; logged out
الرئيسية / أمريكا والصين: صراع القوة ورأس المال في الخليج وأجندة التنافس

العدد 153

أمريكا والصين: صراع القوة ورأس المال في الخليج وأجندة التنافس

الثلاثاء، 01 أيلول/سبتمبر 2020

كانت منطقة الخليج، ودولها العربية خاصة، في كل العهود، فضاءً جاذبًا للأطماع، وعانت الكثير في وسط حمأة التنافس بين القوى العُظمى، وتفاصيل ما جرى إبان الحرب الباردة ما تزال عالقة في الذاكرة، والصراعات الدامية، التي وقعت فيها، وما تزال تبعاتها تجرجر أذيالها، شاهد شاخص على ذلك. وإذا كان الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة قد تصدرا المشهد وقتئذٍ، فإن بكين هي اللاعب الجديد، الذي حَلَّ محل موسكو وأبدل "رأس المال" الماركسي الأيديولوجي، الذي كان يستهدف العقول، برأسمال مصرفي اقتصادي يتمدد في الأسواق. وكلما سعت واشنطن للحد من علاقات الصين مع حلفاء أمريكا في الخليج، ومحاصرة نفوذها التجاري والاقتصادي، ازادت التوترات السياسية بين العملاقين في الخليج، والشرق الأوسط، وإفريقيا، وانبسطت إلى بحر الصين الجنوبي. ولكن، رغم تراجع أدوار أمريكا العالمية، وتكاثف إغراءات رأسمال المال الصيني في كل مكان، إلا أن واشنطن تعلم رجحان كفتها مع دول الخليج العربية؛ لأسباب موضوعية، يرتبط غالبها بعلاقات "القوة" ومواضعات الاستراتيجيات الأمنية، في منطقة غنية وجاذبة؛ تتداعى عليها الأطماع من كل حدب وصوب. فبينما يريد الخليجيون الحفاظ على علاقات وثيقة مع الصين لأسباب اقتصادية، لن يخاطروا بتعريض علاقاتهم الاستراتيجية طويلة الأمد مع الولايات المتحدة، التي هي حليفهم الأقرب وداعمهم الأساس ضد سياسات بعض دول الجوار المثيرة للجدل.

إن تحرر الصين من التعقيدات التاريخية في المنطقة قد مكّنها من تجنب العقبات، التي أعاقت اللاعبين الآخرين، الذين كانوا نشطين سياسيًا وعسكريًا، أو مُسْتَعْمِرِين، في حِقَبٍ سلفت. ففي حين أن بريطانيا وفرنسا وروسيا والولايات المتحدة قد انحازت في الماضي والحاضر إلى طرف من الأطراف، في بعض أكثر الصراعات إثارة للخلاف في الشرق الأوسط، وكسبت حلفاء وأعداء على حد سواء، فإن السياسة الخارجية الصينية أعطت باستمرار الأولوية لعدم التدخل. والآن، تتجاهل بكين حروب الوكالة الجارية في ليبيا وسوريا واليمن، الأمر الذي ساعد الدبلوماسية الصينية في التعامل المرن مع الجميع، بما في ذلك بعض المتنافسين في الخليج؛ إذ مثلما لها علاقات مع إيران، تتمتع بما هو أفضل منها مع المملكة العربية السعودية، ولها مصالح ممتدة مع قطر ودولة الإمارات العربية المتحدة وعُمان والكويت ومملكة البحرين. ورغم أنها عادة ما تطالب، في مقابل الاستثمار الأجنبي المباشر، الشركاء الاقتصاديين المحتملين باحترام مطالبتها بتايوان، والامتناع عن انتقاد اضطهادها المتصاعد للمسلمين الأويغور، إلا أن هذا الاشتراط الصيني غير موجود في أجندتها مع دول الخليج العربية.

