; logged out
الرئيسية / هدف الناتو ألا تتحول الأزمة الصحية إلى أزمة أمنية وكورونا عزز اليمين للانعزالي

العدد 150

هدف الناتو ألا تتحول الأزمة الصحية إلى أزمة أمنية وكورونا عزز اليمين للانعزالي

الثلاثاء، 23 حزيران/يونيو 2020

مما لاشك فيه أن شكل وتركيبة النظام الدولي عادة ما يكون نتيجة أزمات كبرى، أو بالأحرى تطورات جذرية لها انعكاسات استراتيجية بعيدة المدى، ابتداءً بارتضاء كافة دول العالم تأسيس هيئة أممية تعنى بالحفاظ على الأمن والسلم الدوليين في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ومرورًا بانتهاء حقبة الحرب الباردة مع انهيار الاتحاد السوفيتي السابق في مطلع التسعينيات ومن ثم ظهور نظام عالمي أحادي القطبية، وانتهاءً باندلاع أزمات إقليمية في المنطقة العربية منذ عام 2011م، وحتى الآن ومن بينها الأزمة السورية التي أتاحت لروسيا التواجد مجددًا ضمن تفاعلات الأمن الإقليمي والسعي لاستثمار ذلك على المستوى الدولي ضمن صراعها مع الولايات المتحدة.

وقياسًا على ما سبق هل يمكن القول أن أزمة وباء كورونا غير المسبوقة سواء من حيث طبيعتها كأزمة ترتبط بالجانب الصحي وليست تهديدات تقليدية أو غير تقليدية أو بالنظر إلى حدتها وتفشيها في كافة دول العالم بشكل متزامن- هل يعني ذلك أننا سنكون إزاء عالم جديد وأن إرهاصاته قد بدأت بالفعل؟ وإذا كان ذلك صحيحًا فإن السؤال هو أين تنظيمات الأمن الإقليمي من تلك التحولات ومنها حلف شمال الأطلسي"الناتو" والاتحاد الأوروبي؟

وهذا ما سوف يسعى الباحث لتناوله من خلال هذه الورقة بالإجابة على تساؤلات ثلاثة:

الأول: لماذا كانت أزمة وباء كورونا تحديًا هائلاً لهاتين المنظمتين وكيف تمت مواجهتها؟

والثاني: ما هو تأثير الأزمة على كل من حلف الناتو والاتحاد الأوروبي كمنظومتين للأمن الإقليمي ؟

والثالث: ما هو مستقبل حلف الناتو والاتحاد الأوروبي ضمن عالم ما بعد كورونا ؟ وما هي آلياتهما لتجاوز تلك الأزمة؟    

أولاً: لماذا كانت أزمة كورونا تحديًا لحلف الناتو والاتحاد الأوروبي وكيف تمت مواجهتها؟

