; logged out
الرئيسية / دبلوماسية المنظمات الإقليمية: النجاح والإخفاق

العدد 143

دبلوماسية المنظمات الإقليمية: النجاح والإخفاق

الأربعاء، 06 تشرين2/نوفمبر 2019

تُصَنِّف الدراسات السياسية مسائل التعاون الإقليمي، وأطر التنظيم العابر للحدود القُطْرِيَّة، والتكامل الجماعي، على أنها تطورات على طول سلسلة متصلة في مراحل التعقيد المتزايد للعلاقات الدولية. وفي المراحل المبكرة للدبلوماسية الإقليمية، تبدو عمليات التحرك الجماعي فيها كمكمل لأنشطة الروابط الثنائية الرسمية، فهي ليست سوى جزء، أو امتداد، لمثل هذه العلاقات القائمة بين الدول ذات السيادة، التي هي في سلام مع بعضها البعض. والفكرة الإقليمية مستمدة من الإدراك المشترك للاعتماد المتبادل، والحاجة إلى التآزر بزيادة التقارب بالدرجة، التي يصبح فيها التشاور والتعاون، الذي يخدم المصالح المشتركة، كجزء من العلاقات الطبيعية بين الدول. وعادة ما تجري هذه العلاقات داخل منظومة تكاملية متعددة الأطراف، وتخضع لأنماط وسلوك الدبلوماسية التقليدية، كما تمارسها الدول المعنية. وفي المراحل المتقدمة، التي تبدأ بالنقل الفعال للعديد من الوظائف والسلطات من الحكومات الأعضاء إلى هيآت صنع القرار الإقليمية، تتوقف عمليات التبادل الثنائي تدريجيًا لتشكل جزءًا من العلاقات الطبيعية الكلية بين الدول، ولن تعد خاضعة لممارسات الدبلوماسية التقليدية. غير أن تكامل السياسات هذا يعتمد اعتمادًا كبيرًا على درجة نقل الصلاحيات من المستوى الثنائي إلى الجماعي، كما يعتمد نجاح، أو فشل، هذه العمليات على الهياكل والقرارات البيروقراطية على المستوى الإقليمي بنفس الطريقة، التي تعتمد بها العمليات المماثلة على المستوى الخاص داخل مؤسسات الدولة المحلية.

إن واحدة من أهم وظائف العمل التكاملي، الذي ينبغي أن يتقدم أهداف المنظمات الإقليمية في الواقع العربي، هو التفاعل مع القضايا العربية الكبرى والمشكلات، التي واجهت المنطقة، في ماضيها القريب وراهنها الماثل، وهل قدمت هذه المنظمات ما تستطيع، أم كان يُمكن أن تقدم الأفضل والأكثر؟ وإذا جاز لنا أن نُضيف سؤالاً آخر يستفسر عن النجاح والإخفاق، وما هي ترجيحاتهما؟ وفي كلتا الحالتين، يمكننا أن ننظر في الأسباب، التي تقف خلف كل منهما؛ فإذا كان نجاحًا كيف يمكن تعظيمه، وإذا كان إخفاقًا كيف نتمكن من تجاوزه. وعلينا أن نستصحب في معالجاتنا موقف مؤسسات المجتمع المدني المحلية والأجنبية من قضايا المنطقة الحقيقية، ومدى مساهمتها في تقديم الحلول الواقعية لمعضلاتها؛ بعيدًا عن الأجندات السالبة، أو تعمد الإضرار بدول المنطقة عبر ذرائع أصاب مثل خطئها وخطلها دولاً عربية بدمار ماحق، كَفِرْيَة أسلحة الدمار الشامل في العراق.

