; logged out
الرئيسية / تأثير التصعيد الإيراني ــ الأمريكي: بين حيادية العراق و استقطابه

العدد 141

تأثير التصعيد الإيراني ــ الأمريكي: بين حيادية العراق و استقطابه

الإثنين، 09 أيلول/سبتمبر 2019

شهدت العلاقات الأميركية ــ الإيرانية خلال مراحل تطورها تحولات والتواءات حادة، وارتبط ذلك بحالة عدم الاستقرار في تلك العلاقة، وقد ضاعف من حدة التغيير السلبي فيها طبيعة العلاقات بين الجانبين ونمط التشابكات واختلاف المصالح والتوجهات السياسية لكل منهما في منطقة الشرق الأوسط، ومنذ 8 مايو 2018م، تصاعد التوتر بين البلدين عقب انسحاب إدارة الرئيس " دونالد ترامب" من الاتفاق النووي الموقع بين إيران والدول الكبرى في عام 2015م، واتهام النظام الإيراني باستمرار مساعيه للحصول على السلاح النووي، وزعزعته للأمن والاستقرار في المنطقة، ولمتابعته لبرنامج الصواريخ الباليستية . وقد انعكست هذه الإشكالية بتجلياتها السلبية والإيجابية على مجمل التطورات السياسية والاقتصادية والعسكرية لغالبية دول منطقة الشرق الأوسط، وبخاصة العراق، كونه يرتبط ومنذ عام 2003م، ولحد الآن، بعلاقات وثيقة وتعاقدية مع الولايات المتحدة الأمريكية، وفي ذات الوقت لديه علاقات متشابكة وفي كل الميادين السياسية والاقتصادية والعسكرية والدينية مع إيران، ويصعب على النُخب السياسية الحاكمة في العراق التخلي عن صلاتها المتجذرة مع طهران لاعتبارات سياسية وجغرافية وعقائدية مُتشابكة معها.

   وتعكس هذه الإشكالية علاقة عكسية قوامها: إن تراجع علاقات الولايات المتحدة الأمريكية مع العراق يؤدي إلى تزايد التأثير الإيراني في الساحة العراقية وفي كافة الميادين. وعندما تتصاعد علاقات واشنطن مع بغداد يتراجع التأثير الإيراني في الساحة العراقية. وإزاء احتمالات استمرار التوتر في العلاقات الأمريكية الإيرانية أو احتمال حصول تصادم عسكري أمريكي ـ إيراني، عندئذ تتجلى صعوبة موازنة السلطة السياسية في العراق لعلاقاتها بين الطرفين. ولسبر أغوار هذه الإشكالية لابد من محاولة الإجابة على التساؤلات الآتية: ما هو موقف العراق في ظل زيادة التوتر بين واشنطن وطهران؟ وهل يستطيع العراق تطبيق سياسة الحياد والالتزام بفرض العقوبات الاقتصادية الأمريكية على إيران؟ وهل يمكن للعراق التوسط بين واشنطن وطهران لحلحلة المعضلة الإيرانية؟

أولاً. أهمية العراق لإيران:

أولت السلطات الإيرانية اهتمامًا استثنائيًا بالعراق على مر العصور، وذلك لاعتبارات دينية، وجغرافية، واقتصادية مُتداخلة، والتي يُمكن إيجازها بالآتي:

  1. الأهمية الدينية: ترتبط بعضٍ من شرائح الشعب العراقي مع الشعب الإيراني بالعديد من المشتركات الدينية والاجتماعية، والتي تدفع إيران لإيلاء الساحة العراقية أهمية استثنائية قصوى، في مقدمتها وجود عدة مراقد مقدسة للمسلمين الشيعة في العراق، ولعل أهمها مرقد الإمام علي بن أبي طالب، والحسين والعباس والكاظم والحسن العسكري، وكذلك وجود المرجعية الدينية العليا للمسلمين الشيعة في العالم في العراق في محافظة النجف، كما اعتمدت إيران استنادًا للمادة (12) من الدستور الإيراني الصادر عام 1979م، ما نصه:" بأن الدين الرسمي لإيران هو الإسلام والمذهب الجعفري الاثنا عشر، ويبقى هذا المبدأ قائمًا وغير قابل للتغيير إلى الأبد وتسعى السلطات الإيرانية واستنادًا لأيديولوجية ولاية الفقيه (تصدير الثورة الإسلامية) لنشر التشيع على الطريقة الإيرانية في العراق وبقية الدول العربية والإسلامية.
  2. الأهمية الجغرافية: العراق وإيران بلدان مُتجاوران، ويرتبطان بحدود برية طويلة من محافظة السليمانية شمالاً، الى محافظة البصرة جنوبًا، قوامها نحو (1458) كيلومتر، كما يشتركان في طوبوغرافية الأرض، سواءً أكانت جبلية في الشمال، أو متموجة في الوسط وسهلية في الجنوب، وسهّلت هذه الجغرافية، على التغلغل الثقافي المشترك، فضلاً عن انتقال الشعبين وتزايد المصاهرة وبخاصة في جنوب العراق، لوجود شعب عربي في إقليم الأحواز والمتجانس عشائريًا مع سكان جنوب العراق. فضلاً عن كون العراق كان ولا يزال معبرًا لإيران نحو دول الشام والخليج العربي.
  3. الأهمية الاقتصادية: يمتلك العراق موارد بشرية قوامها (38) مليون نسمة وفقًا لإحصاءات البنك الدولي لعام 2018م، ولديه (28) مليون دونم من الأراضي الصالحة للزراعة وهو ثاني بلد عربي بعد مصر ، من حيث الموارد المائية والتي تبلغ نحو (50) مليار م3 فضلاً عن امتلاك العراق لإمكانيات ضخمة من الاحتياطيات النفطية والتي بلغت في نهاية 2018 نحو ( 147) مليار برميل من النفط الخام، أي ما يعادل (8.5%) من الاحتياطي النفطي العالمي، فيما بلغ معدل إنتاجه اليومي لعام 2018 (4.5) مليون برميل يوميًا مما يثير مطامع إيران وحفيظتها للتنافس مع العراق .

ثانيًا. علاقة العراق مع طرفي النزاع:

  1. العلاقات العراقية الإيرانية :اعتمدت الأنظمة الحاكمة في إيران سياسة ثابتة لترسيخ علاقاتها مع العراق والقائمة على توسيع النفوذ الإيراني بصورة تدريجية، كسياسة ثابتة وبغض النظر عمن يحكم في طهران ، سواءً أكان النظام ملكيًا أم جمهوريًا إسلاميًا، وتعود محاولات إيران للتغلغل في العراق لسنوات طويلة خلت، وبخاصة عقب تأسيس الدولة العراقية في عشرينيات القرن الماضي، وعلى سبيل المثال قامت حكومة الشاه (رضا بهلوي والذي حكم إيران 1921 ـــــــ1941م) بدعم وتحريض عشائر الجنوب ضد السلطة المركزية في بغداد والتي انتهت بتوقيع معاهدة 1937م، بين العراق وإيران. وفي سبعينيات القرن الماضي دعمت حكومة الشاه (محمد رضا بهلوي والذي حكم إيران للمدة 1941 ـــــــ 1979م) بتقديم دعم عسكري للأحزاب المعارضة في شمال العراق، وأعقبها توقيع اتفاقية الجزائر بين العراق وإيران عام 1975م.

    وعقب سقوط نظام الشاه محمد رضا بهلوي في فبراير 1979م، اعتمدت السلطات الإيرانية تطبيق أيديولوجية الخميني لتنفيذ ولاية الفقيه وتبني مبدأ (تصدير الثورة الإسلامية) ورافقها سلسلة من المناوشات العسكرية على الحدود الشرقية، أدت لاندلاع الحرب الإيرانية العراقية والتي استمرت للمدة (1980ـــــ1988م). وفي عام 1991م، اتهمت الحكومة العراقية إيران بتدخلها بشؤونه الداخلية عبر دعم الأحزاب المعارضة لمحاولة السيطرة على مُحافظات جنوب العراق.

