; logged out
الرئيسية / الثورة الصناعية الرابعة: الفرص الخليجية أكبر في التكيف والمستقبل الواعد

العدد 146

الثورة الصناعية الرابعة: الفرص الخليجية أكبر في التكيف والمستقبل الواعد

الأحد، 02 شباط/فبراير 2020

ظهرت الثورة الصناعية الرابعة في الحقبة التي ارتفعت فيها الوتيرة التنافسية بين الدول لحماية قدراتها الإنتاجية والصناعية والاقتصادية. وتزامن هذا الظهور مع تزايد القيود البيئية، والتهديد الناجم عن النزوح الهائل للقوى العاملة، وتزايد عدم المساواة، وارتفاع معدلات البطالة والفقر، وغيرها من المشاكل الحضرية وما لها من تأثير على تقدم واستدامة الأمم. تعتبر دول مجلس التعاون الخليجي من أكثر الدول في المنطقة العربية استعدادًا لهذه الحقبة. فهل يمكن لهذه الدول التكييف في الوقت المناسب مع تطورات تقنيات الثورة الصناعية الرابعة. وما هي التحديات والفرص المصاحبة لهذه الحقبة وأين دول الخليج العربي منها الآن.

لمحة تاريخية ونظرة مستقبلية

دخل العالم اليوم في ظل ثورة صناعية جديدة مختلفة عن سابقاتها من الثورات الصناعية الثلاث. إنها الثورة الصناعية الرابعة التي ستؤدي إلى انبثاق اقتصاديات جديدة لم يسبق لها مثيل عبر التاريخ. يتطلب ذلك التكيف مع عصر هذه الثورة أشكالا مبتكرة لحماية الصالح العام. ولتحقيق ذلك، هناك حاجة ملحة لتعزيز الشراكة الفاعلة بين جميع القطاعات العام منها والخاص والمجتمع المدني والأوساط الأكاديمية والحكومة لضمان الاستثمار الصحيح للمعرفة والمهارات والإمكانيات للتغلب على التحديات الحالية والمستقبلية.  

تميزت الثورة الصناعية الأولى، والتي امتدت من العام 1760م، إلى العام 1840م، باستخدام طاقة الماء والبخار لميكنة الإنتاج. واستخدمت الثورة الصناعية الثانية، والتي امتدت بين العامين 1867م و1914م، الطاقة الكهربائية لخلق الإنتاج الضخم. واعتمدت الثورة الصناعية الثالثة على الإلكترونيات وتكنولوجيا المعلومات لأتمته الإنتاج. واستمرت الأخيرة من العام 1969م حتى العام 2016م الذي أعلن فيه عن بدء حقبة الثورة الصناعية الرابعة خلال المنتدى الاقتصادي العالمي الذي عقد في دافوس. تعتمد الثورة الصناعية الرابعة على الثورة الصناعية الثالثة، ولكنها في الواقع أكثر تعقيدًا وسرعة وتتميز بمزيج من التقنيات التي ستؤدي إلى زيادة الاندماج بين العوالم والمجالات المادية والرقمية والبيولوجية (الشكل 1).

 

الشكل 1: الثورات الصناعية الأربع

 

 