المنهج:

يقدم هذا المقال، ويستعرض بشكل أساس، تطور ونُظُم المنظمات الإقليمية، ودون الإقليمية، الرئيسة العاملة حاليًا في الوطن العربي، آخذًا في الاعتبار أن بعض وجهات النظر التحليلية، التي سلطت الضوء على ضعف أدائها في هذه المنطقة، قد عرضت السمات المؤسسية الرئيسة لهذه المنظمات، بما في ذلك الجامعة العربية، ومجلس التعاون لدول الخليج العربية، ومجلس التعاون العربي، واتحاد المغرب العربي، قبل التوجه لاستكشاف أنشطتها من زوايا مختلفة، مع التركيز على فعاليتها ودورها، وتأثير التداخل المؤسسي بين هذه المؤسسات، وبينها وبين المنظمات القارية؛ مثل الاتحاد الإفريقي، وتلك العابرة للهويات اللغوية والثقافية والجهوية؛ مثل منظمة التعاون الإسلامي والشراكة العربية الأورو-متوسطية والهيأة الحكومية للتنمية "الإيقاد، وكيف أثرت الصراعات، والثورات، ما سُمى بالانتفاضات/الثورات، على الهيكل المؤسسي للعالم العربي.

والمعروف أن المنطقة العربية تُعد موطنًا لأقدم منظمة إقليمية، ومع ذلك واحدة من المناطق، التي ناضلت أكثر من غيرها في العالم، لإيجاد تعاون فعال بين دولها في جميع المجالات، فقد أثبتت أنها تمثل حقل اختبار مثير للاهتمام، ومعقد للغاية، كنموذج للتعاون الإقليمي. غير أن دراسة المنظومة الإقليمية في الوطن العربي تعني، أولاً وقبل كل شيء، مواجهة معضلة بنيوية أساسية. فمن ناحية، يبدو أن المنطقة توفر أرضية صلبة لتوليد عمليات كثيفة من أسس التكامل الإقليمي؛ ثقافيًا، يتحدث الجميع تقريبًا من سكان هذه المنطقة لغة واحدة هي العربية، بلهجات مفهومة بشكل متبادل، وتتشارك الغالبية العظمى في الالتزام بالإسلام. وتاريخيًا، خلال الجزء الأكبر من القرون الأربعة عشر الماضية، كانت المنطقة موحدة تحت إمبراطوريات كبيرة، ساهمت هي الأخرى في تقارب رؤيتهم للعالم.

وفي الواقع، تم رسم معظم الحدود الحالية بين دول المنطقة كنتيجة للخلافات الاستعمارية، وغالبًا ما سبقت هذه الحدود إنشاء الهويات الوطنية المميزة، بدلاً من أن تكون تابعة لها. ومع ذلك، يوصف الوطن العربي غالبًا بأنه منطقة خالية من روح السياقات الإقليمية، التي ميزت غيره من الأقاليم، ويفتقر إلى مؤسسات تكاملية قوية على مستوى الفعل. ويجدر بنا، قبل الانتقال إلى تحليل موضوعي أكثر تحديدًا للأسئلة والمشكلات، التي تثيرها المشاريع الإقليمية في الوطن العربي المعاصر، من المهم النظر إلى أنواع المنظمات الإقليمية الموجودة في المنطقة، وبنيتها المؤسسية، ومجالات نشاطها المرسوم في وثائقها المُؤَسِّسَة لها.

نظرة عامة:

رغم أن جامعة الدول العربية هي أقدم منظمة إقليمية، لكنها تبدو واحدة من أضعفها في إنفاذ الإجراءات التكاملية، أو إيقاع سلطة العقاب عندما تتبدى الخلافات بين بلدانها. فقد أثبتت في كثير من الأحيان أنها غير قادرة على لعب دور مركزي عندما تنشأ أزمة سياسية، أو عسكرية، أو اقتصادية كبرى. ومن هنا يمكن القول إن بناء المؤسسات في الوطن العربي يواجه مجموعة متنوعة من التحديات، اثنان منهما لهما أهمية خاصة. يتعلق الأول بالعلاقة بين التكامل الإقليمي وبناء الدولة، إذ كانت النخب السياسية في الدول الحديثة، التي تشكلت من تفتيت الإمبراطورية العثمانية ممزقة بين الحاجة إلى الوحدة القومية، والرغبة، أحيانًا، في الكيان الوطني، لتأكيد استقلالها.

