; logged out
الرئيسية / محددات التقارب بين أنقرة وتل أبيب: مخاوف متعددة

العدد 157

محددات التقارب بين أنقرة وتل أبيب: مخاوف متعددة

الثلاثاء، 29 كانون1/ديسمبر 2020

أحمد يحيى

ازدواجية المعايير: بالرغم من إدانة تركيا بشدة اتفاقيات السلام الأخيرة التي وقعتها كل من الإمارات والبحرين مع إسرائيل، حيث وصل الأمر لتهديد أردوغان بإغلاق السفارة التركية في أبوظبي، كما شنت وسائل الإعلام التركية هجومًا حادًا على هاتين الدولتين باعتبارهما خائنتين للقضية الفلسطينية، والمقدسات الإسلامية، إلا أنه كان لافتًا أن الإعلان عن اتفاق سلام بين المغرب وإسرائيل لم يلق ردة فعل تذكر من تركيا؛ حيث أقر وزير الخارجية التركي "تشاويش أوغلو" في اتصال هاتفي مع نظيره المغربي "ناصر بوريطة" بعد ساعات من إعلان الرئيس الأمريكي عن الاتفاق بحق المغرب في إقامة علاقات مع أي بلد يريده، دون أن يكون ذلك على حساب القضية الفلسطينية.

وتعكس ردة الفعل التركية الأخيرة على اتفاقيات السلام في المنطقة ازدواجية المعايير، والبرجماتية الشديدة التي يتسم بها النظام التركي الحالي، الذي تربطه بإسرائيل مصالح اقتصادية قوية للغاية بالرغم من التوتر المزعوم في العلاقات السياسية خلال السنوات الماضية، فقد أظهر عدد من التقارير ارتفاع مستوى التبادل التجاري بين الجانبين في عام 2020 م، -بالرغم من التأثيرات السلبية للجائحة- لتصل تركيا إلى سادس أكبر شريك تجاري لإسرائيل بالرغم من تقليص العلاقات الدبلوماسية بين الطرفين منذ مايو 2018م، على خلفية نقل الولايات المتحدة سفارتها إلى القدس، والأحداث في قطاع غزة.

نقطة تحول

حرصت القيادة التركية طيلة السنوات الماضية على استغلال القضية الفلسطينية كمادة للتسويق السياسي، في ظل المساعي الدؤوبة للرئيس التركي على إظهار نفسه كقائد للأمة الإسلامية، ومدافعًا عن المظلومين في العالم الإسلامي، حيث تعتبر هذه العناصر محورًا رئيسيًا في السياسة الخارجية التركية في عهد حزب العدالة والتنمية. وفي هذا الإطار لا تنفك القيادة التركية الحالية تستغل أية مناسبة إلا وتهاجم بشراسة إسرائيل وبعض الدول العربية، وقد يصحب ذلك تقليص للعلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل مصحوبًا بالكثير من الزخم الدعائي التركي في الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، مع الحرص على عدم تأثير ذلك على العلاقات العسكرية والاقتصادية لاسيما التبادل التجاري المتنامي مع إسرائيل.

بيد أن الإعلان عن فوز المرشح الديمقراطي جو بايدن قد مثل نقطة تحول في هذه الاستراتيجية التركية، فقد أفاد عدد من المصادر الموثوقة بقيام رئيس الاستخبارات القومية التركية "هاكان فيدان" بإجراء محادثات سرية مع مسؤولين إسرائيليين، وبالرغم من أن الاجتماعات السرية بين المسؤولين الأتراك والإسرائيليين غالبًا ما كانت تهتم بمناقشة المخاوف الأمنية المشتركة بين الجانبين، فقد ركزت الاجتماعات التي عقدت في الأسابيع الأخيرة، وبعد الإعلان عن فوز جو بايدن، على جهود إعادة العلاقات الدبلوماسية بين الجانبين، ومن هنا يمكن فهم الموقف التركي الباهت من الإعلان عن اتفاقية سلام بين الرباط وتل أبيب.

وفي هذا الإطار من المتوقع أن يتم تعيين سفير تركي جديد في تل أبيب بعد أكثر من عامين على سحب السفير التركي من تل أبيب، وبحسب التقارير فإن السفير الجديد هو "أفق أولوتاش" المقرب من الرئيس التركي، والذي يتقن العبرية، ودرس في السابق اللغة العبرية وتاريخ الشرق الأوسط في الجامعة العبرية في القدس، وبحسب بعض المصادر في إسرائيل فإن السفير التركي الجديد سوف يتم تعيينه لأهداف سياسية، وليس دبلوماسية فقط؛ وذلك بهدف تطوير العلاقات مع إسرائيل، ويأتي هذا بالتوازي مع تعيين "مراد مرجان" سفيرًا لتركيا في واشنطن، وكلا الرجلين من المؤيدين بقوة لتطوير العلاقات مع إسرائيل، وكان "مرجان" قد صرح لصحيفة هآرتس الإسرائيلية في العام 2003م، وبالتزامن مع صعود حزب العدالة والتنمية للسلطة، بأن تركيا لا تنوي الانحراف "قيد أنملة" عن الصداقة التقليدية مع تل أبيب، مؤكدًا على عزم حزب العدالة والتنمية الاستمرار في العلاقات الجيدة مع إسرائيل.

