; logged out
الرئيسية / ما استعصى على الغرب لتحقيق مصالحه في المنطقة قامت به "المنظمات" بأقل تكلفة

العدد 143

ما استعصى على الغرب لتحقيق مصالحه في المنطقة قامت به "المنظمات" بأقل تكلفة

الأربعاء، 06 تشرين2/نوفمبر 2019

مـقـدمـة: مع تسارع وتيرة العولمة منذ العقود الثلاثة الماضية مدفوعة بالثورة المتواصلة في عالم الاتصالات والتكنولوجيا، التي لا يخفى على أحد تأثيراتها على مختلف أوجه الحياة الإنسانية، السياسية ،الاقتصادية ،الاجتماعية والثقافية ومساهمتها في إعادة تشكيل وهندسة المجتمعات محليًا ودوليًا، ظهرت قوى مجتمعية جديدة فاعلة تتدخل على مختلف الأصعدة محليًا، داخل الدول، بحيث أضحت منافسًا للدور التقليدي للدول والحكومات. ودوليًا من خلال المساهمة والتأثير في تشكيل السياسات العامة على مستوى العالم. ولعل أحد أبرز مظاهر هذه القوى الجديدة، الدور الذي أصبحت تلعبه منظمات المجتمع المدني، خاصة الدولية منها، والتي عادة ما تعرف بالمنظمات غير الحكومية. وإن كان يجب الاعتراف بأن مصطلحات وتعابير مثل "المنظمات غير الحكومية"، و "منظمات المجتمع المدني"، وغيرها من التسميات، أضحت عناوين أقرب إلى التداخل والغموض، منه إلى التحديد والوضوح.
تقوم المنظمات غير الحكومية بأدوار متنوعة داخليًا وخارجيًا في مختلف دول العالم. وكان الدور الإغاثي والإنساني والتنموي والبيئي، أقلّ عرضة للتجاذبات والاختلافات، إلاّ أن الدور السياسي والأمني لهذه المنظمات، خاصة تحت ذرائع نشر الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان، أثار الشكوك والتساؤلات في كثير من الأحيان. واتضّحت هذه الإشكالية أكثر في المناطق التي شهدت نزاعات حادة، خاصة تلك التي أخذت شكل الحروب الأهلية، أو تلك التي كان يمكن أن تقلب موازين القوى، محليًا أو إقليميًا أو دوليًا.
وإن كانت ظاهرة نشوء المنظمات غير الحكومية وتطورها، في البداية كانت مقتصرة على الدول الغربية، إلا أن سرعة تمدد أنشطتها على الساحة الدولية وتدخلاتها، التي عادة ما تكون انتقائية. تثير الكثير من التساؤلات حول أهدافها الحقيقية. بل أبعد من ذلك تتطلب البحث عن دوافعها ومن يقف وراءها، سواء من حيث التحريك أو الدعم والتمويل. كون بعض تحركات هذه المنظمات تهدد كيانات دول وسلطاتها وتهدد بتفكيك مجتمعات وإدخالها في دوامات من الصراعات والفوضى، والأمثلة كثيرة في هذا السياق. وما شهدته المنطقة العربية منذ 2011م، فيما يسمى الربيع العربي، تضمن كل هذه الاعتبارات الحسّاسة أو بعضها. لقد كان الدور السياسي والأمني لأنشطة المنظمات غير الحكومية حاضرًا بوضوح في أحداث المنطقة، وبرزت اتهامات صريحة أو ضمنية، لعدد من المنظمات غير الحكومية، بالقيام بدور تجاوز حقوق الإنسان أو الدفاع عن الحريات ومثيلاتها من عناوين ما يدعو إليه القانون الدولي الإنساني، ومبادئ حقوق الإنسان. يعزز هذا الاتجاه وقوع الشرق الأوسط في بؤرة الاهتمامات والصراعات الدولية، لذا يبدو أن ما استعصى على الدول التي لها مصالح ثقافية، تضمنه لها المنظمات غير الحكومية بأقل تكلفة وبغطاء غير مفضوح.