والحقيقة أن معظم، إن لم يكن جميع، هذه الدول الجديدة، لم تستطع الاعتماد على هويات "وطنية" قوية غير القومية العربية. لذلك، تم وصف إنشاء جامعة الدول العربية، في عام 1945م، على أنه محاولة من جانب هذه النخب للالتزام علنًا بأجندة عربية مشتركة، بينما كانوا يعملون في الوقت نفسه على تقويض فعالية هذه المنظمات في جميع الجوانب، التي يمكن أن يكون لها اشتباك مع المصالح الوطنية للدول، التي شُكلت حديثًا. وعلى الرغم من إطارها الطموح، فقد تم تصميم جامعة الدول العربية منذ البداية لتواجه مصير الفشل الجوهري للوحدة العربية، الذي يوصف أحيانًا بأنه أكبر، على نحو ما، من مجرد أيديولوجية للمناورة بين الدول المؤسسة لها. ويسلط هذا الزعم الضوء على التفاعل المعقد بين بناء الدولة، وبناء المؤسسات الإقليمية، وما يترتب على ذلك من تأثيرات على بنية المنظمات غير الحكومية. وهذا تطور مختلف عما حدث في العالم الغربي، حيث يميل تشكيل "الدولة/الأمة" إلى أن يحدث بالتوازي مع تطور المؤسسات الإقليمية، بدلاً من أن يكون دائمًا شرطًا أساسيًا لذلك التطور.

وحتى في ظل وجود الإرادة السياسية، فإن تشكيل هيآت إقليمية قوية في الوطن العربي سيظل غير مرجح في غياب حوافز اقتصادية كبيرة للتكامل الإقليمي. إذ أن انخفاض مستوى التبادل الاقتصادي داخل المنطقة له جذوره المؤثرة في انخفاض درجة التكامل بين اقتصاداتها. وهذا هو سبب أن معظم الصادرات؛ مثل النفط، تباع إلى دول خارج المنطقة، حيث تستورد الدول العربية أيضًا المنتجات؛ مثل السلع الاستهلاكية والآلات الصناعية، التي لم، أو لا، تُنتج محليًا؛ ومن خلال تقليل جاذبية منطقة التجارة الحرة العربية، أو الاتحاد الاقتصادي. لذا، كان التكامل المنخفض عاملاً فعالاً في تثبيط دول المنطقة عن تطوير أشكال قوية من التعاون الاقتصادي، التي كان يمكن أن تمتد بعد ذلك إلى مزيد من التعاون في المجالين السياسي والأمني، أو ما يهم هنا فيما يعرف باسم المسار "الوظيفي" نحو التكامل الاستراتيجي.

علاوة على ذلك، عندما تم التفاوض في نهاية المطاف على اتفاقات التجارة الإقليمية، كان تأثيرها دون مستوى التوقعات، وكان ذلك بشكل أساس لأنها لم تواكبها جهود كبيرة في تحسين تنويع الصادرات من قبل دولها الأعضاء، مما يساعد بدوره في توضيح سبب التجارة، بينما أثبتت الروابط الاقتصادية مع آسيا وأوروبا وأمريكا أنها واعدة أكثر. على هذا النحو، لم تكن التجارة قوة موحدة للوطن العربي، في حين أن لديها القدرة على تشجيع التكوينات الإقليمية البديلة.

فإذا كانت الجامعة العربية تُمثل أقدم هذه المشاريع، هي أيضًا المنظمة الوحيدة، التي توصف عادة بأنها "إقليمية" بالكامل. فمنذ الثمانينيات من القرن الماضي، قام أعضاء من الجامعة بتطوير مشاريع متعددة الأطراف على المستوى دون الإقليمي. بالتوازي مع كليهما؛ بل سابق لها، تم إنشاء أطر التعاون "المختلطة" بدءًا من الستينيات، حيث يلعب بعضها؛ مثل إطار التعاون الأورو-متوسطي، ومجلس التعاون لدول الخليج العربية، دورًا مهمًا في السياسة الإقليمية اليوم.

