; logged out
الرئيسية / اقتصاد وسياسة (المضائق الاستراتيجية)

اقتصاد وسياسة (المضائق الاستراتيجية)

الأربعاء، 01 حزيران/يونيو 2011

نتحدث طوال الوقت عن العولمة، لكننا لا نركز إلا نادراً على تطور رئيسي يدعم هذه الظاهرة ويجعلها ممكنةً، إنه التطور المثير في تكنولوجيا الملاحة البحرية والذي أحدث ثورة حقيقية في النقل البحري وانخفاضاً هائلاً في تكلفة نقل السلع لمسافات طويلة أو قصيرة، على حد سواء. وتشعر دول الخليج بأثر هذا التطور لأنها موطن مُشغلي موانئ عالمية رئيسية وبفعل نشاطها المتزايد على امتداد مختلف خطوط الملاحة البحرية المتنامية بسرعة.

مع انتشار العبّارات الحديثة السريعة ـ وهي وسائط نقل بحري تتحرك بسرعات تراوح ما بين 25 - 30 عقدة في الساعة - أصبحت وسائط النقل البحري في كثير من الحالات، وبخاصة العبّـارات من طراز (Roll on/ Roll out) القـادرة على نقل الشاحنات والمقطورات بكامل حمولتها، أصبحت أسرع من وسائط النقل البري، وخصوصاً في البحار المغلقة، مثل البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر أو حتى مياه الخليج العربي نفسه.

وهناك على الأقل نتيجتان مهمتان لهذا التطور التقني النوعي. الأولى هي أن مبدأ حرية الملاحة في أعالي البحار ـ وهو المبدأ الأساسي للقانون الدولي البحري، أصبح اليوم يحظى بدعم كافة دول العالم بلا استثناء. ومع أن أحداً لم يعارض هذا المبدأ على مدى سنوات العمل به، إلا أنه كان في الماضي محل اهتمام الدول التجارية الرئيسية والقوى العظمى بالدرجة الأولى. أما اليوم، فإنه يكتسي أهمية كبيرة بالنسبة لكافة دول العالم، ربما باستثناء تلك الدول المحاطة باليابسة. وتتمثل النتيجة الثانية بأن الممار البحرية تشهد حالياً ازدحاماً متزايداً وأصبحت تغص بسفن أكبر وأسرع تتحرك في مختلف الاتجاهات، وهو ما يُبرز الحاجة إلى وجود مراقبة واعية وحكيمة لحركة الملاحة البحرية. لكن تلبية مثل هذه الحاجة مشكلةٌ بحد ذاتها لأنها لا تنسجم تماماً مع مبدأ الحرية المطلقة للملاحة في أعالي البحار (المياه الدولية) والمضائق العالمية.

إلى ذلك، يُمثل حجم تجارة العالم بالنفط الخام ومشتقاته الجزء الأكبر من مجمل التجارة العالمية. كما تمثل حقيقةُ أن النفط سائل يَسْهل نقله بحراً بتكلفة بسيطة إحدى المزايا الأساسية التي دعمت (نجاح) النفط كمصدَر رئيسي للطاقة، إذ من الواضح أن نقل النوعين الآخريْن من الوقود العضوي ـ الفحم الحجري والغاز الطبيعي ـ أصعب كثيراً من نقل النفط لعدة أسباب. فالغاز الطبيعي، تحديداً، لا يمكن نقله إلا بوساطة خطوط أنابيب أو بعد تسييله لكي يُنقل على متن سفن مصممة خصيصاً لهذا الغرض، حيث يبقى تحت درجة حرارة منخفضة جداً.

لذا، تُمثل ناقلات النفط عنصراً مهماً في حركة الملاحة البحرية العالمية، وإذا اتخذت الإجراءات السياسية المناسبة، يُمكن الاستغناء عن هذا العنصر بسهولة كبيرة واستبداله بوسائل نقل أخرى.

