; logged out
الرئيسية / أسواق جديدة وتكلفة أقل ومكاسب أكثر وسلاسل إمداد فاعلة

العدد 145

أسواق جديدة وتكلفة أقل ومكاسب أكثر وسلاسل إمداد فاعلة

الخميس، 02 كانون2/يناير 2020

يقف العالم اليوم على أعتاب حقبة جديدة من التطور الرقمي المصاحب لثورة تكنولوجية من شأنها إحداث تغييرات جذرية في الطريقة التي نعيش ونتعلم ونعمل بها. إن هذا التغيير يتميز بكونه متواصلاً وسيزداد تعقيدًا بشكل لم تشهده البشرية. إنها الثورة الصناعية الرابعة التي تتميز بالسرعة في التغيير والقدرة على حل المشاكل الأكثر تعقيدًا والتي ستكون بمثابة تسونامي التقدم التكنولوجي. فما الثورات الصناعية السابقة، وكيف تختلف الثورة الصناعية الرابعة عن سابقاتها وأين نحن منها الآن؟

الثورة الصناعية

الثورة الصناعية، مصطلح يُطلق على التحول إلى تقنيات جديدة في عمليات التصنيع وإحلال العمل اليدوي بالمكننة أو التكنولوجيات الحديثة. وتعود بدايات هذه الثورات الصناعية إلى أواسط القرن الثامن عشر في أوروبا، وانطلقت من بريطانيا، حيث شهد ذلك القرن نهضة علمية في القارة العجوز صاحبها العديد من الأبحاث والدراسات والتجارب في مختلف فروع العلوم أدت إلى ظهور تقنيات متعددة غيرت النمط الاجتماعي وكان لها كبير الأثر على الحياة الاقتصادية والسياسية في دول أوروبا وغيرها من دول العالم.

 

الثورة الصناعية الأولى:

ظهرت الثورة الصناعية الأولى في أوروبا في الفترة بين عامي 1760 و1840م، وكانت بداياتها في بريطانيا من خلال اكتشاف المحرك البخاري على يد المخترع الأسكتلندي جيمس وات في العام 1769م، بعد تمكنه من إحداث تعديلات جذرية على الآلة شبه البخارية التي تم اختراعها في العام 1712م، من قبل المخترع الإنجليزي ثوماس نيوكومن.

شكلت الآلة البخارية طفرة التحول في عالم التقدم الصناعي والانتقال من الإنتاج اليدوي إلى الآلات، وزيادة عمليات التصنيع الكيميائية، وإنتاج الحديد، والاستخدام المتزايد للطاقات البخارية والمائية، وتطوير أنظمة الآلات والبدء باستخدام نظام المصنع الآلي. كما أدت إلى ارتفاع غير مسبوق في معدل النمو السكاني.

وكانت صناعة المنسوجات المعتمدة على القطن من أكثر الصناعات المهيمنة على هذه الحقبة الزمنية، وكانت مدينة مانشستر البريطانية من أكثر المدن التي استفادت من هذا التحول. حيث أدى اختراع الآلة البخارية إلى تحسين الإنتاج الزراعي والذي انعكس بشكل إيجابي على حياة سكان الأرياف مما دفع معظمهم إلى إنشاء مصانع ضخمة اعتمدت على المعدات الزراعية المتطورة والثقيلة. وتسبب إنشاء هذه المصانع في الاستغناء عن العديد من العمال الزراعيين وزيادة نسبة الأيدي العاملة الرخيصة.

والجدير ذكره أن نصيب الفرد من الإنتاج المحلي الإجمالي كان مستقرًا قبل ظهور الثورة الصناعية الأولى التي تعتبر أحد أهم المحفزات لظهور الاقتصاد الرأسمالي الحديث. حيث أدت هذه الثورة إلى بدء حقبة النمو الاقتصادي للأفراد فيما يعرف بالاقتصادات الرأسمالية. ويتفق المؤرخون الاقتصاديون على أن بداية الثورة الصناعية الأولى هي من أهم الأحداث في التاريخ البشري منذ تدجين الحيوانات والنباتات.