بيت العرب:

لقد جرت المناداة بِفكرة إنشاء "مخطط"، أو "رابطة"، بين الدول العربية مرارًا وتكرارًا خلال الحرب العالمية الثانية من قبل بعض الحكومات في المنطقة؛ وأبرزها العراق عبر دعوات وزير الخارجية نوري سعيد، ومشاطرة نشطة من وزارة الخارجية البريطانية. وبدأت هذه الخطط تتشكل في العامين الأخيرين من الصراع العالمي، في المقام الأول في ضوء رغبة مختلف الدول العربية في توحيد صفوفها ضد نظام الانتداب الأوروبي؛ من سوريا، إلى لبنان، إلى فلسطين، ومحاولة مصر لكسب موقع أكثر مركزية في النظام الإقليمي العربي؛ كان، وما يزال.

وتقول سيرة الجامعة العربية أن الاجتماع العربي الأول، الذي عُقد في سبتمبر 1944م، نتج عنه اعتماد بروتوكول الإسكندرية، الذي وضع خطة للتوقيع النهائي لميثاق الجامعة في القاهرة، في مارس 1945م، من قبل حكومات سوريا وشرق الأردن والعراق والسعودية ولبنان ومصر واليمن. وتشير كلتا الوثيقتين إلى رغبة الموقعين في تعزيز "العلاقات الوثيقة والعلاقات العديدة، التي تربط الدول العربية"، والعمل نحو "رفاهية جميع الدول العربية" و"تحقيق تطلعاتهم". وسجل أيضًا إحجام الموقّعين عن نقل صلاحيات كبيرة إلى المنظمة نفسها، إذ ينص كلاهما على المبدأ الأساس؛ المتضمن في الميثاق، في المادة 7، بأن قرارات الهيأة التنفيذية الرئيسة للمنظمة ستكون ملزمة فقط للأعضاء الذين يقبلونها. من بين أعضائها السبعة الأصليين، توسعت جامعة الدول العربية في النهاية لتشمل 22 دولة. ومع مرور الوقت، تمت دعوة العديد من الدول الأخرى للمشاركة كمراقبين في جلساتها.

في الواقع، حتى لو اعتبر البعض بروتوكول الإسكندرية مجرد خطوة أولى نحو اتحاد لا يزال أقرب إلى الأمل، في الأشهر الستة، التي فصلت الوثيقتين، تقلص نطاق هذه المنظمة أكثر في تصور بعض التحديات والتحديدات الهامة. على سبيل المثال، تضمن الميثاق بيانًا قويًا يعترف فيه "باحترام استقلال وسيادة" الدول الأعضاء فيه، وفي المادة 8، أن "أنظمة الحكم المنشأة في الدول الأعضاء الأخرى" هي "اهتمامات خاصة لتلك الدول". وأثناء إزالة البند المذكور في البروتوكول، والذي منع الموقعين من متابعة "سياسة خارجية يمكن أن تكون ضارة بسياسة الجامعة، أو أي دولة من الدول الأعضاء فيها"، لأن واقع الحال؛ كان، وما يزال، يكذب هذه الرؤية الجامعة، والنوايا الوحدوية.

لقد كانت المنظمة، التي أنشأها الميثاق، مؤسسة حكومية بحتة؛ مع تركيز قوي على الإجماع، وهي نتيجة تم وصفها عن حق بأنها "أكثر قليلاً من القواسم المشتركة لرغبات دولها الأعضاء". ويتركز هيكلها المؤسسي الداخلي حول مجلس جامعة الدول العربية، الهيأة التنفيذية الرئيسة، حيث يكون لكل دولة عضو مقعد واحد، وتجتمع مرتين على الأقل سنويًا، أو في كثير من الأحيان إذا كانت اجتماعات الطوارئ مطلوبة. كما نص الميثاق على إنشاء لجان، وأمانة يرأسها أمين عام، وأن يكون مقر الأمانة العامة في العاصمة المصرية القاهرة، الذي انتقلت منه إلى تونس بُعيد اتفاقية "كامب ديفيد"، ثم عادت إليه بعد عقد من الزمان.

