; logged out
الرئيسية / سلكت إدارة بايدن طريقًا شائكًا تجاه المملكة فيما سُمي بإعادة تقييم العلاقة

العدد 160

سلكت إدارة بايدن طريقًا شائكًا تجاه المملكة فيما سُمي بإعادة تقييم العلاقة

الإثنين، 29 آذار/مارس 2021

يبدأ تاريخ العلاقة الأمريكية بالخليج العربي، وخاصة المملكة العربية السعودية، من أوائل ثلاثينيات القرن الماضي... وتعززت، بصورة استراتيجية عميقة، قبيل انتهاء الحرب الكونية الثانية، في اجتماع البحيرات المرة (١٤ فبراير ١٩٤٥م) بين الملك عبد العزيز آل سعود (١٨٧٦ – ١٩٥٣م) والرئيس الأمريكي الراحل فرانكلين روزفلت (١٨٨٢ – ١٩٤٥م). لعلَ اجتماع البحيرات المرة، كان أوضح مؤشرٍ ليس لاستشراف علاقة استراتيجية عميقة بين الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة العربية السعودية... بل أكثر من ذلك: كان استشرافً لتغيير كبيرٍ وجذري، في النظام الدولي بأسره، بدأ بأفول نجم دول تقليدية عظمى في العالم القديم (بريطانيا العظمى).. وبزوغٍ فجرِ عهدٍ جديدٍ لنظام دولي غير تقليدي (نظام الأمم المتحدة) تقوده، بصورة رئيسية وقد تكون حصرية قوة عظمى جديدة (الولايات المتحدة الأمريكية).

 

من بريطانيا العظمى إلى أمريكا الأعظم

 

كان العالم، منذ عشرينات القرن التاسع عشر، عند هزيمة نابليون في معركة ووترلو الفاصلة يونيو ١٨١٥م، وحتى الحرب الكونية الثانية، يرزح تحت سيادةِ بريطانيا العظمى ( Pax Britannica ). حينها كانت بريطانيا تُعْرَفُ بالإمبراطورية، التي لا تغيب عنها الشمس. سادت بريطانيا العالم، كقوة عظمى رئيسية لأكثر من قرنٍ وثلاثة عقود.

 

فيما يشبه المصادفة التاريخية، ببعدها الاستراتيجي الكوني، كان من إرهاصاتِ أفولِ العهدِ البريطاني الكوني، فشل التكنلوجيا البريطانية في اكتشاف أكبر مكامن النفط في العالم باحتياطات غزيرة منه. في عام ١٩٢٨م، انتهت امتيازات النفط للشركات البريطانية في المملكة، بعد خمس سنوات من المسح والتنقيب، دون أي نجاح. في المقابل: من إرهاصات الدور الاستراتيجي الكوني القادم، للولايات المتحدة الأمريكية، نجاح الشركات الأمريكية نهاية ثلاثينات القرن الماضي، في اكتشاف النفط في المملكة بكميات تجارية. بعد خمس سنوات من امتياز الشركات الأمريكية، تم تدفق النفط من بئر الدمام رقم: ٧ عام ١٩٣٨م، (بئر الخير)، ومن يومها يتدفق النفط من هذه البئر بغزارة، إلى أن تم غلقه بالإسمنت ١٩٨٢م، بعد إنتاج استمر لـ ٤٤ عاماً، أنتج خلالها ٣٢.٥ مليون برميل.

 

من أهم ما تمخضت عنه قمة البحيرات المرة بين الملك عبد العزيز والرئيس الأمريكي السابق، التأكيد على بناء علاقات استراتيجية متقدمة بين البلدين، تقوم على المصالح المتبادلة، وعلى إمكانات البلدين في دعم سلام العالم وأمنه، بتوفير أهم سلعة استراتيجية في العالم (النفط) بكميات كافية وأسعار منافسة، لتحفيز مرحلة الإعمار بعد الحرب الكونية الثانية.. وضمان استقرار مستدام للنظام الدولي الجديد، مع توفر الحماية اللازمة من قبل الولايات المتحدة، للمنطقة والعالم، حتى لا تتكرر مأساة تجربة الحربين العالميتين، بحربٍ كونية ثالثة.

