتمرات الفيديو، تعمل على إزالةالحواجز الزمنية والمكانية. إذ يمكن للمشرفين والمديرين العمل عن بُعد، مع الاستمرار في التواصل مع الموظفين. ويمكن للشركات عقد اجتماعات ونقل المعلومات من مكاتب مختلفة من خلال استخدام خدمات الإنترنت.

لقد أثرت شبكة الإنترنت على نطاق قوانين العمل أيضًا، وكذلك مسؤولية صاحب العمل عن المضايقات وإشكالات التمييز في مكان العمل. ويمكن أن تتجاوز المضايقات والعنف والتمييز الموقع الفعلي للمؤسسة إلى المعلومات، التي يتم تبادلها على الإنترنت خلال وقت العامل الشخصي. على سبيل المثال، يمكن أن يكون زملاء العمل، الذين يشاركون في المضايقات؛ مثل، إبداء ملاحظات غير مناسبة على موقع ويب للتواصل الاجتماعي حول إعاقة موظف آخر، مذنبين. ويكون أرباب العمل مسؤولين عن تصحيح النشاط غير المناسب، الذي يؤديه الموظفون عبر الإنترنت، إذا كان هناك من يشتكي من هذا السلوك.

العائد الإنتاجي للتقنية الرقمية:

أصبح من المعلوم، بحكم الواقع، أن ثورة المعلومات العالمية تمضي على قدم وساق، وإن فاقت سرعتها المسافات والمساحات، التي كُنَّا نقصدها بمسيرة القدم والساق. ويسمح لنا عصر الإعلام الجديد بإعادة التفكير في طبيعة العالم، الذي عرفناه، والتعمق في رؤية جميع الأحداث والتغيرات، التي حدثت في العقود الأخيرة، ومن ثم التركيز على الحاضر، ومحاولة استشراف ما يخبئه لنا المستقبل. فقد صار من المعتاد أن يصف الكُتَّاب، والصحفيون، والاقتصاديون، وعلماء الإدارة والحوكمة، والفلاسفة، وعلماء السياسة، وخبراء العلاقات الدولية، والباحثون، وعلماء النفس، وأساتذة الجامعات ذوو الخبرة الواسعة، يصفون المجتمع الحالي وتعقيداته، بأنه أمر غير مسبوق. وينظرون إلى هذه التعقيدات، التي يحددها ويجددها التأثير الفوري للتقدم العلمي والتقني، على اعتبار أنها تقرر ملامح التنمية، وتُمَيِّز علاقات الاقتصاد، وسَتُشَكِّل مستقبل المجتمع.

في الإطار​ العام لقطاع تقييس تقنية الاتصالات، هدفت مبادرة المعايير العالمية بشأن إنترنت الأشياء إلى العمل بمثابة مظلة لوضع معايير مُتفقٌ عليها على مستوى العالم، من أجل تقديم الخدمات عريضة النطاق، التي تطمح إليها هذه التقنية. لذا، عُرّفت إنترنت الأشياء بأنها بنية تحتية عالمية من أجل مجتمع المعلومات، تمكن للخدمات المتقدمة عبر توصيل الأشياء المادية والافتراضية، استنادًا إلى تقنيات المعلومات والاتصالات القائمة والمتطورة، ​ والقابلة للتشغيل البيني. وتستخدم من خلال توظيف قدرات تحديد الهوية والتقاط البيانات والمعالجة والاتصالات، على أفضل نحو لتقديم خدمات لجميع أنواع التطبيقات، مع ضمان تلبية متطلبات الأمن والخصوصية. ويمكن تصور إنترنت الأشياء، من منظور أوسع، بوصفها رؤية ذات تأثيرات تقنية ومجتمعية.

لهذا، لا بد من التزام علماء الإدارة خاصة بموجبات التغير والتحول الرقمي على بيئة العمل، والحاجة إلى وضع التقدم المحرز معها في أيدي المواطنين، كأن نرى الثورة التقنية كفرصة عظيمة لتحسين رفاهية المواطن والمجتمع في الحاضر والمستقبل. فالتغييرات، التي حدثت في مجالات تصريف الشؤون العامة؛ بسبب ظهور نظريات جديدة، وزيادة مشاركة المواطنين في المجال العام، وتأثير استخدام الشبكات الاجتماعية، ووسائل الإعلام الجديدة، على آليات عمل الاقتصاد. يضاف إليها تزايد أهمية مسائل مُثُل الحوكمة، وتأثيرها على جميع مجالات المجتمع، فيما يُسمى بأنماط الإدارة الجديدة، وتحدي التنمية، وتوفير الفرص المتساوية، التي أصبحت قضايا بالغة الحساسية، وتشكل جوهر هذا الموضوع.