مع تطور تقنيات جديدة مثل الذكاء الاصطناعي، والروبوتات المتقدمة، وتكنولوجيا النانو، والتكنولوجيا الحيوية، والحوسبة الكمومية، وسلاسل الكتل، وانترنت الأشياء، والطباعة ثلاثية الأبعاد، والطائرات المسيرة والمركبات ذاتية القيادة وغيرها،  وتوفر هذه التقنيات للعالم فرصًا حقيقية لمواجهة العديد من التحديات العالمية مثل تغير المناخ، وتناقص الموارد الطبيعية، وتزايد عدد السكان (الذي من المتوقع أن يصل إلى 9.8 مليار شخص بحلول العام 2050م، بناء على تقرير منظمة الأغذية والزراعة للعام 2017)، وزيادة في الطلب على الغذاء بنسبة 50٪ (بناء على تقرير منظمة الفاو للعام 2018م) وغيرها من التحديات. كما ستساهم هذه التقنيات ليس فقط في تعزيز اقتصاد الدول وزيادة الإنتاجية الاقتصادية، بل في إعادة تشكيل العديد من القطاعات الحضرية بما في ذلك النقل، الطاقة، النفايات، المياه، المباني، الأمن، المساواة بين الجنسين، وزيادة الرفاهية.  وعلى الرغم من ذلك، فإن التأثير المدمر للتغير التكنولوجي الواسع النطاق المصاحب لهذه الحقبة بالإضافة إلى نقاط الضعف في العديد من الدول، كعدم جاهزية البنية التحتية، قد يؤدي إلى ظهور فجوة تكنولوجية يمكن أن تزيد من تقييد القدرة التنافسية وتؤثر في تطلعات هذه الدول لتحقيق تنميتها المستدامة.

 

تمثل الثورة الصناعية الرابعة فرصة استراتيجية لدول مجلس التعاون الخليجي لتعزيز قدراتها التنافسية وتنميتها الاقتصادية والاجتماعية، ليس فقط على مستوى المنطقة العربية التي تحتل فيها دول المجلس مقاعد الريادة، ولكن على الخارطة العالمية ككل. إن هذه الفرصة تستلزم من دول الخليج العربي العمل على التكيف مع تقنيات هذه الثورة الصناعية وتذليل التحديات المصاحبة لهذا التكيف من خلال سد الفجوات التنموية والتقنية الحالية والعمل على ردف هذه الدول بالمشاريع التنموية القائمة على تقنيات العصر الجديد، المحلية والإقليمية.

دول الخليج والتحديات

إن التحديات التي تواجه دول مجلس التعاون الخليجي لا تقتصر فقط عليها. فالعالم أجمع يقف حاليًا على مفترق طرق فيما يخص الاندماج والتقدم في الثورة الصناعية الرابعة، أو التراجع والانكماش والبقاء في الظل. يحتاج هذا الاندماج الى أن يتم التخطيط له بدقة ومهارة عاليتين تضمنان خلق الفرص التنموية وألا تؤدي هذه الحقبة إلى زيادة الفجوة التكنولوجية بين هذه الدول ودول العالم المتقدم. وتتلخص التحديات التي تواجه دول الخليج:

1.          احتمالية فقدان الوظائف: تشير العديد من الدراسات أن ما نسبته %50 تقريبًا من الوظائف المبنية على الصناعة سيتم فقدانها في ظل الثورة الصناعية الرابعة. لم يتم التحقق بعد من هذه النسبة، ولكن استبدال الأيدي العاملة في الصناعة بأخرى آلية سيؤدي إلى الاستغناء عن العمالة البشرية في العديد من المصانع، خصوصًا المتعلقة بخطوط الإنتاج والفحص والتعليب وغيرها. وتشير الدراسات الإقليمية إلى أن نسبة الإحلال في التشغيل الآلي مكان الأنشطة البشرية تقدر بـ %55 للوظائف التي يعمل بها خريجو المدارس الثانوية، و%50 للعمال الذين لا يحملون هذه الشهادة، وتقل هذه النسبة إلى ما يقارب %22 لحاملي شهادة البكالوريوس وأعلى. وتتمثل الوظائف الأقل خطرًا للأتمتة بتلك المبنية على (1) الإدراك والتلاعب والتي تتطلب مستوى عالي من التحليل الحسي والبراعة اليدوية، (2) الذكاء الإبداعي والذي يتطلب القدرة على التوصل إلى أفكار /أو أعمال فنية جديدة، (3) والذكاء الاجتماعي كالتفاوض والإقناع والرعاية والتوجيه (بناء على دراسة إقليمية نشرتها مؤسسة الإسكوا التابعة للأمم المتحدة في العام 2019). على الرغم من أن معدلات البطالة في دول الخليج أفضل بكثير من نظيراتها العربية، كما هو موضح في الشكل 2، فهناك حاجة أن تعمل هذه الدول على تعزيز القوى العاملة المحلية وتهيئتها للاحتياجات التقنية الخاصة بسوق العمل المستقبلي والحفاظ على هذه النسب المنخفضة قدر الإمكان. حيث أوضحت الدراسات أن معدل البطالة لدول مجلس التعاون الخليجي قد ازداد من العام 2017 للعام 2019م، من %3.9 إلى %4.0. وعلى الرغم من أن نسبة الزيادة ضئيلة، إلا أنها تشكل دافعًا لهذه الدول للبدء باتخاذ الخطوات اللازمة لضمان عدم استمرارية ازدياد هذه النسبة في السنوات القادمة خصوصًا مع بدء تدفق تكنولوجيات المستقبل إلـى سوق العمل المحلي والعالمي. 

