; logged out
الرئيسية / التجربة البرلمانية في دول الخليج العربية: المعوقات والدوافع

التجربة البرلمانية في دول الخليج العربية: المعوقات والدوافع

الأربعاء، 01 حزيران/يونيو 2011

تتجه الأحداث العالمية نحو صياغة عالم جديد متسارع تتلاشى فيه خصوصيات الدول إلى فضاء العولمة الذي تتعزز فيه الكولونيالينية الجديدة بثوب براق من الحرية، وفي ظل غياب الفاعلية الحضارية لدول الحضارات القديمة، وعدم قدرتها على إيجاد طريقها فمن المؤكد أنها ستجد شعوبها تنساق وراء النظام الجديد، الذي يطرح نمطه الواقعي في التنظيم مكللاً بالنجاح، وعلى قدر كبير من الإقناع.

لا شك في أن التجربة البرلمانية أو مجالس الشورى في دول الخليج العربية خطوة مهمة نحو تعزيز المسار الديمقراطي بمعزل عن مدى القناعة بالديمقراطية سواء أكان من جانب النخب أم من جانب الطبقات الاجتماعية متمثلة في موقف الفكر الإسلامي من الديمقراطية أو طبيعة المجتمع القبلية التي ترى كيان القبيلة من أهم الأنماط المحافظة على الموروث الذي تتحصن فيه الهوية بخصوصيتها والقيم بقداستها. إن طرح هذه المسألة على مائدة الحوار رغم التعقيدات العميقة التي تكتنفها لهو مسار جديد نحو حرية الرأي وتفعيل الفكر باتجاه الواقعية، والفاعلية التي يطمح إليها أهل الرأي والفكر في عالمنا العربي، حيث إن نقطة الشروع يجب أن تنطلق من مصالحة حقيقية بين أهل الفكر وصنّاع القرار على أساس المناصحة الحقيقية، ومن هنا لا بد من إبراز أهم النقاط.

 أولاً: حقيقة الديمقراطية

يُعدُّ مفهوم الديمقراطية(Democracy) من المفاهيم شائعة الاستعمال في العالم اليوم (ومعظم الأنظمة الحاكمة تحاول أن تدعي أن لها إسهاماً معيناً في مضمار ممارسة الديمقراطية). وفي أيامنا هذه فإنه حتى المستبدين من الحكام يؤمنون على ما يبدو بأن إضفاء مسحة من لغة الديمقراطية إنما يشكل عنصراً أساسياً من العناصر المكونة لشرعية أنظمتهم (روبرت دال، الديمقراطية ونقادها)، ويمكن تعريف الديمقراطية بأنها حكم الأغلبية عبر التداول السلمي للسلطة، حيث تتنافس الأحزاب السياسية للوصول إلى السلطة، من خلال الاحتكام إلى صناديق الاقتراع، فالديمقراطية ليست سوى (آلية) شكلية وصُورية غير ذات مضمون، وقد شغلت قضية الديمقراطية المفكرين السياسيين في العالم العربي منذ فجر النهضة العربية المعاصرة، أي منذ ما يقرب من قرنين من الزمان، ولم يقتصر الجدل والحوار حول مسألة الديمقراطية على المتعاملين بأساليبها، بل شمل المترددين والرافضين، ولا شك في أن النجاح - الكبير نسبياً- الذي حققته الديمقراطية، لا يُحسب لها كآلية أو منظومة بذاتها بمعزل عن خصوصية سلوك البشر بمجتمعاتها، حيث يرجع الفضل في إنتاج الديمقراطية قبل نجاحها إلى تحرر الفرد في المجتمعات الديمقراطية، ولذلك فإن نتائجها ستكون كارثية أكثر من أي نظام آخر فيما لو طُبِقت الديمقراطية الغربية في مجتمعات ضعيفة النسيج الاجتماعي مع خلفيات متعددة مما سيعوق عملية التنمية الحقيقية. فالديمقراطية بنجاحها أو فشلها تعكس هوية المجتمعات والأعراق البشرية، وتعكس أيضاً جانباً مهماً من جوانب الاختلافات الطبيعية بين بني البشر، ولا شك في أن كل النظريات، اجتماعية وسياسية، هي مرايا تعكس سلوك الإنسان ولا تصنعهفليست الديمقراطية أنموذجاً جاهزاً يمكن استيراده لأنها ظاهرة تاريخية تنمو في كنف البيئة الاجتماعية والديمقراطية لا تقتصر فقط على الإيجابيات، ولا تقدم حلولاً سحرية للمعضلات الاجتماعية، بل هي عملية مستمرة تتطلب الكثير من الجهود الجماعية لمواصلة مسيرتها واتساع آثارها، وتتعدد أشكالها بتعدد الأفكار الإيديولوجية وأنظمة الحكم، من هنا يمكن أن تتواجد أشكال عديدة من الخطابات الديمقراطية، بمعنى أن الديمقراطية ليست محصورة في الأنظمة الليبرالية أو مجتمع معين، بل إن قيم ومبادئ ديمقراطية توجد في المجتمعات كافة، ولكل مجتمع أن يكيف هذه القيم ويطورها لبناء مسيرة التحول الديمقراطي ارتباطاً بمرحلة تطورها وبيئتها الاجتماعية إذا تحققت المبادئ الثلاثة (الحرية، المساواة والمصالح المشتركة).

