; logged out
الرئيسية / تحديات إدارة الموارد المائية في مجلس التعاون: الندرة وزيادة الطلب

العدد 149

تحديات إدارة الموارد المائية في مجلس التعاون: الندرة وزيادة الطلب

الثلاثاء، 05 أيار 2020

تواجه دول مجلس التعاون تحديات عديدة وكبيرة في إدارة قطاع المياه وتحقيق استدامته[1]، بسبب محدودية مواردها المائية الطبيعية وتدهورها المستمر من ناحية، وتسارع معدلات الطلب على المياه نتيجة المعدلات العالية نسبيًا للأنشطة التنموية والنمو السكاني من ناحية أخرى. وتدفع هذه الأوضاع دول المجلس إلى الاستنزاف المستمر لمواردها المائية الطبيعية باستغلالها بمعدلات تفوق معدلات تجددها، والاعتماد وبشكل متزايد على مصادر المياه غير التقليدية ممثلة في التحلية ذات التكاليف المالية والاقتصادية والبيئية العالية لتعويض نقص المياه وتلبية الاحتياجات القطاعية المتزايدة منها. ومن المتوقع أن تنمو تحديات سد الفجوة المائية وأن ترتفع تكاليفها مع الوقت إذا ما استمر اتباع سياسات الإدارة الحالية المبنية أساسًا على إدارة العرض وتعظيم المتاح من الموارد المائية في التعامل مع هذه التحديات، والتي من المتوقع أن تزداد حدة في المستقبل بسبب آثار ظاهرة تغير المناخ العالمي.

تعتبر دول المجلس من أكثر الدول ندرة في المياه في العالم، حيث تقع في منطقة هي بالأساس صحراء ذات بيئة قاسية، باستثناء بعض الأشرطة الساحلية والسلاسل الجبلية ذات المناخ المعتدل. وتتسم بانخفاض معدلات الأمطار وعدم انتظام سقوطها وارتفاع درجات الحرارة. وتبلغ معدلات البخر فيها أضعاف معدلات الأمطار، الأمر الذي يمنع تواجد مياه سطحية دائمة يمكن الاعتماد عليها. وتعتمد في تلبية احتياجاتها المائية بشكل رئيسي على موارد المياه الجوفية (78%)، والمياه المحلاة (19%)، وبدرجة أقل على إعادة استخدام مياه الصرف الصحي المعالجة (3%)، بينما تتركز استخدامات المياه فيها في القطاع الزراعي (77%)، والقطاع البلدي (18%)، والقطاع الصناعي (5%).

ولقد شهدت دول المجلس منذ منتصف سبعينات القرن المنصرم، معدلات تنمية متسارعة في مختلف النواحي الاجتماعية والعمرانية والصناعية والزراعية وذلك بسبب الزيادة المفاجئة في مداخيل النفط، أدت إلى تضاعف السكان بأكثر من خمس مرات، من حوالي 8 مليون نسمة في عام 1970م، إلى أكثر من 50 مليون نسمة في عام 2020م. ولقد صاحب هذه التنمية والنمو السكاني المتسارعين زيادات متعاظمة في الطلب على المياه، أدت لارتفاع الطلب على المياه لمختلف الأغراض من حوالي 6 بليون متر مكعب في عام 1980م، إلى أكثر من 30 بليون متر مكعب في الوقت الراهن. وحاليًا تواجه إدارة المياه في دول المجلس العديد من القضايا والتي في مجملها تدفع بمشكلة الندرة المائية إلى مزيد من التدهور وارتفاع التكاليف، ومن الممكن أن تؤثر على استدامة قطاع المياه واستمراره في خدمة أهداف التنمية في دول المجلس.

 

ومن أهم هذه القضايا التي تواجه قطاع المياه دول المجلس هي الزيادة السريعة في الطلب على المياه البلدية التي يعتمد عليها القطاع المنزلي والعديد من الأنشطة التجارية والسياحية والصناعية. ويعزى الطلب المتسارع على المياه البلدية بالأساس إلى النمو السكاني والتوسع الحضري الذي تشهده دول المجلس. إلا أن معدلات الطلب في القطاع البلدي تتضخم كذلك بسبب عاملين آخرين؛ الأول هو ارتفاع متوسط استهلاك الفرد في الكثير من دول المجلس (يصل في بعض الدول إلى 750 لتر في اليوم)، ويعتبر من أعلى المعدلات على مستوى العالم، والثاني هو ارتفاع نسبة فواقد شبكة توزيع المياه البلدية بسبب التسربات (تصل في بعض دول المجلس إلى أكثر من 35% من المياه المزودة). ويعكس ارتفاع متوسط استهلاك الفرد العديد من العوامل أهمها ارتفاع مستوى المعيشة، وانخفاض الوعي بندرة المياه بالمنطقة، وغياب أو انخفاض التعرفة على استخدامات المياه في معظم دول المجلس والتي بوضعها الحالي لا تعطي المستهلك الحافز المطلوب لتوفير المياه.