المنظمات غير الحكومية ودول الشرق الأوسط

في مقال للكاتب الأمريكي ستيفن كوك، في مجلة الفورين بوليسي، نشر أواسط العام 2018م، تحت عنوان ״ السبب الحقيقي لكراهية الشرق الأوسط للمنظمات غير الحكومية ״، يبدو أن الكاتب، وبالأسلوب المعتاد لمعظم الكتاب الأمريكيين المنحازين لتوجه معين فيما يتعلق بقضايا الشرق الأوسط، ينظر إلى نصف الكأس الفارغ. لم يحمل نفسه عناء النظر بصورة موضوعية للنصف الآخر. وبدل البحث عن إجابة للسؤال الذي طرحه، كان من الأجدر البحث في حقيقة التدخلات المزعزعة التي تقوم بها المنظمات غير الحكومية الغربية في المنطقة، وهنا يجب أن يطرح السؤال بطريقة أخرى: ما هي الأسباب الحقيقة لكراهية المنظمات غير الحكومية الغربية لدول الشرق الأوسط؟
لا يمكن اعتبار هذا المقال بأي حال من الأحوال ردًا حول مقال السيد كوك. لكن واقع عمل المنظمات غير الحكومية ودورها وعلاقتها المتشبعة مع بعض منظمات المجتمع المدني في الدول العربية، يتطلب البحث في هذا الواقع والبحث عن مخاطر تدخلاتها على الاستقرار السياسي والمجتمعي في الدول العربية.
ويرى كثير من المتابعين لقضايا المنطقة، أن انتشار المنظمات غير الحكومية في الشرق الأوسط يشير إلى محاولة خلق مجتمع مدنيٍّ نابض بالحياة. فالمنظمات غير الحكومية لا تترافق مع سمات " دمقرطة" المجتمع المدنيّ فحسب، بل مع الحراك الاجتماعيّ بحد ذاته كذلك، لكن يبدو أن جهدًا قليلا بذل لتتبّع أثر انتشار هذه المنظمات على ترسيخ الحركات الاجتماعية المختلفة التي تدّعي هذه المنظمات تمثيلها في هذه المنطقة. كما لم يكن ثمة تأكيد على نجاحها في حشد الجماعات المختلفة على ترسيخ حقوقها. وبالقدر ذاته، لم يتم التركيز حول كيفية تأثير وربط المنظمات غير الحكومية مع أشكالٍ أخرى من التنظيمات الاجتماعية، سواء كان ذلك على شكل اتحادات، أو أحزاب سياسية، أو حركاتٍ اجتماعية متنوعة.
تجدر الإشارة إلى أن للعديد من المنظمات غير الحكومية في المنطقة العربية امتدادات وصِلات، محلية وإقليمية، وعالمية. وتأخذ العلاقات بين المنظمات في هذا البلد أو ذاك، وبين المراكز والفروع الأخرى أشكالا غاية في التنوع، كأمثلة على ذلك يمكن أن نذكر شبكة المنظمات الأهلية العربية التي تضم أكثر من 511 منظمة وشبكة من كل البلدان العربية، وتعمل الشبكة في مجال تدريب الكوادر العاملة في المنظمات العربية وتسعى إلى تأمين الموارد وتبادل المعلومات، وهناك شبكة المنظمات العربية غير الحكومية للتنمية وهي شبكة تضم في عضويتها 35 شبكة وطنية ومنظمة غير حكومية في 12 دولة عربية، وتعمل في مجالات التنمية الاجتماعية والبيئة والمرأة وحقوق الإنسان. وقد تهدف هذه الشبكات إلى القيام بتنظيم حملات الضغط والتأثير في السياسات العامة ككل أو في ميادين محددة، كالتأثير مثلاً في بعض القوانين، فضلاً عن تنمية قدرات أعضائها وتمكينهم من خلال رفع تدريبهم في مجالات معينة. إن مكمن الخطر في هذا الإطار يتمثل في الصلات المشبوهة لعدة شبكات ومنظمات مدنية عربية مع فروع أجنبية خاصة ما تعلق بالتمويل. ففي مصر مثلاً، أظهر تقرير لجنة تقصي الحقائق حول تمويل منظمات المجتمع المدني، تلقي العديد منها تمويلاً أجنبيًا كمركز دراسات حقوق الإنسان الذي أسسه مجموعة من شباب حركة 6 أبريل المثيرة للجدل، الذي تلقى مبلغًا يفوق ربع مليون دولار أمريكي (262 ألف دولار) كتمويل من مؤسسة فريدم هاوس ومبادرة الشراكة الشرق أوسطية وهيأة الوقفية الأمريكية. كما أعلنت وكالة أنباء أمريكا إن أرابيك America inarabic، أن التقرير المالي السنوي للوقف القومي الأمريكي، كشف عن قيامه بتمويل عدد من كبار المنظمات السياسية العاملة في مصر. ويعد المعهد الديمقراطي الأمريكي من أخطر المنظمات غير الحكومية التي كانت تعمل في مصر وفي كثير من دول الشرق الأوسط.