 ثانياً: الديمقراطية والدين

الدولة الدينية هي الدولة التي تلتزم بدين معين وتعتبره مصدر التشريع، أما الثيوقراطية أو النظرية الثيوقراطية فهي من المصطلحات السياسية الوافدة، وهذا المصطلح يقصد به حكم رجال الدين أو حكم الكنيسة، وقد جاءت كلمة ثيوقراطية من كلمتين الأولى (ثيو) وتعني إله، والثانية كلمة (قراط) وتعني الحكم، والحكم الثيوقراطي أحد أنواع الحكم الاستبدادي، بل أشدها استبداداً. من هنا فإن الفلاسفة الغربيين ينظرون إلى الدين على أنه حكم ثيوقراطي مرفوض، يقول جون لوك، (الدين الحق لم يوجد للفخفخة المظهرية، ولا للعنف، بل وجد لتنظيم حياة الناس، وفقاً للفضيلة والتقوى)، كما يحذر كانت في هذا المنحى إذ يقول (إن ديناً يعلن الحرب على العقل سوف يصبح مع مرور الزمن غير قادر على الصمود أمامه) وهذا يقتضي وجوب الكفر بالنظام الديمقراطي.

من جانب آخر يرى فيورباخ (أن الدين لا ينطوي أساساً على مبدأ الثقافة والتعليم لأنه لا يتخطى مصاعب الحياة الأرضية إلا بالخيال والإله والسماء). والحقيقة إذا نظرنا إلى الثقافة الغربية عموماً نلحظ أنها خرجت من رحم الفلسفة اليونانية، ولم تخرج من رحم الديانة اليهودية أو المسيحية، بل كان هنالك دائماً تناقض وتنافر على العكس من الثقافة العربية والإسلامية التي خرجت من رحم الإسلام، بل إن الدين الإسلامي هو من أقام حضارة للعرب وفتح لهم ميادين الثقافة، يقول المستشرق هيل في كتابه (حضارة العرب): (لقد أخرج محمد صلى الله عليه وسلم للوجود أمة، ومكّن لعبادة الله في الأرض، ووضع أسس العدالة والمساواة الاجتماعية، وأحل النظام والتناسق والطاعة والعزة في أقوام لا تعرف غير الفوضى).