ولمجاراة الزيادات المتسارعة في الطلب على المياه البلدية، وفي ظل محدودية موارد المياه الجوفية وعدم ملاءمة نوعيتها للمواصفات المطلوبة، اعتمدت دول المجلس اعتمادًا كبيرًا على تحلية المياه، وساعدها في ذلك توافر موارد الطاقة لديها وقدراتها المالية العالية. وحاليًا، تعتمد معظم نظم إمداد المياه البلدية في دول مجلس التعاون على تحلية المياه، وتبلغ نسبة مساهمة المياه المحلاة في إمدادات المياه البلدية حوالي 75% وسطيًا في هذه الدول. وفي هذا المجال، تعتبر دول المجلس من الدول التي يشهد لها عالميًا في تحقيق نسب مرتفعة جدًا من خدمات مياه شرب مأمونة وميسورة للسكان تصل إلى 100%، الأمر الذي يساهم بشكل كبير في تحسن مستوى المعيشة والصحة العاليين نسبيًا في هذه الدول.

إلا أن عملية التحلية وتوفير هذه الخدمة العالية لمياه الشرب تصاحبها تكاليف مالية واقتصادية وبيئية عالية. وتعتبر تكاليف إنشاء وتشغيل محطات التحلية عالية نسبيًا مقارنة بالمصادر المائية الأخرى، ويرجع ذلك أساسًا لكثافة استهلاك الطاقة في عملية التحلية والتي تمثل أكثر من 85% من تكاليف التشغيل في التقنيات الحرارية المستخدمة بشكل كبير في دول المجلس. كما أن معدلات الزيادة في استهلاك الطاقة أصبحت تنذر بخطر هدر جزء كبير من موارد الطاقة في دول المجلس مسببة استنزافها السريع ومهددة مصدر الدخل الرئيس لها. ولتقليل هذه التكاليف اتبعت بعض دول المجلس سياستين في إدارة قطاع التحلية؛ الأولى هي خصخصة قطاع الإنتاج لتقليل التكاليف المالية ورفع كفاءة الإنتاج، حيث أقيمت العديد من محطات تحلية المياه على هيئة مشروعات مستقلة للمياه والطاقة، على أن تشتري الحكومة المياه المحلاة بناء على خطة طويلة الأجل. أما السياسة الثانية فهي التوجه إلى تقنيات الأغشية التي تستهلك معدلات طاقة أقل نسبيًا من التقنيات الحرارية.

 

أما بالنسبة للتكاليف البيئية المصاحبة للتحلية فتتمثل في تلوث الهواء بسبب انبعاث مختلف أنواع الأكاسيد من مداخن محطات التحلية، وخصوصًا تلك المحطات التي تستخدم النفط بدلاً من الغاز الطبيعي، مما يؤدي إلى تلوث الهواء في المناطق المحيطة بهذه المحطات ويؤدي إلى مخاطر صحية في حال وجود مناطق حضريةقريبة منها. كما تؤدي هذه المحطات إلى أضرار جسيمة للبيئة البحرية بسببصرف المحلول الملحي المركز، والحار في حالة تقنيات التحلية الحرارية، المتخلف عن عملية التحلية، ومخلفات الموادالكيماوية المستخدمة في معالجة المياه والآثار المتبقية من العناصر التي تكون قدالتقطتها وهي داخل وحدة التحلية، مما يؤدي إلى تغيرات كيماوية وطبيعية وبيولوجية فيالبيئة البحرية المحيطة. ولتخفيف الانبعاثات الغازية وتلوث الهواء قامت العديد من دول المجلس بإحلال الغاز الطبيعي بدلا من النفط كوقود لتشغيل المحطات، كما قامت بعض الدول بإعادة تصميم نظام صرف الرجيع لتخفيف تأثيراته على المنطقة البحرية المحيطة.