 

2.          تحديات المهارات: تتطلب تقنيات المستقبل مهارات خاصة لمواكبتها والتعامل معها بشكل يتناسب مع الرؤية التنموية للدول. وتتفق معظم الدراسات على أن وظائف المستقبل ستتطلب مهارات متوسطة وعالية المستوى. وقد سلط معهد ماكينزي العالمي الضوء على ثلاث مجموعات من المهارات الأساسية التي ستحتاجها الأسواق بحلول العام 2030م.

 

3.           وشملت الأخيرة (1) المهارات المعرفية العليا التي يتمتع بها الأطباء ومحللو البحوث والكتاب والمحررون وغيرهم (كمهارات القراءة والكتابة المتقدمة، المهارات الكمية والإحصائية، مهارات التفكير النقدي ومعالجة المعلومات المعقدة)؛ (2) المهارات الاجتماعية والعاطفية والتي يطبقها العاملون في مجالات البرمجة والمستجيبون لحالات الطوارئ والمستشارون (كالمهارات اللينة: التواصل والتفاوض، والتعاطف، وإدارة الآخرين، والقدرة على التكيف، والقدرة على التعلم)؛ (3) المهارات التكنولوجية وتشمل تقنية المعلومات المتقدمة وتحليل البيانات والهندسة والبحث والتي يستخدمها مطورو البرمجيات والمهندسون والخبراء العلميين. وعلى الرغم من أن بعض الشركات العاملة في دول مجلس التعاون الخليجي قد بدأت فعليًا باستخدام تقنيات الثورة الصناعية الرابعة وتدريب موظفيها على مهارات استخدام هذه التقنيات، إلا أن هذا لا ينفي الحاجة إلى ضرورة تعزيز قدرات جميع العاملين في القطاعات المحلية المختلفة بهذه المهارات.   ولابد أن تبدأ هذه الدول بوضع سياسات تعليمية جديدة تضمن التمكين بمهارات استخدام تقنيات الثورة الصناعية الرابعة من المراحل التعليمية الأولى مرورًا بالتعليم الجامعي والعالي. حيث توقع المنتدى الاقتصادي العالمي أنه في العام 2020م، ستكون %21 من المهارات الأساسية في دول مجلس التعاون الخليجي مختلفة عن تلك المهارات التي كانت مطلوبة في العام 2015.