وهذا الفارق الجوهري قد يغيب عن كثير من المفكرين الذين ينظرون إلى الأديان نظرة موحدة فيسقطون الأحكام على الدين الإسلامي نفسها التي أسقطوها على الديانات الأخرى، والفارق كبير جداً والقياس غير صحيح، فالثيوقراطية أو ما يسمى حكومة رجال الدين ليست من الإسلام ولا علاقة له بها، كانت الثيوقراطية في الغرب عدواً للنهضة، وتسلط رجال الكنيسة، ولكي تحقق أوروبا النهضة كان لابد أن تتخلص من تلك الصيغة، ولذلك قام الفلاسفة الأوروبيون بالهجوم على هذا المصطلح الذي أصبح يحمل دلالات سيئة، من أهمها أنه يرتبط بالتخلف والاستبداد، وكان لابد من تحديد سلطات الملوك، وبالتالي كان لابد من إزالة صفة القداسة عنهم، والتعامل معهم كبشر، وفي الوقت نفسه القضاء على الإقطاع لتصعد الطبقة البورجوازية، وتبني المصانع التي قامت عليها النهضة الأوروبية الحديثة. إن حالة الثيوقراطية لم تظهر على الإطلاق طوال التاريخ الإسلامي، فنظام الحكم في الإسلام يقوم على الشورى كمبدأ عام، ويلاحظ أن النصوص الشرعية لم تطرح كيفيات تطبيق هذا المبدأ، بل على المسلمين أن يجتهدوا في كل عصر لتحقيق الكيفيات المناسبة لتطبيق هذا المبدأ الحيوي. وللأسف لم يطور المسلمون كيفيات هذا المبدأ، ما يحتم وجوب قراءة الواقع المعقد قراءة تجديدية تنطلق من إدراك عميق للمقاصد الكبرى التي جاء الإسلام من أجل تحقيقها، فكثير من المشكلات الناتجة عن فهم النصوص إنما نتجت عن عدم فقه الواقع والبيئة المتغايرة وتجدد المعطيات فالنصوص الدينية تنطلق من قيم مطلقة، والواقع محكوم بالنسبية، من هنا ذهب بعض المفكرين والعلماء إلى ضرورة ترتيب المنطلقات المقاصدية ترتيباً جديداً بحيث تتوافق مع المطلق الديني وتحقق المصلحة في ضوء المعطيات الجديدة ليتبين أن الإسلام ليس مجرد شعائر بل هو خطاب الله للبشر الذي يقيم حضارة وتحصل به عمارة الأرض فتكون الحضارة الإسلامية حضارة إنسانية قادرة على إعطاء النموذج العالمي القادر على إيجاد الحلول للمشكلات العالمية المعقدة، يقول الشيخ راشد الغنوشي: (إن مفهوم الديمقراطية مفهوم واسع يتسع لمعان كثيرة، ولكنها قد تلتقي في أنها نظام سياسي يجعل السلطة للشعب ويمنح المحكومين الحق في اختيار حكامهم وفي التأثير فيهم والضغط عليهم وعند الاقتضاء تغييرهم عبر آليات قد تختلف من نظام ديمقراطي إلى آخر، لكنها تلتقي عند آلية الانتخاب الحر، وبالتالي يحقق هذا النظام التداول على السلطة عبر صناديق الاقتراع ويضمن للناس حريات عامة، كما يضمن استقلال القضاء، فالديمقراطية آلية تضمن للشعب سيادته على النظام السياسي، وتحقق جملة من المضامين والقيم التي تصون الحقوق وتحمي الحريات وتحصن الناس من الجور والاستبداد).