 

إذًا: من الناحية الاستراتيجية البحتة، واكب نشوء نظام الأمم المتحدة ظهور الولايات المتحدة كقوة كونية رئيسية في العالم، لتتبوأ امتيازات الهيمنة الكونية، عليها التزامات أمنية واقتصادية، لازمة لاستقرار النظام الدولي الجديد، أعظم من الدور الذي كانت تقوم به بريطانيا العظمى في عهد عصبة الأمم ومنذ هزيمة نابليون في معركة ووترلو. كما شهد نظام الأمم المتحدة، في نفس الوقت، بروز دور غير تقليدي لقوىً إقليمية، مثل: المملكة العربية السعودية، يتكامل دورها الاستراتيجي "الناعم" مع القوة الكونية الصاعدة، بكل إمكاناتها الاستراتيجية "الصلبة"، في جني ثمار استقرار النظام الدولي الجديد، مع المساهمة الإيجابية في متطلبات استقراره وأمنه.   

 

ميزة المملكة التنافسية في صناعة الطاقة

 

بدأ عهد نظام الأمم المتحدة، في حقيقة الأمر، على دعامتين استراتيجيتين، إحداهما كونية (أمنية).. والثانية اقتصادية: تعتمد أساساً على مصدر جديد، وإن كان غير متجدد للطاقة (النفط). صحيح: النفط، بعد ما يقرب من الثمانية عقود لم يعد المصدر الرئيس للطاقة، إلا أنه يظل المصدر الاستراتيجي الوحيد، الذي لا يمكن الاستغناء عن دوره في النمو العالمي، ولم يتمكن، بعد أي مصدر للطاقة، متجددٍ أو غير متجدد، ينافس النفط في سوق الطاقة العالمية.

 

مازال النفط يتمتع بميزة تنافسية في سوق النفط العالمية، تجعله في صدارة المصادر الأخرى، رغم ما يتعرض له من انتقادات بيئية. وبالتبعية: مازالت المملكة العربية السعودية، تتمتع بالميزة التنافسية الأولى، في سوق النفط العالمية، من ناحية الاحتياطات وتكلفة الإنتاج.. والأهم: القدرة والإرادة على القيام بالتزاماتها تجاه استقرار سوق الطاقة العالمية، باتباع سياسة إنتاجية تتكامل مع معدلات النمو العالمية، خاصة لدى الدول الصناعية الكبرى، مع مراعاة مصالح الدول الأقل فقراً، التي تحتاج في نموها، إلى توفير النفط بأسعارٍ مناسبة، تحفزها للنمو ولا تثقل كاهلها بفاتورة مرتفعة لسد احتياجاتها من الطاقة.

 

المملكة العربية، عندما تعارض، أحياناً، الزيادات في أسعار النفط، إنما هي تذود عن مصالحها، باستمرار الدور المحوري للنفط في سوق الطاقة العالمية. المملكة، في الوقت الحاضر، ثاني أكبر منتج للنفط، مع إمكانات إنتاج كبيرة، تصل إلى مرة ونصف من انتاجها الحالي، في وقتٍ زمنيٍ قصيرٍ. هذا يجعل المملكة، في حقيقة الأمر، الدولة الفعلية الأولى المنتجة للنفط في العالم، إذا ما أخذنا في الاعتبار الإنتاجية الحقيقية والمحتملة، مع تواضع استهلاكها من النفط، مقارنةً باحتياجات دول منتجة كبرى له، متى استدعى الأمر اتخاذ قرار سياسي في هذا الشأن.

 

دولٌ منتجةٌ كثيرة يسيل لعابها عند أول فرصة، حتى ولو كانت مؤقتة وخادعة، لزيادة أسعار النفط، بينما تكون المملكة، في مثل هذه الظروف أكثر حذرًا وحكمة. معظم تلك الدول التي تندفع تحمساً لزيادة الأسعار، لا تتمتع باحتياطات كبيرة منه.. وترتفع فيها تكلفة الإنتاج، أو تعاني من عدم استقرار داخلي... وفي كثيرٍ من الأحيان، ما تتوفر تلك العوامل المنافسة، في إنتاج النفط، لدى دولٍ كثيرةٍ منتجة.