     وبعد 2003م، اتضح أن تدخل إيران في العراق أمر مُخطط له منذ أن كشفت الولايات المتحدة الأمريكية عن نواياها لاحتلال العراق عسكريًا، واستنادًا لما ذكره (الدكتور مصطفى العاني، في نشرة الأمن والإرهاب، أبو ظبي العدد 3 يوليو 2006م، ص 4)، شكلت إيران في أغسطس 2002م، وبأمر من المرشد الأعلى للثورة الإسلامية السيد علي خامنئي، لجنة خاصة بالعراق لتضع استراتيجية لتحقيق مصالحها فيه بعد سقوط نظام صدام حسين. وقد حددت هذه اللجنة استراتيجية إيران إزاء العراق بالأهداف الآتية:

الأول. منع الولايات المتحدة الأمريكية من الانتصار في العراق، لكون انتصارها يقوض الأمن القومي الإيراني.

والثاني. ترسيخ نفوذ إيران في العراق الجديد.

والثالث، منع ظهور عراق قوي.

     وقد تولت إيران تنفيذ هذه الاستراتيجية في العراق خلال المدة (2003 ــــــ 2019م)، بثلاثة اتجاهات: الاتجاه الأول، احتفاظ إيران بنفوذ عسكري داخل العراق موالٍ لإيران، يتمُ من خلاله رفع تكلفة وجود القوات العسكرية الأمريكية، ومنعها من تحقيق الانتصار في العراق، وبما يؤدي الى انسحابها والذي كان في مصلحة إيران، وقد نجحت ايران في دعم الجماعات المسلحة الشيعية والسنية بالمال والسلاح عن طريق الحرس الثوري الإيراني وبخاصة بعد تشكيل الحشد الشعبي عام 2016م، وقد أدركت الإدارة الأمريكية لمخاطر هذا التوجه على مصالحها الاستراتيجية، في وقت متأخر ، عندئذ طالبت الحكومة العراقية بإلغاء الحشد الشعبي وتجميد نشاط (67) ميليشيا وسحب السلاح منها، ومن بين الميليشيات التي شملتها القائمة الجناح العسكري لمنظمة بدر بزعامة هادي العامري، وكتائب حزب الله العراقي، ولواء أبو فضل العباس، وعصائب أهل الحق بقيادة قيس الخزعلي، في حين طلب رئيس الوزراء العراقي السيد عادل عبد المهدي، من الجانب الأمريكي إعطاءه وقتًا لمعالجة هذا الموضوع. (قناة العربية، في 15 يناير2019)

     فيما ركز الاتجاه الثاني علىتأمين نفوذ سياسي لإيران في الحكومات العراقية الجديدة لتكون موالية لها، وعقب احتلال العراق عام 2003م، أعلنت إيران ما يسمى بسياسة (الحياد النشط)، في حين بذلت ما بوسعها طيلة السنوات اللاحقة لتعزيز نفوذها في العراق، وتعاملت معه، كمجال حيوي لها، وكبوابه لفرض نفوذها في دول منطقة الشرق الأوسط بشكل عام ولدول الخليج العربي على وجه التخصيص. وقد تمخض النفوذ الإيراني في العراق خلال المدة (2003 ــــــ2019م) بتغلغل إيران في كافة الميادين، وبخاصة السياسية منها، إذ تولى حلفاؤها من قادة حزب الدعوة الإسلامية رئاسة الحكومات الثلاث التي حكمت البلاد خلال المدة (2006 ـــــــ2018م)، إذ ترأس إبراهيم الجعفري السلطة للمدة (2006ـــــــ2008م)، وأعقبه نوري المالكي (2008 ـــــــ 2016م)، ومن ثم حيدر العبادي( 2016 ـــــ2018م) ، فيما تولى السيد عادل عبد المهدي السلطة منذ 2018م ، وهو أحد زعماء المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق الذي أسسه السيد محمد باقر الحكيم في إيران، مع إنه أستقال من التنظيم المذكور قبل مدة من توليه رئاسة الوزراء .