دوافع التقارب التركي الإسرائيلي

وفيما يلي يمكن تناول أبرز دوافع التقارب التركي الإسرائيلي، وذلك على النحو التالي:

1- مخاوف من تدهور العلاقات مع الإدارة الأمريكية الجديدة: يخشى النظام التركي من تدهور محتمل في العلاقات مع الإدارة الأمريكية الجديدة وذلك في ضوء الانتقادات الواسعة التي وجهها الرئيس المنتخب جو بايدن إلى ترامب بضرورة التعامل بصورة أكثر حسمًا من السلوك التركي المزعزع للاستقرار، بالإضافة إلى إعلان بايدن من قبل عزمه مساعدة المعارضة التركية في مواجهة أردوغان من خلال الانتخابات وليس عن طريق الانقلاب، ناهيك عن الانتقادات اللاذعة التي وجهها بايدن إلى الرئيس التركي الذي وصفه "بالمستبد"، وأنه يجب أن يدفع ثمن تصرفاته، وأن على الولايات المتحدة العمل بجدية مع الحلفاء لمواجهة سلوكيات أردوغان في الشرق الأوسط، كما أشار "جيك سوليفان" المرشح لمنصب مستشار الأمن القومي الأمريكي في وقت سابق إلى أنه يجب على الولايات المتحدة العمل على اتخاذ نهج أكثر صرامة مع تركيا، لإقناعها بأن الاستمرار في المسار الحالي سواء فيما يتعلق بالسلطة المطلقة لأردوغان، وكذلك التعاون الوثيق مع موسكو لاسيما على الصعيد العسكري من شأنه أن يخلق تحديات سياسية ودبلوماسية لأنقرة، ومن ثم يأمل الرئيس التركي في أن يساهم تحسين علاقاته بإسرائيل في هذا التوقيت من تخفيف الآثار السلبية التي يرجح أن تنجم عن خسارة الرئيس ترامب الذي جمعته بأردوغان علاقة شخصية قوية ساهمت في حمايته في الكثير من الأحيان من عقوبات الكونجرس الأمريكي.

2- تدهور حاد في الاقتصاد التركي: يواصل الاقتصاد التركي تراجعه بشكل كبير، فقد سجلت الليرة التركية مستويات غير مسبوقة من الانخفاض، وفقدت بحسب وكالة "بلومبرج" 25% من قيمتها في عام 2020م، بالتوازي مع انخفاض كبير في الحد الأدنى للأجور، وسط مخاوف من تزايد عجز الموازنة التركية الذي بلغ حوالي 19 مليار دولار من يناير وحتى نوفمبر 2020م، مع تصاعد ملحوظ في معدلات التضخم، وتراجع احتياطيات البنك المركزي التركي، وقد أدى هذا التراجع المستمر في معدلات الاقتصاد التركي إلى استقالة وزير المالية التركي وصهر أردوغان "بيرات البيرق" من منصبه في الثامن من شهر نوفمبر 2020م، بعد انتقادات واسعة مع المعارضة التركية حول الأداء الاقتصادي، وبعد يوم واحد من إقالة محافظ البنك المركزي التركي، ويتوقع أن يستمر الأداء السيئ للاقتصاد التركي عام 2021م، مع استمرار تراجع قيمة الليرة التركية، وانخفاض احتياطيات النقد الأجنبي، لاسيما مع التأثيرات السلبية المتوقعة للعقوبات الأوروبية والأمريكية على أنقرة، مما سيؤثر بالسلب على ثقة المستثمرين في الاقتصاد التركي.

3- محاولة تركية لزيادة الاستثمارات في إسرائيل: أشارت العديد من التقارير إلى سعي شركة "يلدريم" التركية التي يمتلكها روبرت يكسل يلدريم، وتتخذ من إسطنبول مقرًا لها، بالاشتراك مع آخرين للفوز بمناقصة لتسيير ميناء حيفا الإسرائيلي، والذي يعتبر أكبر ميناء بحري في إسرائيل، في ظل منافسة بينها وبين شركة إماراتية للفوز بمناقصة تسيير الميناء الهام، ومن ثم يعتبر تحسين العلاقات مع تل أبيب شرطًا ضروريًا للفوز بتلك الصفقة المغرية، وإن كان من غير الواضح إلى الآن مدى قدرة الشركة التركية على الفوز بهذه المناقصة.