ويعلم المتابعون أنه، مع مرور الوقت، أُضيفت العديد من الأجهزة إلى هذا الهيكل العَظْمِي المؤسسي الأول. فيما منحت معاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي، لعام 1950م، الجامعة مجلسين آخرين؛ مجلس الدفاع المشترك ومجلس اقتصادي، أعيدت تسميته لاحقًا باسم المجلس الاقتصادي والاجتماعي، ويقدم المجلسان تقاريرهما إلى مجلس الجامعة. وقد أسست قمة جامعة الدول العربية لعام 2001م، برلمانًا عربيًا، انعقد لأول مرة في عام 2004م، ومنذ ستينيات القرن العشرين، أصبحت ممارسة استدعاء مؤتمرات القمة العربية راسخة، في البداية على فترات غير منتظمة، وفي الآونة الأخيرة، على أساس سنوي. وعُقدت هذه القمم في بلدان عربية مختلفة، وعادة ما يحضرها رؤساء الدول العربية، في حين أن الاجتماعات المقررة لمجلس الجامعة عادة ما يكون بها وزراء الخارجية والمندوبين الدائمين، وتشكل هذه القمم الآن أبرز الأحداث المرتبطة بأنشطة الجامعة المؤسسية.

وعلى غرار نِظام الأمم المتحدة، تمتلك جامعة الدول العربية هيآت وأجهزة خاصة بها، والعديد من الوكالات والأنظمة المتخصصة. على سبيل المثال، وضع اتفاق الوحدة الاقتصادية، لعام 1957م، بين دول الجامعة الأسس لإنشاء مجلس الوحدة الاقتصادية العربية؛ كما مهدت اتفاقيات التجارة الحرة، التي يسّرها المجلس الاقتصادي والاجتماعي، في عامي 1981 و1997م، الطريق لتطوير منطقة تجارة حرة عربية أكبر. وفي عام 1970م، أنشأ ميثاق الوحدة الثقافية العربية منظمة جامعة الدول العربية للتربية والثقافة والعلوم "ألكسو"، وهي منظمة عربية مكافئة لليونسكو. وجرى التوقيع على ميثاق عربي لحقوق الإنسان في عام 2004م، ودخل حيز التنفيذ في عام 2008م.

المنظمات دون الإقليمية:

شهد عقد السبعينات من القرن الماضي، مع تزايد نفوذ الولايات المتحدة، وتغيير النظام في إيران والعراق، تحولات نوعية داخل المنطقة، وشجع عمليات تنظيمية يمكن وصفها بأنها محاولات لبناء المؤسسات التصحيحية، خاصة في دول الخليج الغنية بالنفط، التي صارت تمتلك الكثير من مصادر القوة.  ففي هذه المرحلة، تم إنشاء ترتيبات مؤسسية دون إقليمية أصغر بهدف ضمان؛ على الأقل، بعض الأهداف الأصلية المرتبطة بالمشروع الوحدوي العربي. وبدأت معظم هذه المشروعات الأصغر بتركيز واضح على التعاون الاقتصادي، مع ترك الباب مفتوحًا لاحتمال تطوير تعاون سياسي وعسكري أوسع كلما تقدمت خطوات التوافق الجماعي.

ومن أبرز هذه المبادرات دون الإقليمية، كما وردت الإشارة عاليه، مجلس التعاون لدول الخليج العربية، الذي تأسس في عام 1981م، من قبل ست دول خليجية، هي المملكة العربية السعودية، والكويت، والبحرين، وقطر، والإمارات العربية المتحدة، وسلطنة عمان، والذي يهدف، وفقًا لديباجة ميثاقه، إلى "تفعيل التنسيق والتكامل والربط البيني" بين أعضائه. "في جميع المجالات"، خاصة وأن دول الخليج تشترك في عدد كبير من السمات التاريخية المشتركة، التي ساعدت على الجمع بينها. وقد ارتبط توقيت تشكيل هذا المجلس بحدثين، هما؛ الثورة الإيرانية 1978-1979م، التي تلتها الحرب بين إيران والعراق، والتي بدأت في عام 1980م، وشعرت معهما دول الخليج بضرورة التقارب والتآزر والارتباط معًا في تشكيل جديد وفاعل.

