; logged out
الرئيسية / كورونا حرب عالمية هبط بإجمالي الناتج العالمي 4.8 % أي ما يعادل 3.6 تريليون دولار

العدد 149

كورونا حرب عالمية هبط بإجمالي الناتج العالمي 4.8 % أي ما يعادل 3.6 تريليون دولار

الإثنين، 04 أيار 2020

تعتبر الصحة أهم ثروات البشر، فالصحة مهمة لأن الناس يولون أهمية كبيرة للعيش حياة طويلة خالية قدر الإمكان من أي اعتلال بدني أو عقلي. ويوضح خبراء اقتصاديات التنمية باستمرار الرابطة القوية بين الرفاهية والصحة، وهو ما يتضح على مستوى العالم، فالسكان في البلدان ذات الدخل الأكثر ارتفاعًا غالبًا ما يتمتعون بمستويات أفضل من الصحة، مما يعتبر عادة نتيجة التغذية المتميزة وزيادة فرص الحصول على مياه الشرب الآمنة، والصرف الصحي، والرعاية الصحية التي يوفرها الدخل المرتفع.
لعل من أوضح مؤشرات التقدم في الرعاية الصحية عبر البلدان وعبر العالم الزيادة الحادة التي تحققت في أعمار المواطنين. فعلى مدار العقود الستة الماضية، زاد متوسط العمر المتوقع عالميًا بأكثر من 23 عامًا ومن المتوقع طبقًا لتوقعات شعبة السكان في الأمم المتحدة أن يزداد قرابة 7 أعوام أخرى بحلول عام 2050م، و تعكس الزيادة المطردة في متوسط العمر المتوقع بين عامي 1950 و 2010 م، حدوث هبوط حاد في معدلات وفيات المواليد والأطفال )فانخفض معدل وفيات المواليد عالميًا من 135 حالة وفيات لكل ألف مولود حي في عام 1950 إلى 37 حالة فقط في 2010 م) وزيادة في طول أعمار البالغين. وقد تأرجح متوسط العمر المتوقع من 25 إلى 30 سنة طوال معظم تاريخ البشرية، ومن ثم فإن المكاسب الأخيرة والمتوقعة في هذا المجال تدخل في زمرة أكبر إنجازات البشرية.
و مع ذلك، فإن الانعكاسات الاقتصادية والمالية العامة لتحسن متوسط العمر المتوقع، ومغزى إطالة الأعمار بالنسبة للرخاء البشري، غير مؤكدة. ففي عام 2013 م، توفي 6.3 مليون طفل قبل بلوغهم العام الخامس من العمر، مما يمثل تراجعًا في أعداد الوفيات من 90 حالة وفاة بين الأطفال لكل ألف مولود حي في 1990 إلى 46 حالة وفاة في 2013م، ورغم أن هذا يمثل تحسنًا كبيرًا، فإن حتى هذا المستوى المنخفض من الوفيات في سنوات الطفولة المبكرة يسلط الضوء على ضعف كبير في النظم الصحية، إذ من الممكن منع حالات الوفيات في سن الطفولة المبكرة استنادًا إلى قدر المعرفة المتاحة والتدخلات غير المكلفة نسبيًا مثل التحصين باللقاحات.
ورغم أن امتداد العمر قد لا يعني دائمًا تحسن مستوى المعيشة، فإن المكاسب المتحققة في متوسط العمر المتوقع هي مؤشر واعد بما يمكن تحقيقه في مواجهة الأخطار الصحية المزمنة والجديدة. ومن هذه الأخطار، الأمراض المعدية مثل الإيبولا و الملاريا والسل والإيدز والتهاب الكبد الفيروسي والإسهال وحمى الضنك و مؤخرًا فيروس كورونا )بما في ذلك الأشكال المقاومة للعقاقير من هذه الفيروسات) .