من هنا يجب عدم الخلط بين الديمقراطية كآلية لتداول السلطة والديمقراطية كمفهوم فلسفي قام على إنكار وجود الحقيقة المطلقة، كما أنه كمفهوم يكرس الفردية على نحو تبدو معه الديمقراطية أداة لإعادة صياغة المجتمعات على نحو لا مكان فيه للتكوينات الجمعية الوسيطة (الأسرة الممتدة - الطوائف الدينية - القبيلة - المجتمع - الطوائف المهنية)، فهو في الحد الأدنى يسعى إلى تحييدها إن لم يستهدف القضاء عليها، ويتجاوز الأمر آليات الممارسة إلى إعادة صياغة مفهوم الممارسة السياسية نفسها على أساس براغماتي صرف، أو تصاغ في برامج سياسية تقبل النقض والنقد وتختبر في صندوق الانتخابات، وفي هذه النقطة بالتحديد يمكن صياغة الديمقراطية وفق المتغيرات المجتمعية وذلك بالتفريق بين الديمقراطية كآلية ومن ثم انتخاب الفلسفة التي لا تتناقض مع المبادئ الراسخة في مجتمعنا العربي الإسلامي. وبالضرورة يجب الاصطلاح على حلول توفيقية صالحة للنهوض من واقع التخلف والاستبداد، ولا تتعارض مع القيم الإسلامية لأننا أولاً وآخراً حضارة عربية إسلامية، ومن يعتقد أننا إذا سرنا في عملية التقليد لكل المعطيات الغربية في الممارسة والسلوك فهذا بلا شك ينفي صفة الإبداع والإمكانات الخلاقة لهذه الحضارة العظيمة، وأن أهم مؤشر في الديمقراطية أنها استطاعت أن تدق جرس التنبيه في العالم العربي والإسلامي أن الوقت بات متأخراً لتدارك الأخطاء المزمنة في حياة هذه الأمة.

 ثالثاً: إشكالية التحول من القبيلة إلى المجتمع المدني

اهتم المثقفون العرب بدراسة الولاءات التقليدية التاريخية في مجتمعنا من منطلقات تفسر تركيبة المجتمع العربي، فذهب البعض إلى أن المجتمع العربي الإسلامي تتنازعه ثلاث ولاءات: الانتماء العقائدي الحضاري، والانتماء العصبي، والانتماء السياسي، أي الانتماء إلى الكيانات السياسية، في حين يذكر آخرون أن الوطن العربي منذ الفتح الإسلامي تشكل في إطار حضارة كبرى تضم شعوباً متعددة يربط بينها الولاء للإسلام أكثر من الولاء للدولة، أما ابن خلدون فقد أعطى دوراً مركزياً (للولاء العصبي)، فالرابطة العصبية أقوى من الرابطة الدينية أو توازيها، والعصبية هي الوحدة التي تتكون من وحدات أبسط فكل حي أو بطن من بطون القبائل وإن كانوا عصبة واحدة إلى نسبهم العام، فيهم أيضاً عصبيات لأنساب خاصة أشد التحاماً من النسب العام لهم، أي أن العصبيات الموحدة تحمل في ثناياها عوامل مفتتة أيضاً، هذا الأمر لا يقتصر على الولاء العصبي بل يتعدى ذلك إلى الولاء الديني من خلال الولاءات المذهبية والطائفية.

وفي الواقع المعاصر تلعب القبيلة دوراً مهماً وبارزاً كعنصر محدد من عناصر التجربة الديمقراطية باعتبار مفهوم القبيلة في صورته الحياتية أساس التجربة السياسية لدول الخليج العربية، ورغم وجود العديد من الآراء التي تشير إلى انحسار هذا الدور لصالح الدولة القومية الحديثة فإن دورها ما زال مؤثراً على صعيد قضايا التنمية السياسية والبناء الاجتماعي، وهو ما يصب في النهاية في تجربة المشاركة السياسية وآليات التنمية السياسية ضمنالقواعد العامة للعملية السياسية: ونعني بها الفلسفة الحاكمة للممارسة السياسية ومفادها (أن المطالبات بالمزيد من المشاركة السياسية لم تَرْقَ إلى التشكيك في شرعية النظام الحاكم أو مناوأته)، وتمثل هذه القاعدة سقفاً للحركة السياسية في دول الخليج –بشكل عام- من حيث المطالب وطبيعة الممارسة وآليات العمل السياسي، وهو الأمر الذي يكاد يمثل توافقاً بين الشعوب الخليجية والنخب السياسية الحاكمة.