4.           الأمن والخصوصية: القلق المستمر من التكنولوجيا بشكل عام وتقنيات الثورة الصناعية الرابعة بشكل خاص يتمثل في تأثيراتها المحتملة على الأمن والخصوصية بشقيها السيبرالي والمادي. وتعد الخصوصية أحد أكبر التحديات الفردية التي تطرحها تقنيات الحقبة الجديدة. فقد أفادت الدراسات أن التخوف على الخصوصية يتجاوز اختراق البيانات والأضرار المالية إلى احتمالية فقدان الأرواح. حيث تشير الإحصائيات إلى أن الدول العربية بما فيها دول مجلس التعاون الخليجي مستهدفة بهجمات إلكترونية بنسبة %6 أكثر من باقي دول العالم. علمًا بأن ما نسبته %64 من سكان الخليج العربي يملكون هواتف ذكية متصلة بالإنترنت والتي يسهل اختراقها إن لم تكن محمية بشكل صحيح ويشمل ذلك أيضًا الأجهزة الأخرى المتصلة بالإنترنت كالتلفاز الذكي والأجهزة القابلة للارتداء كالساعات الذكية. وفي ذات السياق، فقد تم الإبلاغ عن اختراقات إلكترونية لأجهزة ضبط نبضات القلب وأنظمة مراقبة الجلوكوز وتوصيل الانسولين والزرع العصبي والأطراف الصناعية الذكية. والتخوف الأكبر يكمن في إمكانية استخدام تقنيات الثورة الصناعية الرابعة، كالطائرات المسيرة، لزعزعة الأمن الداخلي لهذه الدول. وبناء عليه، فإن التعاون المشترك بين دول مجلس التعاون الخليجي لوضع السياسات الرادعة لمثل هذه الاختراقات، بشقيها السيبراني والمادي، أصبح من الضرورات.

5.          اللوائح والقوانين: تمثل اللوائح القانونية والتشريعات الوطنية والدولية بما فيها أنظمة الحماية القانونية والاجتماعية تحديًا آخرًا يواجه جميع دول العالم بما فيها دول مجلس التعاون الخليجي، حيث أن المعتمد منها حاليًا لا يتلاءم مع الاحتياجات التطويرية المصاحبة لاستخدامات تقنيات الثورة الصناعية الرابعة.  هناك حاجة ملحة لسد هذه الفجوة من خلال اعتماد قوانين محلية على مستوى الدولة في مجلس التعاون الخليجي وأخرى مشتركة على مستوى دول المجلس ككل وأخرى إقليمية ودولية لتنظيم استخدام هذه التقنيات. فعلى سبيل المثال، لا يوجد حتى اللحظة لوائح /أو قوانين لتحديد آليات استخدامات السيارات ذاتية القيادة /أو الطائرات المسيرة؛ على الرغم من البدء باستخدام هذه التقنيات من قبل بعض الشركات والأفراد والدول لغايات تجريبية أو تسويقية أو دفاعية أو هجومية.

6.          الحاجة لهيكليات جديدة: هناك حاجة من جميع دول مجلس التعاون الخليجي إلى اعتماد هيكليات اقتصادية واجتماعية وتعليمية متطورة قادرة على التكيف مع التغيرات القادمة. يشمل ذلك رسم دراسات جديدة وإخضاع مؤسسات القطاعين العام والخاص لمستوى عالي من الكفاءة كي تتمكن من الحفاظ على قدراتها التنافسية.

7.          وغالبية دول مجلس التعاون الخليجي بدأت بالفعل بتغييرات في هيكلياتها الحالية لتهيئة الواقع للتغييرات المستقبلية، ولكن هذه التغييرات لا بد أن تشمل كافة القطاعات الحيوية والتنموية. على سبيل المثال، هناك حاجة ملحة لإعادة النظر في الخطط التنموية طويلة الأمد لهذه الدول، خصوصًا تلك التي لم تأخذ بعين الاعتبار الآثار الديموغرافية والاقتصادية التي ستحدثها تقنيات الثورة الصناعية الرابعة.  كما قامت غالبية دول الخليج في السنوات الماضية بتطوير الأنظمة التعليمية باعتماد تقنيات جديدة في التعليم الحكومي والخاص. المطلوب في هذه المرحلة البدء بتحديد الفجوات التقنية في المناهج الدراسية الحالية واغلاقها من خلال التغيير الشامل لهذه المناهج بأخرى تتلاءم مع المهارات المستقبلية المطلوبة في سوق العمل لغايات إنشاء أجيال جديدة قادرة، ومن لحظة التخرج، على الانخراط في سوق العمل.

