; logged out
الرئيسية / أيدولوجيــة الحــزب وتقاربــه مــع الإخوان وإيران أسـباب تراجـع ثقـة العـرب في تركيا

العدد 144

أيدولوجيــة الحــزب وتقاربــه مــع الإخوان وإيران أسـباب تراجـع ثقـة العـرب في تركيا

الإثنين، 02 كانون1/ديسمبر 2019

شهد عام 2019 م، تراجعًا كبيرًا في علاقات تركيا مع الدول العربية، ومعظمها موروث من الأعوام القليلة الماضية، ويمكن إرجاع معظمها إلى التورط العاطفي والأيديولوجي التركي مع الاحتجاجات الشعبية التي قامت في بعض الدول العربية منذ عام 2011م، فقد اعتبرته بعض الدول العربية تدخلاً في الشؤون العربية وزعزعة للاستقرار السياسي فيها، بينما اعتبرته القيادة التركية مناصرة لمطالب الشعوب المطالبة بالتغيير والإصلاح، دون أن تأخذ القيادة التركية بعين الاعتبار اختلاف الظروف والأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية بين موقع تركيا والوطن العربي في الجيوبوليتيكا، واختلاف الثقافات الحداثية والمعاصرة بين الشعبين التركي والعربي، فما يصلح للشعب التركي ليس بالضرورة أن يكون صالحًا للشعب العربي والعكس صحيح أيضًا، فبنية النظام السياسي في تركيا خضعت لضغوط هائلة من الاتحاد الأوروبي والغرب على مدى عقود متواصلة، بينما كانت بنية الأنظمة السياسية العربية تعكس طبيعة البنية الاجتماعية والحضرية للشعب العربي، وهذا الاختلاف لا يسمح لأحد من الدول الخارجية أن تفرض رؤيتها الثقافية والحضارية على المجتمعات العربية، فهذه من مهمة الشعوب في العالم أجمع، وإلا أدت إلى تراجع الثقة بين الدول، وترسيخ الاختلافات بينها، فضلاً عن أنه مخالف للقانون الدولي.

ـ القضايا الخلافية بين تركيا والدول العربية خلال عام 2019

القضية الخلافية الكبرى بين تركيا والدول العربية من وجهة نظر عربية هي المواقف الأيدلوجية للحكومة التركية التي تتدخل في الشؤون العربية وتضر بالوطن العربي أمنيًا وسياسيًا، دون استبعاد آثارها الاقتصادية والاجتماعية أيضًا، فقد أدت إلى مزيد من الفوضى السياسية، وقد نشأت بداية في بعض الدول العربية عقب سقوط عدد من رؤساء الدول العربية وانهيار أنظمتها السياسية عام 2011م، وانتشار عدم الاستقرار فيها؛ فالسياسة التركية أخذت تعارض أنظمة تلك الدول أولاً، وتستضيف معارضيها السياسيين باسم اللجوء أو السياحة أو مناصرة المستضعفين أو غيرها، وهذا أدى إلى حالة من الصراع بين الدول العربية وتركيا، وليس تراجع الثقة بينهما فقط، كما حصل مع جمهورية مصر العربية منذ ست سنوات، فالمملكة العربية السعودية وإن لم ترفض نتائج انتخابات حزيران 2012م، في مصر، واستقبلت الرئيس المصري محمد مرسي السابق في أول زيارة رسمية له في السعودية، إلا أنها لم تعارض الثورة الشعبية بتاريخ 30 يونيو 2013م، ضد حكم مرسي، كما لم ترفض تدخل الجيش المصري المؤازر للمطالب الشعبية السابقة التي طالبت باستقالة مرسي، واعتبرت أن تدخل الجيش المصري لإزاحة الرئيس محمد مرسي بتاريخ 3 يوليو 2013م، شأنا مصريًا داخليًا، بينما رفضت الحكومة التركية هذه التغيرات السياسية في مصر واعتبرتها انقلابًا عسكريًا، وهو ما لم توافقها عليه الدول العربية ولا الدول الأوروبية ولا أمريكا ولا روسيا ولا الصين ولا غيرها، وبقيت تركيا الدولة الوحيدة الرافضة لهذه التغيرات السياسية في مصر، ويرى البعض أن الموقف التركي لا يستند إلى القانون الدولي، بقدر ما يستند إلى مواقف شخصية للرئيس أردوغان، بدليل أن المعارضة السياسية في تركيا رفضت هذا الموقف الأيديولوجي للحكومة التركية، واعتبرته موقفًا أيديولوجيا لحزب العدالة والتنمية الحاكم، ولا يحقق مصالح الشعب التركي.  

