; logged out
الرئيسية / 4 بدائل للتعامل مع العجز التجاري الأمريكي والاختيارات تتوقف على متخذ القرار

العدد 159

4 بدائل للتعامل مع العجز التجاري الأمريكي والاختيارات تتوقف على متخذ القرار

الأحد، 28 شباط/فبراير 2021

تحظى السياسة الخارجية للدول، خاصة العلاقات السياسية الدولية، باهتمام وسائل الإعلام، والرأي العام، أكثر من الاهتمام بالسياسة الاقتصادية الخارجية، والعلاقات الاقتصادية الدولية، فمع ضخامة حجم القوة الاقتصادية التي تمتلكها الولايات المتحدة الأمريكية، فإنّ أيّ تقلص أو اهتزاز في حجم تلك القوة قد يحمل العديد من التبعات على الاقتصاد العالمي بل وأكثر من ذلك، فالاقتصاد هو البنية التحتية للقوة في العلاقات الدولية: السياسية، والثقافية والتجارية وغيرها، كما أن القوة الاقتصادية تمول القدرات العسكرية والاستخباراتية، بما يؤثر في المجمل على حركة التجارة العالمية والاستثمار العالمي، وحركة رؤوس الأموال العالمية. 

وعلى كل دولة أو منطقة في العالم، أن تدرك هذه الحقائق، كما تدركها الإدارات الحكومية الأمريكية المتعاقبة، فمع انخفاض القوة الاقتصادية النسبية للولايات المتحدة، تتقلص قائمة الخيارات السياسية المتاحة أمام صناع السياسة، سواء في الداخل أو الخارج. فعلى الصعيد العالمي ستواجه واشنطن تراجعًا كبيرًا في دورها في النظام العالمي، وسيصبح عليها التكيف مع عالم لم تعد قادرة على توفير الدعم العسكري الأمني المجاني للدول الأخرى، أو تمويل أنظمة التسليح وتقديم الدعم والتدريب العسكري، أو الفوز على الصين في تقديم القروض للدول الفقيرة لتمويل مشروعاتها التنموية والبنية التحتية الرقمية.

رغم أن تداول السلطة في أمريكا، يمثل صورة تقليدية للنظم الديموقراطية المستقرة، إلا أن ما حدث خلال ولاية دونالد ترامب (2016-2020م)، وأثناء الانتخابات التي تلتها، وانتقال السلطة للرئيس بايدن، جعل العالم يتوقع تغييرات كبيرة في توجهات إدارة بايدن، بما فيها منطقة الخليج، والشرق الوسط عمومًا، وهي توقعات في مجملها منطقية، على أصعدة كثيرة، أهمها العلاقات الاقتصادية الدولية للولايات المتحدة، موضوع هذه المقالة.

لماذا يهتم العالم بما يحدث في أمريكا؟

يأتي اهتمام العالم بما يحدث من شأن داخلي أمريكي للمكانة الكبيرة التي يحتلها الاقتصاد الأمريكي على المستوى العالمي، حيث يتصدر اقتصادات العالم من حيث الحجم مقاسًا بالناتج أو الدخل العالمي حيث يستحوذ على نحو 25% من الناتج والدخل العالميين، فضلاً عن تبوأ الاقتصاد الأمريكي مركز الصادرة في التجارة العالمية، حيث يأتي في المرتبة الأولى من حيث الواردات السلعية العالمية بنصيب 13.7% (2568 بليون دولار)، ويأتي ثانيًا بعد الصين للصادرات السلعية بنصيب 9% (1646 بليون دولار)، ويتصدر قائمة الدول المصدرة والمستوردة لتجارة الخدمات بنصيب يبلغ 14.1% (853 بليون دولار )، ونسبة 9.8% ( 564 بليون دولار) على التوالي عام 2019م، وفق بيانات منظمة التجارة العالمية 2020م، وعلى مستوى تدفقات الاستثمارات الأجنبية المباشرة، تحتل الولايات المتحدة مركز الصدارة أيضا، حيث تساهم بنحو 16% من مجمل التدفقات الخارجة من تلك الاستثمارات، متفوقة على الصين التي يبلغ نصيبها 9.2% من تلك التدفقات، وبالنسبة للتدفقات الخارجة تساهم الولايات المتحدة بنحو 9.5%، في مقابل 8.9% للصين في العام 2019م، وفق تقرير الاستثمار في العالم 2020.