     وقد أستهدف الاتجاه الثالث،الحيلولة دون ظهور عراق جديد وقوي، كونه يشكل من وجهة النظر الإيرانية، تهديدًا سياسيًا أو عـسكريًا لها، كون الاستقرار الآن في العراق كما تراه إيران، لا تريده الولايات المتحدة. ومع ذلك توطدت علاقات العراق الاقتصادية مع إيران وبطريقة جعلت السوق العراقي يعتمد وبنسبة كبيرة على الصادرات الإيرانية، وبخاصة الكهرباء والغاز الطبيعي والمواد الغذائية، واستنادًا لوكالة‌ أنباء الجمهورية الإسلامية للأنباء " إيرنا"، أعلن السفير الإيراني في بغداد" ايرج مسجدي" في 10 يوليو 2019م، إن حجم التبادل التجاري بين إيران والعراق بلغ خلال العام الإيراني الماضي (انتهي في 20 أذار2018م) أكثر من (13) مليارًا و(210) مليون دولار غالبيتها صادرات إيرانية للعراق، وأضاف مسجدي في اجتماع اللجنة الثقافية لممثليات إيران بحسب وكالة” إيرنا “: إن إيران تُعد الشريك التجاري الثاني للعراق بعد تركيا، مشيرًا إلى أن ( 6.5 ) مليار دولار أمريكي من هذا الحجم يتعلق بالبضائع غير النفطية حيث احتلت إيران في هذا المجال المركز الأول بين سائر شركاء العراق التجاريين.

  1. العلاقات العراقية ـ الأمريكية: اتجهت الولايات المتحدة الأمريكية في عام 2003م، إلى احتلال العراق عسكريًا لتعلن بداية مرحلة جديدة في مسيرة العلاقات العراقية الأمريكية، قوامها انتهاء الإرادة المستقلة للدولة العراقية، والتأثر بالاعتبارات الدولية والإقليمية وبمستويات غير مسبوقة. ولم تكن مضامين العلاقات العراقيةـــــــ الأميركية خلال المدة (2003 ــــــــ2019م) دون وجود مُتغيرات مؤثرة فيها، ففي الميدان السياسي أستند النظام السياسي الذي شكله الأمريكيون في العراق إلى فكرة أن العراق بلد تعددي لا يمكن أن يُحكم إلا من خلال نظام المحاصصة الطائفية، وتحديدًا بين المكونات الرئيسية: (الشيعة والعرب السنة والأكراد) كما توطدت العلاقات بين البلدين، وتوجت بتوقيع معاهدة التعاون الاستراتيجي عام 2011م، ولحد الآن. وفي الميدان العسكري، استمر احتلال القوات الأمريكية للعراق منذُ عام 2003م، ولغاية انسحابها في عام 2011م، ومن ثم عادت هذه القوات للعراق عام 2016م، على رأس تحالف دولي لمكافحة الإرهاب بعد احتلال تنظيم ما يُسمى بالدولة الإسلامية في العراق والشام، والذي عُرف إعلاميًا باسم ( داعش) لمدينة الموصل وعدد من مدن العراق الغربية، واستمر تواجدها لحد الآـن فيما أوصى نائب مساعد وزير الدفاع الأمريكي لشؤون الشرق الأوسط "مايكل مولروي" ، في17 يوليو 2019م، بضرورة العمل على زيادة حجم الإنفاق العسكري مرة أخرى في العراق للتصدي لنفوذ إيران، مؤكدًا انخفاض الإنفاق الأمريكي هناك من (150) مليار دولار في عام 2008م، إلى (15) مليار دولار في عام 2019م، وطالب "مولروي" الموافقة على إضافة (5) مليارات دولار أخرى لحجم الإنفاق الحالي في العراق لمواجهة النفوذ الإيراني. وفي الميدان الاقتصادي، يعتمد العراق على تصدير النفط واستيراده للسلاح والمعدات العسكرية والأمنية من الولايات المتحدة الأمريكية، كون السوق العراقية مرتبطة بالعوامل الإقليمية أكثر من ارتباطها بالعوامل العالمية لاعتبارات ثقافية وسياسية، ومع ذلك، للعراق روابط اقتصادية متعددة مع الولايات المتحدة الأمريكية، وعلى سبيل المثال، واستنادًا للإحصاءات الرسمية لوزارة التجارة الأميركية (https://www.census.gov/foreign-trade/balance/c5050.html) بلغت صادرات العراق لأمريكا وأغلبها صادرات نفطية، خلال السنوات الثلاث الأخيرة (5.983 ) مليار دولار أميركي لعام 2016م، وارتفع هذا الرقم لعام 2017م، ليصل إلى (10.759) مليار دولار ، ومن ثم واصل ارتفاعه ليصل إلى (11.872) مليار دولار في عام 2018م، فيما بلغت واردات العراق للسنوات ذاتها ( 1.226 ) و (1.204 ) و( 1.312) مليار دولار أميركي على التوالي. كما يرتبط العراق باتفاقيات مالية متشعبة مع الإدارة الأميركية.