هذا الموقف التركي جعل السياسة التركية تبدو معارضة ومخالفة للكثير من المواقف السياسية في الدول العربية، ومتصادمة معها في العديد من القضايا، بما فيها الأزمة الليبية والأزمة السورية والعراقية واليمنية، بل انسحب ذلك على الاختلاف التركي ــ العربي في معالجة القضية الفلسطينية، لأسباب أيديولوجية حزبية أيضًا، وبالأخص الموقف من الانقسام الفلسطيني وسيطرة حركة حماس على غزة بعد انقلاب عسكري، وانسحب ذلك على انعدام تنسيق المواقف التركية والعربية من القضايا الدولية ذات الشأن المشترك، ومنها الموقف التركي من التهديد الإيراني لدول الشرق الأوسط، وعدم التعاون والتنسيق المشترك المطلوب لتشكيل تحالف دولي ضد التهديدات الإرهابية للحرس الثوري الإيراني في المنطقة العربية، وبالأخص أنه يضر بالمصالح التركية الاستراتيجية.

ـ الخلافات التركية الخليجية ونوع قضيتها

ما كان ينبغي أن تصل العلاقات التركية ــ العربية إلى هذا المدى من الاختلاف وتراجع الثقة بينهما، وبالأخص بين تركيا ودول مجلس التعاون الخليجي، فقد بدأ عام 2017م، وكان يبشر بعلاقات حسنة ومتطورة بين كل دول مجلس التعاون الخليجي مع تركيا، حيث كانت العلاقات قد توثقت باتفاقيات استراتيجية بين تركيا ومعظم دول مجلس التعاون الخليجي مثل؛ المملكة العربية السعودية وقطر في السنوات السابقة، وكانت في حالة توثيق العلاقات السياسية والاقتصادية بين تركيا والكويت والإمارات العربية المتحدة والبحرين وسلطنة عمان، في اتفاقيات منفردة من ناحية، ومع مجلس التعاون الخليجي بصفة جماعية من ناحية أخرى، وكانت القوة الدافعة لذلك هي رغبة الشعب التركي وشعوب دول الخليج العربي كله نحو التقارب والتعاون، وكانت أمنيات للشعبين أن تزداد العلاقات قوة وأخوة وتعاونًا وتجارة وربحًا في السنوات القادمة، وقد توثقت هذه العلاقات من خلال مؤتمرات قمة بين الرئيس التركي وكل زعماء دول مجلس التعاون الخليجي، ومن خلال الزيارات الكثيرة لكبار مسؤولي هذه الدول في العاصمة التركية وعواصم دول مجلس التعاون الخليجي كلها، وشهدت السياحة المتبادلة نموًا كبيرًا بين الشعبين التركي والعربي، ولكن ومنذ منتصف عام 2017م، وقعت بعض هذه العلاقات ضحية اختلاف في وجهات النظر حول العديد من القضايا من أهمها الأزمة الخليجية، التي من أهم أسباب الرغبة بإنهائها هي عودة العلاقات التركية ـ الخليجية كسابق عهدها.

نقاط الاتفاق التركي الخليجي:

كانت الاتفاقيات التي وقعت في العامين الماضيين قابلة للتطور والنجاح أكثر وبالأخص بعد الاجتماع الأول لمجلس التنسيق التركي ـــ السعودي الذي عقد يومي 7-8 شباط/فبراير 2017م، في أنقرة، بين وفدي البلدين اللذين رأسهما السيد مولود شاويش أوغلو وزير خارجية الجمهورية التركية والسيد عادل بن أحمد الجبير وزير خارجية المملكة العربية السعودية، وهذا المجلس انبثق بموجبه "وثيقة تفاهم حول تأسيس مجلس التنسيق التركي ــ السعودي" التي وُقِّعت خلال زيارة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود لتركيا في الفترة ما بين 11-14 نيسان/أبريل 2016م، والذي كان امتدادًا لاتفاق التعاون الاستراتيجي الذي وقع في الرياض بين الرئيس التركي و العاهل السعودي في نهاية عام 2015م، فقد شهد عامي 2015 و2016م، عشرات اللقاءات التركية والسعودية والخليجية، منها خمس قمم تركية سعودية.