وتُبرر هذه الاعتبارات الاهتمام الخاص الذي تحظى به ما تُسمى (نقاط العبور الحرجة) لحركة النقل البحري العالمي للنفط الخام. وتشهد هذه النقاط الحرجة ـ أو (المضائق الحرجة)، كما سمتها الوكالة الدولية للطاقة ـ مرور جزء كبير من النفط الخام المتاجَر به عالمياً. لكنْ من الأهمية بمكان أن نُبقي نصب أعيننا حقيقةَ أن ناقلات النفط ليست النوع الوحيد من السفن التي تعبر هذه المضائق؛ فأعداد سفن الشحن الأخرى التي تعبرها أكبر كثيراً من أعداد ناقلات النفط. وإذا ركزنا اهتمامنا على نقل النفط الخام، فإنما نفعل ذلك بالدرجة الأولى لأن استبدال سفن وناقلات النفط الخام أيسر كثيراً من استبدال سفن السلع الأخرى.

ويتركز في الدول المُطلة على ضفتي مياه الخليج العربي جزء كبير من احتياطيات وإنتاج العالم من النفط، وهو ما يجعل حصة هذه الدول من إمدادات النفط التي تعبر مضيق هرمز إلى الأسواق العالمية كبيرة جداً. والجدير بالذكر أن ثلاث دول هي إيران والسعودية والإمارات التي تعد من بين أكبر مصدري النفط الخليجيين الخمسة لديهم موانئ خارج مياه الخليج؛ إذ تملك إيران والإمارات العربية المتحدة على شواطئ المحيط الهندي موانئ مستقلة عن مضيق هرمز، ولدى السعودية موانئ على البحر الأحمر تتمتع بالاستقلالية نفسها. وفي الحقيقة، تملك السعودية أيضاً خطاً نفطياً تبلغ طاقته القصوى خمسة ملايين برميل يومياً(يُعرف باسم خط البترولاين)، ويمتد من آبار النفط الواقعة في المحافظة الشرقية للمملكة إلى ميناء ينبع على البحر الأحمر، وتصدر المملكة منذ أكثر من عشرين عاماً كميات لا بأس بها من النفط الخام والمنتجات النفطية عبر هـذا المرفأ.

لكن العراق لا يمتلك إلا منفذاً بحرياً واحداً عبر مياه الخليج. وفي الحقيقة، يُعَد هذا المنفذ العراقي غير كافٍ وعاجزاً عن استيعاب ناقلات النفط العملاقة. ولهذا السبب طور العراق على مر السنين عدداً من البدائل، أبرزها:

  • خط الأنابيب الممتد من حقول شمال العراق عبر سوريا وصولاً إلى ميناء بانياس السوري على البحر الأبيض المتوسط.
  • خط الأنابيب الممتد من حقول شمال العراق عبر تركيا إلى ميناء جيهان التركي على البحر الأبيض المتوسط.
  • خط الأنابيب الذي يعبر أراضي سعودية ويربط حقول نفط جنوب العراق بميناء ينبع السعودي الواقع على البحر الأحمر ويُعرف باسم خط النفط العراقي – السعودي.

 قد شهدت كافة الخطوط المذكورة آنفاً، التي لا يعمل أي منها بصورة طبيعية في الوقت الراهن، توقفات كثيرة لأسباب سياسية و/ أو نتيجةً لتدخلات عسكرية. كما أن جزءاً من خط الأنابيب العراقي-السعودي بات يُستخدم حالياً لنقل الغاز الطبيعي داخل المملكة، لكن هذه الخطوط لا تزال موجودة ويُمكن ترميمها و/أو توسيعها.