 

المملكة العربية السعودية في المقابل: لديها احتياطات ضخمة من النفط، تصل في أكثر التقديرات تحفظاً إلى ٢٦٥ مليار برميل. الأهم هنا: أن احتياطات النفط الضخمة هذه، في زيادة مضطردة، حتى يمكن القول، بلا مبالغة، أن احتياطات المملكة الضخمة هذه والتي لا مثيل لها في أي دولة منتجة أخرى في العالم، لم تتأثر منذ اكتشاف النفط بكميات تجارية، مهما بلغ حجم الإنتاج.  من مصلحة المملكة، إذًا: الحفاظ على نصيب النفط من سوق الطاقة العالمية، لأطول فترة ممكنة، نظرًا، لضخامة احتياطاتها من النفط.. وتدني تكلفة إنتاجه، مع إمكانات إنتاج ضخمة تفوق معدلات إنتاجها الفعلي منه... والأهم، في هذا الصدد: تمتع المملكة باستقرار داخلي، يتكامل استراتيجيًا مع استقرار المنطقة وأمن العالم.

 

الديمقراطيون الانفتاح على العالم من نافذة الخليج

 

ليست مصادفةً تاريخية، أخرى، أن تواكب السياسة التداخلية الجديدة للولايات المتحدة، بعد الحرب العالمية الثانية، مع أول إطلالة شاملة على العالم، من نافذة الخليج العربية، بالذات المملكة العربية السعودية. ترى هل هي مصادفة تاريخية بحتة، أن يجتمع الرئيس الأمريكي الديمقراطي فرانكلين روزفلت، بالملك عبد العزيز في البحيرات المرة بمصر عقب اجتماعه مع زعماء الحلفاء في يالطا (١١ -١٤ فبراير ١٩٤٥م)، بأيام، مدشناً بذلك أول انفتاح في تاريخ النظم الدولية على قوىً إقليمية ذات سيادة، بعيدًا عن النهج التقليدي للدول الاستعمارية القديمة، في الغزو والفتح.

 

في حقيقية الأمر، ليس في ذلك التطور مصادفة تاريخية أو أي شيءٍ من هذا القبيل. إنها ضرورات استعادة حركة التاريخ لمسارها الحقيقي، ربما بصورة حتى صانعوا السياسة الخارجية الأمريكية، حينها لم يدركوا مغزاها وأبعادها. لم يعد العالم، في عهد نظام الأمم المتحدة، يحتكر حركته وموارده ويملي توجهاته وخطى سيره، إرادة وأهواء الدول الكبرى فقط، التي كانت غالبًا ما تُقذى بالصراعات وتقود إلى الحروب. كانت فترة ما بعد الحربين، آخر مرحلة تاريخية في الأنظمة الدولية الحديثة، يُتجاهل فيها الدور الإقليمي في حركة السياسة الدولية.

 

لقاء الملك عبد العزيز بالرئيس فرانكلين روزفلت في البحيرات المرة هو أول مؤشرات توجه نظام الأمم المتحدة الجديد، بإفساح المجال أمام القوى الإقليمية بأن تشارك مشاركة فعلية، كدول ذات سيادة، في استقرار النظام الدولي وحفظ سلام العالم وأمنه. قارن هذا بعهد عصبة الأمم، بموجب معاهدة فرساي ١٩١٩م، الذي أكد امتيازات الدول الاستعمارية التقليدية، لشرعنة توسعها، كما تجلى في نظام الانتداب، الذي ما زالت منطقتنا لم تتعافى منه، بعد، وقضية فلسطين، ما تزال أبرز معالم نظام الانتداب، التي ماتزال ماثلة، إلى يومنا هذا.