ضمن التحليلات التي قمت بكتابتها بشأن الأزمة أطلقت عليها "الأزمة الكارثية" لأنها تجمع بين سمات الأزمة وملامح الكارثة، فالأزمة وفقًا لما تعارفت عليه الآراء الأكاديمية هي حدث مفاجئ يمثل تهديدًا لمجال أو مجالات من عمل المؤسسة أو الدولة ككل مما يتطلب قرارات سريعة ورشيدة في الوقت ذاته حتى لا تتحول إلى السيناريو الأسوأ وهو الكارثة، ويعني ذلك أن هناك سمات ثلاث للأزمة وهي التهديد المفاجئ وضيق الوقت وسيادة حالة من عدم اليقين إما بسبب نقص المعلومات أو تضاربها، والفارق الجوهري بين الأزمة والكارثة أن للأولى مقدمات ومؤشرات بينما الطبيعة الفجائية هي السمة الأساسية للثانية،إلا أن كورونا قد جمعت بين المجالين ففي تصوري أنها كانت كارثة للدول فرادى وأزمة للتنظيمات الإقليمية التي تنضوي تحت لوائها تلك الدول، فقد كانت الأزمة تحديًا هائلاً لكل من حلف الناتو والاتحاد الأوروبي لثلاثة أسباب الأول: أن التنظيمات الإقليمية عمومًا والتي نشأت وفقًا للفصل الثامن من ميثاق الأمم المتحدة لدعم جهود المنظمة الأممية في إرساء الأمن والسلم الدوليين ومنها حلف الناتو والاتحاد الأوروبي لم تواجه أزمات نوعية ومتزامنة من قبل، صحيح أنه كانت هناك أزمات سواء داخل تلك التنظيمات ومنها أزمة الديون اليونانية التي بدأت نهاية عام 2009م، وانتهت عام 2018م، والتي تعاملت معها دول الاتحاد الأوروبي وفق اتفاقات وآليات محددة، أو أزمات خارجية على غرار الأزمة الليبية عام 2011م، والتي حدت بحلف الناتو للتدخل عسكريًا للمرة الأولى كمنظمة دفاعية في المنطقة العربية، بيد أن أزمة كورونا قد ارتبطت بكافة الدول المكونة لتنظيمي حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، التي سعت دولهما للتعامل معها وفقًا لقدراتها الوطنية، وعندما ازدادت حدة الأزمة كان طبيعيًا أن تبحث تلك الدول عن المظلة الأكبر التي تضمها من خلال طلب مساعدة هاتين المنظمتين، أما السبب الثاني: فهو الجدل الهائل الذي أثارته أزمة كورونا حول المدى الذي ينتهي فيه دور الدولة الوطنية والذي تبدأ فيه مسؤولية تلك التنظيمات، فعندما اشتدت وطأة الأزمة وخاصة في جوانبها الإنسانية أثيرت التساؤلات حول دور المفوضية الأوروبية تجاه مساعدة الدول الأكثر تضررًا مثل إيطاليا وإسبانيا كان تبرير ذلك هو أن القطاع الصحي لايعد ضمن مسؤولية الاتحاد الأوروبي كمنظمة وإنما هو أمر منوط بالسلطات المعنية الوطنية بكل دولة بالرغم من وجود مواد ضمن ميثاق الاتحاد تنص على التنسيق بين دوله، بما يعنيه ذلك من أن الأزمة كانت اختبارًا حقيقيًا لفكرة التضامن الأوروبي، أما حلف الناتو فعلى الرغم مما نص عليه الميثاق المنشئ للحلف وخاصة في المادة الخامسة التي توضح مفهوم الأمن الجماعي فإن مضمونها لم ينسحب على مثل هذه الأزمة لأنها ليست هجومًا عسكريًا يتطلب أن تهب دولة الحلف لنجدة هذه الدولة أو تلك ومع ذلك فقد طلبت الدول من الحلف المساعدة إلا أن مدى استجابة الحلف ظل مرتهنًا بالإمكانات المتاحة لديه وخاصة أنها ارتبطت بقطاع نوعي وهو القطاع الصحي والذي لم يكن مهملاً من جانب الدول الأعضاء كما ساد الظن إلا أنه لم تخصص له نفقات باهظة مقارنة بقطاع الدفاع على سبيل المثال، أما السبب الثالث فهو:توقيت الأزمة ذاتها إذ جاءت تزامنًا مع إعلان بريطانيا الخروج من الاتحاد الأوروبي وتأهب الاتحاد لأن يكون له دورًا ليس مستقلاً تمامًا عن حلف الناتو وإنما البحث عن هوية أمنية عبرت عنها مقترحات فرنسية لاتزال قيد النقاش وبالتالي كانت الأزمة اختبارًا لقدرة الاتحاد على العمل بشكل مستقل عن التحالفات التقليدية في الوقت الذي أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية إغلاق حدودها مع الدول الأوروبية للحد من انتشار الوباء، بينما تمثل التحدي لحلف الناتو في اختبار قدرة الحلف على الاستجابة لهذا النوع من التهديدات، ومن ناحية ثانية كيفية الحفاظ على قوة الردع التي يحتفظ بها الحلف للحيلولة دون سعي منافسيه للنيل منها من خلال توظيف آثار تلك الأزمة.