لقد ابتدرت دول مجلس التعاون العديد من المشاريع المهمة، بدأت من الناحية الاقتصادية بتأسيس سوق مشتركة؛ من خلال التوقيع في عام 1981م، على اتفاقية اقتصادية موحدة طموحة. وفي عام 1984م، جرى تطوير قوة دفاعية مشتركة باسم "درع الجزيرة" بقيادة السعودية، وزُودت بقوة بشرية من حوالي 7000 جندي، وهي رغم رمزيتها كمبادرة، لكنها جديدة وفريدة من نوعها في المنطقة. كما تواصلت مناقشة اتفاقية الأمن الداخلي منذ عام 1982م، لكنها واجهت معارضة بعض الدول الأعضاء في ذلك الحين، إلا أنه تم التوقيع عليها في نهاية المطاف في عام 2012م، بعد بداية ما سُمي بالربيع العربي.

وإلى جانب مجلس التعاون لدول الخليج العربية، أُنْشئت، في فبراير 1989م، منظمتان دون إقليميتين. إذ أعلنت مصر والعراق والأردن واليمن الشمالي، في 16 فبراير من ذلك العام، في بغداد، عن تشكيل مجلس التعاون العربي، وفي اليوم التالي، وقعت الجزائر وليبيا وموريتانيا والمغرب وتونس، في مراكش، معاهدة الاتحاد التأسيسي للمغرب العربي، أو اتحاد المغرب العربي. كان لدى كلتا المنظمتين جداول أعمال اقتصادية في المقام الأول، واستوحت إنشائها من السجل الحافل المشجع لتجربة دول مجلس التعاون الخليجي في بداية الثمانينيات. إلا أن ميثاق لجنة التنسيق الإدارية لمجلس التعاون العربي انتهى في عام 1991م، بعد فترة وجيزة من أزمة الخليج 1990-1991م، دون تسجيل أي إنجاز يُذكر. أما بالنسبة إلى اتحاد المغرب العربي، فإن الحماس السياسي، الذي أدى إلى تأسيسه، مستمد من التقارب بين المغرب والجزائر في عام 1988م، والذي أدى بدوره إلى التخفيف المؤقت للتوترات بين البلدين حول الصحراء الغربية. ومع ذلك، نظرًا لأن التجارة البينية المغاربية لم تتجاوز 3٪ فقط من إجمالي التجارة بين دولها الأعضاء، كانت قواعدها الاقتصادية هشة للغاية، مما دفعها إلى تطوير مبادرات جديدة للتعاون السياسي والاقتصادي مع الاتحاد الأوروبي عبر البحر المتوسط ​​منذ منتصف التسعينيات؛ من خلال إطار التعاون الرسمي المعروف باسم عملية برشلونة. وفي عام م1995، بعد ستة اجتماعات فقط، دعا المغرب إلى تعليق أنشطته. وكانت هناك بعض المحاولات لتنشيطه، منذ عام 2012م، لكنها لم تنجح حتى الآن.

إن الطبيعة الحصرية والثابتة للمشروعات دون الإقليمية؛ مع استثناءات قليلة، قد أوجدت ميزة جديدة في منطقة تتمتع فيها المشاريع ذات الطموحات الإقليمية بغموض، وسوء تعيين للحدود، أدت إلى تداخل أقاليمي كبير. وعلى وجه الخصوص، تحمل مجلس التعاون الخليجي مسؤولية حصرية متزايدة بشأن شؤون الخليج، أدت، في رأي الكثيرين، إلى تهميش دور جامعة الدول العربية في هذه المنطقة شديدة الحيوية، على الرغم من المكانة الرسمية للجامعة كهيأة إقليمية مسؤولة عن العالم العربي بأسره. وبصرف النظر عن بناء المؤسسات العربية الإقليمية، وتطوير الهيآت دون الإقليمية منذ الثمانينات، شارك الوطن العربي أيضًا في مشاريع تعاون أخرى، تجاوزت حدوده الجغرافية إلى مشتركات حضارية أخرى.