 

الثورة الصناعية الثانية:

امتدت الثورة الصناعية الثانية، أو كما تعرف أيضًا باسم الثورة التكنولوجية في الفترة ما بين عامي 1867 و1914م، أي حتى بداية الحرب العالمية الأولى، وشهدت هذه الفترة تطورًا سريعًا في أوروبا الغربية (بريطانيا وألمانيا وفرنسا وبلجيكا) والولايات المتحدة واليابان، وامتازت هذه الحقبة بالابتكارات في إنتاج الصلب والبترول والكهرباء وما شمله من استخدام للسيارات والطائرات.

خلال تلك الحقبة بدأ أيضًا توليد الكهرباء فيما يعرف بالثورة الكهربائية التي أتاحت البدء باستخدام الكهرباء عوضًا عن مصابيح الغاز في الإضاءة. وكذلك استخدامها في إدارة المصانع، وأتاح إدخال توليد الطاقة الكهرومائية في جبال الألبفي تسعينات القرن التاسع عشر التصنيع السريع لشمال إيطاليا التي كانت محرومة من الفحم. وفي العام 1876م، اخترع ألكسندر جراهام بيل الهاتف، وصمم توماس إديسون وجوزيف سوان المصباح الكهربائي في العام 1879م؛ وفي العام نفسه ظهر أول خط سكة حديد كهربائي في برلين، وفي بدايات العام 1880 م، بدأت عربات الشوارع الكهربائية بدلًا من العربات التي تجرها الخيول في العديد من المدن الأوروبية الكبرى. وفي العام 1901م، تمكن ماركوني من إرسال موجات الراديو عبر المحيط الأطلسي لأول مرة في التاريخ البشري.

وفي العام 1878م، تم عرض أول تصميم للمحرك الذي كان يعمل بالغاز والهواء. ومع اكتشاف النفط والوقود السائل تم تعديله واستخدامه في تطوير صناعة السيارات والطائرات. وفي عام 1886م، تمكن المخترع الألماني كارل بنز في إحداث قفزة تكنولوجية من خلال اختراعه لأول سيارة والتي بيعت للجمهور في العام 1888م، وفي العام نفسه اخترع غوتليب دايملر محرك سيارات خفيف الوزن بينما تمكن هنري فورد، صاحب شركة فورد للسيارات، من وضع بصمته في مجال اختراع السيارات من خلال تصنيع سيارته الأولى في العام 1896م.

كالثورة الصناعية الأولى، دعمت الثورة الصناعية الثانية النمو السكاني وعمدت معظم الحكومات إلى حماية اقتصاداتها الوطنية من خلال التعريفات. وأسفرت التغييرات ما بين الثورتين الصناعيتين الأولى والثانية إلى إعادة تشكيل الطبقة العاملة نظرًا لظهور التكنولوجيات الجديدة. كما ساهمت التغييرات إلى إنشاء طبقة متوسطة أكبر وأكثر احترافًا مع تراجع لعمالة الأطفال والنمو الهائل للثقافة المادية القائمة على المستهلك. وبحلول العام 1900م، كانت بريطانيا رائدة في الإنتاج الصناعي بنسبة 24٪ من الإجمالي العالمي تليها الولايات المتحدة (19٪) وألمانيا (13٪)وروسيا (9٪) وفرنسا (7٪) فيما مثلت أوروبا مجتمعة 62٪.

 

الثورة الصناعية الثالثة:

بدأت الثورة الصناعية الثالثة، أو كما تعرف أيضًا باسم الثورة الرقمية الأولى، في العام 1969م، واستمرت حتى العام 2016م، الذي أعلن فيه عن بدء حقبة الثورة الصناعية الرابعة في المنتدى الاقتصادي العالمي في مدينة دافوس. تمثل هذه الحقبة التحول من التكنولوجيا الالكترونية الميكانيكية والتناظرية إلى الإلكترونيات الرقمية والبدء في استخدام الطاقة النووية كطاقة بديلة. كما ويؤكد بعض الباحثين أن تاريخ بدايات الثورة الرقمية يعود للفترة ما بين عامي 1947 و1969م، حيث تم خلال هذه الفترة اكتشاف أول ترانزستور في شركة بيل لابس(من قبل وليام شوكلي ووالتر هوسر براتين وجون باردين. واعتبر اختراع الترانزستور الداعم لإنتاج أجهزة كمبيوتر أكثر تقدما. ومن أواخر أربعينات القرن العشرين بدأت الجامعات وشركات تصنيع أنظمة الكمبيوتر في إحلال أتمته العمليات الحسابية التي كانت تتم سابقًا بشكل يدوي بأخرى رقمية (الكترونية). وأعتبر الجهاز ليو (LEO) أول كمبيوتر يتم استخدامه تجاريا من قبل العامة.

 

في العام 1968م، تمكن المهندس فيرتشايلد من تحسين تكنولوجيا موس من خلال تطوير رقاقة MOS المصنوعة من السيليكون، والتي تم استخدامها لاحقًا في تطوير وحدة المعالجة المركزية "Intel 4004" والتي اعتبرت أول معالج دقيق أحادي الشريحة وتم إصدارها بشكل رسمي من قبل شركة انتل في العام 1971م، وساهمت هذه الشريحة في إرساء ثورة الحواسيب الصغيرة التي بدأت في السبعينات من القرن الماضي. وفي العام 1969م، تم تعريف الجمهور ولأول مرة على المفاهيم التي أدت لاحقًا إلى استخدام تقنية الانترنت عالميًا عن طريق إرسال رسالة الكترونية باستخدام الشبكة الالكترونية آربانت من خلال مجموعة من البروتوكولات التي استخدمت لاحقًا لتطوير شبكة الانترنت.

 

شهدت حقبة الثورة الصناعية الثالثة، العديد من الاختراعات التكنولوجية والتقنيات التي تم إحلالها عوضًا عن تقنيات سابقة بالإضافة إلى اختراع العديد من التقنيات الحديثة. وعلى سبيل الذكر لا الحصر، فقد تم استبدال الحاسوب التناظري بالحاسوب الرقمي في خمسينيات القرن الماضي. وفي الثمانينات تم استبدال التلفاكس بنظام الفاكس، وتم التسويق لأول كاميرا رقمية في اليابان في العام 1989م، وفي الولايات المتحدة في العام 1990م، وفي العام 1991م، أصبحت شبكة الانترنت العالمية متاحة لعموم الجمهور وفي ذات العام أصدرت شركة موتورولا النسخة الرقمية من الهاتف المحمول "موتورولا" في دولة فنلندا بعد اعتمادها استخدام تقنية الجيل الثاني للهواتف المحمولة. وفي أواسط الألفية الثانية بدأت ظاهرة مواقع التواصل الاجتماعي والهواتف الذكية؛ وفي العام 2010 م، بدأ التعامل بتقنية الحوسبة السحابية (Cloud Computing). 

إن الاختلاف الجوهري بين الثورتين الصناعيتين الأولى والثانية والثورة الصناعية الثالثة يتمثل في أن الثورة الصناعية الكبرى التي انطلقت في أوروبا في أواسط القرن الثامن عشر وامتدت إلى بدايات الحرب العالمية الأولى اعتمدت بشكل كبير ورئيسي على مصادر الطاقة المخزونة في باطن الأرض من نفط وغاز، مما ساهم في اقتراب هذا المخزون من النفاذ بسبب الاستهلاك المتواصل على مر السنين والذي أدى إلى ارتفاع تكلفة هذه الموارد. بالإضافة إلى الآثار السلبية الناتجة عنه كارتفاع أسعار السلع الغذائية وتفاقم البطالة والتكدس السكاني في المدن الناتج عن هجرة ملايين المواطنين من المناطق الريفية لمواكبة التطور الحضري وما له من تأثير على الاقتصاد والبيئة والواقع الاجتماعي. مجتمعًا شكل الحافز للبدء بإيجاد طرق بديله للطاقة والتواصل والتنقل وحل المشاكل المتفاقمة باستخدام التقنيات الرقمية والعمل على منع انهيار جديد للاقتصاد العالمي.