 إضافة إلى ذلك تتمتع الولايات المتحدة بنفوذ واسع في شتى المجالات والمعاملات الاقتصادية العالمية الأخرى: المنظمات الاقتصادية الدولية، والأسواق المالية العالمية، وسعر الفائدة في الأسواق المالية الأمريكية، وحالة الميزان التجاري، ووضع الموازنة العامة الفيدرالية من عجز وفائض، وحجم الدين العام الأمريكي، وسعر صرف الدولار، كل هذا وغيره يؤثر تأثيرًا مباشرًا على الاقتصادات الدولية وعلى الاقتصاد العالمي بشكل عام.

اختلافات النهج الاقتصادي بين الحزبين الجمهوري والديموقراطي

على الرغم من أن النظام الرأسمالي، أو نظام الاقتصاد الحر ، أو اقتصاد السوق، يمثل خيارًا تاريخيًا للولايات المتحدة، إلا أن هناك مذهبان يتنازعان هذ النظام، وهما المذهب الاقتصادي المحافظ، والمذهب الاقتصادي الليبرالي، حيث يذهب المحافظون إلى أقصى درجات الحرية الاقتصادية للفرد، والتحرير، وأدنى مستويات التدخل الحكومي في النشاط الإقتصادي،  ويؤمنون بالكفاءة ولو على حساب العدالة الإجتماعية، ويعتنق الحزب الجمهوري الذي ينتمي إليه الرئيس السابق ترامب، مبادئ هذا المذهب، في حين يذهب الليبراليون الذين ينتمي إليهم الرئيس جو بايدن، إلى درجة أعلى من التدخل الحكومي، والتنظيم ، للحد من مساوئ اقتصاد السوق وتحقيق العدالة الاجتماعية، التي يقدمونها على اعتبارات الكفاءة.

التداعيات الاقتصادية لنتائج الانتخابات

تحولات جذرية في النهج الاقتصادي ينتظرها العالم بعد النتائج الأخيرة للانتخابات الأمريكية سواءعلى الصعيد العالمي أو الداخلي، فالتغيير لن يقتصر على شخص الرئيس، رغم أن ذلك عنصرًا مؤثرًا، وإنما هو تغيير في المنهج والمذهب الاقتصادي الذي تؤمن به الإدارة الأمريكية الجديدة، بالمقارنة مع سابقتها، وسيكون له انعكاسات على العلاقات الاقتصادية الدولية، وعلى رأسها: الموقف من منظمة التجارة العالمية، والتغيرات المناخية، والتكتلات الإقليمية التجارية، والتعاون الدولي في مجال مكافحة الفقر العالمي، فضلاً عن تأثيرها على العلاقات التجارية الأمريكية مع العالم الخارجي، وطرق تسوية المنازعات أو تعارض المصالح، مع شركاء أمريكا التجاريين الرئيسيين.

كما سيكون لهذه التغيرات انعكاسات على الصعيد المحلي، والموقف من عدد كبير من القضايا التي تدخل في نطاق دور الحكومة في النشاط الاقتصادي، وسياساتها ونظمها الاجتماعية وعلى رأسها: الرعاية الصحية، والضمان الاجتماعي، ومساعدة الفقراء،) ومعظمهم من الأقليات العرقية)، والتعليم، والتمييز العنصري، والإسكان، والضرائب والدين العام.

وقد انتهج الرئيس دونالد ترامب الجمهوري نزعة فردية، تعيد للأذهان حال العلاقات الاقتصادية الدولية قبل إقرار النظام الاقتصادي العالمي المعاصر، عقب الحرب العالمية الثانية، والذي عرف بنظام بريتون وودز، تلك المدينة الأمريكية في شمالها الشرقي في ولاية نيوهامبشير، التي شهدت مولد النظام العالمي الجديد بمؤسساته الثلاثة: صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ثم بعد ذلك منظمة التجارة العالمية، وتم إقرار نظام متعدد الأطراف، يؤكد على مبادئ  التعاون بين دول العالم، والسعي لتحقيق الصالح المشترك، وأقر آليات للتعامل وحل المشاكل  والتعارضات بين مصالح الدول المختلفة.