مخاطر تهدد الصحة العالمية رغم الإنجازات
شهدت الصحة العالمية تحسنًا ملموسًا في القرن الماضي، فقد تم القضاء على أشد الأمراض فتكًا بالإنسان كالجدري وشلل الأطفال أو تم احتواؤها وهناك نسبة كبيرة من سكان العالم يحصلون حاليًا على المياه النقية ومستوى أفضل من خدمات الصرف الصحي، وتم اكتشاف الكثير من الأدوية القادرة على شفاء أو تحسين حالات صحية كثيرة كانت تتسبب في إعاقة أصحابها أو تودي بحياتهم منذ بضعة عقود فقط. و مع ذلك، لا تزال صحة الإنسان تتعرض لأخطار جسيمة، و هذا يبين أن أكبر صدمة تلقيناها على ساحة الصحة العالمية تتمثل في التفاوت الهائل بين إنجازاتنا وإخفاقاتنا وهو ما يظهر من تفشي فيروس كورونا –كوفيد19 المستجد عالميًا مؤخرًا. كما شهدت السنوات الأخيرة ظهور جوائح أخرى، مثل ظهور المتلازمة التنفسية الحادة الوخيمة )سارس(، وفيروسي إنفلونزا الطيور H5N1 و H7N9 ، و جائحة الإيبولا .
و قد هيمنت أنباء جائحة كورونا على أخبار الصحة العالمية خلال معظم الأشهر الأولى من هذه السنة، وهو أمر يمكن تفهمه نظرًا لطبيعة فيروس كورونا المستجد المفزعة والمميتة، ولعدم وجود لقاح مضاد أو علاج في الوقت الراهن، بالإضافة إلى سرعة انتشاره وعلى نطاق واسع في ظل النظم الصحية الضعيفة والبطيئة في ردود أفعالها على المستويات المحلية والإقليمية والعالمية — الأمر الذي يزداد فداحة في ظل وقوع الأخطاء البشرية في التعامل معه.
و عادة ما تلقي الجوائح (الأوبئة المنتشرة عالميًا) عبئًا اقتصاديًا ثقيلًا على كاهل البلدان المتضررة وتتسبب في حالة من الذعر وتنتشر القلاقل السياسية والاجتماعية في المشهد العام الذي يتسم بالهشاشة بالفعل، وتجلب جائحة كورونا هذه السنة إلى الأذهان مقارنات مع غيرها من الأمراض المعدية القاتلة مثل الايبولا، والجدري، وشلل الأطفال، و إنفلونزا الطيور، وفيروس نقص المناعة البشرية )الإيدز(. قبل بداية وباء الإيبولا 2014 م، نادرًا ما كان معظم الناس، بما فيهم صناع السياسات، يفكرون بشأن الجوائح )انتشار الأوبئة في أنحاء العالم( مما يفسر أسباب عدم إدارة مخاطر العدوى على النحو الملائم ووقوع أزمة كورونا هذه السنة أحسن مثال على ذلك بأي حال.
الفيروسات الوبائية: مخاطر الجوائح المربكة و التكاليف الباهظة
لا يزال المجتمع العالمي يواجه أخطارًا جسيمة من جراء الأمراض المعدية، حسبما يتضح من أزمة الكورونا-كوفيد19 الجارية، فلا يزال الوباء منتشرًا إلى حد كبير، حيث بلغت الأضرار البشرية والاجتماعية والاقتصادية معدلات مرتفعة بالفعل، وإذا لم يتم احتواء الأزمة فسوف تتكرر الآثار الصحية والاقتصادية الضارة على المستوى العالمي في حالة طال أمد هذه الجائحة.
