; logged out
الرئيسية / التوترات الأمريكية ــ الصينية تطال اقتصادات 13 دولة عربية

العدد 153

التوترات الأمريكية ــ الصينية تطال اقتصادات 13 دولة عربية

الثلاثاء، 01 أيلول/سبتمبر 2020

شهدت بدايات عام 2018م، اندلاع حرب تجارية بين القطبين الجديدين الصين بما أصبحت تمثله من ثقل في الاقتصاد العالمي، ثاني أكبر اقتصاد بعد العملاق الأمريكي، والولايات المتحدة التي بدأت تستشعر خطر المنافسة على زعامة العالم اقتصاديًا بعد أن  انهار الاتحاد السوفيتي  أواخر الثمانينات من القرن العشرين، وانفرادها كقطب أوحد.، ونظرًا لكبر حجم التجارة بين القطبين الجديدين، وما يحققه التبادل التجاري من منافع للأطراف المتعاملة، فقد اختار الرئيس الأمريكي تلك المنطقة لبدء نزاع على حجم المكاسب الناجمة عن التبادل التجاري بينهما متطلعًا لتقليل مكاسب الصين، وزيادة مكاسب الولايات المتحدة.

والتبادل التجاري الدولي يحقق مكاسب مضمونة لطرفي التبادل، لكن حجم المكاسب واقتسامها يتوقف على عدة عوامل من بينها حجم التبادل ومدى التخصص، والميزات النسبية والتنافسية للمنتجات محل التبادل، ودرجة حرية التبادل، ومستوى السياسات الحمائية التي تتبعها البلدان. وكما تشير التجارب الدولية وتؤكد النظريات الاقتصادية، فإن تحرير التجارة الدولية من السياسات الحمائية (كالجمارك والحصص) يفيد المستهلكين في أي من البلاد محل التبادل، في حين أن فرض القيود وخاصة الحمائية يفيد المنتجين في البلد التي تفرض قيودًا، لكنه يحد من حجم التبادل السلعي بين البلدين، ويؤثر سلبًا على حجم التجارة العالمية نظرًا لكبر حجم ونصيب البلدين معًا في التجارة العالمية.

وبالتالي فإن لجوء الولايات المتحدة لفرض سياسات حمائية على معاملاتها التجارية مع شركائها التجاريين: الصين، والاتحاد الأوروبي أو دول منطقة التجارة الحرة في شمال أمريكا NAFTA النافتا (الولايات المتحدة وكندا والمكسيك) انحاز تمامًا إلى المنتجين ومن ثم إلى الشركات العملاقة التي تنتج في الداخل، حيث يتيح لها فرض الجمارك مزيدًا من السوق المحلية ومزيدًا من الإنتاج ومزيدًا من الأرباح مع ارتفاع أسعار المنتجات المستوردة، على حساب المستهلكين.

أسباب توتر العلاقات التجارية الأمريكية ــ الصيني:

تمثلت المبررات التي ساقتها الإدارة الأمريكية لتبرير سياساتها الحمائية، في ارتفاع حصيلة الجمارك، وزيادة موارد الخزانة العامة، فضلًا عن أن السياسات الحمائية تتيح زيادة الإنتاج المحلي وترفع من مستوى التشغيل والتوظف التي تمثل هاجسًا لقوة العمل الأمريكية. لكن جذور تلك التوترات تكمن في تنامي العجز التجاري الأمريكي مع الصين الذي بلغ 378.6 مليار دولار في عام 2018م، بما يشكل 65 في المائة من إجمالي العجز التجاري الأمريكي.

 ومن أهم الأسباب التي ساقتها الولايات المتحدة في هذا الصدد هو توجيه الاتهامات إلى الصين باتباع سياسات تجارية تعزز القدرة التنافسية للمنتجات الصينية في الأسواق الأمريكية، وتشير في ذلك إلى التدخل في سوق الصرف الأجنبي، بغرض الإبقاء على سعر العملة المحلية (اليوان) منخفضًا، بما يجعل المنتجات الصينية رخيصة في السوق الأمريكية، بل واتباع سياسات حمائية، مثل الإعانات والدعم المالي المقدم للمصدرين المحليين، والتجسس الصناعي، وإهدار حقوق الملكية الفكرية، والنقل القسري للتقنية، وغيرها.