كما سلك الرئيس السابق، في بعض الأحيان، حل الملاذ الأخير إزاء عدد من القضايا على رأسها معالجة العجز المزمن في الميزان التجاري الأمريكي، حيث لجأ إلى سياسة فرض الحماية الجمركية على واردات الولايات المتحدة من شركائها التجاريين الرئيسيين: الصين والاتحاد الأوروبي وشركائه في النافتا (منطقة التجارة الحرة لشمال أمريكا)، وهو خيار يحمل الآخرين تبعة العجز، ولا يضمن تحقيق الغرض منه.

مثل هذا المسلك يعكس الفكر الاقتصادي اليميني المحافظ، فبصرف النظر عن أن اللجوء إلى فرض رسوم جمركية على واردات الدول الأخرى، دونما مبررات تقرها منظمة التجارة العالمية، يعد خرقًا لقواعد المنظمة الدولية، إلا أنها تتجاهل تمامًا، أن أثر الحماية الجمركية داخليًا يحابي المنتجين المحليين، ويزيد من أرباحهم، ويضر بمصالح المستهلكين من الأمريكان! وتفسير ذلك يكمن في تفضيل اعتبارات الكفاءة على العدالة الاجتماعية، في مذهب المحافظين الذي يحكم فكر الحزب الجمهوري.

نجاح جو بايدن الديموقراطي، الليبرالي، في انتخابات الرئاسة الأمريكية الأخيرة، يشير إلى تغيرات هامة ستحدث في النهج الاقتصادي، وفي مستوى تدخل الحكومة في النشاط الاقتصادي، والاهتمام بسياسات الحماية الاجتماعية، التي أهملها الجمهوريون في كثير من الأوقات، واحترام أكبر للاتفاقيات الدولية والإقليمية، وهو ما بدأ يظهر من حماس الرئيس المنتخب لأجندة تقدمية لتمويل التعليم، والعناية بالأطفال، والصحة العامة، من منطلق دعم مزيد من الدور الحكومي والتدخل في الاقتصاد الوطني، ومعالجة عدد من المثالب  التي يتسم بها اقتصاد السوق، بل والفشل أحيانًا، الأمر الذي لا يمكن إصلاحه إلا بالتدخل الحكومي، على الرغم مما يتسم به اقتصاد السوق من كفاءة لا يمكن إنكارها، لكن هذا الأداء لا يتسم في أحيان كثيرة بالعدالة.

ومع بزوغ نجم العولمة، أضحى الجانب الاقتصادي مؤثرًا بدرجة تفوق القوة العسكرية، مع انحسار الاعتماد على الحروب العسكرية حسمًا للخلافات، وقد ظلت إدارة ترامب تركز على الجانب الأمني الذي توفره للحلفاء أكثر من اعتمادها على العلاقات الاقتصادية مع الشركاء والذي يعد بمثابة خطأ استراتيجيًا كبيرًا مع بذوغ القوة الصينية الاقتصادية، والتي تعد حاليًا مصنع العالم، ومتجره الكبير، والشريك التجاري الأول لمعظم الدول، بما في ذلك اليابان وأستراليا وحتى ألمانيا، وقد انغمست الصين خلال السنوات الماضية في استغلال الأدوات الاقتصادية وتوظيفها لصالح تحقيق الأهداف الجيوسياسية الخاصة بها. 

التوجهات الاقتصادية الأمريكية إزاء الشرق الأوسط والخليج

من الطبيعي أن تكون الأولوية المطلقة أمام الإدارة الأمريكية الجديدة هي مواجهة أزمة كورونا وما ترتب عليها من ركود كان من الصعب منعه، وارتفاع معدلات البطالة بصورة غير مسبوقة، وأصبح من الضروري مجابهته، ومن ثم يتعين على الإدارة الأمريكية الجديدة استعادة عافية الاقتصاد، والمحافظة على الأرواح، قبل التفكير في أي تغييرات هيكلية.