وتأسيسًا على الأسباب المشار إليها آنفًا سادت حالة من التشرذم الأوروبي في مواجهة تلك الأزمة سواء من خلال مسارعة الدول الأوروبية في إغلاق الحدود فيما بينها أو حالة التنافس حامي الوطيس للحصول على المستلزمات الطبية من الصين، فضلاً عما تردد بشأن ما عرف"بحرب الكمامات" ومضمونها استيلاء بعض الدول الأوروبية على شحنات طبية كانت متجهة لنظيرتها داخل الاتحاد الأوروبي، وعلى صعيد حلف الناتو فلا مجال للحديث بشكل مستقل حيث تتداخل عضوية 22 دولة بين الاتحاد الأوروبي والحلف، إلا أنه وفي أعقاب اجتماع لوزراء خارجية الحلف في الأول من إبريل 2020م، عبر الفيديو أكد ينس ستولتنبرج الأمين العام للحلف على دور القوات المسلحة للحلف خلال الأزمات بالقول" أن القدرات العسكرية تدعم الجهود المدنية من خلال مراقبة الحدود ونقل الإمدادات الطبية وعمليات التعقيم"، وأضاف " أن الهدف الأساسي هو ألا تتحول "الأزمة الصحية إلى أزمة أمنية" وأن الحلف" لديه استعدادًا قتاليًا عالميًا حيث أن حماية سكان الدول الأعضاء الذين يبلغ عددهم نحو مليار نسمة لا تزال أولويته الرئيسية".

ثانيًا: تأثير الأزمة على كل من حلف الناتو والاتحاد الأوروبي كمنظومتين للأمن الإقليمي

قبيل تناول أوجه التأثير المختلفة لأزمة كورونا على كل من حلف الناتو والاتحاد الأوروبي ينبغي التأكيد على أنه بالرغم من طبيعة الأزمة وتوقيتها فإنه كانت هناك استجابات لها من جانب هاتين المنظمتين، فربما لم تكن هناك آلية جماعية للوفاء بالمستلزمات الطبية داخل المنظومة الأوروبية ولكن كانت هناك استجابة على الصعيد الاقتصادي حيث اتفق وزراء مالية دول الاتحاد في العاشر من إبريل 2020م، على خطة إنقاذ مالية بقيمة 540 مليار يورو لمواجهة تداعيات كورونا موزعة على النحو التالي" 240 مليار يورو كقروض من من صناديق الإنقاذ في منطقة اليورو، وصندوق ضمان بقيمة 200 مليار يورو للشركات و 100 مليار يورو دعمًا للبطالة الجزئية"،أما حلف الناتو فقد أعلن أمينه العام ينس ستولتنبرج أنه يتعين على الحلفاء تحديد احتياجاتهم وطلب المساعدة من خلال مركز تنسيق الاستجابة للأزمات الإنسانية التابع للحلف، وقد تقدمت إسبانيا بالفعل بطلب رسمي للحلف للحصول على مساعدات تضمنت طلب 150 ألف مريلة طبية، و150 ألف جهاز تنفس و1000 جهاز لقياس الحرارة بالأشعة تحت الحمراء، و5 آلاف قناع طبي، و10 آلاف نظارة طبية واقية، و1,5 مليون قناع جراحي، و500 ألف من أدوات التشخيص الطبي، وليس من الواضح عما إذا كان قد تم تفعيل آلية الاستجابة للأزمات المشار إليها أم أنه جرت مناقشات ثنائية بين دول الحلف بشأن تلبية مطالب أسبانيا إلا أن النتيجة كانت إرسال تركيا عضو الحلف مساعدات طبية لكل من إسبانيا وإيطاليا، فضلاً عن إشادة الأمين العام للحلف بما قدمته تركيا من مساعدات طبية لدول في منطقة البلقان وهي"شمال مقدونيا، والجبل الأسود، والبوسنة والهرسك، وصربيا، وكوسوفو".

ومع أهمية تلك الاستجابة فإن هناك تداعيات رتبتها- وسوف ترتبها- أزمة كورونا على حلف الناتو من ناحيتين الأولى: قدرات الحلف والعمليات العسكرية في الخارج كقوة ردع،والثانية: محاولة خصوم الحلف توظيف الأزمة للتشكيك في قوة الحلف.