وبالإضافة إلى نفي الصين لهذه التهم إلا أنه كان من الأولى للولايات المتحدة، أن تواجه ذلك  بسياسات محلية تدعم القدرات التنافسية للمنتجات الأمريكية، بما تملكه من قدرات واسعة على الابتكار والتقنيات المتطورة، فضلاً عن الاحتكام إلى منظمة التجارة العالمية، التي تتيح مبادئها للدول المضارة جراء أية ممارسات أحادية اتخاذ تدابير مقابلة في إطار نظام عالمي مستقر.

ومن الواضح أن الأسباب غير الاقتصادية كان لها دور في هذه الأزمة مع قدوم الرئيس الأمريكي ترامب 2016م، وتصاعد التوجه الأمريكي للمصالح الوطنية الضيقة من خلال رفع شعار أمريكا أولاً (America First)، وغرور القوة وفرض الأمر الواقع وكبر حجم المصالح الصينية في الولايات المتحدة.

الخروج على قواعد بريتون وودز

لا تعد هذه الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، هي الأولى في التاريخ الاقتصادي الحديث، حيث كانت بدايات السياسات التجارية الحمائية في ثلاثينات القرن الماضي، وقبيل أزمة الكساد العظيم، وكانت ضمن الأسباب التي مهدت للحرب العالمية الثانية، حيث عمدت الولايات المتحدة إلى زيادة الرسوم الجمركية على نحو تسعمائة بند من الواردات الزراعية بمعدل تراوح بين 40 و48 %، وقررت كندا والدول الأوروبية على إثره المعاملة بالمثل، مما عجل بحدوث أزمة الكساد العظيم، وسرًع باشتعال فتيل الحرب العالمية الثانية في عام 1939م

 وقد ولدت تلك الكوارث لدى دول العالم إيمانًا راسخًا بضرورة تحرير التجارة العالمية والتخلص من الإجراءات الحمائية، بقيام مؤسسات بريتون وودز في عام 1944م، (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، والاتفاقية العامة للتجارة والدفع 1947GATT)، وبروز العولمة وتأسيس منظمة التجارة العالمية عام 1985م.

ومنذ الإعلان عن الجات 1947م، وحتى الإعلان عن قيام منظمة التجارة العالمية 1985، سعى العالم جاهدًا عبر جولات مضنية من المفاوضات والدراسات، للتوصل إلى مجموعة من المباديء والسياسات التي تحكم التبادل التجاري العالمي وتحقق مصلحة كل الأطراف، وانتهى الأمر إلى أن جوهر هذه المباديء هو تحرير انتقال السلع والخدمات ورؤوس الأموال بين الحدود، وتشجيعًا للدول في بسط وتوسيع نطاق تحرير المعاملات الدولية تم إقرار مبدأ الدولة الأولى بالرعاية والمعاملة بالمثل، ولتوسيع نطاق التبادل التجاري بين دول الجوار أجيز عقد  اتفاقيات التكتلات الإقليمية بصورها المختلفة بدءًا من منطقة التجارة الحرة والاتحاد الجمركي والسوق المشتركة والوحدة الاقتصادية، كل ذلك بغرض القضاء على النزعات الحمائية وتحرير التجارة العالمية.

 

 ورغم الصدمة التي سببتها سياسات ترامب، حيث تفاجأ العالم بالخروج الصريح على تلك المباديء من قبل الدولة التي قادت تأسيس النظام العالمي الجديد بعد الحرب العالمية الثانية، لكن الحقيقة أن جذور عودة السياسات الحمائية بدأ خلال العقدين الماضيين في ظل تراجع الدعم الشعبي للعولمة، والنمو الكبير للشركات دولية النشاط، وتشابك المصالح الرأسمالية العالمية على حساب عمليات التشغيل وارتفاع معدلات البطالة.

معاناة النظام التجاري العالمي جراء الحروب التجارية

مالم يوضع حد لهذا النزاع ستكون هناك ثلاثة آثار سيعاني منها النظام التجاري العالمي، وهي: الاتجاه إلى التعددية القطبية التجارية، والتغير في الهيكل السلعي للتجارة العالمية، والتغير في السياسات التجارية لدول العالم، ومن ثم خرق النظام الحالي لمنظمة التجارة العالمية.