 

استراتيجية العلاقة بين الرياض وواشنطن

 

منذ لقاء البحيرات المرة، إلى اليوم، لم تغفل الولايات المتحدة عن منطقة الخليج العربي.. ولم تساوم، إلى اليوم على أمنه، بالذات أمن المملكة العربية السعودية... والأهم: لم تتخل واشنطن عن اعتبارات ارتباط أمن منطقة الخليج العربي، بأمنها القومي، ذاته.  في المقابل: المملكة العربية السعودية لم تتخل أو تساوم على المنطلقات الاستراتيجية، التي حددت مسار سياستها الخارجية بالولايات المتحدة، خاصةً ماله علاقة بسياستها النفطية، بل وحتى تحديد علاقاتها مع الدول الصديقة والخصمة مع الولايات المتحدة، كما حدث طوال عهد الحرب الباردة، على سبيل المثال. الرياض، في ما يخص هذه العلاقة الاستراتيجية الخاصة والعميقة مع واشنطن، كانت دائماً تنطلق من ثوابت مصالحها الوطنية.. واستقلالية قرارها، والتزاماتها القومية.

 

هناك دائماً خيطٌ رفيعٌ، هو أقرب للمتانة منه للوهن، يربط بين الرياض وواشنطن، تفرض حركة الشد والاسترخاء بين طرفيه حقيقة عمق العلاقة الاستراتيجية المشتركة، التي تربط بينهما.  طوال ما يقرب من تسعة عقود، أي قبل لقاء البحيرات المرة بـ ١٢ سنة، بالتحديد: منذ بدء تبادل التمثيل الدبلوماسي بين البلدين عام ١٩٣٣م، لم يحدث أي تطور في علاقتهما، بعضهما ببعض، إلى مستوى النيل من قناعتهما بأهمية التمسك بعمق تلك العلاقة الاستراتيجية حتى في أحلك لحظات مسيرة تلك العلاقة ظلمةً، مثل ما حدث أثناء الحرب العربية الإسرائيلية سنة ١٩٧٣م، وما تخللها وحتى استمر بعدها لفترة، من قطع إمدادات النفط.. وما حدث في سبتمبر ٢٠٠١م، من اعتداء إرهابي على الولاياتِ المتحدة. بالرغم من فداحة الأضرار التي تسببت بها مثل الأحداث السلبية، لم يتطور ما يمكن أن يشكل خطورة حقيقية على متانة وعمق العلاقات الاستراتيجية بين البلدين.

 

الردع الذاتي للعلاقة الاستراتيجية

 

لم ينقطع اهتمام الولايات المتحدة بمنطقة الخليج العربي وواسطة العقد فيه (المملكة العربية السعودية). ولم تساوم الولايات المتحدة، يوماً، على أمن الخليج العربي، بالذات المملكة العربية السعودية.. أو تغفل، يوماً عن ارتباط أمنها القومي، باستقرار وأمن منطقة الخليج العربي، بالذات المملكة العربية السعودية

 

مع ذلك، لا يمكن إنكار أن علاقة، قد تصل إلى مستوى اللا مرونة، مثل هذه، تسودها، في بعض الأحيان أحوال من الجزر، إلا أنه لا يصل إلى مستوى وقف جريان المياه الدافئة بين شطآنهما، أو حتى تجمدها. كل طرف في مثل هذه العلاقة الاستراتيجية المصيرية لمصالحهما وأمنهما، قد يحاول من فينة وأخرى، أن يستخدم جوانب ميزته التنافسية بينهما، ليحصل على نقاطٍ أكثر.. أو على الأقل يحافظ على الحد الأدنى من مكاسبه فيها. هناك، ما يشبه الردع المتبادل، يتولد ذاتياً من خلال حركة هذه العلاقة الاستراتيجية بينهما، ينبه الطرفين عند تفاعله، في أوقات ما يلوح أو يتطور من توتر أو خلل يشوب هذه العلاقة، لحدود والتزاماته ومسوؤلياته وكذا المصالح المشتركة بينهما. 

 

تلك هي معضلة، وكذا ميزة، مثل هذه العلاقة الاستراتيجية العميقة، التي تربط بين طرفين دوليين، وإن اختلفت موازين القوة المادية بينهما، إلا أن ضرورات حاجة بعضهما للبعض، تحدث في أوقات الضرورة وأزمات التوتر بينهما، التوازن المطلوب، الذي يتولد عن حركة الردع الذاتي الكامنة في تلك العلاقة الاستراتيجية الخاصة، التي تربطهما ببعض.