ويزيد من التكاليف المالية لقطاع المياه البلدية هو أن غالبية دول المجلس تنتهج سياسات سعرية تدعم استهلاك المياه بشكل كبير وغير موجه، مما يؤدي إلى نتائج عكسية، حيث يؤدي هذا الدعم العام غير الموجه، أولاً إلى تضخيم الطلب على المياه، وثانيًا يفرض عبئًا ماليًا كبيرًا على كاهل الموازنات الوطنية بسبب انخفاض نسب استرجاع التكاليف، والذي يمكن أن يوجه إلى قطاعات أكثر حيوية مثل التعليم والصحة والتنمية البشرية. ومن ناحية أخرى، يؤدي الدعم العام لاستهلاك المياه إلى دعم كبار المستهلكين للمياه بمبالغ أعلى من أولئك الذين يستهلكون كميات قليلة ويحافظون عليها، وهو أمر لا يتعارض مع العدالة الاجتماعية في استهلاك الموارد فقط بل كذلك يؤدي بشكل عام إلى عدم وجود الحوافز لترشيد استهلاك المياه في القطاع البلدي.

التحدي الآخر والذي يمثل تحدياً استراتيجياً هو أنه بالرغم من إدخال التحلية في المنطقة منذ الخمسينيات من القرن الماضي وامتلاك دول المجلس ما يقرب من 50% من طاقة التحلية العالمية، وبالرغم من الاعتماد العالي والمتزايد على تحلية المياه في توفير إمدادات المياه البلدية، ما زالت تقنية وصناعة تحلية المياه مستوردة في المنطقة، وتظل قيمتها المضافة لاقتصاديات دول المجلس محدودة جدًا فيما يتعلق بالتشغيل والصيانة وتأهيل المحطات والتصنيع وصناعة قطع الغيار الرئيسية وتأهيل العمالة الوطنية للعمل في هذه الصناعات.

 

أما بالنسبة لتحديات إدارة الموارد المائية الطبيعية، فيمثل النضوب السريع لخزانات المياه الجوفية والتدهور المستمر في نوعيتها التحدي الأكبر الذي تواجهه دول المجلس. تمتلك دول المجلس نوعين من المياه الجوفية، الأول هو المياه الجوفية المتجددة وهي ضحلة نسبيًا وتتواجد في الترسبات الغرينية الموجودة على امتداد القنوات الصغيرة في الأودية الرئيسية والسهول الفيضية للأحواض، وهي قابلة للتجدد، ولكن بشكل محدود بسبب انخفاض معدلات الأمطار. والنوع الثاني هو المياه الجوفية غير المتجددة، أو الأحفورية، وهي مخزنة في تكوينات رسوبية عميقة وتختزن كميات كبيرة من المياه الجوفية ويرجع عمرها إلى آلاف السنين وخزنت في الطبقات الجيولوجية خلال الفترات المطيرة التي مرت بها جزيرة العرب. ولقد أدى الاعتماد الكبير على المياه الجوفية، المتجددة وغير المتجددة، وخصوصًا لتلبية متطلبات القطاع الزراعي (كما سيأتي على ذكره لاحقاً) إلى الاستخدام المكثف لهذه المياه بشكل عشوائي واستنزافها مؤديًا ذلك إلى انخفاض مستوياتها وتدهور نوعية مياهها بشكل مستمر بسبب غزو المياه المالحة لها. وحاليًا، يتم استخراجموارد المياه الجوفية المتجددة بطريقة غير قابلةللاستدامة، ويتم تعدين المياه الجوفية غير المتجددة بشكل غير مخطط وبدون استراتيجيات واضحة لمصادر المياه البديلة لمرحلة ما بعد نضوب هذه المصادر. ولتخفيف الضغط على المياه الجوفية ولزيادة مخزونها المائي قامت بعض دول المجلس التي تتوافر لها الظروف المواتية لذلك ببناء السدود بهدف حجز سيول مياه الأمطار للاستفادة منها إما مباشرة أو في تغذية المياه الجوفية أو الاثنين معًا، وكذلك لحماية المنشآت والسكان من مخاطر الفيضانات السيلية، كما هو الحال في السدود المبنية في سلطنة عمان والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية.