إن القبيلة العربية من الأسس المكونة للمجتمع العربي عموماً بتجاهلها يكون الفكر قد ابتعد عن الواقعية وأغرق في المثالية، وليس من الحكمة النظر إلى التكوين القبلي للمجتمع العربي بعين السلبية، لأن الشعور بالعزة لدى الشخصية العربية لا يعدو أن يكون ضمن انتماءين قبلي وديني، والمشروع النهضوي التنموي الواقعي يجب أن ينطلق من الكيفيات التي يمكن من خلالها الارتقاء بالقبيلة العربية وتنميتها ثقافياً ومعرفياً لتكون مؤسسة بنيوية يستمد المجتمع منها ما يكون ضمن الدائرة النفعية، وأي منحى باتجاه مغاير إنما هو إسراف في مثالية لن تكون ولن تتحقق وليس لها أي صدى في الواقع الحقيقي،من هنا ستبقى الاعتبارات القبلية عنصراً مهماً وبارزاً في تشكيل عناصر الوعي السياسي والثقافي بشكل عام.

 رابعاً: الدولة المدنيةوالمجتمع المدني

الدولة المدنية مصطلح من الأدبيات السياسية يدل بمفهومه على الدولة الحديثة التي لا تستند إلى أي مرجعية إيديولوجية، ومدنية الدولة تعني الحياد الكامل للدولة ومؤسساتها تجاه المواطنين بغض النظر عن اختلاف ديانتهم أو نوعهم أو الخلفية الاجتماعية والجغرافية، ومؤسسات الدولة (البرلمان) و(الحكومة) يديرها مدنيون منتخبون يخضعون للمساءلة والمحاسبة، ولا تدار الدولة بوساطة عسكريين أو رجال دين، لكي لا تجتمع السلطة مع الدين في قبضة رجل واحد حتى لا يتحول إلى شخص فوق المحاسبة، فمدنية الدولة تجعل السياسة ليست صراعاً حول العقائد الدينية أو الشرائع السماوية، بل صراع سلمي بين رؤى وأفكار وبرامج وقوى ومؤسسات وأشخاص، ولاختيار الأفضل للدولة وللمجتمع مع إمكانية الطرح العلني لكافة الرؤى والأفكار والبرامج الهادفة لتحقيق الصالح العام في ظل قبول التعددية واحترام الرأي الآخر، والحَكم الوحيد في السياسة المدنية هو مجتمع المواطنين الذي عادة ما يغلب بعض الرؤى والأفكار والبرامج على بعضها الآخر،وتضع قوانين وتشريعات توفر العدل والمساواة والحرية لأبناء الوطن وتوفر الحماية للأقلية من جور الأكثرية. والدولة المدنية بحسب أنصار نظرية التحديث تستند إلى عوامل تسهم في الانتقال إلى المجتمع المدني الحديث من أبرزها التعليم، فالتعليم يفرز نخباً حديثة بمفاهيم عصرية، وبناء المؤسسات، والثقافة السياسية، والتمدن وهو عملية تحوّل ذهني وقيمي تشمل طرق المعيشة والتعليم ونوعية العمل والأفكار والعلاقات العامة، فالتمدن يمثل تحويلاً شاملاً في القيم والعادات والأساسيات الذهنية وطرق التفكير ووسائل اكتساب المعرفة وحتى سبل الوصول إليها.