8.          البحث والتطوير: يعتبر البحث والتطوير أحد الدعائم الرئيسية لتعزيز الاندماج في حقبة الثورة الصناعية الرابعة.تستثمر دول مجلس التعاون الخليجي بكثافة في البنية التحتية الخاصة بالأبحاث، ولكن بشكل أقل على البحث والتطوير (R&D) عالي الجودة. وأظهرت الدراسة التي أجرتها "ستراتيجي آند" في العام 2018م، أن أعلى إنفاق على البحث والتطويرمن الناتج المحلي الإجمالي هو في دولة الإمارات العربية المتحدة بنسبة %0.9 تليها المملكة العربية السعودية بنسبة %0.8. وهذه النسبة تتطلب الزيادة (شكل 3). كما تشير الدراسات إلى أن الأبحاث الأكاديمية التي يدعمها القطاع الخاص محدودة؛ والجامعات ليس لديها ما يكفي من القنوات لفتح أبواب التعاون مع الجامعات الدولية أو القطاع الخاص أو الحكومة. والذي بدورة يقلل من إنتاجية وجودة البحوث، ويعيق تحقيق أي تأثير إيجابي للابتكار. ومن المعيقات الأخرى أمام البحث والتطوير هو أن النظام القانوني في المنطقة لا يحمي بشكل فعال الملكية الفكرية للباحثينولا يوفر لهم أي دعم تسويقي لنتائج الأبحاث. ونتيجة لذلك، فإن دول المنطقة تدفع ثمنًا باهظًا لاستيراد المعرفة، وهو حل غير مستدام لا يلبي دائمًا الاحتياجات، وفي المقابل سيؤدي إلى أن تخسر هذه الدول فرصة نمو مهمه؛ حيث تفيد الدراسات الأكاديمية أن زيادة الإنفاق على البحث والتطوير بنسبة %1 من شأنها أن تعزز النمو الاقتصادي بنسبة تتراوح ما بين %0.6 إلى %2.2. وعليه، هناك حاجة لبذل المزيد من الجهد لتعزيز النظام البيئي للبحوث في دول الخليج لغايات إنتاج أبحاث عالية الجودة يمكن أن تؤدي إلى الابتكار الذي يمكن في المقابل أن يساهم في تعزيز الاقتصاد المحلي. والمطلوب لتحقيق ذلك أن يتم، وبعناية، تحويل جزء من الإنفاق العام لغايات البحث والتطوير، وخلق حوافز لإجراء البحوث العلمية عالية التأثير؛ والتي سينتج عنها سهولة انتقال هذه الدول نحو الاقتصاد المتنوع، وإدارة أفضل للتحديات المجتمعية، وتقليل الاعتماد على الواردات (استيراد المعرفة) بشكل عام.

 

المصدر: البنك الدولي، ستراتيجي آند، 2018

الشكل 3: نفقات البحث والتطوير لدول مجلس التعاون الخليجي كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي

 

الفرص المتاحة

ليس هناك حتى اللحظة اتفاق على الفرص التي ستوفرها الثورة الصناعية الرابعة للشعوب وللدول وللأعمال. ولكن لوحظ تاريخيًا أن الإنتاجية ترتفع خمسين ضعفًا من عصر إلى الآخر كما حدث في زيادة الإنتاجية ما بين العصرين الصناعي والزراعي. ولوحظ أيضًا أن كل عصر تالٍ يلغي العديد من وظائف العصر السابق، إلا أن هذا الإلغاء يفتح الباب للعديد من الوظائف الجديدة للظهور والتي لم تكن موجودة في السابق.