 

ولقد أدتخسارة المياه الجوفية إلى العديد من التكاليف المباشرة وغير المباشرة التي تتحملهادول المجلس حاليًا، ويأتي على رأسها خسارة المياه الجوفية نفسها كأصولطبيعية، وفقدان جاهزيتها للاستخدام المباشر للأنشطة الاجتماعية والاقتصادية التنمويةالمختلفة، وخروج العديد من الأراضي الزراعية المعتمدة على الري بالمياه الجوفية مندائرة الاستثمار بسبب نضوب وتملح المياه وتصحر هذه الأراضي، وفقدان وظائف المياهالجوفية الحيوية المتعلقة بفقدان العيون الطبيعية التي تعتمد عليها، وتدهور البيئات والموائل المصاحبة لها، ناهيك عن خسارة المجتمعات الخليجية لفرص استثمار هذه البيئات الفريدة من نوعها في السياحة والتعليم والثقافة والفنون والبحث العلمي، والقيم الجمالية والتراثية والإبداعية لهذه المناطق الطبيعية. تؤثر خسارة مصادر المياه الجوفية تأثيرًا مباشرًا في الأمن المائي الخليجي، حيث يؤدي تدهور هذه المياه إلى خسارة مخزون استراتيجي هائل لتزويد السكان بمياه الشرب في حالات الطوارئ.

ويعتبر التضارب بين متطلبات القطاع الزراعي والموارد المائية المتاحة واحد من أهم التحديات المزمنة التي تواجه الإدارة المستدامة للموارد المائية بدول المجلس. إن من أهم القوى الدافعة للطلب على المياه في القطاع الزراعي في دول المجلس احتياجات النمو السكاني من الغذاء والسياسات الزراعية السائدة فيها. ويعتبر القطاع الزراعي المستهلك الأكبر للمياه في دول المجلس، وكما ذكر سابقًا يستحوذ القطاع على أكثر من 75% من إجمالي استخداماتها، ويتم تلبيتها أساسًا عن طريق استخراج المياه غير المتجددة العميقة. وتتضخم معدلات السحب في القطاع الزراعي بسبب العديد من العوامل، من أهمها سيادة طرق الري التقليدية التي يصاحبها كفاءة ري منخفضة (30-45%)، وزراعة المحاصيل عالية الاستهلاك للمياه، وعدم وجود تعرفة لاستهلاك المياه الزراعية، والدعم العالي لأسعار الطاقة المستخدمة في ضخ المياه الجوفية.

وبالرغم من استهلاك القطاع الزراعي لهذه النسب العالية من المياه، إلا أنه لا يسهم بأكثر من 2% من إجمالي الناتج المحلي لأي دولة من دول المجلس. وبالرغم من ذلك، فإن أغلبية دول المجلس تقدم إعانات سخية لقطاع الزراعة تشمل حفر الآبار والوقود والمدخلات الأخرى من أسمدة ومبيدات، وبرامج دعم الأسعار. ويتم ذلك في محاولة لزيادة مستويات الاكتفاء الذاتي من سلع معينة كجزء من سياسات الأمن المائي، وكذلك كوسيلة لإعادة توزيع العائدات النفطية لعملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية للسكان. وبلا شك فإن استراتيجيات الإنتاج الزراعي المحلي تعتبر عنصر حيوي وهام ومكمل لاستراتيجيات الأمن الغذائي الأخرى، مثل استراتيجيات الاستيراد والاستثمارات الزراعية الخارجية والتخزين وغيرها، إلا أن محاولة تحقيق مستويات عالية من الأمن الغذائي عن طريق زيادة الإنتاج المحلي دون الأخذ بعين الاعتبار الموارد المائية المتاحة ودون تعديل الممارسات الزراعية الحالية سيؤدي إلى تكاليف بيئية باهظة وإلى تدهور وفقدان موارد المياه الجوفية، وسيعرض في النهاية كلاً من الأمن الغذائي والأمن المائي للخطر.

ويلاحظ أنه بالرغم من الإعانات التي يتلقاها القطاع الزراعي في معظم دول المجلس، إلا أن أداء القطاع يعتبر منخفضًا بشكل عام، ولا يمكن لنوعية المنتجات الزراعية المحلية أن تتنافس مع المنتجات المستوردة نظرًا لانعدام تكنولوجيا الري الحديثة، وعدم كفاية مراقبة الجودة، والأساليب اللاحقة للحصاد، والتسويق. ولقد خطت بعض الدول خطوات عديدة لوقف الاستنزاف المتزايد للمياه الجوفية تمثلت في تشجيع ودعم إدخال طرق الري الحديثة ونظم الزراعة الحديثة، ومنع زراعة بعض المحاصيل عالية الاستهلاك للمياه ومنع تصديرها، كما وضعت خططًا طموحة لإعادة استخدام مياه الصرف الصحي المعالجة في الزراعة وإحلالها محل المياه الجوفية لتخفيف الضغوطات عليها. إلا أن فعالية هذه الخطوات ما زالت غير محسوسة على حالة المياه الجوفية.