لقد كان الاجتماع الأول لمجلس التنسيق أمام تحديات أمنية خطيرة على مستوى الأوضاع الأمنية للبلدين والأوضاع الأمنية للمنطقة كلها، وبالأخص في سوريا، والأمر المهم جدًّا في لقاء أنقرة للمجلس التنسيقي الأول عام 2017م ، أعربت فيه المملكة العربية السعودية عن استعدادها تقديم مشاركة عسكرية في أعمال مكافحة الإرهاب في العمليات التي تقوم بها تركيا شمال سوريا، كما أن التعاون التركي ــ السعودي كان مدار المباحثات في المشاريع الصناعية والعسكرية المشتركة وتوثيق التعاون بينهما، وخاصة أن تركيا ودول الخليج قد شاركوا في مناورات عسكرية مشتركة في تركيا وفي المملكة العربية السعودية، فقد شاركت القوات الجوية السعودية في تمرين "النور 2016" بقاعدة قونيا العسكرية وسط تركيا، في يونيو/حزيران 2016م، وكانت ثالث مناورة عسكرية تشارك فيها الرياض وأنقرة خلال شهرين، وقد جاء هذا التمرين بعد نحو أسبوعين من اختتام تمريني "نسر الأناضول 4- 2016"، و(EFES 2016)، اللذين أجريا في تركيا، مايو/أيار ، وشاركت بهما السعودية، و"نسر الأناضول 4-2016" هو أعرق وأكبر المناورات العسكرية المشتركة القتالية الجوية في العالم، كما يعتبر (EFES 2016) أحد أكبر التمارين العسكرية في العالم من حيث عدد القوات المشاركة، واتساع مسرح الحرب للتمرين بين مدينتي أنقرة وإزمير، كذلك شاركت تركيا في مناورات "رعد الشمال" شمالي السعودية، بين يومي 27 فبراير/شباط، و11 مارس/آذار لعام 2018م، بمشاركة قوات من 20 دولة، إضافة إلى قوات "درع الجزيرة"، وهي قوات عسكرية مشتركة لدول مجلس التعاون الخليجي أنشئت عام 1982م، وفي 27 ديسمبر/كانون الأول 2018م، أعلنت شركة "أسيلسان" التركية للصناعات العسكرية والإلكترونية أنها بدأت بالتعاون مع شركة "تقنية" السّعودية للتنمية والاستثمار التقني، وتأسيس شركة للصناعات الدفاعية الإلكترونية المتطورة في المملكة، برأسمال 6 ملايين دولار، وما كان يبشّر بالخير أكثر في ذلك الوقت هو وجود اتفاقات عسكرية بين تركيا وباقي دول مجلس التعاون الخليجي، باستثناء سلطنة عمان.

لقد كانت تعهدات الحكومة التركية للدول العربية ومجلس التعاون الخليجي هي التزام تركيا بدعم جهود السلام والاستقرار في الشرق الأوسط، وعدم ترك تحديد مصير المنطقة للآخرين، والتعاون على حمايتها يحتّم على دول المنطقة بحث قضايا التحديات والأزمات في الشرق الأوسط والعالم الإسلامي، وضرورة توثيق العلاقات في مجالي الأمن والتعاون الاقتصادي، استخدام التعاون الأمني والاقتصادي لمزيد من الانفتاح على العالم وعدم الانغلاق، ودعم تركيا للمبادرات الرامية لإيجاد حلول لأزمات العراق، وسوريا، واليمن وباقي الدول، ورفض تركيا لتوجهات البعض لتقسيم سوريا والعراق، وضرورة التصدي للقومية الفارسية في العراق وسوريا، وعدم الوقوف مكتوفي الأيدي أمام الظلم الحاصل في سوريا والعراق وغيرها.