لهذا، ووفقًا لهذه الخصوصية، أصبح على دول الخليج أن توازن فقط، وبشكل دقيق، قيمة شراكتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة، لتتوافق مع مصالحها الاقتصادية مع الصين. فواشنطن بقوتها العسكرية وتحالفها الاستراتيجي، هي صاحبة السبق التاريخي، التي استطاعت إقصاء الدب الروسي عن المنطقة؛ طِوال فترة الحرب الباردة، ولا تريد للتنين الصيني أن ينافسها على نطاق النفوذ في الخليج، الذي استثمرت في المساهمة في حماية أمنه عقودًا طويلة. ومع ذلك، فما أكثر ما توجست، في السنوات الأخيرة، من التقارب بين دول الخليج العربية والقادم الجديد، ودبلوماسيته الاقتصادية الناعمة، فلم تُخْفِ امتعاضها، بل عبرت مرارًا عن خشيتها ومعارضتها؛ سرًا وعلانية، للنفوذ الصيني الزاحف عبر الاستثمار والتجارة. وأصرح من عبر عن هذه الحقيقة هو ديفيد شينكر، مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية لشؤون الشرق الأدنى، الذي قال: "نريد من الدول الشريكة لنا أن تبذل العناية الواجبة". ووصف شينكر المساعدات الصينية بأنها "مفترسة"، وحذر من أن مشاركة شركة مثل هواوي، التي وقعت اتفاقيات لتأسيس البنية التحتية للجيل الخامس مع الإمارات والسعودية والبحرين، ستجعل من الصعب على القوات الأمريكية والخليجية التواصل. وقال شنكر: "نحن لا نجبر الدول على الاختيار بين الولايات المتحدة وجمهورية الصين الشعبية... يمكن للبلدان، وينبغي لها، الحفاظ على علاقات صحية مع كليهما، لكننا نريد تسليط الضوء على التكاليف"، التي تأتي مع ارتباطات معينة مع الصين. وفي وقت سابق، حذر مسؤول أمريكي كبير آخر من أن دول الخليج "تخاطر بتمزيق العلاقة الاستراتيجية طويلة الأمد، التي تربطها بالولايات المتحدة". وهذا يبين المعضلة، التي تواجهها الإدارة الأمريكية، فينما ترسل تحذيراتها ضد التعامل مع الصين، ترغب هي في تقليص التزاماتها في المنطقة؛ رغم أنها في تنافسها العالمي مع الصين، لا تستطيع أن تخلق نوعًا من الفراغ، الذي يمكن لغيرها ملئه.

ميزان العلاقات:

تشير النجاحات، التي حققتها الصين إلى اتجاه أوسع في الخليج، يتجاوز دوله العربية إلى ما عداها، خاصة إيران، الأمر الذي يمثل عقدة عصية أخرى في التنافس مع الولايات المتحدة هي أعسر على الهضم من مجرد صراع المصالح التجارية. ولكن، على الرغم من أن دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية سيظلون يعتمدون، على الأرجح، على التعاون العسكري مع أمريكا لسنوات قادمة، فإن جميع هذه الدول تعتقد أن مستقبلها الاقتصادي يقع خارج دائرة العالم الغربي، أي مع التنين الصيني والمهراجا الهندي، وبقية النمور الآسيوية، دون أن يغفلوا حظوظهم مع باكستان وكوريا الجنوبية واليابان. وكعرض شامل للاستثمار الأجنبي المباشر، تمثل مبادرة الحزام والطريق وعدًا بديلاً مغريًا للمساعدة المالية الغربية، حتى لو فشلت في استبدال المساعدات العسكرية الأمريكية بخيارات أخرى. والحفاظ على هذا الوعد البديل سيحدد قدرة الصين على الوفاء بشراكاتها، وإلى متى سيحافظ المسؤولون الصينيون على الولاء الاقتصادي مع دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية.

ويعلم المتابعون أن الشركات الصينية قد أمضت سنوات عديدة في السعي وراء فرص مربحة في الخليج، رغم سِعة التبادل الرسمي في سلعة النفط، وما ارتبط بها من بتروكيماويات. فمنذ عام 2017م، أنشئ كونسورتيوم صيني برأسمال قدره 10,7 مليار دولار يهدف لتطوير قرية الصيد العمانية المغمورة في سلطة المنطقة الاقتصادية الخاصة في الدقم. في غضون ذلك، توصلت الصين إلى اتفاق مماثل مع ميناء حمد في قطر، واستثمرت شركة صينية مملوكة للدولة ما يقرب من ثلاثمائة مليون دولار في محطة جديدة في ميناء خليفة، في أبو ظبي، وخصصت الصين والكويت 82.2 مليار دولار لمدينة الحرير، وهي مخطط لمجمع كويتي ضخم يتصور المسؤولون الصينيون أنه سيمثل محطة مهمة في طريق شرق أوسطي لمبادرة الحزام والطريق. وفي العام الماضي، تحركت مملكة البحرين بإرسال وفد إلى شنتشن لإبرام عدة صفقات مع شركات التكنولوجيا الصينية.