تشير معطيات الثورة الصناعية الرابعة إلى إمكانية توفير مزايا كبيرة لدول مجلس التعاون الخليجي التي بدأت بإتباع استراتيجيات قائمة على التنويع الاقتصادي نظرًا لتراجع أسعار النفط في منتصف العام 2014م، وما يميز هذه الدول قلة الكثافة السكانية، مع صغر متوسط عمر السكان، والذي يُمكنها من تأهيل غالبية القوة العاملة المستقبلية بصورة تتأقلم مع التطورات التكنولوجية الراهنة، من دون ظهور إشكاليات في ضخامة التكلفة المادية لإتمام هذا الأمر. ويمكن تلخيص الفرص المتاحة لدول مجلس التعاون الخليجي بالنقاط التالية:

1.صناعة النفط والغاز: تعتبر منطقة الخليج من أكثر المناطق المنتجة للنفط، إذ يوجد فيها أكثر من نصف احتياطي النفط العالمي. وقد أوضحت الدراسات أن إنتاج السعودية من النفط قد يصل إلى 12.2 مليون برميل يوميًا حسب الطاقة الاستيعابية، تليها الإمارات بمعدل 3.2 مليون برميل يوميًا. وسوف يساهم تبني تكنولوجيات الثورة الصناعية الرابعة في تحسين كفاءة الإنتاج وتخفيض نسبة التكاليف، بدءًا من مرحلة الاستكشاف مرورًا بمراحل التكرير وتوزيع المنتجات للاستخدام النهائي. فعلى سبيل المثال يمكن لتقنيات تحليل البيانات أن تساهم في تحديد المواقع الجغرافية التي يمكن العمل عليها لزيادة استخراج النفط والغاز؛ بما في ذلك تحسين عمليات الحفر والمراقبة للمعدات وتدفق النفط والغاز في الأنابيب أي التعرف على المشاكل قبل حدوثها وتسهيل الصيانة الفورية. ويمكن أن تساهم تقنيات سلاسل الكتل في تسهيل الشحن لجميع الدول وتنظيم المخزون بشكل أفضل مع تحويل العقود التقليدية إلى عقود ذكية يصعب التلاعب بها. وفي حال البدء بتبني واستخدام تقنيات علوم الفضاء، كالمبادرة التي نتج عنها إطلاق القمر الصناعي "خليفة سات" من وكالة الفضاء الإماراتية في 29 أكتوبر 2018م، فيمكن المساهمة في تحديد المواقع الجغرافية التي تتمتع بمخزون نفطي وغازي يمكن الاستفادة منه. وستساعد تقنيات المستقبل في تقليل الأضرار البيئية الناتجة مع عمليات تكرير ونقل النفط والغاز.  

2.الاقتصاد: تقدم الثورة الصناعية الرابعة مزايا كبيرة لدول مجلس التعاون لتعزيز اقتصاداتها المحلية خصوصًا بعد أن اعتمدت استراتيجيات التنوع الاقتصادي غير المبني بشكل كلي على النفط. وعلى الرغم من أن معدل النمو الاقتصادي لدول المجلس قد شهد تراجعًا كبيرًا في العام 2019م، والذي سجل %0.8 من %2 في العام 2018م، إلا أن الدراسات تشير إلى إمكانية انتعاش معدل هذا النمو على الأمد المتوسط ليصل إلى %2.2 في العام 2020م، وإلى %2.6 في العام 2021م. يعتمد هذا النمو على انتعاش أسعار النفط واستمرار النمو في القطاعات غير النفطية. ويمكن لتقنيات الثورة الصناعية الرابعة توفير النمو الاقتصادي المنشود. ويشمل ذلك، البدء باعتماد استخدام الطاقة المتجددة بشكل كلي، واعتماد التكنولوجيا المالية والتجارة الإلكترونية، ودعم وتبني إنشاء الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم؛ بما في ذلك أيضًا تأسيس مشروعات مشتركة بين هذه الدول في قطاعات النقل والسياحة والربط الكهربائي وبناء خطوط السكك الحديد الحديثة وغيرها. وتعتبر دولة الإمارات نموذجًا في مجال الطاقة المتجددة، حيث تمتلك هذه الدولة نحو %70 من قدرات توليد هذه الطاقة في دول مجلس التعاون الخليجي تليها السعودية بنسبة %17 والكويت بنسبة أقل من %10. كما وستتيح تقنيات الثورة الصناعية الرابعة إمكانية جمع وتحليل البيانات عبر الأجهزة، مما يتيح عمليات أسرع وأكثر مرونة وأكثر كفاءة لإنتاج سلع عالية الجودة بتكلفة مخفضة. سيؤدي هذا بدوره إلى زيادة إنتاجية الصناعات التحويلية، وتعزيز النمو الصناعي، وتعديل صورة القوة العاملة، مما يؤدي في النهاية إلى تغيير القدرة التنافسية للشركات ودفع عجلة نمو قطاع الصناعات التحويلية في دول مجلس التعاون.