الثورة الصناعية الرابعة:

بدأت حقبة الثورة الصناعية الرابعة (Fourth Industrial Revolution أو Industry 4.0) أو كما يطلق عليها البعض الثورة الرقمية الثانية، في العام 2016م، بعد اعتمادها وبشكل رسمي كشعار للمنتدى الاقتصادي العالمي في دورته الـ 46 في مدينة دافوس برئاسة كلاوس شواب والذي يعتبر من الدافعين للبدء بهذه الحقبة من خلال كتابه الصادر في العام ذاته تحت عنوان "الثورة الصناعية الرابعة".

 

يعتبر البعض أن الثورة الصناعية الرابعة ما هي إلا امتدادًا وتطورًا لسابقاتها من الثورات الصناعية الثلاث، خصوصًا الثورة الصناعية الثالثة والتي تمثل الرقمنة البسيطة. إلا أن هناك ثلاثة أسباب رئيسية تجعل تحولات اليوم تمثل تحولاً كبيرًا ومميزًا ومختلفًا عن سابقاتها وهي: (1) السرعة، (2) والنطاق، (3) وتأثير الأنظمة.

 أولاً، سرعة تفعيل واستخدام التقنيات الحديثة التي ليس لها سابقة في التاريخ مقارنة بغيرها من الثورات الصناعية، حيث أن الرابعة تتطور بوتيرة أسية وليس خطية كسابقاتها من الثورات الصناعية.

 ثانيًا، ستؤدي الثورة الصناعية الرابعة إلى زيادة الاندماج بين العوالم المادية (الفيزيائية) والبيولوجية والرقمية من خلال تقنياتها التكنولوجية العادية وغير المسبوقة، والتي ستساهم في عمليات التصنيع عبر آلات يتم التحكم فيها الكترونيًا وآلات ذكية مرتبطة بالإنترنت. وتشمل هذه التقنيات الذكاء الاصطناعي، والروبوتات، وإنترنت الأشياء، والمركبات ذاتية القيادة، والطابعات ثلاثية الأبعاد، وتكنولوجيا النانو، والتكنولوجيا الحيوية، والحوسبة الكمومية، وسلسلة الكتل (Blockchain) وغيرها.

ثالثًا، اتساع وعمق التغييرات المصاحبة لهذه الحقبة ستؤدي إلى تحول شامل في أنظمة الإنتاج والإدارة والحكم لغايات مواكبة التطورات والتغييرات السريعة المصاحبة لهذه الثورة الصناعية.

الفرص المتوقعة من الثورة الصناعية الرابعة:

ليس هناك حتى اللحظة اتفاق على الفرص التي ستوفرها الثورة الصناعية الرابعة للشعوب وللدول وللأعمال. السرد القائم للفرص مبني على مجموعة من التكهنات من خلال دراسة الأثر الاقتصادي والبيئي والاجتماعي الذي خلفته الثورات الصناعية والحضارات الخمس السابقة وهي: عصر الصيد، العصر الزراعي، العصر الصناعي، عصر عامل المعلومات، وعصر الحكمة الناشئة. فمن خلال خصائص الأعمار الخمسة للحضارة، التي قدمها ستيفن كوفي في كتابه "العادة الثامنة" في العام 2004م، يمكن استنتاج الفرص التي يمكن أن توفرها الثورة الصناعية الرابعة. فعلى سبيل المثال، لوحظ تاريخيًا أن الإنتاجية ترتفع خمسين ضعفًا من عصر إلى الآخر كما حدث في زيادة إنتاجية العصر الصناعي على العصر الزراعي. ولوحظ أيضًا أن كل عصر تالٍ يلغي العديد من وظائف العصر السابق، إلا أن هذا الإلغاء يفتح الباب للعديد من الوظائف الجديدة للظهور والتي لم تكن متوفرة سابقًا كما حدث في العصر الصناعي. والجدير ذكره أن الكثير من الخسائر في وظائف عصرنا الصناعي أقل ارتباطًا بالسياسات الحكومية واتفاقيات التجارة الحرة، وهي في الحقيقة ناتجة عن التحول الكبير في اقتصادنا إلى عامل المعرفة. 