إن العلاقة بين المستثمرين الخليجيين ونظرائهم الصينيين تحولت إلى علاقة متبادلة، وفي حالات قليلة، كان السبق لأحدهما على الآخر مقدمة حافزة للآخر. فقد افترعت دولة قطر صندوقها الاستثماري الخاص بها بقيمة 10 مليارات دولار لمشاريع في الصين في عام 2014م، وبعد عام واحد فقط، اشترت شركتان قطريتان ما نسبته 49٪ من المؤسسات الصينية العاملة في صناعة البتروكيماويات، كما اشترت الخطوط الجوية القطرية، وشركة قطرية أخرى، 5٪ من خطوط جنوب الصين الجوية في وقت سابق من هذا العام. وبالمثل، فعلت المملكة العربية السعودية، بخطة عام 2017م، لصندوق استثمار صيني سعودي بقيمة 20 مليار دولار، وفي فبراير الماضي، خصصت أرامكو السعودية 10 مليارات دولار لمصفاة بالقرب من مدينة بانجين الصينية.

إن رجال الأعمال وصناع السياسات؛ من مسقط إلى المنامة، يدركون قدرة الصين على توظيف الموارد الاقتصادية، التي لا يمكن لأي من أقران الصين الغربيين أن يضاهيها. بالإضافة إلى أن الصين تقوم بشراء أكثر من ثلاثة أرباع حاجتها من الوقود الأحفوري من العالم، وما يُقدَّر بـــ 40 ٪ من دول الخليج، وأن صادرات سلطنة عُمان، والمملكة العربية السعودية التجارية مع الصين أكثر من أي بلد آخر. وعلى الرغم من كل حجم التبادل الاقتصادي الكبير هذا، لا يتحدث إلا القليلون عن أن القوى الإقليمية في الخليج قد تُعيد النظر في أولوية تحالفها مع الولايات المتحدة، وإنما يركز الأغلبية على العلاقات، التي تقوم عليها المشاريع الاستثمارية المربحة، والمأمونة سياسيًا. ففي الوقت، الذي بدأ فيه الخليج ذاته يبحث عن بدائل خارج صناعة النفط، أصبح السعي إلى الاستثمارات المتبادلة مع الصين نهجًا جذابًا للتنويع المنشود، بالنسبة لجميع دول مجلس التعاون الخليجي. وكما أسلفنا، فإن المستثمرين الصينيين يأتون من دون الحمولات والاشتراطات، التي تثبط الكثيرين من التعامل مع نظرائهم الأمريكيين والأوروبيين، الذين غالبًا ما تكون السياسة وأثقالها جزءًا من صفقاتهم.

رأي له وزن:

لقد علق الدكتور عبد العزيز حمد العويشق، الأمين العام المساعد للشؤون الخارجية والسياسية والمفاوضات في مجلس التعاون لدول الخليج العربية، في مقال له بعنوان: "كيف يمكن لسياسة الولايات المتحدة الجديدة تجاه الصين أن تؤثر على الخليج؟"، نُشِرِ باللغة الإنجليزية، يوم 27 يوليو 2020م، في موقع Arab News، حول ما إذا كان إغلاق القنصلية الصينية في هيوستن والقنصلية الأمريكية في تشنغدو في يوليو الماضي، كأحدث بوادر لتدهور العلاقات الصينيةــ الأمريكية، في وقت يتسم بالكلام العنيف والصخب بين أعظم قوتين في العالم. مع تحول حرب الكلمات تدريجيًا إلى أفعال، وتساءل: كيف ستؤثر هذه المعركة على دول الخليج؟

وأشار الدكتور العويشق إلى أنه خلال الأسابيع القليلة الماضية، تناول العديد من المسؤولين الأمريكيين هذا المحور في السياسة الأمريكية لمواجهة الصين، تروي الاتجاه الجديد للسياسة الأمريكية على الصعيد العالمي. منوهًا إلى أن هذا التحول يجري خلال فترة انتقالية في الولايات المتحدة، حيث تستعد للانتخابات الرئاسية في نوفمبر، لكنها ستستمر على الأرجح بعد التصويت، بغض النظر عمن سيفوز. وقائلاً: "لذلك من المهم للغاية مناقشة هذه التطورات مع شركاء الولايات المتحدة في الخليج لإعدادهم للمرحلة الجديدة". وأشار العويشق إلى أن التغييرات، التي حددها بومبيو، يبدو أنها منسقة بشكل وثيق ودقيق، إذ كان هذا هو خطابه الرابع في سلسلة عن الصين، بعد تلك، التي طلب من مستشار الأمن القومي روبرت أوبراين، ومدير مكتب التحقيقات الفيدرالي كريستوفر وراي، والمدعي العام ويليام بار إلقاءها. وفي الشهر الماضي، تحدث قائد القيادة المركزية الأمريكية الجنرال كينيث ف. ماكنزي جونيور عن "عودة" المنافسة بين القوى العظمى في الخليج وبقية منطقة مسؤولية القيادة المركزية الأمريكية، والتي تشمل الشرق الأوسط وشرق إفريقيا. ويمثل هذا الجهد، الذي بذلته الحكومة بأكملها "هدفاً واضحاً للغاية، ومهمة حقيقية". يجب أن يؤخذ على محمل الجد، ليس فقط في منطقة الخليج، ولكن في كل المناطق المذكورة.