4- تقليل من تأثير العقوبات: أعلن وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو يوم الاثنين 14 ديسمبر 2020م، فرض الولايات المتحدة عقوبات على هيئة الصناعات الدفاعية التركية، وقد جاء هذا الإعلان بعد موافقة الكونجرس الأمريكي بأغلبية ساحقة على مشروع قانون تمويل الدفاع لعام 2021م، والذي نص في أحد بنوده على فرض عقوبات على تركيا في غضون 30 يومًا، وذلك على خلفية شرائها منظومة الدفاع الجوي الروسية المتقدمة (إس 400)، حيث تسعى الولايات المتحدة لتوجيه رسائل تحذيرية للدول الأخرى من مغبة الإقدام على خطوات مماثلة للخطوة التركية، بالإضافة إلى خشية الولايات المتحدة من اختراقات روسية للمنظومات العسكرية لحلف الناتو.

ومن المرجح بأن تفتح موافقة الكونجرس الأخيرة الباب أمام عقوبات أكثر صرامة في الفترة القادمة، لاسيما مع العديد من التصريحات السابقة لفريق بايدن الرئاسي بضرورة فرض عقوبات على تركيا، أضف إلى ذلك موافقة الاتحاد الأوروبي على فرض عقوبات جديدة على تركيا على خلفية أنشطتها شرق المتوسط، ويتوقع أن تؤثر العقوبات الأخيرة بالسلب على الاقتصاد والصناعات العسكرية التركية، وتساهم في تأزيم العلاقات بشكل أكبر بين أنقرة والدول الغربية، كل هذه الأمور تدفع النظام التركي لتحسين العلاقات مع إسرائيل كمحاولة لتلطيف الأجواء مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، والتخفيف من الآثار المتوقعة للعقوبات الجديدة.

5- تخفيف العزلة الإقليمية والدولية: يشعر النظام التركي بعزلة كبيرة سواء في محيطة الإقليمي أو في النطاق الدولي، وذلك بسبب السلوك التركي في المنطقة، سواء في العراق أو سوريا أو ليبيا، والذي أدى إلى توتر وقطيعة في العلاقات مع العديد من القوى المؤثرة في المنطقة، بالإضافة إلى توتر العلاقات مع الاتحاد الأوروبي على خلفية التحركات التركية شرق المتوسط، ومن ثم يشعر أردوغان أن التقارب مع تل أبيب ربما يخفف من هذه العزلة التي قد تزداد مع تولي بايدن السلطة في يناير القادم.

6- السعي للتعاون مع إسرائيل في شرق المتوسط: ربما تأتي الخطوات التركية الأخيرة كمسعى تركي للوصول لاتفاقية جديدة لترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، فقد نشر مركز موشي ديان لدراسات الشرق الأوسط في إسرائيل، في 7 ديسمبر 2020م، ورقة بحثية عن أهمية هكذا اتفاق لكل من تركيا وإسرائيل، وشارك في الورقة اللواء التركي المتقاعد جهاد يايجي، الذي شغل حتى مايو 2020م، رئاسة أركان القوات البحرية التركية، قبل أن يتم نقله للخدمة في هيئة رئاسة الأركان التركية، ويعمل كذلك أستاذ مشارك ورئيس قسم مركز الاستراتيجيات البحرية العالمية، الملحق بجامعة "بهتشه شهير" التركية، ويعرف "يايجي" بأنه مهندس اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين ليبيا وتركيا، وصاحب مشروع "الوطن الأزرق" أو ما يعرف بـ "مبدأ يايجي"، الذي يعتبر محاولة لزيادة التفوق البحري التركي في شرق البحر الأبيض المتوسط، والـتأكيد على الأهمية الاستراتيجية لهذه المنطقة في ظل اكتشافات الطاقة الهائلة هناك.

وتتناول الورقة اللافتة في توقيتها، ضرورة التعاون بين تركيا وإسرائيل في منطقة شرق المتوسط مع إمكانية توقيع اتفاقية بين الطرفين بشأن ترسيم الحدود البحرية بينهما، مع العديد من التفاصيل والخرائط الموضحة لأهمية هكذا اتفاقية، ويرى البعض أن نشر هذه الورقة في مركز أبحاث إسرائيلي مرموق، وبمشاركة "يايجي" القريب من أردوغان، تأتي استمرارً ا للجهود التركية لمحاولة إقناع القيادات الإسرائيلية بالتخلي عن خط أنابيب شرق البحر الأبيض المتوسط "إيست ميد" لصالح مشروع جديد مع تركيا.

وختامًا، يبدو أن النظام التركي مدفوعًا بالعوامل السابقة، واتساقًا مع برجماتيته المعهودة، سوف يسعى إلى إعادة ترتيب أولوياته في المنطقة، مع التركيز بشكل أساسي على التقارب مع إسرائيل، ومحاولة تلطيف الأجواء مع الولايات المتحدة، وربما السعي بشكل أكبر للتقارب مع الرياض، ويرجح أن تشهد الفترة القادمة المزيد من تلك الخطوات التركية، بالإضافة للإعلان عن بعض الإصلاحات الداخلية؛ حيث يأمل النظام التركي أن تساعده تلك التحركات في تخفيف الآثار السلبية المحتملة لانتقال السلطة في الولايات المتحدة، وسط تزايد الشعور بالعزلة الدولية والإقليمية، والضغوط الداخلية المتصاعدة.

مجلة آراء حول الخليج