 

ترامب: العزف على وتر الأمن

 

ربما، في تاريخ العلاقة الاستراتيجية بين المملكة العربية السعودية، لم يحاول طرف الاستقواء على الطرف الآخر، باستغلال طرف المعادلة الذي يمتلكه، مع تجاهل إمكانات الطرف الآخر في نصيبه من طرف المعادلة، الذي يخصه، مثل ما تطور في عهد الرئيس الجمهوري دونالد ترامب، في الأربع سنوات الماضية. حتى نكون موضوعيين، في رؤيتنا هذه، لابد من الإشارة إلى نهج ترامب هذا، لم يكن مقتصراً على العلاقة مع الرياض، بل كان يشمل توجه السياسة الخارجية في إدارته، تجاه جميع حلفاء الولايات المتحدة التقليديين، بما في ذلك أعضاء حلف شمال الأطلسي (الناتو) الأوربيين، وكذا اليابان وكوريا الجنوبية.

 

لم تكن إدارة الرئيس ترامب، تتبنى نهجاً رأسمالياً، بمقايضة الأمن بعائد مادي مباشر، فحسب... بل كانت تطالب بذلك، بأثرٍ رجعي! لم يطالب الرئيس ترامب فقط بزيادة مساهمة حلفائه في ميزانية الناتو، بل طالبهم، أكثر: بدفع تكلفة المظلة النووية، التي أظلتهم، طوال الحرب الباردة إلى اليوم... وكذا دفع تكلفة إعادة إعمار أوروبا واليابان، بعد الحرب العالمية الثانية. كما لم تتورع إدارة الرئيس ترامب، عن تعرض أمن حلفائها التقليديين للانكشاف أمام خصومهم التاريخيين، عندما قرر خفض عدد القوات الأمريكية في أراضيهم، تمهيداً لسحبها نهائياً، كما حدث لألمانيا واليابان. حتى أن تلك الإدارة، كما ترى أوساط في وزارتي الخارجية والدفاع، ساومت على أمن الولايات المتحدة، ذاتها، عندما قررت الانسحاب من مناطق مهمة لأمن الولايات المتحدة ومصالحها في الخارج، مثل ما حدث في العراق وأفغانستان وسوريا.

 

لكن ما يمكن أن يحسب، لإدارة الرئيس ترامب، فيما يخص منطقة الخليج العربي، انسحاب الولايات المتحدة، من جانب واحد، من اتفاقية البرنامج النووي الإيراني، التي عقدت في عهد الرئيس الديمقراطي الأسبق باراك أوباما ١٤ يوليو ٢٠١٥م، التي كانت تعرف باتفاقية ٥ + ١، وتشمل بالإضافة للولايات المتحدة وإيران كلٍ من: روسيا الصين فرنسا المملكة المتحدة وبالإضافة للاتحاد الأوربي. لم تكتفِ واشنطن، بالانسحاب من تلك الاتفاقية، من جانب واحد... بل أعادت نظام المقاطعة الاقتصادية على إيران، حتى أنها شددته.

 

الكثيرون يرون: أن تلك السياسة الجديدة، تجاه إيران، كانت تمثل عامل عدم استقرار في المنطقة، أكثر منها مجرد دليل على تذبذب السياسة الخارجية، والنيل من مصداقيتها والإضرار بسمعتها. صحيح: كانت هناك أخطاء، يراها الكثيرون فادحة، أضرت بمصالح دول المنطقة العربية في مجلس التعاون لدول الخليج العربية، بعدم مشاركتهم في مفاوضات تلك الاتفاقية.. وتجاهل متطلبات أمن دولهم... بالإضافة إلى أن تلك الاتفاقية لا تضمن تخلي إيران عن مشروعها النووي غير السلمي، كما لم تتضمن بنوداً ذات علاقة ببرنامج إيران الصاروخي، الذي قد يتطور إلى نظام استراتيجي خطير قادر على حمل وإطلاق صواريخ ذات رؤوس نووية... الأمر الذي يشكل خطرًا ناجزاً على أمن المنطقة، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية.