أما الكويت، فهي البلد الخليجي الوحيد الذي ليس لديه حالياً أي بديل من شحن صادراته النفطية عبر مضيق هرمز، مع الإشارة إلى أن وضع الكويت لا يختلف كثيراً عن وضع العراق، وبإمكان الكويت أيضاً إيجاد بديل(باتجاه البحر الأحمر عبر المملكة العربية السعودية على الأغلب). ومن ثم، فإن الحقيقة المتمثلة في أن العالم يعتمد على نحو متزايد على دول الخليج المنتجة للنفط لتلبية حاجاته النفطية، لا تعني بالضرورة حدوث زيادة سريعة في أعداد شحنات النفط التي تعبر مضيق هرمز.

وفي حالة هرمز، يمثل النفط أهم السلع التي تعبر المضيق (لكن ناقلات النفط لا تُمثل بالضرورة أغلبية السفن التي تعبره). وعند الإشارة إلى مضيق هرمز كنقطة عبور بحرية حرجة، فإنما ننطلق من احتمال تعرض هذه النقطة للإغلاق عبر استخدام العنف من قبل إحدى الدولتيْن اللتين تطلان على المضيق (إيران وعُمان) أو على يد لاعبين غير رسميين. لكنْ لا يوجد أي سبب منطقي يدعو إلى افتراض أن العنف الرسمي سيستهدف ناقلات النفط بالضرورة، أو أن منع مرور شحنات النفط الخام عبر مضيق هرمز سيحل المشكلة، لأن العبور الحر لهذا المضيق يبقى مسألة حيوية بالنسبة لدول المنطقة كافةً ومصلحةً أساسية لدول العالم الأخرى.

ويصبح هذا المنظار أكثر إلحاحاً عندمـا ننظر إلى بعض النقاط البحرية الحرجة الأخرى، كمضيق ملقة على وجه الخصوص. وذلك لأن حركة كافة السفن التي تتحرك مِنْ وإلى الموانئ النفطية الواقعة في الشرق الأقصى وغرب سنغافورة تعتمد اعتماداً رئيسياً على عبور مضيق ملقة. وبحسب المنظمة الدولية للملاحة البحرية، يعبر هذا المضيق أكثر من خمسين ألف سفينة سنوياً ـ أيْ أكثر كثيراً من حركة ناقلات النفط. وبعيداً من كونه سبباً يدعو إلى الاطمئنان، يجب على هذا الاعتبار أن يُشجع بالدرجة الأولى على إيجاد حل يُزيل ناقلات النفط من مضيق ملقة، لأنها تُعَد أكثر وسائط النقل البحري قابليةً للاستبدال.

وهناك اعتبار مهم آخر يدعونا إلى عدم حصر اهتمامنا في المضائق فقط. ففي عصر الربان الآلي المتصل مباشرة بالنظام العالمي لتحديد المواقع (GPS)، تتركز الملاحة البحرية العالمية بصورة كبيرة في ممار بحرية ضيقة نسبياً حتى عندما يتوافر الكثير من المياه القريبة منها، ويكون بإمكان السفن سلوك ممرات أخرى مختلفة إلى حد ما. وعندما تكون الممرات البحرية الدولية الرئيسية قريبةً من اليابسة (مثلاً، عند رأس الرجاء الصالح في أقصى جنوب قارة إفريقيا)، يُصبح من الممكن استهداف حركة الملاحة البحرية من قبل القوات البرية. وربما يَكمن الاختلاف بين المضائق والممرات البحرية الحرجة في أنه من الممكن نظرياً إغلاق الأولى ومنع كافة السفن عملياً من عبورها، وهو ما قد يشل حركة الملاحة بسبب غياب البدائل. ولا بد من التشديد هنا على أن هذا الاحتمال ليس سوى مجرد افتراض نظري لحالة حدية يكون فيها اللاعبون الرسميون وحدهم قادرين على توفير القوة العسكرية اللازمة لإغلاق أي مضيق، وهو ما يخلق فوراً المبرر الكافي لمحاربتهم. في المقابـل، قد ينجح بعض اللاعبين غير الرسميين من حين إلى آخر في استهداف وسائط بحرية، كناقلات النفط أو سواها من السفن الأخرى أثناء عبور أحد المضائق أو المرور بنقاط أخرى قريبة من الشواطئ، لكن هؤلاء اللاعبين لن يتمكنوا أبداً من وقف حركة الملاحة بصورة كاملة.