لقد تمحورت بعض المشاريع والمنتديات حول توحيد الهويات في مركب حضاري بخلاف الفكرة العرقية اللغوية "العروبة". والمثال الرئيس لهذه المشاريع هو منظمة التعاون الإسلامي، التي كانت تُسمى حتى عام 2011م، منظمة المؤتمر الإسلامي، والتي تأسست عام 1969م، انفعالاً واستجابةً مُجدية للهجوم الإسرائيلي المتعمد، الذي نتج عنه حرق المسجد الأقصى في القدس الشريف. وقد نُظر إلى المنظمة كمنتدى تعاون إسلامي، لم يضم الأعضاء الــ 22 المؤسسين لجامعة الدول العربية فقط، ولكن أيضًا تركيا وإيران، ومجموعة متنوعة من الدول الإسلامية الأخرى؛ من غرب إفريقيا، مثل السنغال والنيجر، إلى آسيا، بما في ذلك باكستان وأفغانستان وماليزيا وإندونيسيا. وجعلت منظمة المؤتمر الإسلامي، التي يقع مقرها الرئيس في جدة، القضية الفلسطينية محور تركيز عملها الرئيس، ولكنها توفر أحيانًا منبرًا لمبادرات متعددة الأطراف بارزة أخرى، بما في ذلك اعتماد اتفاقيات حول حقوق الإنسان وقضايا الأمن، وحتى تصورات البنيات التحتية. بينما ركزت مشاريع أخرى على الهويات الجغرافية البديلة لتلك المحددة في التكوين دون الإقليمي.

الواقع والمأمول:

لقد ظل محور النقاش الرئيس حول المؤسسات الإقليمية، التي على الرغم من الانتشار المؤسسي، الذي شهدناه في المنطقة، خاصة منذ الثمانينيات، فإن السؤال الأكثر تكرارًا وإلحاحًا هو: ما إذا كانت أطر التعاون الإقليمي هذه مهمة حقًا، أم لا؟ وقطعًا لا يمكن تصور إجابة مقفولة على هذا السؤال بـ "نعمٍ"، أو "لا". إذ تتعلق القضايا الرئيسة في هذا النقاش بتحديد خطوط أساسية؛ داخلية وخارجية، صالحة لتقييم "فعالية" مبادرات هذه المنظمات، وصعوبة التمييز بين المبادرات، التي تحركها المنظمات وتلك، التي تقودها الدول منفردة.

إن هذا النقاش قديم قدم جامعة الدول العربية نفسها، ولكنه تطور تدريجيًا من التركيز بشكل ضيق من مسألة الفعالية إلى استكشاف أدوار، أو أغراض، هذه المنظمات الإقليمية على نطاق أوسع. غير أنه من المؤكد أن النقاش حول "نجاح"، أو "إخفاق"، هذه المنظمات في الوطن العربي مثير للاهتمام، ليس أقله تضارب البحث الأكاديمي عن معادلات دلالة "النجاح والإخفاق" اللغوية، التي لها تأثير على تكييفات العلماء والسياسيين على حد سواء، الذين يرغبون في تحديد موقع هذه المنظمات الإقليمية ضمن إطار مقارن. ومع ذلك، وبغض النظر عن الحدس الفوري، والمفهوم إلى حد كبير، الذي لم تظهر فيه أي منظمة إقليمية في الوطن العربي، حتى الآن، إنجازات ملحوظة، فإن أي محاولة لتقديم تقييم أكثر انتظامًا لـ "فعاليتها" سيواجه بطبيعة الحال بعددٍ من العقبات، تقوض البحث عن أي استنتاج، أو مقاربة مُقْنِعَة. 

لهذا، فمن غير الواضح ما إذا كانت منظمات؛ مثل، الجامعة العربية، أو مجلس التعاون الخليجي، أو حتى، على نطاق أوسع، هيآت أخرى؛ مثل، منظمة الوحدة الإفريقية، أو الاتحاد الإفريقي الآن، يجب أن تُحاسب حقًا على الأهداف المحددة في مواثيقها الأساسية، التي هي مفتوحة على مجموعة متنوعة من التفسيرات والتأويلات. على سبيل المثال، لم تنجح جامعة الدول العربية في إنشاء عالم عربي حصري، مكتفٍ ذاتيًا، كما حاجج بعض النقاد. ومع ذلك، يشير مراقبون آخرون إلى بعض النجاحات، التي حققتها الجامعة، مع التركيز على الزيادة الكبيرة في عضويتها العاملة والمُرَاقِبَة. ويُعظِمون دورها في تعزيز ارتباط الدول العربية بفكرة الوحدة العربية، ومما لا شك فيه أن الجامعة وأعضاءها أظهروا على الدوام تضامنهم المستمر مع القضية الفلسطينية، ولم يختلفوا كثيرًا حول القضايا القومية المصيرية.