الدور المشبوه للمنظمات غير الحكومية الغربية في دول الشرق الأوسط

بعد أحداث ما سمي "الربيع العربي"، سُلّطت أضواء إضافية على المنظمات غير الحكومية في المنطقة العربية. ومع بروز دور هذه المنظمات على الساحة السياسية، حيث انتقلت من تقديم خدمات للمجتمع، مثل مكافحة الفقر وإقامة مشروعات خدمية وتنموية لفئات مختلفة في المجتمع، إلى دائرة الصراع السياسي. فيما قُوبلت كثير من أنشطتها بالثناء والإشادة في مجالات الإغاثة والعون الإنساني، انفتحت في المقابل صفحات نقد هذه المنظمات، من وجوه عديدة. وأمام الثناء الذي ساد فترة مديدة، تزايدت الشكوك والمخاوف من الدور السياسي والأمني لكثير من هذه المنظمات.
إن أجندة كثير من المنظمات غير الحكومية الغربية في الدول العربية (وحتى منظمات المجتمع المدني العربية ذات الارتباطات بالمنظمات غير الحكومية الغربية)، إن لم يكن أغلبها، تصدر في الواقع عن الغايات التي يريدها الممولون الدوليون وشروط الكثير من الدول ومصالحها. ولا يخفى على أحد أن هذه المنظمات تتأثر بالجهات الممولة التي تفرض عليها إتباع سياساتها و أيدلوجيتها و خدمة مصالحها. قد ثبت تلقي الكثير من هذه المنظمات أموالا من جهات أمنية بهدف زعزعة الاستقرار في الكثير من الدول العربية وفي بعض الحالات حتى اللجوء إلى العنف والتخريب. كما أظهرت العديد من التحريات والتي بثت في أفلام وثائقية، إخضاع شباب عرب لدورات حول العمل الجماعي المنظم في بدايات ما يسمى الربيع العربي.
وحتى في البحث عن شيء من الموضوعية والحياد، يلاحظ جليًا أن الصورة العامة لدور المنظمات غير الحكومية في المنطقة العربية واجهت منذ العام 2011م، خصوصًا اهتزازات، رغم أن هناك الكثير من المنظمات غير الحكومية التي تعمل لأهداف إنسانية نبيلة وتؤدي دورًا في التنمية، لكن قد يكون العقد الأخير شهد توظيفً مشكوكًا فيه لمنظمات غير حكومية جرى تأسيسها لتعمل لمصالح سياسية وأمنية خارجية، ولتُصدر تقارير معينة تدين هذه الدولة أو تلك، وتوجه الاتهامات إليها.
وحتى بعض المنظمات التي تدعي عدم قبولها تمويلاً سياسيًا، فمنظمة العفو الدولية مثلا التي لا تقبل أي أموال من الحكومات أو الأحزاب السياسية، ولكن تقارير هذه المنظمة يتم توظيفها واستثمارها من قوى ودول معينة.
ومن اللافت للنظر أنه يجري في وقت من الأوقات ما يشبه هجوماً منظماً وكثيفاً من عشرات المنظمات غير الحكومية على بلد ما، والترويج لاتهامات معينة عبر حملات هائلة للإعلام بكل وسائله، ثم تصمت هذه الحملات فجأة أو تخف وتيرتها، إلى أن يُعاد إحياؤها وفق إيقاع منضبط يصعب معه افتراض أن ذلك يحدث بالصدفة. هذا فضلاً عن أن وسائل الإعلام تقوم بالتركيز على بعض تقارير تلك المنظمات، وتغفل تقارير أخرى بشكل انتقائي، لأسباب لا تخفى على أحد. ويبدو أن التمويل هو كلمة السر وراء مثل هذه المنظمات.
إن الأحداث المتواترة التي تشهدها دول الشرق الأوسط، تتطلب تسليط الأضواء أكثر على الجوانب السياسية والأمنية لدور المنظمات غير الحكومية الغربية في هذه البلدان. وفي الواقع، يصعب وضع حدود فاصلة بين ما هو إنساني إغاثي نزيه، وبين ما يمكن أن يُعد دورًا سياسًيا أو أمنيا. ولكن البحث في هذه المسألة يبقى في حدود منطقة رمادية لا تخلو من الغموض واللبس، خاصة وأن المعلومات في هذا المجال شحيحة حينا، ومعدومة في أحيان كثيرة، نظرًا لحساسية المسألة وطبيعتها.