لقد كان من الضروري الإشارة إلى كل ما تقدم لوضع مسألة مرور النفط الخام ومشتقات النفط عبر المضائق في سياق منظار محدد. لكنْ، لماذا يُعد حل هذه المشكلة مسألةً صعبةً جداً؟ لأنه على الرغم من حقيقة أن النفط الخام ومشتقاته يُمثلان أسهل السلع تحويلاً للنقل عبر وسائط أخرى غير بحرية، فإن تفعيل هذا التحويل يفرض تكاليف إضافية لا ترغب السوق عموماً في تحملها لأن البديل القائم حالياً، أيْ مرور هذه السلع على متن سفن تعبر المضائق، مجاني.

فالقانون الدولي للملاحة البحرية لا يقضي فقط بعدم التعرض لحرية الملاحة عبر المضائق، بل يقضي أيضاً بأن يكون عبورها مجانياً. وفي الحالة القصوى المتمثلة في المضائق التركية، فحتى استخدام المرشد خلال عبورها ليس إلزامياً (وتجدر الإشارة إلى أن اتفاقية (مونترو) لعام1936، تُصنف المضائق التركية كممرات مائية دولية على الرغم من حقيقةِ أنها ضيقة ومزدحمة جداً وتخضع كلـياً لسيادة دولة واحدة هي تركيا).

وواضح أن الفترة التي تفصلنا اليوم عن تاريخ صياغة هذه القواعد طويلة جداً. وفي ذلك الحين، كانت كثافة الملاحة البحرية محدودة جداً مقابلة بكثافتها الحالية العالية، وكان من غير الوارد وقوع حوادث اصطدام. وحينذاك، أعطى القانون الدولي أولوية مطلقة لمصالح الدول الناشطة بحرياً والتي كانت كلها بحاجة إلى حرية الملاحة على نطاق عالمي، أو كما في حالة المضائق التركية، حيث أعطى القانون الدولي الأولوية لمصالح الدول التي من دون التمتع بحق عبور هذه المضائق كانت ستفتقر عملياً لأي منفذ بحري في الشتاء، كالاتحاد السوفييتي الذي كانت موانئه الشمالية تُغلق تماماً خلال الشتاء بسبب كثافة الجليد.

أما في حالات الممرات المائية الرئيسية الواقعة خارج المياه الدولية - مثل قناتي السويس وبنما ـ فإن المرور عبرها منظم وغير مجاني، وهو ما يُرسي الأساس التجاري للمنافسة والبحث عن بدائل. وفي حالة قناة السويس، يصل معظم النفط الخام إلى البحر الأبيض المتوسط من البحر الأحمر عبر خط أنابيب الصميْد. وعندما تكون ناقلات النفط كبيرة وتتجاوز حمولتها قدرة القناة، فإنها تُفرغ جزءاً من حمولتها عند طرف البحر الأحمر من خط أنابيب الصميْد من أجل استعادته ثانيةً، عند طرف الخط الواقع على البحر الأبيض المتوسط؛ بينما تُفرغ الناقلات الصغيرة كامل حمولتها بكل بساطة عند طرف خط الصميد الواقع على البحر الأحمر ولا تعبر القناة لتوفر بذلك رسوم العبور، وتُنقل حمولتها إلى الزبائن والأسواق بوساطة سفن أخرى ترسو عند الطرف الثاني من خط أنابيب الصميد.