أما مصطلح المجتمع المدني، كما هو حال لفظة الديمقراطية، ليس مصطلحاً علمياً يمكن بالتالي تعريفه بمنهجية، بل هو مصطلح أفرزته الأدبيات السياسية المعاصرة ويمكن النظر إلى المجتمع المدني في مفهومه المعاصر ومواصفاته وأهدافه، بِأنه يُعبر عن رسالة اجتماعية من القيم والأفكار والممارسات التطوعية والخيرية وحب البشرية والتعاضد المتبادل الموجهة نحو بناء الأسس التحتية للمسيرة الديمقراطية، ويقوم على مبادئ التطوعية والاستقلال الذاتي والمواطنة الفعالة والمشاركة القائمة على التوفيق بين المصالح الخاصة المتباينة من أجل الصالح العام، وقبول الاختلاف والتنوع، وفي ظل حكومة عصرية لامركزية تتحمل المسؤولية والمحاسبة، وبما يؤدي إلى بناء وتحسين رأس المال الاجتماعي باتجاه إعادة هيكلة البيئة الاجتماعية لصالح التعددية والعلنية والنسبية والتعامل السلمي.

وتعتبر فكرة المجتمع المدني حديثة نسبياً، حيث ظهرت في حدود منتصف القرن التاسع عشر، على خلاف الديمقراطية التي وجدت أفكارها وتطبيقاتها المحدودة في الحضارة الإغريقية، وتتطلب عملية بناء المجتمع المدني المعاصر شروطاً ومواصفات عديدة: التعددية وقبول اختلاف الرأي وحق المعارضة السلمية، والحريات العامة بضمنها حرية إنشاء الروابط والمنظمات، الاستقلال الذاتي، التطوعية، مبدأ الفردية، اللامركزية. من هنا فإن الحضارة العربية الإسلامية في صميم الدولة المدنية بما أفرزته من مبادئ عملية كانت الأساس الذي استندت إليه أوروبا في القرون الوسطى في عصر النهضة. والقول إن الدولة المدنية لا تقوم إلا على أساس علمانية الدولة إنما يقصد به تجنب الدولة بمفهومها الديني الثيوقراطي الذي أسلفنا أنه بعيد كل البعد عن حقيقة وطبيعة الحضارة القيمية الإسلامية، والخلط بين مجموع هذه المفاهيم إنما يؤدي إلى أحكام تفتقر إلى الدقة والإنصاف والمنهجية العلمية،يقول هربرت جورج ولز في كتاب (معالم تأريخ الإنسانية): (كل دين لا يسير مع المدنية فاضرب به عرض الحائط، ولم أجد ديناً يسير مع المدنية أنى سارت سوى دين الإسلام).

خامساً: تجربة مجالس الشورى في دول الخليج العربية

يذكر التاريخ أن أول أشكال العمل الشوري بشكله الديمقراطي الحديث بدأ في عهد الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود في المجالس البلدية وذلك عام 1924م تأكيداً على حقيقة الظهور المبكر للتنظيمات الإدارية، لذا كان وجود هذا المجلس الشكل الأول للديمقراطية بمفهومه الحديث، حيث كان الملك عبدالعزيز (رحمه الله) قد أمر بتأسيس ما عرف آنذاك بـ (المجلس الأهلي) في مكة المكرمة عام (1343هـ - 1924م) عند دخوله لها وذلك كخطوة أولى نحو تنظيم العمل الإداري بمكة المكرمة خاصة في وضعها الذي كان بحاجة ماسة إلى ذلك، وقد تم تأسيس مجلس الشورى السعودي في ديسمبر عام 1992م،كما أن دولة الكويت من الدول الخليجية السباقة إلى هذا النهج الديمقراطي ومنذ أكثر من ثلاثة عقود من الزمن، والأمر ذاته يحدث الآن في دولة قطر من خلال التجربة الديمقراطية غير المسبوقة والمتمثلة في المجلس البلدي المركزي الذي تم تطبيق عملية الاقتراع الحر المباشر فيه، والابتعاد عن الوصاية الحكومية أو التعيين منها، والاستعداد للبدء بمشروع ديمقراطي متطور عن البلدي هو مجلس الشورى الذي يتوقع المراقبون له دوراً ملموساً مؤثراً في التشريع والرقابة، مما يبشر بقيام خطوات أخرى على هذا النهج سواء في قطر أو البحرين والإمارات والسعودية وسلطنة عمان، لكن الاكتفاء بمجالس بلدية -كما في بعض الدول- لا يصل إلى حد المأمول في مثل هذا الوقت الذي تستدعي فيه التغيرات والتحولات الكبيرة العالمية أن تتوافق دول الخليج معها بالصورة المناسبة، قبل أن تزداد الضغوط عليها وتفرض تلك التحولات واقعها على دول المنطقة. إن مجالس الشورى أو ما شابهها في الخليج بحاجة أيضاً إلى تفعيل لأدوارها بصورة أكبر، أو هي بحاجة إلى تغيير تام لقواعدها وأدوارها وتعزيز صلاحياتها.