فعلى صعيد تأثير الأزمة على قدرات الحلف وعملياته العسكرية في الخارج: فقد تزامن ظهور ذلك الوباء في وقت كان الحلف يستعد لتولي جزءً من مهام التحالف الدولي لمحاربة داعش في العراق في أعقاب الدعوة الأمريكية للحلف بهذا الشأن وقبول الأخير لتلك المهمة، إلا أنه وبسبب كورونا تم تعليق تلك العمليات، فضلاً عن أن الحلف كان سيبدأ في تخفيض قواته في أفغانستان على خلفية الاتفاق المبرم بين الولايات المتحدة الأمريكية وحركة طالبان ولكن بسبب تلك الأزمة فإن مصير الاتفاق قد أضحى محل جدل وتساؤل،حيث تم إبرام اتفاق بين الولايات المتحدة وحركة طالبان في التاسع والعشرين من فبراير 2020م، ومضمونه انسحاب قوات التحالف من أفغانستان في غضون أربعة عشر شهراً من توقيع ذلك الاتفاق على أن تقوم طالبان بالوفاء بعدد من الالتزامات،بالإضافة إلى أن هناك إمكانية لانتشار ذلك الوباء بين صفوف قوات الحلف في الخارج الأمر الذي يمكن أن يكون له تأثير على عملياته العسكرية إذ أشارت تقارير إلى إصابة عشرين جندياً من قوات الحلف المتواجدة في ليتوانيا بالفيروس، كما أن تصريح الأمين العام للحلف بأن" القدرات العسكرية تدعم الجهود المدنية" بما يعنيه ذلك من إمكانية استدعاء كل أو بعض دول الحلف لجيوشها للتعامل مع تلك الأزمة فإن ذلك ربما يعطي رسالة خاطئة للقوى المناوئة للحلف بتراجع قدرته على الردع وخاصة أنه تم إلغاء تدريبات كان الهدف الأساسي منها إظهار القوة النوعية للحلف،ففي الحادي عشر من مارس 2020م أعلنت مصادر عسكرية في النرويج أنه تم إلغاء تدريبات "الاستجابة الباردة" للحلف والتي كانت سوف تضم حوالي أكثر من 15 ألف جندي ينتمون لعشر دول في الحلف وكانت تستهدف اختبار القدرات على القيام بأنشطة قتالية في ظروف فصل الشتاء القاسية وذلك بسبب وباء كورونا ورغبة تلك القوات في دعم الجهود الوطنية لمواجهة تلك الأزمة،كما أنه نتيجة للآثار الاقتصادية الحادة لتلك الأزمة فإن مدى التزام الدول الأعضاء في الحلف بالالتزام بتخصيص نسبة 2% من الناتج القومي للإنفاق الدفاعي سيظل محل شكوك وجدل وهي القضية التي التي ليس من شأنها زيادة هوة الشقاق بين الولايات المتحدة وبقية أعضاء الحلف فحسب بل إمكانية التأثيرعلى مدى التزام الحلف تجاه عملياته العسكرية في الخارج.