وتُبين هذه الحالة بكل وضوح أنه ليس من الصعب إيجاد بدائل عملية للاستعاضة عن قنوات الملاحة البحرية المزدحمة، شريطة أن تُقيّم التكاليف بدقة وتُوزع على مستخدمي تلك القنوات. وفي حالة قناة السويس، نجد أنفسـنا أمام محدوديتيْن:  الأولى مادية تتمثل في الحد الأقصى لحمولة ناقلات النفط أثنـاء عبور القناة. والثانية اقتصادية مرتبطة بحقيقة أن هناك رسوماً لعبور القناة. وهذا ما يفسر استمرار النقاش حول المشاريع المحتملة للممرات الجانبية خلال السنوات الماضية من دون إلغاء أي منها. أما بخصوص المضائق التركية، فقد فرضت الحكومة التركية في السنوات الأخيرة قيوداً على عبور ناقلات النفط لمضائقها مبررةً تلك الخطوة بالحاجة إلى تلافي الحوادث، التي سببت فترات طويلة من الانتظار عند بوابات تلك المضائق. ونظراً إلى أن أوقات الانتظار تجاوزت عشرة أيام في حالات عدة، بدأ ارتفاع تكلفة استئجار ناقلات النفط والتأخير الناجم عن الانتظار يتركان أثرهما، فتقدم العمل على الأقل في ثلاثة مشاريع لتطوير ممار جانبية منافسة. في الوقت نفسه، من السهل على المرء أن يتوقع حدوث انخفاض ملموس في درجة ازدحام المضائق وتكاليف عبورها في حال إنجاز أحد هذه المشاريع الثلاثة. حينئذٍ، سيبدو اقتراح إنشاء المزيد من خطوط النفط كممرات جانبية خياراً غير ناجع.

أما في حالة مضيق هرمز، فإن الغموض الذي يلف فرص تطبيق فكرة تلافيه يبقى أكبر كثيراً من ذلك الغموض الذي يكتنف مصير الاقتراح الداعي لتلافي المضائق التركية، لأن هرمز أعرض منها كثيراً، وهو ما يجعل من غير الممكن المقارنة بينهما من حيث مستويات الازدحام. وفي الحقيقة، يتمثل التهديـد الرئيسي المرتبط بعبور المضائق التركية المزدحمة بإمكانية وقوع حوادث وعراقيل (اصطدامات وفترات انتظار طويلة)، بينما يتمثل جوهر التهديد الرئيسي المرتبط بعبور مضيق هرمز غير المزدحم نسبياً في احتمال إغلاقـه بالقوة (ولو نظرياً) من قبل إحدى الدولتيْن المطلتيْن عليه أو بعض اللاعبين غير الرسميين، علماً بأن الاعتبارات التجاريـة تجعل مثل هذا الاحتمال ضئيلاً جداً بحيث يُمكن إهماله.

وتبدو تكلفة إنشاء ممر جانبي لتلافي هرمز باهظة جداً إذا اقتصر الهدف الرئيسي أو الوحيد لتنفيذ هذا المشروع على استخدامه لنقل النفط الخـام من أحد طرفي المضيق إلى الطرف الآخر (كما هو الحال في قناة السويس). كما سيكون من الضروري في مثل هذه الحالة فرض رسوم على نقل النفط عبر الممر الجانبي لتغطية تكاليف إنشائه، فضلاً عن تكاليف تفريغ وإعادة شحنات ناقلات النفط؛ التي لا بد من وضعها في الحسبان. لكن الحسابات التجارية لإنشاء ممرات جانبية لتلافي نقل النفط الخام عبر المضائق ستبدو مختلفةً تماماً إذا بدأ خط الأنابيب مباشرةً من آبار وحقول النفط أو صُمم أصلاً بسعة إضافية لتوفير حاجات مصافي النفط القريبة من سير الأنبوب أو التي تقع في نهاية خط الأنبوب.

وبوجه عام، لا تقع آبار وحقول النفط بالقرب من موانئ تصدير إنتاجها، وهو ما يجعل من السهل تفهم وقبول ضرورة ربطها بموانئ عبر خط أنابيب أو أكثر. ومع أن إبقاء تكلفة أي خط أنابيب عند حدها الأدنى يقضي بربط حقول النفط بأقرب مرفأ ممكن، فإن هناك اعتبارات أخرى قد تقود إلى اقتراح بناء خطوط أطول.