من يكسب الرهان:

ربما يجدر بنا، في هذه المرحلة من تنافس العملاقين، إعادة طرح السؤال: هل تفوقت الصين على الولايات المتحدة في الخليج؟ وقد تكون الإجابة السهلة هي أن الصين رفعت بالفعل مستوى الرهان، لكن الولايات المتحدة ما تزال هي الرابحة. فدول الخليج تزن، وفقاً لمصالحها الوطنية، فوائد خطة ومخاطر هذا الرهان المفتوح، وتَعَجُّل الاختيار قد يكون ضارًا، أو "زائفًا" بين أمريكا والصين، أو روسيا، في الوقت الراهن. وهذا ما أشار إليه قائد القيادة المركزية الأمريكية، الجنرال فرانك ماكنزي، في 2 يوليو الماضي، مستبعدًا دخول موسكو على خط المنافسة، بقوله: إن "روسيا ليس لديها الموارد الاقتصادية للدخول إلى المنطقة [الخليج] بالطريقة، التي تمتلكها الصين"، وإن على الولايات المتحدة "مواجهة" الاقتصاد الصيني المتقدم في المنطقة. وفي قراءة تقييمية لكيفية تلعب المنافسة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة والصين في منطقة الخليج، يعزي كارين يونغ، الباحث في معهد أميركان إنتربرايز، حالة عدم وجود خيار حقيقي بين واشنطن وبكين بالنسبة لدول الخليج العربي، الساعية لشركاء عالميين للتجارة والاستثمار، إلى تراجع دور الإدارة الأمريكية، ويجادل بأنه إذا كان هناك مثل هذا "الاختيار"، فذلك لأن الولايات المتحدة سمحت للصين بقفزة عالية في الدبلوماسية العامة.

ويوضح يونغ وجهة نظره أكثر بقوله: "من خلال التركيز على استثمارات الدولة ونشرها على نطاق واسع، جعلت الصين اختبار الولايات المتحدة في المنطقة حول التمويل الثنائي الحكومي". ويضيف أنه "في المقابل، ما تقدمه الولايات المتحدة وحلفاؤها للمنطقة هو نظام للوصول إلى رأس المال الدولي، إلى المؤسسات، التي تكافئ الحوكمة، وسيادة القانون، وخلق فرص العمل المحلية في نهاية المطاف، بدلاً من إثراء كيانات الدولة، والعقود، التي تعزز الميزانيات العمومية للبنوك، وتدفق المشاريع المتقلب، الذي نادراً ما يؤدي إلى نمو محلي دائم، أو فرص عمل." وفي هذا الصدد، يرى أن الولايات المتحدة لا تخسر، ولا ينبغي لها أن تخسر المنافسة على النفوذ الاقتصادي، بزعم أن الأعمال الصينية في المنطقة لها نطاق مختلف. إذ إن "أسباب الوجود الصيني كمقاول في الخليج، ومستثمر مشارك في مشاريع البنية التحتية والطاقة الخليجية قليلة". بينما تسعى دول الخليج إلى أن تصبح لاعبًا اقتصاديًا رئيسيًا في الصين، لكن المواقف الأمريكية تدفع بعض الدول إلى التحرك بحذر.

من جانب آخر، يريد مصدرو النفط الخليجيون الحفاظ على علاقة خدمة عملاء جيدة مع الصين، ويمكن للاستثمارات بين دولة وأخرى تجنب التدقيق العام في عروض السندات والإفصاحات للمستثمرين الدوليين، وفي بعض الأحيان تكون الصفقات أسرع وأسهل في الإغلاق. والصين شريك جيد في بعض الاستثمارات والقروض، "التي لا معنى لها من الناحية الاقتصادية، حيث تعمل كميزانية عمومية بديلة لكيانات الدولة على كلا الجانبين." وهذا ما لم تدركه الولايات المتحدة، ولم تنتبه إلى كيف يعمل وجودها في المنطقة، بالشراكة مع حلفائها، وكيف تعمل الاستثمارات غير الحكومية والتجارة والأفكار بالتوازي، وفي جهد مباشر لخلق بديل للصين، إذ لا يوجد منطق للاختيار بين الولايات المتحدة والصين، فقط فرص ومن لم يغتنمها ضاعت عليه.