وعلى صعيد محاولة خصوم الحلف توظيف الأزمة للتشكيك في قوة الحلف: فإن ثمة دعاية مضللة يواجهها الحلف، ففي ظل دور كل من روسيا الصين في مساعدة بعض الدول الأوروبية أعضاء الحلف والتي تم توظيفها من خلال دعاية مضللة يرى الحلف أنها تمثل تهديداً له، وفي هذا السياق يقول الأمين العام للحلف " إن حملات التضليل التي شهدناها تحاول تقسيمنا وتقويض عزمنا الأمر الذي يمكن أن يجعل الأزمة الصحية أكثر خطورة ، لأنها يمكن أن تضلل الناس فيما يصلح ولا ينجح في التعامل مع تلك الأزمة الصحية"، وفي تصريح آخر قال الأمين العام للحلف "إن روسيا والصين قامتا بترويج معلومات مضللة حول مواجهة الحلف الدفاعي لكورونا ومضمونها أن حلفاء الناتو لم يدعموا بعضهم البعض، وأنهم عجزوا عن التعامل مع الأزمة أو عن حماية المسنين "،مضيفاً" هذا أمر خاطئ،لأن حلفاء الناتو تكاتفوا معاً في التصدي للأزمة وأن جيوش الحلف نفذت حتى 26 إبريل 2020م، نقل أكثر من 100 مهمة إمداد طبي، وساعدت في إقامة 25 مستشفى ميدانياً، وزادت عدد أسرة المستشفيات بمقدار 25 ألف سرير"، ومع أهمية تلك التصريحات فإن ذلك لايعني وجود توافق تام بين دول الحلف بشأن تقديم تلك المساعدات، فعلى الرغم من إعلان وزيرة الدفاع الألمانية، أنيجريت كرامب كارنباورعن استعداد ألمانيا لتقديم المزيد من المساعدات لشركاء الحلف وأن الجيش الألماني قد ساعد بالفعل في نقل الحالات الخطرة من إيطاليا وفرنسا لتقلي العلاج في برلين إلا أنها أكدت على أن استمرار تلك السياسة يتوقف على تطور انتشار الوباء ذاته ورغبات الشركاء وحجم الموارد المتاحة، بالإضافة إلى تنامي مخاوف لدى حلف الناتو من سعي خصومه للسيطرة على شركات التصنيع الأوروبية وكذلك الشركات التي تعمل في قطاعي المرافئ والاتصالات والبنية التحتية واستغلال هؤلاء الخصوم للتحديات الاقتصادية التي تواجهها هذه الشركات ومن ثم السيطرة عليها.

وبدوره لن يكون الاتحاد الأوروبي بمنأى عن تداعيات تلك الأزمة حيث يتمثل التحدي الأكبر في ظهور شكوك حول جدوى الاتحاد ذاته والتي وجدت سبيلها على المستويين الرسمي والشعبي، منها على سبيل المثال لا الحصر تصريح رئيس وزراء إيطاليا بالقول "يجب على الاتحاد الأوروبي عدم ارتكاب أخطاء فادحة في معالجة أزمة كورونا وإلا فإن التكتل الأوروبي سوف يفقد سبب وجوده" هذا الامتعاض قد طال المستوى الشعبي في الوقت ذاته عبرت عنه مشاهد تضمنت قيام بعض الأفراد بإنزال علم الاتحاد الأوروبي ورفع علم الصين بدلاً منه، فضلاً عما أشارت إليه نتائج استفتاء تم إجراؤه في إيطاليا من أن حوالي 71% ممن شملهم الاستفتاء يعتقدون أن وباء كورونا يقوض الاتحاد الأوروبي،أما 55% فقد أبدوا موافقتهم على الخروج من الاتحاد الأوروبي،فضلاً عما كشفت أزمة كورونا بشأن عمق الانقسام بين دول الجنوب الأكثر تضررًا ونظيرتها الشمالية الأقل تضررًا وعما إذا كانت الأخيرة يتعين عليها تحمل فاتورة هذا الضرروكان من أبرز الدول الشمالية كل من ألمانيا وهولندا تدعمها كل من الدنمارك والنمسا وبعض الدول الأخرى، فبرغم إقرار وزراء المالية الأوروبيين خطة الإنقاذ المالي المشار إليها فإنها لم تخل من معارضة بعض الدول وخاصة في آليات التنفيذ، بالإضافة إلى أن أزمة كورونا قد أضافت بعدًا جديدًا للانقسامات عمومًا وربما إزاء تنفيذ بعض المشروعات الأوروبية المشتركة ومنها المقترح الفرنسي بإنشاء جيش أوروبي موحد ليس فقط بسبب العوامل الاقتصادية بل لارتباط ذلك بفكرة التضامن عمومًا وخلال الأزمات على نحو خاص،فضلاً عن أن أزمة كورونا من شأنها إمكانية تعزيز دور التيارات اليمينية الداعية للانعزال والتنصل من الالتزامات تجاه الالتزامات في الاتحاد الأوروبي ككيان جماعي والدعوة للانسحاب منه ولم يكن قرار فرنسا بتأجيل الانتخابات البلدية سوى تعبيرًا عن تلك المخاوف حيث أن الدول الأوروبية لن تنجو من المساءلة الشعبية في أعقاب انحسار تلك الأزمة أو انتهائها.