ثالثًا. الموقف العراقي من تصاعد الصراع الأميركي الإيراني:

تميزت إيران عن غيرها من دول الجوار العراقي بكونها وثقت علاقاتها مع العراق بعد 2003م، وفي كافة الميادين، وبعد تصعيد التوتر في العلاقات الأمريكية الإيرانية، انقسم الموقف العراقي إزاء التصعيد الأمريكي الإيراني إلى محورين، وكما يأتي:

الأول. الموقف الرسمي: تبنت المواقف الرسمية المُعلنة إزاء موضوع العقوبات الاقتصادية الأمريكية على إيران، موقفًا مُحايدًا ظاهريًا، ومؤيدًا ضمنًا لإيران ورافضًا لتطبيق العقوبات عليها، وعكسته تصريحات رئيس مجلس الوزراء السيد عادل عبد المهدي ووزير الخارجية السيد محمد علي الحكيم ، وبيان رئيس الجمهورية السيد برهم صالح، وما يؤكد ذلك ما أعلنته وكالة الأنباء العراقية في 20/11/2018م، بأن رئيس مجلس الوزراء العراقي السيد عادل عبد المهدي استقبل مجموعة من النخب العراقية، وصرح بما نصه: " أن العراق ليس جزءًا من العقوبات الأمريكية على إيران، وأن العراق حاليًا لا يقف في حرب مع أي دولة ويرفض الإملاءات الخارجية " وبتاريخ 23/7/2019م، قام رئيس مجلس الوزراء العراقي السيد عادل عبد المهدي بزيارة طهران ولمدة ست ساعات فقط وعلى رأس وفد وزاري كبير، وقال خلال استقباله من قبل الرئيس الإيراني السيد حسن روحاني " بأن العراق لم ولن يكن جزءًا من العقوبات على إيران" (وكالة تسنيم الايرانية 23/7/2019) . فيما كان وزير خارجية العراق السيد محمد علي الحكيم، أكثر وضوحًا من رئيس الوزراء بتأكيده خلال استقباله لنظيره الإيراني، محمد جواد ظريف في بغداد بتاريخ 26 /5/2019م، حيث قال في مؤتمر صحفي مُشترك معه: "نحن نقولها بوضوح وبصدق، نحن ضد الإجراءات الأمريكية الأحادية، نقف مع جارتنا إيران في وضعها وسنؤدي دور الوسيط المناسب إن عرض على العراق ذلك"(CNN العربية 26 مايو2019) وبتاريخ 15/7/2019م، استضاف الرئيس العراقي السيد برهم صالح في قصر السلام ببغداد الاجتماع الدوري للقيادات السياسية وبحضور رئيس الوزراء عادل عبد المهدي ورئيس مجلس النواب محمد ريكان الحلبوسي وذكر مكتبه الإعلامي في بيان أعلنه بتاريخ 15/7/2019م، بانه "جرى خلال الاجتماع بحث الأوضاع الدولية والإقليمية، واتفق المُجتمعون على إن سيادة العراق وتحقيق استقراره وازدهاره وعلى الدور المتوازن والمتصاعد للعراق في علاقته الإقليمية والدولية هي أولويات وطنية، مُجددين رفضهم تحويل العراق إلى مُنطلق للاعتداء على أيٍّ من دول الجوار وطالبوا في المقابل احترام الجميع للسيادة العراقية وعدم التدخل في الشؤون الداخلية بين الدول".