و في حالة جائحة عالمية، مثلما يحدث حاليًا، تبدأ العدوى بغتة ثم تزداد سوءًا نتيجة عدم إدراك السلطات والجمهور لمخاطر وانعكاسات انتشارها السريع. و حتى مع عدم انتشار فاشيات الأمراض حول العالم فإن تكلفتها قد تكون باهظة. وتحدث هذه الجوائح بتواتر مخيف وفي ظل السياسات الراهنة، فإن إحدى هذه الفيروسات، أو غيرها من العوامل المُمْرضة، ستتسبب في وقوع جائحة. ووفقًا لما ذكره الاقتصادي لورنس سامرز، فإن درجة الوعي بمخاطر الجوائح منخفضة للغاية، وينبغي أن يعرف كل طفل عن جائحة الأنفلونزا التي وقعت في عام 1918 م، وأودت بحياة 100 مليون نسمة من مجموع سكان العالم البالغ آنذاك 2 مليار نسمة.
وعلى الرغم مما ورد في تقرير صدر مؤخرًا عن البنك الدولي ويعرَّف الجوائح بأنها أحد أهم ثلاثة مخاطر في العالم، بجانب تغير المناخ والأزمات المالية، فإن معظم المناقشات والتقارير والرسائل الرسمية لا تولي اهتمامًا بمخاطر الجوائح. ونتيجة لذلك، لا تحقق الحكومات تقدمًا يذكر في سبيل الحد من المخاطر، رغم أن التدابير اللازمة معروفة وتكاليفها منخفضة — وتنطوي غالبًا على تقوية نظامي الطب البيطري والصحة العامة لاكتشاف الفيروسات والسيطرة عليها. فالعدوى في نهاية الأمر لا تبدأ من فراغ، ففي البلدان النامية هناك عدد مذهل قدره 2.3 مليار من مسببات العدوى التي يحملها الحيوان وتؤثر
على الإنسان سنويًا، فأمراض الماشية التي لا تتم السيطرة عليها والتعرض للعوامل المُمْرضة من الحياة البرية قد تؤدي إلى عدوى واسعة النطاق لأن نظم الطب البيطري والصحة العامة الضعيفة لا تستطيع أن توقف الفيروسات الوبائية وتسمح لها بالانتشار. ومن ثم تشكل السياسات بداية انتقال العدوى، فالإهمال المزمن للصحة البيطرية والبشرية العامة هو اختيار كارثي على مستوى السياسات وهو أيضًا الممارسة السائدة في معظم البلدان.
و الضرر الاقتصادي في هذا الشأن كبير، فالخوف، الذي قد ينتشر أسرع من المرض، يبدِّل سلوكيات المستهلكين ودوائر الأعمال والحكومات. ورغم سرعة احتواء فيروس السارس في عام2003م، فقد بلغ تكلفته 54 مليار دولار، وهو ثمن حفزته الصدمات التي تعرضت لها ثقة الأعمال والمستهلكين. وتسببت فاشية إيبولا سنة 2014م، في حدوث اضطرابات حادة للتجارة والإنتاج والرعاية الصحية في معظم البلدان المتضررة. وفي حالة جائحة كورونا-كوفيد 19 هذه السنة تتدفق آثار مماثلة على المستوى العالمي، وتكون نتائجها، حسب وصف العديد من التقارير، أشبه بوقوع حرب عالمية فهبوط إجمالي الناتج المحلي العالمي بنسبة 4.8 % هو نتيجة منطقية لمثل هذه الجائحة، ويعادل 3.6 تريليون دولار.
وحتى إذا صدقت توقعات المتفائلين بأن احتمالات حدوث جائحة بشكل متواتر لا تتعدى نسبة% 1 سنويًا، فإن المخاطر المحيطة بالاقتصاد العالمي تبلغ 36 مليار دولار سنويًا على امتداد قرن من الزمن، وينفق العالم حاليًا قرابة 500 مليون دولار سنويًا للوقاية من الجوائح، لذا من المؤكد أن إنفاق 36 مليار دولار سنويًا سيكون أكثر من كاف للقضاء على الخطر، ومن ثم فإن زيادة مبلغ الإنفاق إلى هذا المستوى له ما يبرره.