ورغم أن إدارة جو بايدن، جاءت بالخلفية الديمقراطية الليبرالية لإدارتي جورج دبليو بوش وباراك أوباما، إلا أن العالم خلال هذه الفترة الوجيزة قد شهد تغيرات مؤثرة، وأضحى لدينا عالم ما بعد كورونا، وسيتحتم على الإدارة الجديدة الخروج على المسلمات الفكرية للديموقراطين وخاصة فيما يتعلق بأن العالم الذي تتبنى فيه جميع الدول نظام الأسواق الحرة ستجعل مواطني تلك الدول أغنياء، وهو ما يستدعي إحداث قدر من التكيف والمراجعة للفرضيات التي يمكن الاعتماد عليها في صنع السياسة الاقتصادية الأمريكية.

وبعيدًا عن ظروف أزمة كورونا حاليًا، والتصريحات السياسية الدعائية خلال فترة الإنتخابات، فإن المصالح الاقتصادية الأمريكية، والمنافع الاقتصادية للشركات الأمريكية دولية النشاط، ستظل هي الحاكمة لتوجهات الإدارة الأمريكية، تجاه منطقة الشرق الأوسط ودول مجلس التعاون، وتنطلق منها العلاقات الاقتصادية الدولية: التجارة العالمية، والصادرات والواردات السلعية والخدمية، وتدفقات رؤوس الأموال، للداخل والخارج.

وقد عملت دول المنطقة على مدى زمني طويل مع الإدارات الحكومية الأمريكية على مختلف انتماءاتها الحزبية، دونما تغير يذكر في متانة العلاقات وأبعادها، لذلك ستظل الأسس التي يمكن البناء عليها لرصد توجهات الإدارة الجديدة، تجاه دول الشرق الأوسط، ومجلس التعاون الخليجي، متمثلة في مبادئ الحزب الذي ينتمي إليه الرئيس ويمثله، والمصالح الإقتصادية للولايات المتحدة، ومصالح الشركات الأمريكية عابرة القارات، وما حدث في العالم بعد كورونا.

ملامح السياسة  الخارجية الاقتصادية المتوقعة

يتمثل مجال العمل المشترك الأهم بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط، في العلاقات الاقتصادية الأمريكية، والتبادل التجاري بينهما، ويوفر عجز الميزان التجاري في الولايات المتحدة مثالا لمشكلة عانى منها الإقتصاد الأمريكي على مدى زمني طويل، وتعكس السياسات المطبقة لعلاجه الفكر الاقتصادي  للإدارة الأمريكية في السلطة، وتحدد إلى مدى بعيد طبيعة العلاقات الاقتصادية الخارجية للولايات المتحدة، وقد كان ذلك جليًا في لجوء ترامب إلى  الحرب التجارية التي سلكها ضد شركائه التجاريين وعلى رأسهم الصين،  إبان فترة رئاسته، حين لجأ إلى السياسات الحمائية ضد شركاء أمريكا التجاريين محملاً المستهلك الأمريكي إرتفاعات في أسعار السلع المحلية والمستوردة، كانت حرية التجارة الخارجية توفرها بأسعار أقل، وذلك لصالح قطاعات الأعمال التي ينحاز لها فكر  المحافظين.

وفي ضوء مباديء الفكر الليبرالي للحزب الديموقراطي، يمكن رصد السياسات المتوقعة للإدارة الأمريكية في الفترة الرئاسية الحالية، فيما يتعلق بعلاقاتها التجارية مع الخارج، بما فيها دول الخليج وباقي دول الشرق الوسط.

يعتبر العجز في الميزان التجاري الأمريكي، مشكلة مزمنة، ترجع بجذورها إلى نهاية السبعينات من القرن العشرين، ويعكس عرضًا لاضطرابات عميقة في الاقتصاد الأمريكي، إذ يعني ببساطة أن الأمريكان حكومة وأفرادًا وقطاع أعمال عام، ينفقون على السلع والخدمات أكثر مما ينتجون محليًا، وظل ذلك سائدًا لسنوات طويلة، ونتيجة لذلك تجبر الولايات المتحدة على أن تقترض الفارق من الخارج (مقدار العجز التجاري)، حيث يمثل العجز التجاري مرآة عاكسة لتدفق رؤوس الأموال للداخل

ويمثل هذا الوضع مصدر قلق كبير للمهتمين، لأن تدفقات رؤوس الأموال تخلق مزيدًا من الديون، يترتب عليها فوائد سنوية وأقساط، يجب سدادها في المستقبل، مما يعني أن الأمريكان يرهنون مستقبلهم لتمويل الإنفاق الاستهلاكي المرتفع في الوقت الحاضر.