ثالثًا: مستقبل حلف الناتو والاتحاد الأوروبي ضمن عالم ما بعد كورونا وآليات تجاوزهما لتلك الأزمة

قبيل الحديث عن عالم ما بعد كورونا، فإنه من الأهمية بمكان مناقشة مدى تأثير أزمة كورونا على كيان هاتين المنظمتين، دون تهوين أو تهويل،حيث لوحظ كم هائل من التحليلات التي صاحبت الأزمة بشأن تأثيرها على كل من حلف الناتو والاتحاد الأوروبي تضمنت مفردات منها "انفراط عقد الاتحاد الأوروبي،عجز الناتو عن تلبية احتياجات دوله الأعضاء" وجميعها كانت تفسيرات آنية ارتبطت بما بدا من الاستجابة الأطلسية والأوروبية لتلك الأزمة، ومن أجل وضع الأمور في سياقها الصحيح وبالنظر إلى استمرار الأزمة حتى كتابة هذه السطور فإنه يجب الأخذ في الاعتبار ثلاثة أمور مترابطة عند تقييم تلك الآثار وهي التاريخ والهدف وتحديات المستقبل، فتاريخيًا واجه كل من حلف الناتو والاتحاد الأوروبي أزمات أدت إلى انقسامات عميقة بين الدول الأعضاء إلا أن المرونة وآليات التشاور داخل هاتين المنظمتين قد أتاحتا حدوث توافقات بين الدول الأعضاء،ففي حلف الناتو كانت -ولاتزال-قضية مدى التزام الدول الأعضاء بالنسبة المقررة للنفقات الدفاعية من الناتج القومي لها محل جدل بين الولايات المتحدة ودول الحلف، أما الاتحاد الأوروبي فقد استطاع التعامل مع أزمة الديون اليونانية وكذلك الهجرة غير الشرعية لبلدانه، وعلى صعيد الهدف فإننا لا نتحدث عن أيديولوجية بإمكانها السقوط والتفكك على غرار الاتحاد السوفيتي السابق وإنما حلف الناتو هو منظمة ذات طبيعة دفاعية تم تأسيسها على المصالح المشتركة وجوهرها الأمن الجماعي لدول تنتمي لإقليم محدد، تلك المصالح تم التعبير عنها في ميثاق يتضمن ماهية الحلف وأهدافه وآليات عمله، أما الاتحاد الأوروبي فهو ثمرة جهود أوروبية حثيثة منذ النواة الأولى له وهي الجماعة الأوروبية للفحم والصلب بين ست دول آنذاك لتبلغ في الوقت الراهن 27 دولة، وعلى صعيد التحديات فإن ثمة ضرورة لبقاء هاتين المنظمتين،فحلف الناتو يستعد للاضطلاع ببعض الأدوار التي كانت تقوم بها القوات الأمريكية خارج أراضيها، أما الاتحاد الأوروبي فإن لدوله مصلحة استراتيجية لبقاء هذا التجمع الإقليمي ليس للتعبير عن هوية أوروبية موحدة فحسب وإنما في ظل ما يمكن اعتباره تصدعًا لأسس الشراكة الأمريكية-الأوروبية والأمثلة على ذلك عديدة ومن ثم النتيجة الحتمية لذلك هي ضرورة وجود كيان أوروبي ربما ينجح في تأسيس مظلة دفاعية مستقلة نسبيًا عن الأطر التقليدية كحلف الناتو، بالإضافة إلى استمرار روسيا كتحد مشترك لدول الاتحاد الأوروبي وهو ما تعكسه العديد من مناطق التماس الاستراتيجي الراهنة بين الجانبين والقضايا الخلافية العديدة بينهما وخاصة تنامي الدور الروسي في المناطق التي يحظى فيها حلف الناتو بشراكات استراتيجية في منطقة الشرق الأوسط.