تاريخياً، لم يكن الخيار الأول لتصدير النفط السعودي عبر مياه الخليج، وإنما كان عبر خط أنابيبٍ للنفط، هو التـابلاين (Tapline)، الذي يمتد حتى شواطئ البحر الأبيض المتوسط عند مدينتي حيفا وصيدا. لكنْ بعد قيام دولة إسرائيل في عام 1948، توقف استخدام مرفأ حيفا؛ وبعد احتلال إسرائيل مرتفعات الجولان السورية (التي يمر خط التابلاين عبرها) واندلاع الحرب الأهليه الأخيرة في لبنان، تخلت المملكة عن مرفأ صيدا. أما اليوم، وعلى الرغم من استحالة العودة إلى استخدام التابلاين فوراً، فإنه لا يزال موجوداً ويبرهن على أن إنشاء (ممرات جانبية) أمرٌ ممكن جداً إذا وفرت التطورات واعتبارات السوق المبررات الكافية.

وكما سبقت الإشارة إليه، لدينا أمثلة أخرى على خطوط أنابيب تربط حقولاً للنفط بموانئ بعيدة جداً منها في كل من السعودية والعراق. وفي الحقيقة، ليس من غير المألوف أن نجد حقولاً للنفط موصولة بشواطئ بعيدة جداً منها بوساطة خطوط أنابيب يبلغ طولها مئات الكيلومترات.

وتُعَد تكلفة هذه الأنابيب جزءاً لا يتجزأ من تكاليف إنتاج وتصدير النفط، ولا تنطوي على أي رسوم نقل مباشرة، بمعنى أن سعر النفط يتضمن أيضاً تكلفة نقله عبر هذه الأنابيب الطويلة كذلك الأمر، من المألوف أن تُربط مصافي البلدان المصدرة للنفط بمصادر النفط الخام المحلي عبر شبكة خطوط أنابيب داخلية، إما لأنها بعيدة من الموانئ أو لأنها متصلة بشكل مباشر بحقول النفط القريبة منها؛ وهو ما يجعلها مستقلة تماماً عن منشآت وموانئ تصدير النفط. وفي كافة الحالات القائمة في المنطقة، تُزود خطوط تصدير النفط محطاتٍ تكريرية عند أطرافها القريبة من الموانئ. لكن إنشاء محطات وطنية لتكرير النفط بالقرب من موانئ ومنشآت تصدير الخام المحلي يساهم في توفير المبررات الاقتصادية لبناء خطوط أنابيب للنفط، ولا سيما أن تكلفة خط أنابيب النفط تنخفض تناسباً مع القدرة التصديرية او سعة الأنبوب، فكلما زادت القدرة ازدادت المبررات الاقتصادية لإنشائه. ومن ثم، فإن التكلفة الإضافية لتوفير حاجات محطة لتكرير النفط عبر توسعة أحد خطوط تصدير النفط ليست كبيرة، وتبقى أقل كثيراً من تكلفة مد خط مستقل لتزويد المصفاة بالخام.

ويظهر هذا المنحى بكل وضوح في الاستراتيجية التي ظهرت مؤخراً في إمارة أبوظبي والرامية إلى توسيع القدرات التصديرية عبر مرفأ الفجيرة من خلال ربط حقل حبشان النفطي بالإمارة بوساطة خط أنابيب موسع لزيادة الطاقة التكريرية هناك (وسيتولى تنفيذ المشروع الشركة العالمية للاستثمارات النفطية (IPIC) بالتعاون مع شركتي كونوكو فيليبس وفيتول، التي استحوذت مؤخراً على مصفاة نفط بالية قامت بترميمها). هذا المنحى الذي يجمع بين تصدير النفط وتزويد مصافٍ محلية بحاجاتها من الخام يضمن تنويع استخدامات خط الأنابيب الواحد، ويساهم في زيادة كميات النفط المصدرة من ميناء مستقل عن مضيق هرمز. ومن المتوقع أن تبني المملكة العربية السعودية بمفردها محطات لتكرير النفط على شواطئ البحر الأحمر قد يصل مجموع طاقاتها التكريرية إلى نحو 1.5 مليون برميل يومياً.