وهناك منظور آخر لتفسير العجز التجاري، حيث قد تتدفق رؤوس الأموال الأجنبية للاستثمار في الولايات المتحدة لتوفر فرص استثمارية بالداخل، وليس لحاجتها لتلك الأموال، وبالتالي تتفق الأموال للداخل، ليس بسبب أن الأمريكان بحاجة للإقتراض وإنما بسبب رغبة الجانب الآخر للإقراض، أي الرغبة في تملك الأصول الأمريكية، الأمر الذي يدفع بسعر صرف الدولار للإرتفاع، والذي بدوره يدفع الصادرات للإنخفاض، ويظل عجز الميزان التجاري مرآة لتدفق رؤوس الأموال، لكنه في هذه الحالة يمثل دليلاً على قوة الاقتصاد الأمريكي وليس على ضعفه.

وتحمل كلا من وجهتي النظر السابقتين، قدرًا من الصحة، ولكن الثانية تثير سؤالاً حرجًا: إلى متى يمكن أن يستمر هذا الوضع؟ فطالما استمر العجز التجاري، سيستمر المستثمرون الأجانب يستحوذون على قدر كبير من الأصول الأمريكية، ولكن عند نقطة معينة يبدأ قلق الاقتصاديون والخبراء الماليون يتزايد، حيث يمكن أن يخلص المستثمرون إلى أنهم قد استحوذوا على قدر كاف من الأصول الأمريكية، ومتى حدث هذا سيصبح من الواجب على الإدارة الأمريكية التخلص من العجز التجاري، وهنا يأتي دور الفكر الاقتصادي للإدارة الحاكمة في السعي لمعالجة العجز التجاري، وفي ضوء تلك السياسات تتحدد العلاقات الاقتصادية الدولية للولايات المتحدة

 ويصبح السؤال كيف يحدث ذلك؟ والحقيقة أن هذا هو السؤال المثار حاليًا، فما هي خيارات السياسات الخارجية الاقتصادية الأمريكية الحالية لعلاج عجز الميزان التجاري المزمن؟

خيارات السياسات الخارجية الاقتصادية الأمريكية لعلاج العجز التجاري

يوجد أربعة بدائل للتعامل مع العجز التجاري الأمريكي، كلها تمثل حلولاً ممكنة، لكن الاختيار من بينها، والسياسات المطروحة تتوقف على الفكر الذي يعتنقه متخذي القرارات في الإدارة الأمريكية، فما هي توجهات العلاقات الخارجية الاقتصادية لحل العجز التجاري الأمريكي؟

الخيار الأول: تغيير مزيج السياسات المالية والنقدية

 تشيرالعلاقة بين العجز الداخلي (عجز الموازنة العامة) والعجز الخارجي (عجز الميزان التجاري) إلى أن أحد أهم سبل معالجة العجز الخارجي هو تحقيق فائض في الموازنة العامة، سواء من خلال خفض الإنفاق الحكومي أو رفع الضرائب، الأمر الذي يؤدي إلى تخفيض سعر الفائدة الحقيقي، ومن ثم تخفيض سعر الدولار وبالتبعية تخفيض العجز التجاري.

ونظرًا لأن تحقيق فائض في الموازنة سواء من خلال تخفيض الإنفاق الحكومي أو زيادة الضرائب قد تؤثر سلبًا، عى النشاط الاقتصادي، وتبطىء من النمو الاقتصادي، الأمر المستبعد في ظل الظروف الاقتصادية التي خلفتها جائحة كورونا، فإنه من الممكن اللجوء إلى سياست نقدية محفزة، فكما تفعل السياسة المالية المقيدة، ستفعل السياسة النقدية التوسعية، حيث ينخفض سعر الفائدة، وينخفض سعر الدولار وهو ما يدفع باتجاه تقليص العجز التجاري، وبالتالي فالسياسة التي يوصى بها هذا التوجه مع استبعاد السياسة المالية المقيدة، أي الانكماشية في ظل حالة الركود الخالية،، هي سياسة نقدية توسعية محفزة ، وقد تم تطبيق هذه السياسات في التسعينات، وإن ظل العجز قائمًا!