تجدر الإشارة إلى أن الإشارات إلى الدور السياسي والأمني للمنظمات غير الحكومية تأتي من أوساط متباينة، وليس فقط من أطراف ذات دوافع سياسية. ومن ذلك، ما أكده الباحث المتخصص البروفيسور وليام ديمارس (DemMars, 2010) في دراسة له نشرت في دورية "الاستخبارات والاستخبارات المضادة (International Journal of Intelligence and CounterIntelligence) أن التعاون بين المنظمات غير الحكومية والأجهزة الاستخباراتية الأمريكية له تاريخ طويل من التطور، فمنذ تأسيس وكالة الاستخبارات المركزية عام 1942م، قامت ببناء خطوط اتصال مع عدد كبير من المؤسسات الأمريكية خارج البلاد، من ضمنها المؤسسات التجارية أو الكنائس أو المؤسسات الإعلامية والمؤسسات الرعائية و الخدماتية. بعض تلك الخطوط تمت الاستفادة منها لتمويل بعض المؤسسات بشكل سري. وتلك المؤسسات كانت تدعم وتمول المنظمات غير الحكومية. حركة هذه المؤسسات تمت الاستفادة منها في جمع المعلومات الاستخباراتية، وكذلك شكلت جزءً امن البنية التحتية للأفراد الذين يمكن تجنيدهم للعمل السري.
في هذا السياق لعل أكثر البرامج جلبًا للشبهة في الدول العربية، هي تلك المرتبطة بالأنشطة السياسية والإعلامية والاجتماعية وحقوق الأقليات، فالتمويل هنا ذو طابع سياسي، وله دلالته، وقد يُوظف في سياق
الصراع الثقافي والحضاري، وممارسة الضغوط السياسية والثقافية. وقد يتعدى الأمر إلى الطلب من الجهات المتلقية اتخاذ مواقف وإدانة أحداث تطرأ، أو التنديد بقوانين أو سياسات لا تنسجم مع سياسات الدول المانحة.
من هذا المنطلق، تواجه المنظمات غير الحكومية الغربية و توابعها من منظمات المجتمع المدني في الدول العربية اتهامات من الحكومات في المنطقة العربية، أولها يرتبط بدورها في تهديد الأمن القومي، و ثانيها يتمثل في خرقها منظومة اللوائح والقوانين المطبقة في بعض هذه الدول بخصوص أسلوب وماهية عمل هذه المنظمات، و يتجلى ذلك بوضوح في حالة المملكة العربية السعودية التي قامت سلطاتها بإغلاق 20 جمعية تعمل تحت غطاء خيري في المنطقة الشرقية في منتصف نوفمبر 2014م، و هي فترة تم خلالها محاولة استهداف المملكة من خلال إثارة الاضطرابات في هذه المنطقة من طرف جهات معلومة. وثالثها يتصل بغسيل الأموال، ورابعها ينصرف إلى أنها تسيء للسمعة والصورة الدولية للدولة التي تتدخل فيها هذه المنظمات. ولعل الهجمات الإعلامية والتركيز على دول في حد ذاتها لا يخفى على أحد والتي لم تسلم منه حتى دول الخليج العربي، مثل الحملات العديدة التي تتعرض لها المملكة العربية السعودية في كثير من الأحيان من طرف العديد من المنظمات التي تستهدف القيم الاجتماعية والثقافية للمملكة، تحت ذرائع الدفاع عن حقوق الإنسان مع التركيز على حقوق المرأة.
كخلاصة، يمكن الاستنتاج أن تعاظم الدور السياسي والأمني السلبي للمنظمات غير الحكومية في المنطقة العربية أضحى سمة سائدة في التقويم العام لدور تلك المنظمات، التي رغم بعض الأدوار الإيجابية لبعضها في المجالات التنموية والخيرية. إلا أن عدم توجه الكثير من هذه المنظمات لمخاطبة المصالح الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية للمجتمعات العربية و طغيان انعكاسات الدور السياسي والدور الأمني لها، في اتجاهات متعددة، من أهمها المساس بسيادة الدولة، والمسّ ببعض الحقوق يتطلب ضرورة أن تتوخى الأجهزة الرسمية في الدول العربية والرأي العام الدقة والحذر في النظر للدور السياسي والأمني السلبي لهذه المنظمات، خاصة فيما يتعلق بالروابط بين بعض هذه المنظمات والسياسات الخارجية لبعض القوى الكبرى مع التركيز على دور التمويل على وجه خاص في حرف دور المنظمات غير الحكومية في المنطقة العربية عن اتجاهاته المطلوبة، وباتجاه تحقيق أغراض سياسية وأمنية لأطراف خارجية في كثير من الأحيان.

 

مجلة آراء حول الخليج