 

لكن من ناحية أخرى، لم تتمكن إدارة الرئيس ترامب من ردع التمدد الإيراني في المنطقة، ولا حتى تحد من زخمه وتقلل من خطورته على حلفائها في المنطقة، بالذات على طول حدود المملكة مع اليمن. مازال عدوان الحوثيين على المملكة في ازدياد رغم إلغاء اتفاق البرنامج النووي وشدة حدة المقاطعة الاقتصادية على إيران.

 

قارن هذا، بموقف واشنطن من غزو العراق للكويت (٢ أغسطس ١٩٩٠م)، وما كان يمثله من خطر ناجز على أمن المملكة، على وجه. حتى عندما بدأت إيران في اختبار صلابة الموقف الأمريكي من قضية أمن المنطقة، كانت واشنطن تتفادى الاحتكاك مع طهران، حتى عندما تتعرض قواتها للتحرش من قبل إيران أو المليشيات التابعة لها في المنطقة، مثل الهجوم الصاروخي الإيراني على قاعدة الأسد في العراق، عقب اغتيال قاسم سليماني قائد ما يسمى بفيلق القدس في: ٣ يناير ٢٠٢٠م، وإقدام وسائل الدفاع الجوي الإيراني على إسقاط طائرة مسيرة متقدمة تابعة للبحرية الأمريكية فوق مياه الخليج العربي، رغم توصية الخارجية ووزارة الدفاع، بضرورة الرد على تلك الاعتداءات والاستفزازات الإيرانية.

كان أقصى ما قدمته الولايات المتحدة، في آخر عهد الرئيس ترامب: القيام بطلعات بعيدة المدى لطائراتها الاستراتيجية القاذفة بعيدة المدى من طراز B 52، منطلقة من قواعدها في ولاية جنوب داكوتا، للتحليق فوق الخليج العربي، متحاشيةً الاقتراب من المجال الجوي الإيراني فوق منطقة الخليج. هذا النهج يبدو أنه خيارٌ بدأت به إدارة الرئيس بايدن الجديدة، ربما يعكس أحد الخيارات المتاحة أو أقصاها مدىً، للتعامل مع القلق الأمني لدول الخليج العربية، تجاه الخطر الاستراتيجي المحتمل من إيران.        

 

بايدن: زيارة جديدة للخليج العربي

 

لم تدخر إدارة الرئيس الديمقراطي الجديد في البيت الأبيض وسعاً من التأكيد على البعد الاستراتيجي لأمن المملكة العربية السعودية، وصلته الوثيقة بأمن الولايات المتحدة ومصالحها الحيوية، في أهم مناطق العالم حساسيةً وتوترا.

 

لكن، بالرغم من هذا التأكيد من الإدارة الديمقراطية الجديدة على أمن وسلامة أراضي المملكة، إلا أن هناك مؤشرات تعكس معايير غير تقليدية، لدرجة إثارة القلق، في نوايا الولايات المتحدة الحقيقية، تجاه التزاماتها التاريخية نحو العلاقة الاستراتيجية الخاصة التي تربط البلدين، وما إذا كانت واشنطن جادة حقيقةً الاحتفاظ بتلك العلاقة وعازمة على استمرارها وتعميقها. أم أننا نواجه نهج في ظاهره مختلف عن ذلك الذي اتبعته إدارة الرئيس ترامب السابقة، لكن بقناع آخر يخفي ذات الوجه.

 

من أبرز ما يقلق دول المنطقة، وخاصةً المملكة العربية السعودية، من إدارة الرئيس جو بايدن تجاه المنطقة، ما أعلنت هذه الإدارة عن عزمها الاتصال بإيران وعدم ممانعتها مبدئياً لإعادة العمل بالاتفاق الذي ألغته إدارة الرئيس ترامب السابقة، بخصوص البرنامج النووي الإيراني. هذا سلوكٌ متوقعٌ، أو على الأقل كان محتملاً، سواء من الإدارة الجديدة، أو حتى الإدارة السابقة، لو استمرت في الحكم. لكن المهم، هنا: هل يستمر هذا التجاهل من قبل واشنطن، لالتزاماتها التاريخية بخصوص العلاقة الاستراتيجية بين البلدين، لتعقد صفقات، لها علاقة بأمن المنطقة واستقرارها، بعيداً عن الاعتبارات الأمنية المشروعة لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، في مقدمتها المملكة العربية السعودية.