وفي الأعوام الأخيرة، بدأ نقاش وثيق الصلة بما تقدم، ولكنه متميز من الناحية المفاهيمية، وأكثر جدوى، يدعو إلى تقييم أكثر دقة للوظائف، أو أدوار، الترتيبات الإقليمية في الوطن العربي. وهذا النهج الجديد في النقاش، يرفض فرضيات البحث، الذي تناولها الباحثون، الذين استفسروا عن فعالية المنظمات الإقليمية في الوطن العربي من خلال سؤالهم، ليس عما إذا كانت ناجحة، أو غير ناجحة، بل عن سبب أدائها بالطريقة، التي قامت بها. فالإجابة المعتادة، التي أرادوها على هذا السؤال، هي أن معظم هذه المنظمات لا تعمل بالطريقة الصحيحة، لمجموعة متنوعة من الأسباب، والتي يمكن أن ترتبط بالخصائص، أو المشاكل، أو الإخفاقات الخاصة بالعالم العربي. 

ويبقى، في الإطار المفاهيمي، صدى الاتهامات الراسخة، التي يعزوها البعض كأسباب جذرية لضعف البناء المؤسسي للمنظمات الإقليمية في الوطن العربي، المتمثلة في انتشار الاختراق الأجنبي في المنطقة، ودور التدخل الخارجي تاريخيًا في إنشاء هذه المنظمات، وعلى الأقل في مراحلها الأولية، الأمر الذي قد يكون له تأثير سلبي على مرونة عمليات التعاون الإقليمي. من وجهة نظر قانونية بحتة، يمكن للمرء أن يشير إلى عدم وجود الاستعداد الكافي لاستكمال صياغة الهيكل المؤسسي لهذه المنظمات على النحو المنصوص عليه في مواثيقها. إذ أن اعتمادهم على الإجماع، والذي يمنح كل دولة عضو حق النقض، يحرم فعليًا هذه المنظمات من أية سلطة جوهرية لفرض قراراتها على الدول الأعضاء.

لهذا، فإن أكثر العوامل تأثيرًا في قلة فاعلية هذه المنظمات، بتشكلاتها المتعددة المستويات؛ إقليمية ودون إقليمية، هو أن العناصر المُكَوِّنَة لهياكلها التخطيطية والإدارية، تبدو للبعض وكأنها مجرد حواصل صفقات سياسية، تزينها إجراءات اختيارية. وبصيغة أوضح، يراها آخرون أنها ليست مؤسسات ضامنة لخبرات أصيلة في تكوينها الثقافي -الدبلوماسي، أو حتى العلمي – السياسي، الأمر الذي أفضى إلى هشاشة أدوارها، التي صاحبها "الاخفاق"، وفاعلية حضورها على مستوى الآثار الإيجابية، أو ما أردناه بقيمة "النجاح".

ختامًا، لهذه الأسباب، ولغيرها، فإن المنظمات الإقليمية في الوطن العربي، في جهودها لإنشاء عالم عربي حصري مكتفٍ ذاتيًا، كانت دائمًا في سباق لتحصيل الموارد الكافية، والقوة اللازمة، لإنجاز مهامها، وتحصين مواقفها من خطل التدخلات الخارجية، وأخطار التنافس بين القوى العظمى. الأمر الذي يجب ألا نفقد معه الأمل في إمكانية نجاحاتها المستقبلية، وأن نعتبر إخفاقاتها الماضية مجرد فشل لبعض الدول العربية وحدها. إذ أن هناك اعتقاد واسع النطاق أن مثل هذه المنظمات، وما تتخذه من ترتيبات لتوثيق عُرى التضامن، هي بحد ذاتها، يُمكن أن تشكل الأساس المتين للسلام والاستقرار الإقليميين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* دبلوماسي ــ الأمين العام السابق لمنتدى الفكر العربي

 

مجلة آراء حول الخليج