نُذُر حرب باردة:

يرى مراقبون أنه بينما يتحول التنافس بين الولايات المتحدة والصين إلى حرب باردة جديدة، فإنه يحمل أيضًا إمكانية توسيع وتعميق العديد من خطوط الصدع الجيوسياسية في السياسة العالمية، ولا يخفى على أحد أن واحدًا من خطوط الصدع هذه متأصل بشكل خطير في منطقة الخليج الحيوية استراتيجيًا، والغنية بالنفط، التي يكتنفها الكثير من عدم الاستقرار، وهي عادة ما تتوزع في مداها الجغرافي الأوسع بين الشمال والجنوب. وقد سعت الصين حتى الآن إلى العمل فوق هذا الانقسام؛ في تعاملها مع كلا الجانبين. ومع ذلك، فإنها تشترك في مصالح قوية معادية للولايات المتحدة مع الدول والجهات الفاعلة دون الوطنية، التي تشكل المنطقة الشمالية، والتي تشمل إيران والعراق، وتداخلهما مع سوريا، وحتى لبنان، حيث يمكن أن تعزز المنافسة مع الولايات المتحدة هناك المزيد من التقلبات الإقليمية.

لهذا، فإن تصعيد التنافس بين الولايات المتحدة والصين في الخليج لن يؤدي إلا إلى تعميق خط الصدع الجيوسياسي الخطير في منطقة ذات أهمية اقتصادية واستراتيجية، ولكنها قد تُصبِح غير مستقرة وغير آمنة بدرجة كبيرة، خاصة أنه تحت حكم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، لا تزال الولايات المتحدة وإيران في مسار تصادمي، ولا يحتاج الخليج إلى أي حافز إضافي ليصبح أكثر قوة، أو تأكيد تحالفاته مع شركاء أقوياء. فقد دفع الارتفاع المطرد في المنافسة الاستراتيجية الأمريكية مع الصين على التجارة وبحر الصين الجنوبي أحيانًا إلى تجاهل التحولات في سلوك الصين في مجالات أخرى، رغم أنه من السهل ملاحظة أن له بالفعل أبعاد كثيرة. لكن مؤخرًا، اتخذت الصين خطوة يمكن أن يكون لها تأثير حاسم حقًا على مثل هذه المنافسة. ففي 6 يوليو، أعلن وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، أن إيران تتفاوض على اتفاق مع الصين يجعل البلدين معادلين لشريكين استراتيجيين. وهذا في حد ذاته يمكن أن يوسع بشكل جذري المنافسة الأمريكية والصينية في الخليج، ليس في مجال الاقتصاد والتجارة فحسب، بل تمدد هذه المنافسة في المجالات السياسية والقوة العسكرية، وينقلها إلى أجزاء جديدة من العالم.

إن النظر الفاحص للنشاط الصيني، خلال العقد الماضي فقط، يوضح أن بكين تسعى حثيثًا لتأمين وارداتها من الطاقة من الخليج، والتنافس مع الولايات المتحدة والهند، والتطلع نحو يوم ستكون فيه قوة حقيقية في الشرق الأوسط، والمحيط الهندي، كما هي في آسيا والمحيط الهادئ. فقد حاولت توسيع وجودها الاقتصادي والسياسي، وطورت علاقاتها العسكرية مع عدد من الدول، وبذلت جهودًا لتحقيق مبيعات أسلحة كبيرة، على الرغم من أنها حققت حتى الآن القليل من النجاحات بخلاف بيع صواريخ أرض-أرض إلى المملكة العربية السعودية، ومزيج غير معروف من تقنيات الصواريخ لإيران. وبينما اتخذت الصين هذه الخطوات لأسباب اقتصادية، إلا أن لديها أسبابًا استراتيجية واضحة للتنافس مع الولايات المتحدة على النفوذ والقدرة على إظهار القوة في المنطقة. وأحد الاهتمامات الرئيسة لها هي تطويق الهند؛ باستخدام باكستان، والعلاقات مع آسيا الوسطى، والوجود البحري المتنامي في المحيط الهندي.