من خلال تطور الصناعات العالمية المتوقع في ظل الثورة الصناعية الرابعة يمكن التنبؤ بمجموعة من الفرص التي يمكن أن توفرها هذه الحقبة. على سبيل المثال، ستؤدي هذه الثورة الصناعية إلى فتح أسواق جديدة مما سيدفع من عجلة النمو الاقتصادي، وستقل تكلفة التجارة مع مكاسب طويلة الأمد في الكفاءة الإنتاجية، وستقل تكاليف النقل والاتصالات وستصبح سلاسل الإمداد والتموين العالمية أكثر فاعلية، وسيزيد الدعم لأصحاب الأفكار الإبداعية لإنشاء شركاتهم الخاصة، والمتوقع لهذه الحقبة أيضًا تحسين نوعية الحياة لكثير من الناس في جميع أنحاء العالم. ويمكن تلخيص هذه الفرص بالنقاط التالية:

1.           المكاسب الاقتصادية: المتوقع أن تؤدي هذه الحقبة إلى زيادة المكاسب الاقتصادية الناتجة عن زيادة الإيرادات بسبب انخفاض تكاليف المعاملات والنقل والاتصالات، وزيادة العرض والطلب، وزيادة أعداد الشركات الناشئة الصغيرة والمتوسطة المبنية على الإبداع والابتكار وبتكاليف تشغيل منخفضة، وانخفاض التكلفة المالية للمعدات مقارنة بجودتها العالية، وغيرها.

2.           التعليم العام والعالي: ستدفع هذه الحقبة العديد من الدول إلى استبدال أنظمتها التعليمية القائمة بأخرى جديدة تتلاءم مع احتياجات سوق العمل المستقبلي. وستسعى الشركات القائمة إلى توفير دورات تدريبية لموظفيها لمواكبة التطورات الحديثة وتعزيز مهاراتهم الإنتاجية في ظل تأثير التقنيات الجديدة على آليات التصنيع والإنتاج.

3.           فرص التشغيل: على الرغم من أن العديد من الدراسات تشير إلى إمكانية انقراض آلاف الوظائف في هذه الحقبة، إلا أنها تشير أيضًا إلى ظهور وظائف أخرى ولكن بمهارات جديدة. فمعظم الوظائف المتوقع انقراضها هي تلك التي تعتمد على القوة البدنية أو التي يمكن استبدالها بواسطة الآلة، كأمين الصندوق (الكاشير) وموظف السنترال اللذان سيتم استبدالهما بأنظمة الدفع والرد الآليين. وتعتمد وظائف المستقبل على المعرفة والعلوم والابتكار والإبداع واستخدام التقنيات الحديثة في الأعمال، حيث سيتمكن، على سبيل المثال، مهندسو الأنسجة من إنشاء نماذج ثلاثية الأبعاد ومسامية للسقالة (Tissue Scaffold Engineers) مما سيسهل دراسة واستخدام هذه الأنسجة عند الحاجة. وتشير معظم الدراسات أن الوظائف ذات المهارات والأجور المنخفضة سيتم استبدالها بأجهزة الكمبيوتر والرقمنة، بينما ستكون الوظائف ذات الأجور المرتفعة والتي تتطلب مهارات خاصة أقل عرضة للاستبدال.

4.           المواد والانتاجية: في المستقبل، ستساهم التقنيات الحديثة في إنتاج مواد ذات جودة عالية وبتكلفة إنتاجية وشرائية منخفضة. كما أن توفر الآلات القائمة على الذكاء الاصطناعي والروبوتات ستساهم من دفع عجلة الإنتاج ورفع مستوى التنافسية لما لها من أثر على الناتج المحلي الإجمالي للدول.