لكن هذه الاستراتيجية وحدها لا تكفي للتأثير في مستوى استخدام مضيق هرمز لنقل موارد الطاقة، فهناك الكثير من مصافي تكرير النفط التي يجري بناؤها حالياً على شواطئ الخليج، والتي ستضطر إلى تصـدير إنتاجها عبر مضيق هرمز، لكنْ من الواضح أن طبيعة عملية الشحن البحري ستشهد تغييراً جوهرياً.

وفي الحقيقة، يبدو من المحتمل أن يُحول جزء من إنتاج محطات تكرير النفط المذكورة آنفاً للتصدير، بينما سيُستَهلك باقي الإنتاج محلياً في مجالات عدة تتضمن تزويد المنشآت البتروكيميائية بالمواد الأولية أو الاستفادة من مخلفات التكرير (الوقود الثقيل) لتوليد الطاقة الكهربائية أو لصناعة الأسمنت وسواها من الصناعات التي تستهلك الكثير من الطاقة الحرارية.

إذاً، ستتراجع كمية الشحنات التي ستعبر مضيق هرمز في الوقت الذي ستزداد فيه قيمتها، مما سيبرر المزيد من الاستثمار لتطوير البنية اللوجستية. فعلى سبيل المثال، تُنقل مشتقات النفط عادةً في سفن أصغر من ناقلات النفط الخام. كما يبدو من الصعب في المرحلة الراهنة التنبؤ بمدى إمكانية إنشاء شبكة خطوط أنابيب تصل مصافي النفط الموجودة على ضفتي الخليج العربي بمرافئ تقع خارجه. ومن ثم، فإن طبيعة التهديد المتمثل في احتمال إغلاق مضيق هرمز ستختلف تماماً عندما تصبح نسبة النفط المُصدر على هيئة مشتقات نفطية أكبر كثيراً من النسبة الحالية.

ومع تنامي كميات النفط والغاز المصدرة وكمية المنتجات النفطية الجاهزة (ليس كوقود فقط، وإنما على هيئة المنتجات البتروكيميائية والألمنيوم والأسمنت والفولاذ... إلخ)، سوف تتعاظم طبيعة استشعارنا للتهديد الذي قد تتعرض إليه الملاحة عبر مضيق هرمز الذي سيزدحم تدريجاً ليصبح مثل معظم المضائق الأخرى، كالقنال الإنجليزي ومضيق جبل طارق.

وهناك منحى آخر في هذا المضمار، وهو الذي يقترح بناء منشآت لتخزين النفط الخام في أماكن قريبة من السوق بتمويل من الدول الرئيسية المصدرة والمستوردة للنفط. ويُمكن إقران هذه المنشآت التخزينية بمحطات لتكرير النفط تبنيها دول مصدرة للنفط خارج حدودها، من أجل ضمان تدفق موارد الطاقة بصورة سلسة. ومع أن تطوير مثل هذه المخزونات النفطية يقع عند منتصف الطريق نحو بناء مخزونات تجارية واستراتيجية، سيبقى من الصعب تحديد ما إذا كان الدافع وراء بنائها ذا طبيعة عملية واقتصادية أو مرتبطاً بمخاوف وهواجس أمنية.