       ثانيًا. الموقف غير الرسمي: عكست مواقف الأحزاب السياسية، ومواقف الحشد الشعبي، وميليشيات شيعية غير مُنتمية لمؤسسة الحشد الشعبي، والتي يزيد عددها على (100) فصيل مسلح بحسب تصريح رئيس الوزراء العراقي السابق السيد حيدر العبادي في 26/5/2017م، اصطفافها مع إيران، والتي تسمى (بالفصائل الولائية)، والتي تتبع لإيران ولها موقف من الحشد العراقي، إذ أن قادة تلك الفصائل يرتبطون عضويًا بقائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني. وفي واقع الأمر فقد أجمعت الفصائل والحركات الشيعية في الحشد الشعبي في بيانات صحفية على عدم الانصياع لإدارة الرئيس “دونالد ترامب" وفي مقدمتها حزب الدعوة الإسلامي بزعامة نوري المالكي، وقوات بدر برئاسة هادي العامري، وحزب الله العراق، وعصائب أهل الحق بزعامة قيس الخزعلي (صحيفة العرب، لندن 9/8/2018)وقد أدركت السلطات الأمريكية خطورة هذا الموقف إذ نشرت السفارة الأمريكية في بغداد في 31 أكتوبر 2018م، بيانًا مقتضبًا انتقدت فيه الحشد الشعبي وفصائل وحركات شيعية عراقية أخرى، وطالبت رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي بالالتزام بقرار الإدارة الأمريكية بفرض عقوبات اقتصادية على إيران. وتكررت المطالبات الأمريكية لحكومة السيد عادل عبد المهدي،والذي استجاب للمطالب الرسمية الأمريكية وأصدر الأمر الديواني ( 237 في 1/7/2019م) والذي تقرر بموجبه" بأن تعمل جميع قوات الحشد الشعبي كجزء لا يتجزأ من القوات المسلحة ويسري عليها جميع ما يسري على القوات المسلحة عدا ما يرد به من نص خاص، وتعمل هذه القوات بأمرة القائد العام للقوات المسلحة " ولا يزال تطبيق هذا الأمر قيد الاختبار العملي في المدى المنظور ، وبخاصة بعد تمرد اللواء (30) حشد شعبي بقيادة وعد القدو بتاريخ 5/8/2019 م، والذي رفض تنفيذ أمر القائد العام للقوات المسلحة الانسحاب من منطقة سهل نينوى، وتم إيجاد حل موقت للمشكلة بإبقاء اللواء المذكور في منطقة سهل نينوى بالاشتراك مع قطعات الشرطة وبإشراف الجيش .

رابعًا. الخيارات المتاحة:

الحكومة العراقية في موقف لا تحسد عليه بسبب تجاذبات الوضع السياسي العام في العراق لارتباطها بعلاقات اقتصادية وعسكرية وثيقة وبتحالف استراتيجي مع الولايات المتحدة الأمريكية من جانب، وبعلاقات وثيقة ومتشعبة مع إيران من جانب آخر.وبخاصة بعد أن جددت الإدارة الأميركية في 15/6/2019م، وللمرة الثالثة إعفاء العراق ولمدة (90) يومًا من العقوبات التي فرضتها على إيران لشراء الكهرباء والغاز من إيران ليكون بمقدور بغداد شراء الكهرباء والغاز الإيرانيين، دون خوف من العقوبات، حتى نهاية العام الجاري. (صحيفة العرب، لندن 1/7/2019)، في ضوء ما تقدم فإن خيارات الحكومة العراقية تنحصر بالآتي:

أولاً. انحياز العراق مع إيران: يعني الانحياز في السياسة الانضمام لإحدى الدولتين المتخاصمتين أو المتقاتلين دون أخرى، أي أن ينضم العراق مع إيران لمواجهة العقوبات الاقتصادية الأمريكية المفروضة عليها، وعندئذ سيكون العراق جزءًا من العقوبات الاقتصادية الأمريكية، ويؤخذ على هذا الخيار استحالة تطبيقه لارتباط العراق بالتزامات مع الولايات المتحدة الأمريكية في الميادين السياسية والاقتصادية والعسكرية.