ويعني ما سبق أنه يمكن الحديث عن تداعيات وقتية أو بعيدة المدى لأزمة كورونا على كل من حلف الناتو والاتحاد الأوروبي بعيداً عن طرح فكرة انهيار أو تفكك أي من المنظمتين.

ويبقى التساؤل الأهم: ما هو دور حلف الناتو والاتحاد الأوروبي في عالم ما بعد كورونا؟ ولم يخل هذا التساؤل من تعقيد بقدر تعقيد المشهد العالمي ذاته سواء حاليًا أو حتى على المدى المنظور، لأن الحديث لايدور حول أزمة أمنية عالمية تصطف فيها مجموعة دول في مواجهة مجموعة أخرى ومن ثم فإن النتيجة هي منتصرون وخاسرون على غرار الحرب العالمية الثانية، وإنما رسم المشهد العالمي عمومًا ودور هاتين المنظمتين تحديدًا يجب أن يؤسس على خمسة منطلقات وهي:

الأول: من الأهمية بمكان الخروج من حالة الاستقطاب الفكري السائدة ما بين رؤى غربية تبعث برسائل طمأنة لدول العالم من أن الصين لن تنتصر في تلك الأزمة وما بين تقديرات صينية ترى أن هناك عالم جديد آخذ في البزوغ مضمونه العولمه ولكن بأسس جديدة ،فالواقع يؤكد مجددًا أن الولايات المتحدة هي القوة التي لايزال لديها القدرة على حسم الأزمات عبر مناطق الصراع في العالم ويؤكد ذلك التحالفات التي قادتها –ولاتزال تقودها-ابتداءً بالتحالف الدولي لتحرير دولة الكويت عام 1991م، ومرورًا بالتحالف الدولي لمحاربة تنظيم داعش عام 2014م، وانتهاء بالتحالف العسكري البحري لأمن الملاحة في الخليج العربي 2019م، وإذا ما نظرنا إلى الأزمات المرتبطة بالتحالفات الثلاثة نجد أنها كانت تهديدًا للمصالح الاستراتيجية على المستويين الإقليمي والعالمي، بمعنى آخر تجاوز ما يسمى "الخطوط الحمراء" التي تطلبت ذلك التدخل في ظل صعوبة إيجاد توافق دولي من خلال المنظمة الأممية للتعامل مع تلك الأزمات.

والثاني: بغض النظر عن آداء حلف الناتو خلال أزمة كورونا فإنه يجب الأخذ بالاعتبار أن الحلف دائمًا ما يعمل من منظور أن التحدي يخلق الاستجابة وبلاشك سيكون للحلف رؤية جديدة بشأن التهديدات الأمنية وآليات مواجهتها والتي يتوقع أن تنعكس على مضمون المفهوم الاستراتيجي الثامن والذي يتوقع صدوره العام 2021م، حيث يصدر كل عشر سنوات كمراجعة لتلك التهديدات ويتكامل مع الميثاق المنشئ للحلف ولا يتناقض معه، وعملياً فإن المؤشرات كافة تؤكد تنامي دور الحلف على إثر دعوة الرئيس ترمب للحلف"بأن يلعب دورًا أكبر في الشرق الأوسط"، وعلى صعيد الاتحاد الأوروبي فإنه من خلال تحليل مسيرة تطور الاتحاد فإن الأزمات غالبًا ما كانت تسفر عن تأسيس آليات جديدة للتعامل معها.

والثالث: قد يكون من المبكر الحديث عن ظهور ما يسمى"الناتو الآسيوي" لاعتبارات عديدة منها أن الاقتصادات الآسيوية هي الأكثر تأثرًا بتلك الأزمة، بالإضافة إلى الصراعات بين الدول الآسيوية وحالة الاستقطاب التي تشهدها دول تلك المنطقة والتي ربما لاترى بلوغها حد الاختيار والانضواء الحاد ضمن هذا المحور أو ذاك، كما أن هناك صيغًا للأمن الجماعي بالفعل في منطقة آسيا تنهض على أسس اقتصادية وليست صيغًا عسكرية على غرار حلف الناتو،وربما تكتفي الدول المناهضة للولايات المتحدة بتعزيز منظمة شنغهاي والتي تم تأسيسها عام 2001م، وتضم كلاً من روسيا والصين وعدد من الدول الأخرى ويطلق عليها"الناتو الآسيوي".