الخيار الثاني:  التشجيع على تحقيق نمو اقتصادي أسرع في الخارج

يساعد تحقيق الشركاء التجاريين معدلات نمو أسرع، على تحسين وضع الميزان التجاري الأمريكي، وتفسير المسألة أن الطلب الخارجي على المنتجات الأمريكية (صادرات أمريكا) يتباطأ نتيجة معدلات النمو المنخفضة لدى الشركاء التجاريين، بينما يؤدي ارتفاع النمو الاقتصادي بشكل أسرع في الخارج سيزيد الطلب على المنتجات الأمريكية، بالتبعية، وتزيد الصادرات الأمريكية ويتقلص العجز التجاري، لذلك عادة ما يستفيد الاقتصاد الأمريكي عندما يحقق الشركاء التجاريون معدلات نمو أسرع، خاصة مع تحرر اقتصاداتها، وأسواقها أمام المنتجات الأمريكية، لذلك فإن تعافي الاقتصاد الأمريكي ليس مرهونًا فحسب بنجاح برامج الإنقاذ والإنعاش المحلية، بل إن سرعة تعافي الاقتصاد العالمي والشركاء التجاريين للولايات المتحدة يدعم كذلك التعافي الأمريكي، وكلما تعافت اقتصادات الشركاء التجاريين للولايات المتحدة بشكل أسرع كلما زاد دعمها للإقتصاد الأمريكي، من خلال زيادة الطلب الخارجي على المنتجات الأمريكية.

الخيار الثالث: رفع معدلات الادخار المحلي أو تخفيض معدلات الاستثمار

 طريقان آخران يمكن أن تسلكهما السياسات الاقتصادية الأمريكية للتعامل مع العالم الخارجي في ظل العجز التجاري المزمن، وهما إما مزيد من المدخرات المحلية أو قليل من الاستثمارات، والذي لا يعرفه البعض أن المدخرات المحلية الأمريكية آخذة في التراجع طوال الوقت، ووصلت في بعض الأحيان إلى قرابة الصفر عام 1998 وعام 1999م، وهو مستوى لم يحدث منذ أزمة الكساد العظيم في الثلاثينات! ومتى ادخرالأمريكان كثيرًا حاجتهم لرؤوس الأموال الأجنبية، حيث سينخض سعر الدولار ويقل عجز الميزان التجاري.  

المشكلة أنه لا يوجد حتى الأن سبيلا لإقناع الأمريكان بأن يستهلكوا أقل ويدخروا أكثر، وقد حاولت الحكومات الأمريكية  مرارًا وضع المزيد من الحوافز الضريبية لتشجيع الأفراد على الادخار ولا تزال تقدم المزيد دون استجابة تذكر، وسيكون الموقف أصعب في الظروف الحالية.

والحقيقة أن الزيادات الكبيرة في ثروة الأسواق المالية في السنوات الأخيرة، أقنعت الأمريكان أنه من الحكمة أن ينفقوا المزيد من المال بحرية، وأن يدخروا القليل. وإذا لم تفلح سبل العلاج في العمل على وقف العجز التجاري، فسوف يتم علاجه بطريقة ذاتية، غير سارة من خلال انخفاض دراماتيكي في الاستثمار المحلي الأمريكي.