ويُمكن بناء هذه القدرات التخزينية بالقرب من أسوق النفط الرئيسية وغير بعيدٍ من نقاط لوجستية رئيسية تصلح لخدمة الكثير من الدول المستوردة للنفط عند الضرورة. ما يعني أن خطوط أنابيب النفط التي تُمثل ممرات جانبية محتملة ستكتسب بعداً آخر عندما يقترن بناؤها بتطوير قدرات لتخزين النفط عند طرفي كل واحد منها. ومع أن بناء قدرات تخزينية عند طرفي أي خط أنابيب لنقل النفط أمرٌ شائع تفرضه المتطلبات العملية، فإن الحاجـة إلى تخزين النفط لأسباب تجارية أو استراتيجية، وبغض النظر عن متطلبات خط أنابيب بعينه، تُـيَسر تمويل مُجمل البنية اللوجستية الموسعة، التي تشـتمل على خط أنابيب النفط وكافة القدرات التخزينية المتصلة به.

بعبـارة أخرى، لئن بدا من الصعب تجارياً تبرير المشاريع التي تقترح بناء خطوط أنابيب للنفط بهدف استخدامها كممرات جانبية فقط، فإن إقران بناء أي خط أنابيب للنفط بتطوير قدرات تخزينية وتكريرية مهمة عند طرفيْه سيؤدي إلى تعديل الحسابات التجارية لمصلحة جدوى هذه المشاريع وسيُسهل عملية تمويلها.

وتأكيداً على صوابية هذا الطرح، نشير إلى أن شركـات سعودية وإندونيسية وماليزية وقعت مؤخراً اتفاقية لإنشـاء خط أنابيب ترانسبين (TRANSPEN) الذي سيعبر شـبه الجزيرة الملاوية لتفادي استخدام مضيق ملقة. وسيسمح هذا الخط بتحويل مسار نحو عشرين في المئة من النفط الذي يُنقل عبر ملقة. وبحسب وكالة (الأسوشييتد برس)، فإن مخططات المشروع تقضي بإنشاء خط أنابيب أولي قطره 122 سنتيمتراً ليكون قادراً على نقل مليوني برميل من النفط يومياً، بالإضافة إلى بناء قدرات لتخزين 60 مليون برميل. كما أفادت وكالة (الأسوشييتد برس) بأن الخط سيدخل الخدمة بحلول عام 2011، وبعد مرور من أربع إلى خمس سنوات على تشغيله، ستُرفع سعته تدريجاً لتبلغ ستة ملايين برميل يومياً وسـتُوسع القدرات التخزينية المرتبطة به إلى 180 مليون برميل. إنها أرقامٌ يَسهل على المرء إدراك ضخامتها.

وفيما يبدو أن هذا المشروع لم يحصل بعد على أي التزامات من قبل شركات نقل النفط، بات من المتوقع لشركة سعودية، هي مجموعة بندر العالمية، أن تساعد على ضمان تدفق إمدادات النفط من الشرق الأوسط والمساهمة في تمويل المشروع.

هذه التطورات مشجعة بالفعل، لكن المستقبل وحده هو القادر على إخبارنا ما إذا كانت ستؤتي أكُلها. لقد أبدت حكومات متعددة قلقها من ازدحام المضائق أو البحار المغلقة (فقد اتخذت المفوضية الأوروبية موقفاً داعماً لاستبدال ناقلات النفط العاملة في البحر الأبيض المتوسط بخطوط أنابيب)، لكن نظام الحوافز الحالي لا يشجع على تفعيل أي بدائل. ومن الممكن أن تُنشَـأ ممرات جانبية بطريقة أو أخرى، لكن التبرير المناسب لتكلفة إنشاء مثل هذه الممرات لن يتوافر في النهاية إلا عبر تقديمها كحل يستند إلى آليات السوق.

وقبل التوصل إلى تبرير تكاليف إنشاء ممرات جانبية، سيكون لدى الاستراتيجيين متسع من الوقت لإبراز أخطار (المضائق الحرجة) وإقحـام الأدلة الداعمة لنشر المزيد من القوات العسكرية هـناك. وبغض النظر عن الحيثيات، لطالما كان من الصعب العثور على مَن يُفضل شراء أنبوب للنفط على اقتناء مدفع.

مجلة آراء حول الخليج