والرابع: أنه بغض النظر عن أزمة كورونا فإن هناك جهود ملحوظة للاتحاد الأوروبي لأن يلعب دورًا أمنيًا على الساحة العالمية وهو ما تمثل في إعلان فرنسا قيادة بعثة أوروبية لمراقبة الملاحة في الخليج العربي ومضيق هرمز والتي بدأت عملها بالفعل في يناير 2020م، من القاعدة الفرنسية في مدينة أبوظبي بدولة الإمارات العربية المتحدة وتحظى بدعم ثماني دول أوروبية، بالإضافة إلى إعلان الاتحاد الأوروبي في مارس 2020م، عن بدء عمل المهمة البحرية الجديدة" إيريني" في البحر المتوسط وتستهدف إنفاذ حظر الأسلحة الذي تفرضه الأمم المتحدة على ليبيا، وذلك لمدة عام من خلال استخدام الأصول الجوية والبحرية والأقمار الاصطناعية،من خلال إجراء عمليات تفتيش للسفن المشتبه بها وجمع معلومات حول عمليات التهريب غير القانونية للنفط والوقود ذات الصلة بأطراف الصراع في ليبيا، إلا أن مدى قدرة الاتحاد على أن يكون له دور ما خلال عالم ما بعد كورونا يتوقف على توجهات الاتحاد هل سيظل ينتهج سياسة مستقلة نسبيًا عن الولايات المتحدة أم أنه لن يظل على الحياد ضمن الصراع المحتدم بين الولايات المتحدة والصين وروسيا؟ فعلى الرغم من نجاح الاتحاد الأوروبي في تنظيم مؤتمر دولي في الرابع من مايو 2020م، بناءً على دعوة منظمة الصحة العالمية، وشاركت فيه عدد من الدول الكبرى والمنظمات الدولية وأسفر عن جمع حوالي 8 مليار دولار كمتطلبات لمواجهة أزمة كورونا من أجل دعم أبحاث وتصنيع وتوزيع علاج متوقع للوباء فإن ذلك المؤتمر الذي نجح الاتحاد الأوروبي في تنظيمه ولم تشارك فيه الولايات المتحدة والصين وروسيا قد جاء في أعقاب إجهاض كل من الولايات المتحدة والصين مشروع القرار الذي تقدمت به كل من فرنسا وتونس إلى مجلس الأمن الدولي في الثاني والعشرين من إبريل 2020م ويدعو إلى تعزيز التنسيق في مواجهة ذلك الوباء.  

والخامس: سوف تتوقف أدوار اللاعبين في عالم ما بعد كورونا- بغض النظر عن طبيعة ذلك العالم- على معايير إضافية للقوة التقليدية وغير التقليدية تتمثل في التفوق التكنولوجي والمعرفي وخاصة في مجال جديد يرتبط بحروب الفيروسات، وكذلك في كيفية عمل أجهزة الاستخبارات ومدى استيعابها وتفاعلها مع هذا الواقع الدولي الجديد ومتطلباته بما يتطلب حتمية تطوير أسلوب عملها ليشمل الحروب البيولوجية ومخاطرها.

والخلاصة الاستراتيجية لتلك الورقة هي أنه بالرغم من أن أزمة كورونا كانت تحديًا لكل من حلف الناتو والاتحاد الأوروبي فإن المنظمتين قد تعاملتا مع الأزمة مع الأزمة وفق الأسس المتعارف عليها لإدارة الأزمات وهي الصدمة ثم التأقلم فالتعلم الأمر الذي سوف ينعكس على خطط واستراتيجيات الأمن القومي التي تتم صياغتها وفقًا للتحديات والموارد المتاحة والأدوار المتوقعة وهي العوامل التي من شأنها أن تحدد طبيعة دورهما على الصعيد العالمي ضمن عالم ما بعد كورونا على المديين القريب والبعيد.

مجلة آراء حول الخليج