و لحسن الطالع لا تكلف الوسائل الدفاعية من العوامل المُمْرضة إلا جزءًا يسيرًا من هذا المبلغ، فقد خلصت دراسة أجراها البنك الدولي إلى أن إنفاق 3.4 مليار دولار سنويًا سيرفع معايير أداء نظم الطب البيطري والصحة البشرية العامة في جميع البلدان النامية إلى معايير الأداء التي حددتها منظمة الصحة العالمية والمنظمة العالمية لصحة الحيوان. وتشمل هذه المعايير القدرة على الاكتشاف المبكر للعدوى، والتشخيص السليم، وسرعة وفعالية السيطرة عليها( لم تستوف أي من البلدان التي تعرضت لفاشية إيبولا في 2014 م، لأي من هذه المعايير(. وسوف تسيطر نظم الصحة العامة القوية على العوامل المُمرضة التي قد تتسبب في وقوع الجوائح، والأمراض الأخرى الخطيرة على المستوى المحلي. وتتضح هشاشة دفاعاتنا من واقع التحركات لمواجهة فيروسي إنفلونزا الطيور H5N1 و H1N1 ، فقد شهد التمويل قفزة حادة من عام 2006 إلى2009م، مدفوعًا بزيادة الوعي بالمخاطر، لكنه انخفض بعد ذلك بشدة عندما توقف صناع السياسات عن إبداء الاهتمام، و نفس الخطأ ارتكب مع ظهور فاشية الإيبولا سنة 2014م.
والتقلب في التمويل لا يرتبط بمستوى الخطر؛ فالخطر يزداد عندما تنخفض إمكانات الصحة العامة نتيجة نضوب التمويل المتاح بمجرد انتهاء الفاشية. و قد لا يكون الوقت كافيًا للاستجابة السريعة في حالة ظهور جائحة جديدة، و هذا ما أظهرته جائحة كورونا-كوفيد19 الحالية.
لذا تقتضي فعالية البنية الأساسية للدفاع توفير الدعم المطرد، حيث إذا لم تكن نظم الصحة العامة قوية في جميع أنحاء العالم، فإن التوقعات الأليمة تشير إلى أن الأوبئة الفاشية ستستمر في الانتشار من جراء التأخر في اكتشاف فاشية أحد الأمراض والعجز في السيطرة عليها، و لن تكون جائحة كورونا- كوفيد 19الأزمة الأخيرة، ولا الأسوأ.
الاستجابة السريعة للحد من المخاطر الوبائية: التركيز على المستقبل
زادت أهمية الصحة العالمية بدرجة هائلة خلال العقدين الماضيين، مع شغل هذا الموضوع مكانة رئيسية كمؤشر وأداة للتنمية الاجتماعية والاقتصادية.
و رغم الهجمات الكبرى السابقة والأخطار الوبائية المعاصرة على الصحة العامة عبر العالم ، يجب ألا ننسى أن البشرية حققت إنجازات هائلة في الوقاية من الأمراض المعدية والتعامل معها. و يرجع جانب كبير من هذا التقدم لازدياد فرص الحصول على المياه النقية ومرافق الصرف الصحي، وتطوير اللقاحات الآمنة والفعالة واستخدامها على نطاق واسع، وتحقيق ثورة في عالم التشخيص والعلاج الطبي، وتحسين مستويات التغذية والتعليم والدخل. و كانت هناك مساهمات كبيرة أيضًا من النظم الصحية — وهي مزيج من جهود الأفراد، والقواعد التنظيمية والمؤسسات الرسمية، والممارسات غير الرسمية، وغيرها من الموارد - التي تلبي الاحتياجات الصحية للسكان. ومن النظم الفعالة بصفة خاصة تلك النظم التي تؤكد على الوقاية من الأمراض، وتهدف إلى توفير التغطية الشاملة للسكان، والقادرة على إجراء أعمال الرقابة لتقصي الأخطار الفعلية والمحتملة على الصحة العامة ، مما يؤدي إلى تحسين السلوكيات الصحية ورفع المعايير الصحية ومستوى البرامج التدريبية، بالإضافة إلى المحافظة على العاملين في مجال الرعاية الصحية وتحفيزهم وتمكينهم.