ونظرًا للأثار السلبية واسعة النطاق على المستوى العالمي، فقد كان هناك رأيًا عامًا عالميًا ضد تلك التوترات، وهوما ظهر جليًا من ردود أفعال المنظمات الدولية : منظمة التجارة العالمية وصندوق النق الدولي والبنك الدولي، فضلاً عن ردود أفعال مختلف دول العالم سواء من الأطراف المباشرة أوغير المباشرة، خاصة أمام المخاوف من اتخاذ إجراءات مضادة إعمالا لمبدأ المعاملة بالمثل، ومن ثم تباطؤ الاقتصاد العالمي، فضلاً عن تباطؤ النمو في الاقتصادين الأمريكي والصيني نفسيهما، والتقلبات المتوقعة في الأسواق المالية والسلعية.

وما لم يوضع حد لتلك التوترات، فإن الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين ستمثل بداية عهد جديد في العلاقات الإقتصادية الدولية، فبدلاً من تحقيق المصالح المشتركة، دشنت  تلك الحرب مبدأ البراجماتية، وهو بطبيعته مبدأ غير مستقر ولا يحقق بيئة مواتية لاستقرار النظام الاقتصادي العالمي، على المدى البعيد.

  فضلاً عما قد يؤدي إليه من تكريس حالة عدم اليقين في الاقتصاد العالمي والتأثير سلبًا على مناخ الأعمال وقرارات المستثمرين، وثقة الأسواق المالية، وهو ماظهر جليًا في أعقاب تلك الأحداث، من تهديد للانتعاش الذي كان متوقعًا في الاقتصاد العالمي خلال عام 2019، نظرًا لثقل الاقتصادين الأمريكي والصيني في التجارة العالمية، حيث يستحوذان معًا على قرابة 46 في المائة من التجارة العالمية .

إنعكاسات الحرب التجارية  بين أمريكا والصين على الدول العربية

من أهم ما يميز الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين أن نتائج  outcomesهذا الصراع وآثاره Impacts  لن تكون قاصرة على اقتصاد هذين القطبين، بما لهما من ثقل في الاقتصاد العالمي، حيث أن الاقتصاد الأمريكي يمثل حاليًا ربع الإقتصاد العالمي، كما أن الإقتصاد الصيني يعد مصنع العالم، ومخزنه، وبالتالي ستمتد آثار الصراع بينهما لتطال  الاقتصاد العالمي كله، والدول العربية والخليجية منها على وجه الخصوص، في ظل عولمة الاقتصادات العربية وزيادة مستويات انفتاحها على الاقتصاد العالمي بشكل عام، وعلى كل من الاقتصاد الأمريكي والصيني بشكل خاص.

وبحسب دراسة أعدها صندوق النقد العربي بعنوان: التوترات التجارية بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين: أسبابها وآثارها على الاقتصادات العربية، فإن الآثار غير المواتية للتوترات التجارية بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين تطال اقتصادات ثلاث عشرة دولة عربية: السعودية، والإمارات، وعُمان، وقطر، والكويت، والبحرين، والعراق، والجزائر، وليبيا، ومصر، والمغرب، والأردن، والسودان من خلال عدد من قنوات الانتقال التي تتمثل في قناة الطلب الخارجي، والأسعار العالمية للنفط، وتدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر.

وتمثل أسعار النفط العالمية أهم هذه القنوات التي من خلالها تنتقل أثار هذا الصراع بشكل مباشر إلى دول مجلس التعاون، حيث تشكل عائداته عصب اقتصادات دول الخليج، كما أن توقع تراجع تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر يؤثر سلبًا على دول المنطقة والتي تعول كثيرًا على تلك الاستثمارات فى نجاح ما أجرته من إصلاحات على سياساتها الاقتصادية وبرامجها التنموية الطموحة، وفي توجهاتها الأخيرة لتقليص اعتماد الاقتصاد على الموارد النفطية، وتنويع هياكل الإنتاج، وزيادة مساهمات القطاع الخاص في التشغيل والإنتاج.