هذه المبادئ تم العمل عليها لسنوات عديدة بالتعاون بين تركيا ودول الخليج، ولكنها ولأسباب غير مقنعة ولا عقلية ولا سياسية فقدت حيويتها ومواصلة الحديث عنها، وقد وجدت معظم الدول العربية أن تركيا لا تقيم سياستها الخارجية على هذه المبادئ التي طرحها المسؤولون الأتراك قبل سنتين، بينما تنفي تركيا من وجهة نظر رسمية تراجعها عن هذه السياسات، فتصريح وزير خارجية تركيا جاويش أوغلو بتاريخ 30 أكتوبر 2019م، يشعر السامع بأن الحكومة التركية لا تعرف أسباب هذا الاختلاف، ويتساءل جاويش أوغلو عن "السبب الحقيقي" لانزعاج السعودية والإمارات من أنقرة؟ ويقول إن السعودية والإمارات هي التي غيرت سياستها مع تركيا، وقد يجد جاويش أوغلو جوابًا على ذلك لدى المعارضة التركية، التي واصلت منذ سنوات انتقاد سياسة الحكومة التركية الخارجية.

يرى العديد من المحللين الأتراك أن السياسة التركية الخارجية غير مصوبة على مصالح الشعب التركي، وأنها منذ سنوات تعمل على أجندة أيديولوجية وعاطفية وتتورط في أزمات المنطقة بطريقة تعيق حلها، ومنها طريقة تعاملها مع الأزمة السورية، وبالأخص تكرر التدخل العسكري التركي في شمال سوريا دون التنسيق مع الدول العربية، ولذا تم النظر من معظم الدول العربية باعتبار التدخل التركي في الشمال السوري بتاريخ 17 تشرين أول/اكتوبر 2019م، احتلالاً لأراض عربية، مطالبة الجيش التركي بالانسحاب منها وعدم دفع الأزمة السورية لمزيد من الاقتتال والتدهور كما جاء في بيانات رسمية من معظم الدول العربية، وكذلك في بيان جامعة الدول العربية الذي عقد خصيصًا للتنديد بالتدخل التركي في سوريا.

إن القراءة السعودية للتطورات التي حدثت في المنطقة في السنوات الماضية، وما يمكن أن يحدث في السنوات القادمة لا مجال للاختلاف على صحتها من كل دول العالم الإسلامي بما فيها تركيا، فالتهديد الأكبر للمنطقة العربية حاليًا هو سعي إيران للسيطرة على السعودية، بهدف السيطرة على مكة المكرمة والمدينة المنورة كخطوة رئيسية للسيطرة على العالم الإسلامي كله، كما بينه سمو ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في لقاء صحفي سابق، هذا الخطر كان ينبغي أن يكون واضحًا ومقنعًا للحكومة التركية، وقد كانت مقتنعة به قبل عامين، فما الذي غير السياسة التركية من إيران وتهديداتها للمنطقة، كما وردت على لسان الرئيس أردوغان ووزير الخارجية التركي السابق داود أوغلو ، فهل تغيرت لأسباب سياسية وأيديولوجية واقتصادية، أم بسبب التقارب مع روسيا، وهل كانت الحكومة تدفع ثمن تقاربها من إيران بالابتعاد عن السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي؟

 

قضايا الخلاف القائمة بين دول المنطقة وتركيا

من المؤكد أن الأزمة الخليجية القطرية منذ تاريخ الخامس من حزيران 2017م، من القضايا التي فاقمت من خلافات بعض دول الخليج العربي مع تركيا، ومن المرجح أن تركيا أقامت موقفها على نفس القاعدة المذكورة آنفًا، وهو الموقف الأيديولوجي والحزبي بين حزب العدالة والتنمية مع القيادة القطرية، وليس المصالح الاقتصادية بين البلدين إطلاقا، بدليل أن المصالح الاقتصادية لتركيا مع المملكة العربية السعودية والإمارات ومصر أكبر بكثير من المصالح المحصورة مع قطر فقط، وقيل إعلاميًا إن السبب الثاني للموقف التركي من الأزمة الخليجية القطرية هو اعتبار الحكومة التركية وحزب العدالة والتنمية أنهم مستهدفون من فرض إجراءات عقابية لقطر ، بينما بيَّنت تلك الدول أسباب اجراءاتها وليس فيها إساءة للدولة التركية ولا لحزبها الحاكم.

وهذا الموقف التركي كان موقفًا صادمًا من وجهة نظر سعودية، لأنها اعتبرت أن تركيا جعلت من نفسها طرفًا في الأزمة، وبالأخص بعد إرسال الجنود الأتراك إلى الدوحة، وهذا ما جعل العلاقات التركية تتراجع مع بعض الدول الخليجية بشكل ملحوظ وكبير، فالعلاقات التركية الإماراتية في طريقها إلى التجميد، والعلاقات مع السعودية متوترة، وخاصة أن الإعلام التركي ينشر في إعلامه رؤى وتحليلات سياسية تبدو من وجهة نظر سعودية بأنها معادية للسعودية والإمارات، ويصفها البعض بطريقة مشابهة للإعلام القطري أو كما تفعل وسائل الإعلام القطرية نحو الأزمة.