و لا جدال أن الصحة هي أحد الجوانب الأساسية للرخاء، وهناك مسارات عديدة يمكن من خلالها تحسين وحماية الرفاهية البشرية، للأفراد والمجتمعات على السواء. ورغم الأخطار المستقبلية، فإن الابتكارات التكنولوجية والمؤسسية تبشر بإنجازات كثيرة تجعل العالم أكثر صحة وثراء ومساواة و أمنًا. و لا يجب النظر للإنفاق على الصحة على أنه نفقات استهلاكية تشكل عبئًا على الموازنة، فهو استثمار في الإنتاجية، ونمو الدخل، والحد من الفقر.
ووفقًا لما ورد في مقال نشر في نوفمبر 2013 في مجلة The Atlantic ، حول أكبر 20 ابتكارًا ساهمت أكثر من سواها في صياغة طبيعة الحياة الحديثة منذ اختراع العجلة قبل 6000 عام، فإن خمسة من هذه الابتكارات يرتبط مباشرة بالصحة، وهي البنسلين، وعدسات النظر، والتحصين باللقاحات، ونظم الصرف الصحي. والابتكارات في مجال الصحة غزيرة، فالطب بالغ الدقة والمخصص لأفراد بعينهم، المعزز بالتقدم المحرز في اختبارات الجزيئات والجينات الوراثية، يفتح المجال أمام فرص جديدة للتنبؤ بالأمراض وعلاجها على المستوى الفردي. والابتكارات التكنولوجية، مثل إنتاج اللقاحات والأدوية الجديدة أو المتطورة والكائنات العضوية المعدلة وراثيًا تبشر بالنجاح في منع الإصابة بالأمراض ومعالجتها. ومع قدوم عصر الصحة الرقمية ، بما في ذلك العلاج الطبي عن بعد، والمجسات التي يمكن ارتدائها، والملفات الطبية الإلكترونية، و الانفراجات التي تحققت في قدراتنا لتحليل كميات كبيرة من البيانات، والأساليب الجديدة لنقل المعلومات والتوصيات الصحية ، تفتح المجال أمام فرص جديدة ومثيرة لتوفير الرعاية الصحية عالية الجودة بتكلفة منخفضة. كذلك، فإن الأجهزة التشخيصية والمساعدة العلاجية الجديدة تفتح المجال أمام فرص مماثلة.
غير أنه يتعين التعامل مع العديد من المشكلات قبل أن تبدأ وعود هذه الابتكارات في التحول إلى حقيقة بالكامل في أنحاء العالم. ولتحقيق هذا الهدف سوف يتعين توافر القوة المالية والإرادة السياسية والتعاون بين العديد من الأطراف المعنية والأطراف الفاعلة، بما في ذلك المنظمات غير الحكومية، والشركات الخاصة، ووسائل الإعلام، والدوائر الأكاديمية، والمجتمع الطبي، والإدارات الحكومية في قطاع الصحة والقطاعات ذات الصلة، داخل البلد الواحد وفيما بين البلدان المختلفة.
و سوف يتطلب تنفيذ بعض الحلول ببساطة توفير الموارد اللازمة لتمكين مقدمي الرعاية الصحية من الاستفادة بصورة أفضل من المعرفة المتاحة حول كيفية تطوير الصحة. وسيتطلب تنفيذ حلول أخرى تشييد البنية التحتية اللازمة لتوفير الصرف الصحي، ومياه الشرب، وخدمات النقل والاتصالات والتعليم والطاقة وهي جميعًا مكونات مهمة في توفير وإمكانية الحصول على الرعاية الصحية ذات الجودة العالية، غير أن هناك حلول أخرى ستتطلب اعتماد سياسات وترتيبات مؤسسية جديدة لتشجيع الناس على إجراء تغييرات إيجابية في أسلوب الحياة وتشجيع ابتكار دوائر الأعمال في تصميم المنتجات الداعمة للصحة وإيصالها للمواطنين مثل اللقاحات والأدوية وكذلك الخدمات مثل الفحوص الطبية، ورسائل التوعية بالصحة العامة. ويجب أن تستمر جوانب التقدم العلمي في دعم العمليات المؤدية إلى هذه المنتجات وسلاسل العرض والتصدي للتحديات الهائلة التي تفرضها المخاطر الصحية الناجمة عن أمراض مثل فيروس كورونا الحالي، و الإيبولا؛ وداء الشيكونغونيا وهو عدوى فيروسية تنتقل عن طريق البعوض، وتتسبب عادة في الإصابة بالحمى وآلام المفاصل؛ وفيروس MRSA (العنقوديات الذهبية المقاومة للميثيسيلين) وغيره من أشكال العدوى المقاومة للمضادات الحيوية.