5.           تمكين الابتكار: إن الموارد الأكثر ندرة وقيمة لهذا العصر لن تتعلق بالعمالة العادية ولا برأس المال العادي، بل ستكون مبنية على الأشخاص الذين يملكون القدرة على خلق أفكار وابتكارات جديدة. في المستقبل، تمثل المواهب، أكثر من رأس المال، العامل الحاسم في الإنتاج، حيث سيكون الأشخاص أصحاب الأفكار المورد الأكثر ندرة وستبدأ العديد من الشركات الكبيرة في البحث عن هذه المواهب لتعزيز والحفاظ على مكانتها العالمية. ففي العام 2017م، علق الرئيس التنفيذي لشركة أبل، تيم كوك، خلال فعاليات منتدى بلومبرج العالمي للأعمال، قائلا: "إذا كنت مسؤولا في الدولة، فإن هدفي سيكون هو احتكار المواهب العالمية".

6.           الطاقة والبيئة: على مدى عقود، اعتبرت العديد من الشركات والمصانع أن تحسين أدائها يتناقض مع أهداف حماية البيئة وذلك لحاجتها لاستخدام تقنيات ومواد إنتاجية تؤثر بشكل سلبي على البيئة بسبب الانبعاثات الناتجة عن التصنيع وموارد الطاقة المستخدمة. وفي هذه الحقبة الجديدة، فإن الآمال تتجه إلى أن تساهم التكنولوجيات الحديثة في توفير أنظمة وموارد للطاقة مبنية على تقنيات الحد من انبعاثات الغازات الدفينة، والحد من التلوث، واستهلاك الموارد الطبيعية بطرق سلمية وإعادة تدوير النفايات واستخدام الطاقة الخضراء، كالطاقة الشمسية، وغيرها للحفاظ على البيئة وتقليل مشاكل التغير المناخي.

7.           الزراعة والغذاء والصحة: ستساهم التقنيات الحديثة في تغيير عالم الزراعة وعالم الصناعات الغذائية ورفع كفاءة الخدمات الصحية بشكل ملحوظ. فعلى سبيل المثال، استخدام تقنيات الأقمار الصناعية في تحديد الأماكن الأكثر قابلية للزراعة ومواطن المياه على الأرض ستساهم في توفير مناطق زراعية آمنه وذات إنتاجية زراعية عالية. وستعمل أجهزة الاستشعار في المصانع على جمع البيانات اللحظية عن حالة المعدات والآلات المستخدمة لحفظ وتصنيع المواد الغذائية والتنبؤ عن الأعطال قبل حدوثها مما سيمكن القائمين على سلامة المنتجات في المصانع من استبدال القطع التالفة بأخرى جديدة قبل تلف المواد الغذائية أو تلوثها. وستعمل تقنيات الذكاء الاصطناعي على توفير خدمات طبية للمرضى في المناطق النائية حيث سيتمكن الطبيب المختص من إجراء العديد من العمليات الجراحية عن بعد. هذا بالإضافة إلى التقدم الهائل في الدراسات الجينية الدقيقة التي لم تكن ممكنه في السابق.

  

تحديات الثورة الصناعية الرابعة:

على الرغم من مجموع المزايا والفرص التي ستوفرها تكنولوجيات وتقنيات الثورة الصناعية الرابعة، إلا أن جميع الدول ستقف أمام العديد من الحواجز التي ستشكل تحديات فعلية للحكومات والشركات والمجتمع لمواكبة التطور التكنولوجي السريع لهذه الحقبة. وتتلخص هذه التحديات بالنقاط التالية:

1.            يمكن أن تؤدي هذه الثورة إلى قدر كبير من عدم المساواة الناتج من قدرتها على تعطيل أسواق العمل المعتمدة على العنصر البشري. حيث أن التشغيل الآلي سيحل محل العمالة البشرية لما له من تأثير فعال على جميع نواحي الاقتصاد، وقد يساهم استبدال العمال إلى تفاقم الفجوة بين العائدات على الاستثمار والعائدات على العمال.