فإذا تأملنا، مثلاً، نظرية الفيلسوف الألماني يورغان هابرماس عن العمل التواصلي؛ مع انعكاسات وسائل الإعلام الاجتماعي على الخطاب العام، رغم أن القليل من الدراسات تراعي أهمية النظرية وقابليتها للتطبيق على الإدارة العامة، إلا أننا هنا نُؤشر باقتضاب على هذا الرابط البَيِّن، من خلال تِبْيان مسألة شرعية الإدارة في بيئة الإعلام. في حين أن منصات التواصل الاجتماعي يمكن أن تكون مفيدة للإداريين في المجالات الأخرى، لما تقدمه من تسهيل للتفاعلات التعاونية مع المواطنين، لكن هذه المنصات ليست بالضرورة مناسبة تلقائيًا للمشاركة العامة في تقييم فاعلية الحوكمة. فالنظرية تُوفر فقط إطارًا لفهم هذه الاحتمالات والتحديات، بالإضافة إلى تكييف أداء الوسائط الإعلامية الاجتماعية بشكل بناء مع الممارسات الإدارية.

لقد أدركنا الآن أن التطورات في التقنيات، على مدار العقود الثلاثة الماضية؛ من إنشاء المحتوى إلى التوزيع والاستهلاك، أدت إلى تغيير الطريقة، التي ينظر بها المتلقون العاديون في جميع أنحاء العالم إلى الوسائط، وبدأوا يستخدمونها للحصول على الأخبار والمعلومات والترفيه. وغيرت، تِبْعًا لذلك، طبيعة وبيئة العمل بالنسبة للأشخاص العاملين في صناعة الإعلام. وبهذا، أعطت شبكة الإنترنت العالمية، التي يصل إليها غالب الناس على الكرة الأرضية، دفعة قوية للحرية، وفتحت الباب أمام حقبة جديدة؛ بها وفرةٌ من المعلومات، التي يمكن أن تكون مصدر اهتمام وتعليم وإلهام لأجيال الحاضر والمستقبل.

ومثلما أدى هذا التقدم التقني في وسائل التواصل إلى التفكير في الإصلاح الجذري لِنُظُم العلاقات الإدارية، قاد أيضًا إلى تفكيك نسق الأسواق التقليدية، إذ خلق بالمقابل اقتصادًا جديدًا في صناعة الإعلام والمعلومات. وقد وسع بذلك آفاق المستهلك، وألهم استكشاف الفرص التجارية الجديدة، إلا أن القضية المزعجة لمؤسسات عالمية؛ مثل: منظمة العمل الدولية، هي أن هذه التحولات السريعة في بيئة وطبيعة العمل قد خفضت الوظائف، وقلصت فرص العمل اللائق، للذين لا ترتبط مؤهلاتهم بشكل مباشر بهذه التقنيات المُسْتَحْدَثة. وانتبهت هذه المؤسسات إلى أن إعادة هيكلة أسواق العمل، وكثافة التغيير في مكان العمل قد خلق الكثير من عدم اليقين بشأن المستقبل.

 على أفق المستقبل:

لقد كان هناك تحول زلزالي في المهارات والمواهب المطلوبة من القوى العاملة وأنماط العمالة، في سوق العمل الإعلامي. ففي زمن باكر، أي عام 2000م، خلصت ندوة دولية ثلاثية الأطراف حول تقنية المعلومات، نظمتها منظمة العمل الدولية، إلى أن التقنية في غرف الأخبار تعمل على تهيئة البيئة، وإفساح المجال للتفاعل بين الموظفين العاملين بشكل كامل والمستقلين. وكانت هناك آمال في زيادة فرص العمل في وسائل الإعلام للنساء، وتوقعات كبيرة من سوق الوظائف في "وسائل الإعلام الجديد"، الذي بدأ، وما يزال، يشهد ازدهارًا منقطع النظير.