وقد ترتب على تلك التوترات انخفاض الطلب العالمي على النفط في ظل ارتفاع مستويات عدم اليقين وتراجع مستويات ثقة المستثمرين والمستهلكين، وبالتالي تراجعت الأسعار العالمية للنفط من 1.5 مليون برميل يوميًا في عام 2018 م، إلى 0.98 مليون برميل يوميًا في عام 2019 م، وفق تقديرات منظمة الأوبك، وبالتالي انخفاض مستويات الأسعار بما يقارب 10 في المائة عام  2019م، وبحسب دراسة صندوق النقد العربي فإن استمرار التوترات التجارية  سيؤثر سلبًا على اقتصادات الدول العربية، وبشكل خاص على اقتصادات ثمان دول عربية من بينها دول مجلس التعاون، تستقبل نحو 93 % من إجمالي تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشرة إلى الدول العربية.

ولا شك في أن انخفاض معدلات النمو الاقتصادي المتوقعة في القطبين إذا لم تنجح اتفاق المرحلة الأولى، ولم يتوقف النزاع، سينعكس تأثيره مباشرة على اقتصادات دول الخليج خاصة مع تزايد صادراتها إلى الصين، بالإضافة للولايات المتحدة، وما سوف يترتب على ذلك من انخفاض مستويات الطلب الخارجي للدولتين على صادرات دول المنطقة من النفط خاصة، بما يشكل أثرًا سلبيًا على اقتصادات هذه الدول.

وما من شك بأن الأثر المباشر لتلك التوترات التجارية بين الولايات المتحدة والصين ستنعكس مباشرة على تقليص حجم التجارة البينية بينهما، تلك هي النتيجة المباشرة لأي سياسة تقييدية أو حمائية للتبادل التجاري بين أي بلدين، نتيجة ما تؤدي إليه الجمارك من إرتفاع في أسعار السلع الأجنبية بالدولة المستوردة، ومن ثم تقليص الواردات، وزيادة الإنتاج المحلي، ويترتب على ذلك ما يعرف بتحويل التجارة، أي تغير اتجاهات التجارة الأمريكية -الصينية البينية إلى الشركاء الآخرين للبلدين.

 بالنسبة للصين، فقد نتج عن تراجع صادراتها إلى أمريكا تحولا في التجارة لصالح تايوان، والمكسيك، والاتحاد الأوروبي، وفيتنام، مع احتمال تحول جزء آخر من تجارتها إلى أفريقيا، وبالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، فإن أثر تحويل التجارة سيميل باتجاه الإتحاد الأوروبي إضافة إلى كندا والمكسيك، والشركاء الرئيسيون الأخرون، بافتراض بقاء العوامل الأخرى على حالها، ويتمثل الأثر الصافي لتأثير التوترات التجارية على التجارة العالمية في الفارق ما بين حجم التجارة العالمية قبل وبعد تحويل التجارة.

ومما لاشك فيه أن هذه النتيجة تنطوي على فرصة تتمثل في تحول جزء من التجارة بين البلدين إلى دول المنطقة، باعتبارها من الشركاء التجاريين لكل من الولايات المتحدة والصين، مما يستدعي إعادة النظر في سياساتها الاقتصادية والتجارية للتعامل الإيجابي مع تلك الآثار، وإحداث تغييرات في سياساتها المالية والنقدية لتقليل مخاطر تباطؤ النمو، باتجاه المزيد من التيسير والتوسع بهدف معاكسة الضغوط الانكماشية للتوترات التجارية على اقتصاداتها.

ونظرًا لأن اتفاق المرحلة الأولى الذي توصل إليه الطرفين في ديسمبر 2019م، لا يزال في مراحله الأولى فضلاً عن آثار جائحة كورونا على الاقتصادات في كل دول العالم، فلا يزال التوتر التجاري الأمريكي- الصيني متفاعلاً ولم تتوقف بعد أثاره، ومسارات النتائج المترتبة عليه غير مؤكدة، حيث لا يزال الوضع في هدنة مؤقتة تقلل من حدة التوتر التجاري بينهما لكنها لم تنهي الصراع، وفي حال استمرار وتصاعد وتيرة التوترات التجارية الدائرة بينهما فسيظل العالم في حال ترقب على الأقل حتى موعد الانتخابات الأمريكية في 3 نوفمبر 2020.