كما يجب زيادة إمكانات النظم الصحية وتوسيع نطاقها من خال الاستعانة بنماذج جديدة لإجراء أعمال الرقابة الوبائية وكفاءة توظيف الأطباء والممرضين والصيادلة والعاملين في مجال الصحة المجتمعية والاستشاريين. وسوف يتعين تنسيق جهود مختلف الأطراف المعنية والأطراف الفعالة على المستويات المحلية والوطنية والعالمية وذلك لتجنب ازدواجية الجهود وضمان تبادل المعلومات المؤثرة، ووضع الأولويات على أساس قوي ومعقول، وتحقيق الكفاءة الفنية والاقتصادية. ويتعين التنسيق أيضًا لوقاية الصحة من انتقال تداعيات التقدم الاقتصادي والعولمة مثل حرية الحركة عبر الحدود، وتغير المناخ، والتصحر، والجفاف، والتلوث الغذائي والدوائي.
وعندما يتعلق الأمر باستراتيجيات الصحة، فإن مفهوم الحل الواحد الذي يناسب الجميع ليس له أساس من الصحة، نظرًا للتباين الكبير بين البلدان من حيث البناء الاجتماعي والعادات والنظم السياسية والإمكانات الاقتصادية والموروثات التاريخية. فعلى سبيل المثال، من غير المقبول في بعض الخلفيات الثقافية أن يقوم الأطباء الذكور بتوقيع الفحص الطبي على النساء أو معالجتهن. وفي ثقافات أخرى تتوقع الأسر أن تشارك بفاعلية في تقديم الرعاية السريرية لمرضاهم.
وللحكومات دور طبيعي في التدخلات التي تتسم بفعالية التشجيع على بلوغ مستويات تقديم الرعاية الصحية على النحو المحبذ اجتماعيًا. وسوف يتعذر على الأسواق غير الخاضعة للتنظيم القيام بهذا الأمر لأسباب منها آثار انتقال التداعيات المصاحبة للأمراض المعدية وفي بعض الأحيان السلوك الانتهازي لمقدمي الخدمات الصحية من القطاع الخاص الذين يستخدمون معلوماتهم المتميزة ومكانتهم في الأذهان فيسيئون استغلال المستهلكين بتقديم المشورة لهم بإجراء عمليات غير ضرورية ومكلفة.
و يجب أن تتسم أنشطة الوقاية والرصد المبكر والعلاج والرعاية من الفيروسات الوبائية — وتحقيق التوازن بينها — بطابع مهم دائمًا، كما يجب أن تحتل الوقاية من الجوائح صدارة المشهد في المستقبل، وذلك على الأرجح من خلال التوسع في برامج التحصين باللقاحات. ويمثل التقصي المبكر للأمراض عاملاً حاسمًا لأن الأمراض التي تُكتشف مبكرًا يسهل عادة علاجها وتقل تكلفتها. و ينبغي عند معالجة المرضى — وخاصة الأكبر سنًا مع كثرة متاعبهم — مراعاة تفاعلات الحالة الصحية والأدوية ومن ثم تحويل التركيز من الشفاء إلى جودة الحياة. ويرجح أيضًا أن تضطر الحكومات إلى تحمل عبء أكبر بتقديم الرعاية طويلة الأجل والرفقة لكبار السن. وقد يؤدي الاستثمار في الصحة إلى تحقيق عائدات مجزية وتشجيع الملاءة المالية، وخاصة إذا كان ذلك يحد من تكاليف الرعاية الصحية بالتركيز على الوقاية من الأمراض والتقصي المبكر لها، مما يساعد المواطنين على العمل لفترات أطول وبإنتاجية أكبر.