ومع ذلك، فإن الهيكل الجديد للإعلام والاتصالات يوفر لأصحاب العمل والعمال فرصًا جديدة؛ لا سيما لتعزيز احترام معايير العمل الدولية، بما في ذلك تلك المتعلقة بالحرية النقابية، والمفاوضات الجماعية، وعلاقات العمل الراتب، والعمل المنزلي، والتمييز وحقوق العاملات. وقد أصبحت الإنترنت هي السمة السائدة في هذه القطاعات، ولا توجد وظيفة للوسائط دون الوصول إلى شبكة الإنترنت، سواء لأغراض البحث، أو لبيع وتوزيع المواد التقليدية.

وعلى الرغم من كل ذلك، ومع التركيز الكبير على الصعوبات، التي تواجه وسائل الإعلام التقليدية في العديد من البلدان الصناعية، إلا أن الأدلة تُشير إلى أن وسائل الإعلام لا تموت، وإن تراجعت بعض أرقام توزيع المطبوع منها، وأن العاملين بها يتغيرون ويتكيفون مع كل المستجدات. ففي بعض أنحاء العالم، التي تعرضت فيها وسائل الإعلام المطبوعة لصدمة تقنية، قادت إلى قدرٍ من الانكماش، إلا أنه في حالات أخرى، اتضح أن قطاع الطباعة ينمو بشكل كبير. ويمكن القول إنه، في جميع البلدان، تعافت الكثير من الوسائط التقليدية الآن، وبدأت تعمل على التكيف مع منصات متعددة للتوزيع.

للتدليل على ذلك، وعلى الرغم من أن الفقر، ونقص المهارات، وقلة البنية التحتية، ونقص الاتصال بالنطاق العريض الأسرع، يعني أن بعض البلدان النامية ما زالت متأخرة عن بقية العالم في هذا المجال، فقد تراجعت المخاوف من "الفجوة الرقمية". وأصبح بإمكان غالب الأشخاص الآن الوصول إلى التقنية، خاصة الاتصالات الهاتفية المحمولة، التي تخلق فرصًا جديدة لتطوير الوسائط. فكانت التقنية هي المحرك للتغيير في الاقتصاد الإعلامي، وفي عادات المستهلكين، وفي سوق العمل. وأدى انتشار التقنيات الجديدة، في العديد من البلدان، إلى القضاء على العديد من وظائف الوسائط التقليدية، رغم أن جنوب وشرق آسيا وإفريقيا وبعض دول أمريكا اللاتينية، على وجه الخصوص، تحسن سوق العمل فيها حيث أدت زيادة معدلات الإلمام بالقراءة والكتابة وارتفاع مستويات المعيشة إلى ارتفاع استهلاك المنتجات الإعلامية.

نعم، في كل مكان، هناك تغييرات كبيرة في هيكل العمل، خاصة في مجال الصحافة وإنشاء المحتوى. وقد أدى ذلك إلى زيادة الطلب على مرونة الأشخاص، الذين يمكنهم تقديم مدخلات تحريرية وإبداعية عبر مجموعة متكاملة من منصات المعلومات. وقد أدت هذه المرونة وتوزيع العمل إلى زيادة في العمالة غير المستقرة، إذ غالبًا ما يكون الموظفون غير قادرين على التمثيل في النقابات، مما أضعف نطاق المفاوضة الجماعية والحوار الاجتماعي. فأصبح هناك توزيع غير متساوٍ لحقوق العمل، والوصول إلى عمل لائق عبر سوق العمل الإعلامي. ومع كل ما يمكن نظره من فجوات يمكن تداركها بشأن الأداء الأمثل للمعطى التقني المتسارع في تطوره، فإن الخلاصة المعرفية تنتهي إلى إدراك أن الإضافة، التي وسمت بها الإدارة الرقمية بيئة العمل المعاصرة توثق لانتقالة بعيدة الأثر في الواقع الاقتصادي والاجتماعي لمختلف المستويات الوظيفية، وتفتح على أفق المستقبل نسقًا جديدًا للعلاقات الإنتاجية والإنسانية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* دبلوماسي، الأمين العام السابق لمنتدى الفكر العربي

مجلة آراء حول الخليج