وما يرسخ مقولة انحياز تركيا لمواقف معادية للسعودية والإمارات هو نقل وسائل الإعلام التركية الرسمية والخاصة الرواية الحوثية والإيرانية حول الصراع الدائر في اليمن، كما في بعض أخبار وكالة أنباء الأناضول والعديد من الصحف التركية القريبة من الحكومة، بعد أن كانت طوال السنوات السابقة لا تنقل إلا ما يصدر عن التحالف العربي فقط، بحسب مراقبين إعلاميين، كما بدأت بعد الأزمة الخليجية مع قطر النقل عن مصادر إعلام إيرانية، وعن أخبار بريطانية مشوهة مدعومة وممولة من دولة قطر، بل إن بعض وسائل الإعلام المحلية باتت تترجم لكل ما يقوله حساب "مجتهد" في تويتر وتنسج على منواله العديد من القصص الخيالية، وهذه مؤشرات خطيرة فيما وصلت إليه العلاقات.

ـ أضرار اقتحام تركيا سوريا تشرين أول/ اكتوبر 2019

من المسائل الشائكة في تاريخ تركيا منذ تأسيس الجمهورية عام 1923م، هو عجزها أو رفضها عن معالجة المسألة الكردية بالتفاوض مع أبناء القومية الكردية أنفسهم، وهو ما ولَّد ثورة عنيفة ضد الدولة التركية منذ عام 1984م، قادها حزب العمال الكردستاني بزعامة عبدالله أوجلان، وحتى عام 2005م، وشروع حزب العدالة والتنمية بإجراء مباحثات سلمية لحل هذه الأزمة كانت تركيا قد خسرت أكثر من أربعين ألف قتيل، وهذا شكل عقبة كبرى للتوصل إلى حل، وبقي الهاجس الكردي المعادي لتركيا يقلق الحكومات التركية دائما، وقد زاد الطين بلة الفوضى التي نشأت في شمال سوريا، بأن سعت الأحزاب الكردية السورية إلى تشكيل قوة عسكرية لها لا تنتمي إلى المعارضة السورية ولا إلى النظام السوري بالكامل، لأنها كانت تبحث عن مصالحها القومية الخاصة، وقد حاولت بعض الدول المتورطة بالأزمة السورية التحالف مع هذه الأحزاب الكردية لتقوية موقفها، كذلك فعلت إيران وحرسها الثوري ثم روسيا وأخيرًا أمريكا، واستقرت قوات الحماية الكردية (ي ب ك) وهي الجناح العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردية على التحالف مع أمريكا لأكثر من سبب، منها أن الرؤية الأمريكية لتقسيم سوريا تتوافق أكثر من رؤيتهم، ولأن أمريكا أكثر سخاءً في الدعم العسكري والمالي لهم، وأخيرًا ظنًّا منهم أن أمريكا أكثر قدرة على تنفيذ مشاريعها في سوريا من الأطراف الأخرى.

هذا التصور الكردي والأمريكي أقلق الشعب التركي وحكومته وجيشه، فتقسيم سوريا اليوم يهدد بتقسيم تركيا غدًا ولنفس الأسباب القومية، وهو ما جعل أردوغان يتخذ قرار التدخل التركي في شمال سوريا لإحباط المشروع الأمريكي الكردي بإقامة كيان يهدد الحدود التركية وأراضيها، بالرغم مما يعود على تركيا وسوريا من أضرار وخسائر ودمار.