 

وفي بداية الثمانينات من القرن الماضي بدأت مياه الصرف الصحي المعالجة بالدخول في الموازنة المائية في دول المجلس كمصدر مائي جديد، مدفوعة بتصاعد استهلاك المياه في المناطق الحضرية. ولقد بدء توفر هذه المياه للاستخدام بسبب استكمال بناء محطات المعالجة وشبكات الصرف الصحي في معظم المدن الكبرى بهذه الدول. وعلى الرغم من النمو السكاني والتوسع الحضري المتسارعين في دول مجلس التعاون، فإن هذه الدول حققت معدلات عالية جدًا وجديرة بالإشادة في توفير خدمات الصرف الصحي لنسبة كبيرة من السكان، كما أنها تقوم بتشغيل مرافق معالجة حديثة بقدرات معالجة ثلاثية ومتقدمة. ومع ذلك، فإن إعادة استخدام مياه الصرف الصحي المُعالجة لم تتطور بشكل موازي، حيث تشكل كميات المياه المعاد استخدامها حوالي 40% فقط من كميات مياه الصرف الصحي المعالجة، مما يعتبر فرصة رئيسية ضائعة تحت ظروف الندرة التي تعيشها دول المجلس. ومن جهة أخرى، وبالرغم من جهود دول المجلس في تقديم خدمات الصرف الصحي لسكانها، لا تزال أنظمة التجميع والمعالجة غير مواكبة للتنمية الحضرية ونجد أنه في العديد من الدول تتجاوز مياه الصرف الصحي المجمعة الطاقة التصميمية لأنظمة معالجة مياه الصرف الصحي بسبب الزيادة المضطردة لاستهلاك المياه البلدية، وعدم وجود التخطيط المتكامل بين خطط إمدادات المياه البلدية وقطاع مياه الصرف الصحي، حيث تكون خطط الصرف الصحي متخلفة دائمًا عن خطط الإمداد. ويؤدي هذا إلى صرف مياه الصرف الصحي غير المعالجة أو المعالجة جزئيًا إلى البيئات البرية والبحرية، مما يؤدي إلى تلويث المياه الجوفية والبيئة، على التوالي.

وأخيرًا، تواجه دول المجلس تحديًا مستقبليًا يضاف إلى هذه التحديات ويفاقم من حدتها، وهو تأثيرات ظاهرة تغير المناخ على الموارد المائية المحدودة في دول المجلس، حيث تشير التقارير ونماذج المناخ العالمية[2] والإقليمية[3] إن المنطقة العربية، ومن ضمنها دول المجلس، ستتأثر إلى حد كبير بظاهرة تغير المناخ وستشهد تأثيرات ستكون سلبية في معظمها. ومن أهم هذه التأثيرات تناقص معدلات الأمطار بشكل عام خلال السنوات القادمة مما سينعكس سلبًا على الإيرادات المائية الطبيعية لدول المجلس ومعدلات تغذية المياه الجوفية. كما أن ارتفاع درجات الحرارة سيؤدي إلى ازدياد الطلب على الماء لاستخدام الإنسان والزراعة مما سيزيد من معدلات الطلب في القطاعين البلدي والزراعي. وتشير هذه التقارير كذلك إلى زيادة وتيرة الحوادث المتطرفة للمناخ من حيث فترات الجفاف والفيضانات، فضلاً عن ارتفاع مستوى البحار وما قد ينجم عنه من غمر للمناطق الساحلية وغزو مياه البحر للمياه الجوفية في تلك المناطق. أي أنه بالإضافة إلى التحديات والمشاكل الحالية التي تواجه إدارة قطاع المياه في دول المجلس، تمثل ظاهرة تغير المناخ ضغطًا إضافيًا إلى القوى الدافعة لقطاع المياه المتمثلة في النمو السكاني والإسكاني، وانخفاض كفاءة المياه[4]، وتغير أنماط الاستخدام، كما أنها ستزيد من حالة عدم التيقن في التخطيط والإدارة المائية.  