2.           الحاجة إلى رفد أسواق العمل المستقبلية بمهارات جديدة تتلاءم مع التطور التكنولوجي الهائل المتوقع مستقبلا. حيث أن هناك تهديد حقيقي باختفاء الكثير من الوظائف وفرص العمل خصوصًا تلك التي تستهدف الفئات الوسطى والدنيا من الأيدي العمالة. وبناء على التقرير الصادر من قبل المنتدى الاقتصادي العالمي للعام 2018م، عن واقع الوظائف في المستقبل، فالمتوقع أن %50 من القوى العاملة ستفقد وظائفها عالميًا بسبب التشغيل الآلي بحلول العام 2022؛ خاصة في مجال صناعة السيارات والأدوات الكهربائية والصناعات التحويلية والغزل والنسيج بما في ذلك خدمة العملاء. كما وأشار التقرير إلى احتمالية بروز سوق عمل معزول مبني على شرائح "منخفضة المهارات / منخفضة الأجور" وأخرى "عالية المهارات / عالية الأجور" مما سيؤدي بدورة إلى زيادة الفجوة الاجتماعية بين طبقات المجتمع.

3.           سيؤدي تراجع الاستثمار في مختلف القطاعات الصناعية والاقتصادية التقليدية إلى هيمنة الشركات الكبرى على الإنتاج الصناعي وتدني دور الشركات الصغيرة والمتوسطة كثيفة الاستخدام للعمالة المتوسطة والدنيا.

4.            ظهور صراع جديد بين الدول يتعلق بالفضاء الالكتروني أو ما يعرف بحرب الفضاء السيبراني. سيصبح البشر في المستقبل أكثر اتصالا بالأجهزة الالكترونية على اختلاف أنواعها كالهواتف النقالة، والسيارات، والساعات الذكية، وكاميرات الأمن المنزلية الذكية، ومفاتيح الإضاءة الذكية، وشرائح البيانات الشخصية المزروعة في الأفراد وغيرها من الأجهزة المرتبطة بالإنترنت (تقنية انترنت الأشياء)، مما سيسهل الاختراقات الالكترونية ذات الآثار المدمرة على المجتمعات والدول. هذه الإضافة إلى ضرورة حماية ملكية البيانات والبيانات العامة والخاصة (Data ownership and security).

5.           الحاجة من جميع الدول إلى إعادة هيكلة اقتصادية واجتماعية وتعليمية متطورة قادرة على التكيف مع التغيرات القادمة. يشمل ذلك رسم الحكومات لسياسات جديدة مختلفة عن الواقع الحالي وإخضاع المؤسسات في القطاعين العام والخاص إلى مستوى عالي من الكفاءة كي تتمكن من الحفاظ على قدرتها التنافسية. وفي حال تقاعسها عن هذه الإجراءات فلن تكون هذه الدول قادرة على مواكبة التطور والتغيرات السريعة وستواجه العديد من التحديات المركبة.

6.           الحاجة من الدول التي لا تمتلك البنية التحتية المناسبة لاستقبال واستخدام تقنيات الثورة الصناعية الرابعة إلى إغلاق هذه الفجوة. يشمل ذلك وضع السياسات والقوانين المحفزة لتطوير قطاع البنية التحتية التكنولوجية وتعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص لهذا الغرض.

7.           تمثل اللوائح القانونية والتشريعات الوطنية والدولية بما فيها أنظمة الحماية القانونية والاجتماعية تحديًا آخر يواجه جميع الدول، حيث أن المعتمد منها حاليًا لا يتلاءم مع الاحتياجات التطويرية المصاحبة لاستخدامات تقنيات الثورة الصناعية الرابعة.  وهناك حاجة لسد هذه الفجوة من خلال اعتماد قوانين محلية ودولية لتنظيم استخدام هذه التقنيات. فعلى سبيل المثال، لا يوجد حتى اللحظة قوانين خاصة لاستخدامات السيارات ذاتية القيادة و/أو الطائرات المسيرة؛ على الرغم من البدء باستخدام هذه التقنيات من قبل بعض الشركات أو الأفراد أو الدول لغايات تجريبية أو تسويقية أو دفاعية.