ثانيًا. انحياز العراق مع الولايات المتحدة الأمريكية: أي تطبيق الحكومة العراقية للعقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة على إيران، وفي واقع الأمر، ثمة شكوك عن إمكانية الحكومة العراقية في ظل التجاذبات السياسية الحالية، من تطبيق هذا الموقف من الناحية العملية، مع إن هذا الخيار مطلوب من الحليف الأمريكي للعراق، وفي حالة تطبيقه، عندئذ ستعمد السلطات الإيرانية تحويل صراعها مع واشنطن للساحة العراقية، كونها تمتلك أذرع مسلحة وأصدقاء داخل العراق، على قدر كبير من القوة والنفوذ، وبإمكانهم أن ينفذوا ضربات ضد المصالح الأمريكية، التي تتمثل بعدد من المؤسسات الدبلوماسية والقواعد العسكرية الاميركية في العراق. وبخلاف ذلك ستقوم الولايات المتحدة بتطبيق استراتيجية لمواجهة حرب عصابات مُحتملة باستهداف الفصائل العسكرية الداعمة لإيران في الساحة العراقية، ومُعاقبة بعضٍ من رموز العملية السياسية من المتهمين بالفساد في العراق قبل استهداف إيران عسكريًا.

ثالثًا. الوقوف على الحياد: يعني مفهوم الحياد، عدم الانحياز لأي طرف من أطراف الصراع بين الدول من خلال تبني الدولة موقفًا يُبعدها عن التكتلات ويُحقق الرغبة في النأي عن النزاعات وبما يضمن المحافظة على سيادة الدولة، وحماية حدودها، والاكتفاء الذاتي، وضمان الاستقرار الداخلي. ومن خلاله تستهدف الدولة المحايدة إلى تجنيب شعبها وأراضيها مختلف الاحتمالات الناجمة عن الصراعات. ومع تبني السلطات في العراق، ابتداء من الرئاسات الثلاث إلى الأحزاب والكتل السياسية، لتطبيق مبدأ الحياد الإيجابي في الموقف من تصاعد المواجهة بين الولايات المتحدة والنظام الإيراني، إلا أن طبيعة الترابط السياسي والاقتصادي بين إيران والعراق يدحض إمكانية تطبيق هذا التوجه. وبخاصة عقب رفض وزير خارجية إيران وساطة العراق في هذا الصراع خلال زيارته لبغداد في 31 مايو 2019م. وتسعى الحكومة العراقية إلى التوفيق بين علاقاتها مع واشنطن وطهران بنوع من التوازن وعدم الانحياز إلى أي منهما مداراة لمصالحها العليا بتجنيب العراق الدخول في صراعات الدول الأخرى بالوكالة. إلا أن توجهاتها تصطدم بواقع وجود جهات مُتنفذة في مراكز القرار ومؤسسات الدولة الأمنية والعسكرية والتشريعية تصطف إلى جانب السياسات الإيرانية ضد الولايات المتحدة الأمريكية.

     تأسيسًا على ما تقدم، ليس أمام صانع القرار السياسي في بغداد، إلا الرجوع إلى الحاضنة الوطنية والسمو بعيدًا عن نظام المحاصصة الطائفية، وتبني إرادة وطنية مستقلة واتخاذ القرارات التي تخدم المصلحة الوطنية العليا للعراق دون الانصياع لهذه الدولة أو تلك، وإعادة هيكلة علاقات العراق الخارجية وفقًا لهذا المعيار، مع الأخذ بنظر الاعتبار إن العمق الاستراتيجي للعراق وكما هو معروف تاريخيًا، هو مع الدول العربية بشكل عام، ومع دول الخليج العربي على وجه التخصيص.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*أكاديمي وخبير اقتصادي ـ العراق

مجلة آراء حول الخليج