3.الأمن والحماية: يمكن لدول مجلس التعاون الخليجي تعزيز أمنها المحلي والإقليمي ورفع درجات الحماية للمواطنين والمنشآت من خلال تبني نماذج أمن وحماية ذكية مبنية على الذكاء الاصطناعي. فمن البديهي، ومع التطور التكنولوجي الهائل القادم، ستصبح الدول والأفراد أكثر عرضة للاختراق. وتصبح جميع الخدمات الحكومية وقواعد البيانات والخطط الاستراتيجية والوثائق والمعلومات السرية عرضة لهجمات القراصنة وللتلاعب بها وتسريبها. هذا بالإضافة إلى أنه ومع التقدم العلمي ستصبح الأسلحة والأدوات العسكرية قليلة التكلفة وسهلة التصنيع وشديدة التدمير. وتوفر تقنيات الثورة الصناعية الرابعة الوسائل لتقليل مضار ما سبق. فعلى سبيل المثال، يمكن لدول الخليج البدء في تبني استخدام تقنيات الأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي والمجسات على البرامج والشبكات للحماية من الاختراقات الإلكترونية التي قد تكون مدمرة في حال تم التمكن من الوصول إلى بيانات ومعلومات سرية. ويمكن للطائرات المسيرة توفير التغطية التصويرية اللحظية لأي منطقة يحظر الاقتراب منها أو ملاحقة مجموعة من المشتبهين دون الحاجة لاستخدام الطائرات الكبيرة. وتساعد تقنية التصوير الفضائي المبني على تقنيات الذكاء الاصطناعي من تحديد والتنبيه لأي هجوم محتمل من خلال التقارير اللحظية والمسح الجغرافي للتحركات على الأرض. إن تبني تقنيات الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني من قبل دول مجلس التعاون الخليجي سيجعلها رائدة في هذا المجال في المنطقة، خصوصًا في ظل التحديات السياسية الصعبة التي تمر فيها المنطقة العربية ككل.

4.التعليم والابتكار والبحث والتطوير: اعتمدت غالبية دول مجلس التعاون سياسات تعليمية جديدة تهدف إلى استخدام التقنيات الحديثة في جميع المراحل التعليمية. على الرغم من ذلك، فإن تبني سياسات تعليمية جديدة، في التعليم العام (المدرسي) والعالي (الجامعات) من خلال البدء بتغيير المناهج التعليمية بأخرى تأخذ بعين الاعتبار تقنيات الثورة الصناعية الرابعة سيساهم في تعزيز جودة التعليم وتهيئة الخريجين لسوق العمل. إن تغيير المناهج الحالية سيؤدي إلى تعزيز الابتكار من المراحل التعليمية الأولى والذي بدورة سينعكس بشكل إيجابي على الاقتصاد المحلي من خلال تحويل هذه الأفكار الابتكارية والإبداعية إلى شركات ناشئة. وسيساهم تبني دول الخليج لسياسات البدء بإنشاء مراكز إقليمية لدعم البحث والتطوير إلى أن تصبح هذه الدول رائدة في مجال البحث والتطوير في المنطقة العربية التي تعاني أساسًا من ضعف في هذا المجال؛ وسيتبع ذلك بالضرورة العمل على اعتماد قوانين خاصة للحماية الفكرية التي لا تتوفر حاليًا في المنطقة العربية ككل. والجدير ذكره، أن جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية، التي أسست في العام 2009م، تقدم نموذجًا يحتذى به في المنطقة للبحث والتطوير. حيث تقدم الجامعة البنية التحتية المتقدمة لدعم البحث والتطوير. ويشمل ذلك أحد عشر مركزًا بأحدث التكنولوجيات المتطورة وتسعة مختبرات رئيسية توفر مرافق وخدمات متقدمة تقنيًا لغايات البحث والتطوير. كما تنتهج الجامعة سياسة تمويل الأبحاث من خلال استثمارات الأسهم في الشركات الناشئة بتمويل تأسيسي (تبلغ قيمته أقل من 200,000 دولار) وصولاً إلى المراحل الأولى (تصل إلى 2 مليون دولار). بالإضافة إلى المنح البحثية التنافسية ودعم المؤتمرات وورشات العمل.