هل ستشعل الحرب التجارية حربًا عالمية عسكرية؟

يخبرنا التاريخ أنه في وقت ماقد تصل حدة التنافس التجاري بين الدول حد الصدام العسكري، كما أن منهج ترامب في الإدارة جعل من التوابث الدولية في سلوك الولايات المتحدة الأمريكية متغيرة، وأوصل واشنطن حاليًا لمستويات غير مسبوقة من المجازفة بمصالحها الاستراتيجية، وجعل من العالم غير قادر على التنبّؤ بما سوف تنتهجه الإدارة الأمريكية لاحقًا من تداعيات.

 كذلك فإن تنامي قوة الصين الاقتصادية وصعودها المتسارع، يخلق نوعاً من القلق لدى القطب الأمريكي، بصرف النظر عن أسلوب التعامل مع الموقف وفق فخ ثوسيديديس الذي يشير إلى المصير المتوقع لما سيحصل بين بلدين أحدهما يمثل تاريخيًا قوة مهيمنة، ومن ثم فإن نشوء قوة صاعدة سيؤدي لا محالة إلى حرب بين القوتين!

يهدف فخ ثوسيديديس إلى تقديم واحد من احتمالات المصير المتوقع لما سيحصل بين بلدين ما نموذجا، وقد جرى محاكاة هذا المبدأ على سلوك الولايات المتحدة الأمريكية مع دول أصبحت فاعلا في التوازنات الدولية كتركيا روسيا وإيران، لكن التنين الصيني أصبح يشكل تهديدًا لزعامة الولايات المتحدة اقتصاديًا، ومن ثم دخلت معها الولايات المتحدة في حرب تجارية مفتوحة، وعلى هذا الأساس الاقتصادي، يمكن استدعاء  نظرية المؤرخ الإغريقي ثوسيديدس قبل ألفي سنة عندما ألف كتابًا عن الحرب بين أثينا وإسبرطة، وأعطى فيه للعوامل الاجتماعية والاقتصادية الدور الأكبر في نشوء الصدامات العسكرية.

 خلاصة الوضع الحالي اليوم بمؤشراته المتناقضة وغير الثابتة، أن الولايات المتحدة ستقاوم محاولات تجاوزها كقوة عالمية ولن تقبل بالتنازل عن ريادتها للعالم بسهولة، وستفعل كل ما هو ممكن للبقاء قطبًا وحيدًا. 

ورغم أن ستيف بانون كبير المستشارين السابق لترامب يرى أن ترامب يبحث عن "حرب مقدسة" تحفظ الهيبة والهيمنة لبلاده ، ومن ثم تبدو فرضية التصادم بين الولايات المتحدة والصين قائمة.

لكن المرجح أنه مع تعدد الخصوم أمام ترامب ورغم نزعته التصادمية  فستظل أمريكا تقاوم محاولات تجاوزها كقوة عالمية، ولن تقبل التنازل بسهولة، وستفعل كل ما هو ممكن للبقاء قطبًا وحيدًا يحاول الهيمنة على العالم، مما يجعل من الصدام العنيف هو القاعدة وليس الاستثناء، لكن ستظل طبول الحرب العسكرية غير واردة.

فمن وجهة النظر الاقتصادية ليس هناك من سبب يدعو البلدين إلى خوض حرب تجارية إلى أقصى مدى، الأمر الذي ينفي تحول الصراع إلى مواجهة عسكرية، بل إن الحرب التجارية انتهت بالجلوس إلى طاولة المفاوضات نظرًا للآثار التي خلفتها التوترات التجارية على اقتصاد البلدين وعلى الاقتصاد العالمي ودفعتهما إلى التفاوض للتوصل إلى حل يوقف تلك التوترات المتصاعدة بينهما.

 ورغم أن هذه المفاوضات لم تسفر عن إنهاء كامل للتوتر التجاري بين البلدين، إلا أنها أسفرت عن توصل الطرفان بنهاية عام 2019م، إلى اتفاق "المرحلة الأولى" التجاري والاقتصادي، الذي يتضمن إلغاءً تدريجيًا للرسوم، وقيام الصين بإنفاق 50 مليار دولار لشراء سلع زراعية أميركية، وتعزيز حماية حقوق الملكية الفكرية، وتوسيع الوصول إلى الأسواق، وحماية حقوق الشركات الأجنبية في الصين.