 

الخاتمة

كغيرها من الثورات الصناعية السابقة، ستؤثر الثورة الصناعية الرابعة على جميع القطاعات والتخصصات في الدول مما سيؤدي إلى تحول هيكلي كلي في الاقتصاد العالمي. سيصحب هذه الحقبة تغييرات جذرية في العوالم الاقتصادية والاجتماعية والبيئية بما فيها الأنظمة التعليمية والتشريعية والقانونية والسياسية والحوكمة. إن القرارات التي ستتخذها الدول والحكومات لمواكبة التطور السريع المصاحب لهذه الحقبة ستأثر على حياة الشعوب وتقدمها وازدهارها وانتاجها القومي واقتصادها المحلي للخميس عامًا إن لم يكن المئة عام القادمة.

 

معظم دول العالم ما زالت بعيدة عن التطبيق الكلي والشامل لتقنيات الثورة الصناعية، خصوصًا الدول النامية التي تحتاج إلى بذل الجهد الأكبر لمواكبة التغييرات القادمة. وهناك حاجة إلى تفعيل التعاون الوثيق بين الدول لخلق منظومة مشتركة من المعايير والتشريعات والقوانين الدولية لغايات ضبط وتحديد آليات استخدام التقنيات التي تؤثر على علاقات الدول المختلفة بدول الجوار. 

 

على الرغم من التخوف المصاحب لهذه الحقبة التكنولوجية الجديدة، تمثل الثورة الصناعية الرابعة الأمل للعديد من الدول والشعوب لتحسين المستوى المعيشي للأفراد ورفع كفاءة الخدمات الصحية والتعليمية والحد أو التقليل من الفقر وحماية البيئة وتحقيق المساواة الاجتماعية بين الجنسين وتعزيز فرص العمل للمرأة والشباب ودفع عجلة الاقتصاد وتعزيز التنافسية. إنها الثورة الصناعية الرابعة التي ستشكل المستقبل الذي لا مفر منه، وعلينا جميعًا أن نستعد لهذا التغير الحتمي.

 

 

المراجع

-         Kennedy, P. (1988), Rise and Fall of the Great Powers, London Sydney Wellington, UNWIN HYMAN LIMITED, ISBN 0-04-909019-1, London: United Kingdom.

-         Convey, S. R. (2004), The 8th Habit: From Effectiveness to Greatness, Free Press, 1st ed., ISBN 0-7432-8793-2, New York, NY: United States.

-         Schwab, K. (2016), The Fourth Industrial Revolution, Crown Business [2017], by World Economic Forum [2016], 1st ed. ISBN 9781524758868, New York, NY: United States.

-         WEF (2018), The Next Economic Growth Engine: Scaling Fourth Industrial Revolution Technologies in Production, World Economic Forum (WEF) in collaboration with McKinsey & Company, White Paper, REF 110118, Geneva: Switzerland.

-         Xu, M., David, J. M. & Kim, S. H. (2018), The Fourth Industrial Revolution: Opportunities and Challenges, International Journal of Financia Research, Vol. (9), No. (2), pp. 90-95.

-         UN-ESCWA (2019), Fourth Industrial Revolution: Impact of the Fourth Industrial Revolution on Development in the Arab Region, United Nations Economic and Social Commission for Western Asia (UN-ESCWA), Beirut: Lebanon.

-         برايس ووترهاوس كوبرز (2016)، الثورة الصناعية الرابعة: بناء المؤسسات الصناعية الرقمية، برايس ووترهاوس كوبرز (PwC) بالتعاون مع القمة العالمية للصناعة والتصنيع (GMIS).

-         التقدم العلمي (2018)، "الثورة الصناعية الرابعة: منعطف هائل في تاريخ البشرية"، مؤسسة الكويت للتقدم العملي (KFAS)، من خلال: https://scholar.cu.edu.eg/?q=tkapiel/files/afq_lwrth_wlmlwmty_lhywy
_fy_dw_lthwr_lrb.pdf

-         برنامج الأمم المتحدة الانمائي(2019)، "استشراق مستقبل المعرفة"، برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) بالتعاون مع مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم للمعرفة، من خلال: https://www.undp.org/content/dam/rbas/
doc/capacity building/Future_of_Knowledge_A_Foresight_Report_AR_compressed.pdf

 

مجلة آراء حول الخليج