ذلك أنه مع استمرار العجز واستمرار تدفق رؤوس الأموال الأجنبية، واستمرار حيازة الأجانب للأصول الأمريكية بالدولار، سوف تتراجع تلك الرغبة مع الوقت، وقد يصحبها المطالبة بمزيد من أسعار الفائدة، وفي أفضل الحالات سوف ينخفض معدل الاستثمار في الولايات المتحدة، لكن الأسوأ ستقل الرغبة في إقراض الولايات المتحدة، وسيرتفع سعر الفائدة بشكل كبير، وسيقع الاقتصاد الأمريكي فريسة للركود، وبطبيعة الحال سيؤدى الركود إلى علاج العجز في الميزان التجاري بطريقة ذاتية، ولكنه علاج مُر في كل الأحوال، لذلك ستظل رؤوس الأموال العربية المستثمرة في الولايات المتحدة تلعب دورًا هامًا في دعم الاستثمارات الأمريكية في الفترة القادمة، خاصة نتيجة حالة الركود التي ضربت الاقتصاد الأمريكي.

الخيار الرابع (الملاذ الأخير): اللجوء إلى السياسات الحمائية

 نأتي لأسوأ سبل العلاج، وهو السبيل الذي اختاره رونالد ترامب وإدارته، حيث يتم تقليص الواردات من خلال السياسات الحمائية، بفرض رسوم جمركية (أو تطبيق نظام الحصص) وغيرها من الإجراءات الحمائية، ورغم اعتراض الاقتصاديين ورفضهم لتلك السياسات إلا أن لها بريق سياسي حيث تبدو من الناحية الدعائية (توفير المزيد من الوظائف للأمريكان ومن ناحية أخرى تنقل اللوم بخصوص مشاكل التجارة إلى الأجانب ).

فبالإضافة إلى حرمان الأمريكان وبقية دول العالم من مزايا تحرير التجارة العالمية والمزايا التنافسية، فهي سياسة لن تفلح في علاج العجز إلا في الظاهر، ففرض رسوم جمركية على صادرات الدول الأجنبية للولايات المتحدة كما حدث مع الصادرات الصينية لأمريكا، سيقلل من الواردات الأمريكية، لكن الدول الأخرى سيظل بإمكانها فرض رسوم على الصادرات الأمريكية، وهذا ما فعلته الصين تمامًا، وبالتالي ستقل الصادرات الأمريكية، ولن يجني الإقتصاد الأمريكي إلا القليل، وستعاني التجارة العالمية كثيرًا، نتيجة سياسة ليس فيها كاسبون ، بل فقط خاسرون!

لذلك فمن المستبعد تمامًا لجوء الإدارة الأمريكية لمثل هذه الإجراءات مرة أخرى، وستعود الولايات المتحدة منفتحة على العالم، مشجعة على تحرير التجارة العالمية.

الخلاصة

كأن الحزب الديموقراطي على موعد مع الأزمات الاقتصادية، جاءت الإدارة الجديدة وجائحة كورونا في ذروتها، كما تعاني أمريكا من تردي الحالة الصحية للأمريكان، يعاني الاقتصاد الأمريكي كذلك من تهاوي معدل النمو وتزايد أعداد العاطلين، فضلاً عن ضغوط شديدة على الموازنة العامة تدفع بالنفقات الحكومية للزيادة، مع تراجع حاد في الإيرادات الضريبية مما يحتم تفاقم العجز المالي، والذي سينعكس بالتبعية على وضع الميزان التجاري، ويفاقم من العجز التجاري المزمن.  

نخلص مما سبق إلى أن التوجه الأكثر احتمالاً في السياسة الخارجية الاقتصادية للولايات المتحدة هو تحرير التجارة الخارجية مع شركائها التجاريين، الذي يتوقع تعافي اقتصاداتها بسرعة أكبر، وتحرير المعاملات التجارية معهم، والذي يصب في صالح الولايات المتحدة، حيث يؤدي ارتفاع معدل نمو تلك الاقتصادات بمعدل أسرع من الاقتصاد الأمريكي، إلى زيادة صادراتها للشركاء، أكثر من زيادة وارداتها منها، ويدعم الخروج من هوة الركود، وتسريع النمو الاقتصادي، الأمر الذي يدعم توجه الإدارة الأمريكية الجديدة لتحرير معاملاتها التجارية مع الشركاء التجاريين الرئيسيين، والتزامها بمبادي منظمة التجارة العالمية، ويؤكد على انفتاح أكبر في علاقاتها الاقتصادية الدولية، مع منطقة هامة مثل الشرق الأوسط ودول الخليج.

مقالات لنفس الكاتب