والأهم من ذلك أن نتيجة تلك الحرب لم تكن مبشرة للولايات المتحدة نفسها التي أشعلت فتيل الحرب، فانخفضت الصادرات الأمريكية إلى الصين من 12.4 مليار دولار في شهر مارس 2018م، إلى 10.4 مليار دولار في شهر مارس 2019م، مسجلة تراجع بنسبة بلغت 19 % نتيجة للرسوم الجمركية التي فرضتها الصين على الواردات الأمريكية والتي تقدر مجموعها بـ 110 مليارات دولار.

كذلك ارتفعت أسعار السلع الصينية في السوق الأمريكية نتيجة لفرض الرسوم الجمركية عليها والتي دفعتها الشركات الأمريكية وتحملها المستهلك الأمريكي، في هذا السياق، تقدر الخسائر التي تكبدها المستهلكين والشركات الأمريكية بنحو 51 مليار دولار، أي قرابة 0.27 % من الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي، والنتيجة هي انخفاض الدخل الحقيقي في الولايات المتحدة الأمريكية بمقدار 1.4 مليار دولار شهريًا في نهاية عام 2019م.

خاتمة

هناك تحول قادم في مراكز القوة الاقتصادية من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي باتجاه الصين والهند، ودول نامية أخرى، حيث ستشكل كل من الصين والهند ربع الإنتاج العالمي والدخل العالمي بالتلي بنهاية العقد الثالث من هذا القرن عام 2030م، لكن لا يزال الفارق كبيرًا بين الولايات المتحدة والصين، فحجم الاقتصاد الأمريكي يبلغ حاليًا مرة ونصف حجم الإقتصاد الصيني، أما متوسط دخل الفرد، فيضع الولايات المتحدة في مرتبة متقمة كثيرًا حيث يبلغ متوسط دخل الفرد السنوي بها67427  دولار، في حين لا تزال الصين ضمن مجموعة الدول متوسطة الدخل بالشريحة العليا بمتوسط دخل 1000 دولار سنويًا، وتنسب إلى الدول النامية بحسب تصنيف البنك الدولي عام 2020م.

وعلى الرئيس الأمريكي أن يعي أمرين: الأول كيف تعمل التعريفات الجمركية، والثاني ما هو آثارها على المنتجين والمستهلكين في البلدين، وعلى تدفقات الاستثمارات الأجنبية المباشرة بل استثمارات المحافظ المالية، وسلاسل القيمة العالمية.

فالحكومة الصينية والشركات في الصين لا تدفع الرسوم الجمركية مباشرة، حيث تعد الرسوم الجمركية ضريبة على الواردات، يتم دفعها من قبل الشركات المسجلة في الولايات المتحدة إلى الجمارك الأمريكية عن البضائع التي تستوردها، وغالبًا ما ينقل المستوردون تكاليف التعريفات إلى العملاء - المصنعين والمستهلكين في الولايات المتحدة - عن طريق رفع أسعار الواردات، مما يعني أن المستهلكين الأمريكيين يتحملون معظم الفاتورة من خلال ارتفاع الأسعار، وفي بعض الأحيان يتحمل الموردون الصينيون بعض تكاليف التعريفات الأمريكية بطرق غير مباشرة، حيث يجبر المصدرون على منح المستوردين من الولايات المتحدة خصمًا للمساعدة في تحمل تكاليف الرسوم الأمريكية المرتفعة، إضافة إلى أن الجمارك تحد أيضًا من حجم الواردات وهو ما يمكن معه القول أن كلا الطرفين سيعاني من جراء هذه الحرب.

وتشكل الأثار Impact الناجمة عن فرض رسوم جمركية تهديدًا مباشرًا لحركة رؤوس الأموال العالمية وتوطن الاستثمارات الأجنبية المباشرة، حيث تؤثر على مدى جاذبية الاقتصاد الصيني على وجه الخصوص، وعلى دوافع المستثمرين الأجانب للعمل في الصين، وقد تدفعهم للتوطن في دول مجاورة مثل فيتنام ودول آسيوية أخرى، وهو ما ستحالول الصين تجنبه، ومن ثم الحرص على إنجاح التسوية، خشية تهديد المنتجات الصينية بتعريفة إضافية، بل والعمل على تحسين ظروف الأعمال والاستثمار للشركات الأجنبية، ومنع قيام الشركات بتعديل سلاسل التوريد أو الحصول على مكونات وتجميع خارج الصين نتيجة للتعريفة الجمركية.

مقالات لنفس الكاتب