5.البيئة والغذاء والصحة: بدأت معظم دول الخليج في تعزيز البدء باستخدام التكنولوجيا الحيوية في عدة مجالات منها الطبية والبيئية والزراعية. إن بدء الاستثمار بهذه التكنولوجيا سيفتح الباب أمام هذه الدول لزيادة إنتاج الطاقة وإدارة النفايات ومكافحة الآفات. بالإضافة إلى تعزيز القطاع الصحي والغذائي؛ حيث يمكن، على سبيل المثال، للمحفزات الحيوية ورقائق الفرشات الزراعية القابلة للتحلل الحيوي أن تساهم بشكل كبير في زيادة الإنتاجية الزراعية. كما سيساهم استخدام التغليف الحيوي وزيوت التشحيم الحيوية في الحد من المنتجات البلاستيكية والتلوث العام المؤذي للبيئة. وللحفاظ على البيئة من انبعاثات الغازات الدفيئة الناتجة من الوقود الأحفوري يمكن أن يلعب استخدام الإيثانول الحيوي دورًا مهمًا في تحقيق تقليل الانبعاثات. كما وستتمكن دول المجلس من تحديد المناطق الأكثر مناسبة للزراعة باستخدام تقنيات التصوير الفضائي، الذي بدورة أيضًا سيساعد في تحديد المناطق التي تحتوي على مصادر مياه جوفية. كما ويمكن استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في تنفيذ المهام المضنية التي تجري عادة في المختبرات مثل تصميم هياكل تعديل الجينات؛ وغيرها من التقنيات التي يمكن استخدامها للتحسين البيئي والتطوير الزراعي والصحي والغذائي في منطقة دول مجلس التعاون الخليجي والتي لا يمكن حصرها في هذا المقال.

 

الخاتمة

ستؤثر الثورة الصناعية الرابعة على جميع القطاعات والتخصصات في دول مجلس التعاون الخليجي. وسيصاحب ذلك العديد من التغييرات الجذرية في العوالم الاقتصادية والاجتماعية والبيئية بما فيها الأنظمة التعليمية والتشريعية والقانونية والسياسية والحوكمة لهذه الدول. على الرغم من أن معظم دول العالم ما زالت بعيدة عن التطبيق الكلي لتقنيات هذه الحقبة، إلا أن دول الخليج لها الحظ الأوفر في المنطقة بأن تكون الرائدة في البدء بتطبيق هذه التقنيات والاستفادة منها على كافة الأصعدة الآنفة الذكر. وعلى الرغم من التحديات المصاحبة لهذه الحقبة، يمكن لهذه الدول تحويل هذه التحديات إلى فرص لغايات التنمية والازدهار إذا استغلت التقنيات المصاحبة للوقوف على هذه التحديات بشكل سليم وعلمي ومدروس.

مقالات لنفس الكاتب