ورغم هذه الخطوات فإن محاولة تطبيق الديمقراطية في المجتمعات الخليجية لا تزال تنطوي على إشكاليات كبيرة لا تتعلق بشكل وصورة النظام الديمقراطي ومقدار انسجامه مع البيئة العربية والإسلامية بقدر ما هي إشكالية تتعلق بكيفية التوفيق بين الأصالة والحداثة ضمن التوصيف الثقافي، فالأصالة بكل تماهياتها وأشكالها سواء كانت متمثلة في الدين أو في الموروث الثقافي والانتماء القبلي، لا تتوازى مع الحداثة بأشكالها الفكرية أو التنظيمية سياسياً واقتصادياً، بل تتقاطع تقاطعاً فلسفياً حاداً، في ظل غياب للخطاب الذي لا يهتم بالتحليل قدر اهتمامه بالتوصيف، أو في أغلب الأحيان قد يكون خطاباً سلبياً يفتقر إلى العناصر المنهجية القادرة على رسم طريقة من التحليل لا تغفل العناصر الحقيقية المكونة للبنية المعرفية والمكونات النفسية المتأصلة في بنية العقل العربي عموماً وما يحكمها من نظم فلسفية وقيم روحية، إن سلبية الخطاب العربي ناتجة عن عدم تحررية هذا الخطاب وعدم استقلاليته أولاً ثم من كونه خطاباً ناتجاً عن مجتمع يفتقر إلى الإبداع والإنتاج، فهو بالضرورة سيكون خطاباً يحاكي الواقع أو سيكون جامحاً نحو التغريب. والسبب الجوهري في حقيقة هذا التناقض هو التناقض البنيوي في تكوين الشخصية العربية التي تتجاذبها مدرستان مختلفتان في الرؤية الفلسفية: (التفسير والتحليل والتصور)، وفي البنية الثقافية: (التكوين والتفكير والاستنتاج)، هاتان المدرستان اللتان تتجاذبان الشخصية العربية بدرجات متفاوتة تنتجان في أقصى التنافر بينهما الأيديولوجيا المتطرفة الثيوقراطية والليبرالية المتحررة، وبينهما تتشكل النسب تقارباً وتباعداً لهذا الطرف أو ذاك لأسباب بيئية سسيولوجية أو لأسباب شخصية بحتة وغياب المشروع الاستراتيجي الموحد وعدم وضوح العقد الاجتماعي. فالبيئة العربية هي ذات أنماط عشائرية مُغلقة على ذاتها ومتمركزة حول نفسها، تلتف مع الزمن محافظة على ديمومتها القيمية كأنها تستعيض بالعصبية عن غياب العقد الاجتماعي الموحد القادر والكفيل بتسخير الطاقات نحو بناء مجتمع تتحقق فيه التنمية الاقتصادية والثقافية بصورة عادلة يتكافأ فيه الأفراد بلا تمييز ولا تفريق، وإن لم يتحقق هذا المشروع، ستنتفي منه صفة الموضوعية القومية والعامة، وبعبارة أدق: سيكون الصوت الديمقراطي طبقاً للاعتبار الفردي البحت خادماً لمشيئة ضيقة وسطحية، ولن يكون بمقدوره أن يتعالى على الرغبات والغرائز الصغيرة التي تمنع تحقق المشيئة الكُبرى والمصلحة العامة.

مقالات لنفس الكاتب