ويتضح من الاستعراض السابق أنه في سبيل تلبية الطلب المتزايد على المياه لمختلف القطاعات تبنت دول مجلس التعاون بشكل عام أسلوب إدارة جانب العرض وتعظيم مصادر المياه، وتمثل ذلك بشكل رئيسي في زيادة السحب من موارد المياه الجوفية، والتوسع في إنشاء محطات التحلية، وبدرجات أقل إعادة استخدام مياه الصرف الصحي المعالجة، وبناء السدود. وفي الواقع أدى إتباع هذا الأسلوب، وبدون إيلاء الاهتمام الكافي لجانب إدارة الطلب والكفاءة، إلى إعطاء المستهلك الشعور ب "الوفرة" بدلاً من "الندرة"، وأدى إلى ظهور العديد من الاستخدامات والأوضاع غير المستدامة للمياه في دول المجلس ومن أهمها تدني كفاءة استخدام المياه في القطاعات المستهلكة.

كما أنه من الواضح أيضًا أن أسلوب الإدارة هذا لا يمكن أن يكون حلاً بعيد المدى لندرة المياه في دول مجلس التعاون ومواجهة تحدياتها المتزايدة، وبأن هناك حاجة إلى نهج مفاهيمي جديد في إدارة الموارد المائية المحدودة والباهظة التكاليف للدول، إذا ما أرادت هذه الدول نظام إداري مستدام لقطاع المياه قادر على خدمة أهداف التنمية فيها والوفاء بمتطلباتها. وفي هذا المجال، تحتاج دول مجلس التعاون خلال الفترات القادمة إلى تحويل تركيز جهودها من ضمان "استدامة العرض" إلى ضمان "استدامة الاستهلاك"، والعمل في الوقت نفسه على تحقيق الكفاءة الاقتصادية والاستدامة المالية وحماية البيئة كأهداف أساسية في إدارة الموارد المائية.

ولتحقيق هذا التحول والوصول إلى نموذج "استدامة الاستهلاك" ينبغي على دول المجلس اتباع سياسات إدارة الطلب والكفاءة والترشيد، وتطبيق ثلاثة أنواع من الأدوات، وهي: 1) الأدوات البنائية والتشغيلية (مثل تركيب العدادات، وإدخال تحديث على الأجهزة التي تستهدف توفير المياه، والتحكم في تدفق المياه، وإعادة التدوير، ...)؛ 2) الأدوات الاجتماعية والسياسية (مثل التعليم والتوعية، سن قوانين المباني، ووضع الملصقات التعريفية على الأجهزة، ...)؛ والاقتصادية (السياسات السعرية لاستخدام المياه والمحفزات والمثبطات الاقتصادية لترشيد استخدام المياه). وبالنسبة لفعالية هذه الأدوات في عملية التحول، فلقد أظهرت التجارب السابقة الخاصة بأن الجمع بين هذه الأدوات الثلاث يعد أكثر نجاعة بصفة عامة عن تطبيق أحدها فقط، حيث إنها تعزز بعضها البعض.

وختامًا، إن مواجهة التحديات المائية التي تعيشها، وستعيشها، دول مجلس التعاون، الواقعة في أشد المناطق ندرة في المياه في العالم، وتحقيق استدامة الاستهلاك ستتطلب تدخلاً جذريًا في البيئة الاجتماعية والاقتصادية السائدة في دول المجلس، وتعاملاً رفيعًا وعاليًا من الإرادة السياسية والمستوى الإداري والعلمي والتقني للتصدي لهذه التحديات. والأهم من ذلك هو تحسين مستوى الحوكمة لينتقل سلوك المجتمع من كونه جزءًا رئيسيًا من المشكلة المائية إلى جزء رئيسي في حلها.

 

 

 

 

المصادر:

[1]يقصد بالاستدامة هنا "توفير المياه بالكمية الكافية والنوعية المطلوبة لمختلف القطاعات التنموية (وهو هدف الإدارة المائية الرئيسي)، وذلك بأقل التكاليف المالية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية (وهي القيود والمحددات)، ولتحقيق أقصى منفعة وقيمة مضافة من استخدام المياه والمساهمة في التنمية الوطنية العامة."

[2]تقارير الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC)

[3]المبادرة الإقليمية لتقييم أثر تغيُّر المناخ على الموارد المائية وقابلية تأثُر القطاعات الاجتماعية والاقتصادية في المنطقة العربية (RICCAR)

[4] يقصد بمصطلح "كفاءة المياه" أربعة أمور: كفاءة الإمداد، وكفاءة الاستخدام، ونسب التدوير، ونسب إعادة الاستخدام

مجلة آراء حول الخليج