ويتعين تعزيز حوكمة الصحة العالمية ، أي البنيان المتنامي والمتشعب وتفاعل المؤسسات التي ينصب تركيزها على الصحة العالمية، من أجل تشجيع الشفافية والمساءلة والكفاءة واتساع نطاق المشاركة الفعالة والمنسقة بغية التعامل مع المجموعة المتشابكة من مشكلات الصحة الوطنية وحلولها.
وقد ظلت منظمة الصحة العالمية لفترة طويلة حجر الأساس لحوكمة الصحة العالمية. لكن هناك أشكالات جديدة وملحة من الشراكات العالمية ظهرت في السنوات الأخيرة ، مثل منظمة التحالف العالمي للقاحات والتحصين GAVI المعنية بزيادة فرص الحصول على التحصين في البلدان الفقيرة، و الصندوق العالمي لمكافحة الإيدز والسل والملاريا لتمويل أنشطة الوقاية والعاج. غير أنه يتعين توفير آليات جديدة أيضا لتشجيع مزيد من جهود الرقابة على الأمراض والتحرك لمواجهتها في الوقت المناسب وبفعالية، وتبادل المعلومات على المستوى الدولي، وتشجيع وضع معايير الملكية الفكرية التي تضمن توفير الحوافز المالية الملائمة للقطاع الخاص، وخاصة شركات الأدوية، لإجراء البحوث والتطوير مع الحفاظ على القدر الملائم من المرونة للتعامل مع الاحتياجات الصحية الطارئة للفقراء.
ومن الأمثلة الرائعة للحوكمة السليمة في الصحة العالمية الأهداف الإنمائية للألفية، التي وضعتها هيئة الأمم المتحدة في عام 2000 م، بهدف تحسين مستويات الفقر والتعليم والصحة و ما تلاها من أهداف التنمية المستدامة 2030، ورغم أن هذه الأهداف ليست ملزمة قانونًا فإنها تتمتع بشرعية كبيرة نظرًا لإقرارها من 194 بلدًا عضوًا في الأمم المتحدة. كذلك يمكن استخدام هذه الأهداف في المساءلة لأنها مقاسة بالفعل ومعلن عنها. ورغم أنه من غير الممكن وضع تقديرات دقيقة لمدى مساهمة الأهداف الدولية للتنمية في التحسينات المدخلة على الصحة العالمية، فقد أدت هذه الأهداف على ما يبدو إلى تركيز انتباه المجتمع الإنمائي الدولي على قضايا الصحة وحفزت زيادة الإنفاق على الصحة، وخاصة في البلدان منخفضة الدخل.
يجب أن تظل الصحة في مركز الصدارة بالتأكيد في جدول أعمال الاستجابة لما بعد القضاء على فيروس كورونا-كوفيد19 المستجد، رغم أنه لم يتم بعد توضيح طبيعة الهدف الجديد )أو الأهداف( وبؤرة تركيزه ومؤشراته الملموسة، لكن من الأمور التي يجدر الاهتمام بها بصفة خاصة، التركيز على الإجراءات و المدخلات وعوامل الخطر وليس النتائج الصحية؛ والدروس التي يستخلصها المجتمع العالمي من انتشار الفيروسات الوبائية مثل كورونا و إيبولا، يجب أن يتم تطبيقها في تحديد مجموعة جديدة من الأهداف للصحة العامة على الصعيد الوطني و العالمي.

مجلة آراء حول الخليج