بيد أن المرء يمكنه أن يلحظ أن هناك مصلحة استراتيجية أخرى، قد تكون أكثر أهمية مما عداها، وهي إلى جانب تأمين وصولها إلى صادرات النفط الخليجية، فإنها تسعى للحد من قدرة الولايات المتحدة في التأثير على هذا التدفق إلى الموانئ الصينية في حال نشبت أزمة، أو وقعت حرب. إذ تعد الصين الآن، إلى حد بعيد، أكبر مستورد للنفط في العالم، وأصبحت تعتمد بشكل مطرد على وارداتها من الخليج. وهي تستورد، كما أسلفنا، ما يزيد قليلاً عن 70٪ من إجمالي استهلاكها النفطي، وتحصل الآن على أكثر من 40٪ من إمداداتها من الخليج. ويفسر هذا الاعتماد الكبير سبب زيادة الصين بشكل مطرد لوجودها في منطقة المحيط الهندي، وتتخذ من الوسائل ما يمكن أن يساعد في تأمين طرق تجارتها البحرية وتدفق النفط من الخليج. وهذا يفسر سبب زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ لمنطقة الخليج في عامي 2016 و2018م، في الوقت نفسه، الذي أشارت فيه بعض التقارير إلى أنه كان يناقش اتفاقية مع إيران، أي في وقت مبكر من عام 2016م، استخدمت الصين دورها في قوة مكافحة القرصنة المطورة للتعامل مع الظاهرة في الصومال، ولإبراز قوتها البحرية في ذلك الجزء من المحيط الهندي، كما أنشأت قاعدة بحرية وميناءًا جديدًا في جيبوتي بالقرب من الطرف الشرقي لباب المندب في البحر الأحمر.

الخاتمة:

يبدو جليًا؛ مما تقدم، أن حجم المنافسة الأمريكية والصينية سيستمر في التوسع، شاملاً لكل الأبعاد المدنية والعسكرية؛ معبأة في طرود القوة ورأس المال، وكل أنواع الإغراءات الاستثمارية. وهذا التنافس الأمريكي مع الصين قد يعني في نهاية المطاف اشتداد النزاعات والصراعات المدنية والعسكرية على أساس عالمي، وليس مجرد بناء القوات العسكرية الأمريكية، أو الصينية، في أعالي البحار للتعامل مع المهددات غير المنظورة من الفاعلين الصغار. ومثلما يقول الدكتور العويشق، فإن الولايات المتحدة وشركاؤها في المنطقة، في حاجة ماسة إلى إجراء مناقشة جادة حول كيفية تأثر أمن الخليج، على سبيل المثال، بهذه التحولات الجديدة في لعبة القوى العالمية. وإذا كان وزير الخارجية الأمريكي بومبيو، وماكنزين ومسؤولون آخرون، قد شددوا مرارًا وتكرارًا على أن أمن الخليج، وأمن الطاقة، من بين الأهداف الرئيسة لسياسة الولايات المتحدة العالمية، فينبغي على دول الخليج أن تذكر واشنطن باستمرار بهذه الأهداف، خاصة وأن حالة الانسحاب وبيات "العزلة المجيدة" تُمَيِّز السياسة الخارجية الأمريكية هذه الأيام.

وإذا كان الأمر كذلك، فإننا نتساءل، في الختام، مع الدكتور العويشق حول: كيف تتم خدمة هذه الأهداف في ظل السياسة الجديدة؟ وسؤاله الآخر، الذي أقر بأنه يحتاج إلى معالجة، وهو: أين تتلاءم السياسة الأمريكية الإيرانية مع التغييرات الجديدة؟ أو ما الذي يجب أن نفهمه بشأن العلاقة المتنامية المزعومة بين الصين وإيران؟  وقد تبدو هذه أسئلة أجاب عليها العرض، الذي تقدم، والذي أكد أن دول مجلس التعاون الخليجي شركاء مع كل من الولايات المتحدة والصين، وإن مستويات هذه الشراكة مختلفة، وبأهداف حتى الآن مغايرة لبعضها؛ استراتيجية عِمَادها القوة في الحالة الأمريكية، واقتصادية عصبها رأس المال في نسختها الصينية. وعلى هذا النحو، يمكن بالفعل أن تساعد دول الخليج "في تنسيق سياسة أمنية متماسكة" تجنبها مزالق المواجهات المستقبلية بين القوى العظمى.

مقالات لنفس الكاتب