لا خلاف على أن القرار التركي بالتدخل العسكري في سوريا يحمل مخاطر كبيرة على تركيا وسوريا معًا، وكان أمام الحكومة التركية بدائل عديدة تجنبها اعتراض الدول العربية على تدخلها في سوريا، ويجنبها تهديد النظام السوري نفسه، الذي بدأ يهدد تركيا بالحرب، ومن مخاطر هذا التدخل العسكري التركي أنه مهدد بالفشل، فتراجع أمريكا عن انسحابها من سوريا سيفتح على تركيا حربًا متواصلة مع قوات حماية الشعب الكردي أو مع قوات قسد المدعومة عسكريا من أمريكا، وهذا سيزيد من معاناة الشعب السوري والتركي والكردي أيضًا، ولا تقل خطورة تراجع روسيا عن اتفاقها مع تركيا في الاتفاق الأخير في سوتشي 17 أكتوبر الماضي، وبوادر هذا التراجع واضحة بشن قوات من جيش الأسد هجمات على الجنود الأتراك، وهذا سيعمق الصراع القومي التركي ــ العربي في المستقبل أيضًا.

ـ متى وكيف يمكن للسياسة التركية انتهاج سياسة الاعتدال تجاه الدول العربية

إن سياسة التصعيد التي تمارسها تركيا ضد جيرانها من العرب لا تبررها المخاوف الأمنية فقط، وبالأخص أنه يمكن إيجاد البدائل الأمنية والعسكرية الحدودية التي توفر الأمن القومي بدرجة مماثلة وأقل خطورة، وذهاب الحكومة التركية إلى الخيار العسكري يحمل في طياته استهانة بالطرف الآخر، وخشية الدول على أمنها القومي الداخلي أو الخارجي لا يبرر لها أن تتدخل عسكريًا بالدول المجاورة، ولولا الفيتو الروسي لتم إدانة تركيا بمجلس الأمن الدولي على تدخلها العسكري في سوريا، والفيتو الروسي استخدم بكراهية ضد النظام السوري نفسه على استخدامه الأسلحة الكيماوية ضد شعبه، فلا يمثل نصرًا للدول المخالفة للقانون الدولي.

إن الحكومة التركية في ظل أوضاعها السياسية والاقتصادية المضطربة مطالبة أن تنتهج سياسة مباشرة للشروع في سياسة تقاربية مع الدول العربية جميعها، وبالأخص الدول العربية الأكثر استقرارًا وقابلية للتعاون معها، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية خاصة ودول الخليج عامة، وأن يكون دورها إيجابيًا تجاه المشاكل العربية الداخلية بما فيها الأزمة الخليجية، أو أن يكون دورها الحياد أولاً، والعمل بسياسة الوساطة الحميدة والمعتدلة والسلمية ثانيًا، وهذا أمر ينبغي أن يباشره حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا قبل غيره من الأحزاب التركية، كما أن أحزاب المعارضة التركية مطالبة برفع شعارات التصالح مع الدول العربية، والضغط على الحزب الحاكم أن يقرر الخروج من سياسة التحالفات الضيقة والصغيرة، والخروج من السياسات الحزبية الأيديولوجية، التي أودت بتركيا إلى ما وصلت إليه من أزمات اجتماعية واقتصادية داخلية، وإلى أزمات أمنية وعسكرية وسياسية خارجية.

إن دور حزب العدالة والتنمية مهمٌ جدًا في دعم مشاريع التقارب الجدي مع الدول العربية، ووقف سياسات التصعيد ضد هذه الدولة العربية أو تلك، مهما كانت الأسباب، سواء كانت محقة أو غيرها، لأن نفعها للشعب التركي ومصالحه، ومصالح الشعوب مقدمة على مصالح الأحزاب والأفراد، وعلى حزب العدالة والتنمية أن يأخذ بعين الاعتبار أن تراجعه في الانتخابات البلدية الأخيرة هو نوع من المحاسبة الشعبية الرافضة لسياسات الحزب، وربما بصورة أكثر صراحة من ذي قبل برفض سياسات الرئيس أردوغان شخصيًا، كما تمثل ذلك برفض مرشح الرئيس أردوغان ورئيس حزب العدالة والتنمية بن علي يلدرم لرئاسة بلدية اسطنبول، فهذه الرسالة خاصة بالرئيس أردوغان نفسه، وينسحب عليها رفض الشعب التركي وضع الجمهورية التركية كاملة في الدفاع عن قضايا جزئية وحزبية لا ترقى لمستوى المطالب الشعبية، ومهما كان فيها من نسبة من العدالة أن تعلو على مصالح الشعب التركي، وبالأخص أن سبل تحقيق العدالة مفتوحة بين الدول بالمباحثات المباشرة أو عبر وسطاء دوليين مقبولين من كل الأطراف.

مقالات لنفس الكاتب