 

كما يُقال في الأدب العربي: أول القصيدة كُفْر. لقد بدأت إدارة الرئيس جو بايدن الجديدة، تحت ذريعة وقف الحرب في اليمن، شطب جماعة الحوثي من قائمة المنظمات الراعية للإرهاب، التي سبق لإدارة الرئيس ترامب السابقة أن ضمتهم إليها!  كيف يمكن فهم هذا السلوك من إدارة الرئيس جو بايدن الجديدة في سياق زعمها الالتزام بأمن المملكة العربية السعودية، في وقت تتصاعد فيه العمليات الإرهابية من قبل جماعة الحوثي على أراضي المملكة!

 

 أن هناك طريق وعر وشائك اختارت أن تمشي فيه الإدارة الديمقراطية الجديدة، في التعبير عن علاقتها تجاه المملكة، فيما سُمي بإعادة تقييم هذه العلاقة. طريق بالغ الحساسية والتعقيد، عندما ربطت توجهها الجديد تجاه المملكة، بأحد شعارات حملتها الانتخابية، فيما يخص ما تسميه حقوق الإنسان. الولايات المتحدة، عودت العالم على تذكيره بقضايا حقوق الإنسان، كأحد أهم معايير وأعمدة سياستها الخارجية، إلا أن ذلك لم يحد قيد أنملة عن تقييم أي إدارة أمريكية لملف حقوق الإنسان هذا، عن اعتبارات مصالحها الواقعية. 

 

لكن تختلف كل إدارة في اقترابها من هذا الملف ومنهجها في استخدامه، ولنقل: في استغلاله. في كل الأحول لم تتردد أي إدارة أمريكية، مهما بلغت ليبراليتها، في تجاهل هذه القضية الأخلاقية عند تعاملها مع أعتى النظم الاستبدادية، التي تنتهك صراحةً حقوق الإنسان، إذا رأت أن مصالح الولايات المتحدة تقتضي تجاهل قضايا حقوق الإنسان، حتى أنها قاطعت مراراً لجنة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، بسبب تصديها لقضايا حقوقية إنسانية، لأنها ببساطة لا تتوافق مع مصالحها.  

 

 

خاتمة:

 

قد لا تختلف كثيراً في جوهرها سياسة الرئيس جو بايدن الجديدة، عن سابقتها، ولا عن سابقاتها، فيما يخص معادلة العلاقة الاستراتيجية التاريخية، التي تربط الولايات المتحدة بالمملكة العربية السعودية، فيما يخص العلاقة المصلحية المتبادلة بين القوى الدولية والقوى الإقليمية، التي تطورت في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. المملكة شأنها شأن بقية دول العالم، بما فيها حلفاء الولايات المتحدة الغربيين في أوروبا وغرب الباسفيك، تنشد الأمن وتسعى إلى السلام، في وقت كانت ومازالت الولايات المتحدة تعد القوة الأعظم في النظام الدولي، التي تقع عليها مسؤولية استقرار العالم وأمنه.

 

في المقابل: لدى المملكة ما تساهم به بإيجابية وفاعلية، كدولة محبة للسلام، في استقرار العالم وأمنه. المملكة العربية السعودية كانت ومازالت قوة اعتدال إقليمية، يعكس استقرارها ونموها، استقرار وسلام المنطقة والعالم. المملكة، انطلاقًا من مصالحها الوطنية ومقتضيات أمنها ساهمت، بإيجابية كدولة كبرى منتجة للنفط، في ضمان استقرار سوق الطاقة العالمية، تجلى ذلك بوضوح، في سياستها الإنتاجية.. وحماية سوق النفط العالمية من تذبذبات خطيرة في أسعاره، قد تضر بصورة مباشرة وخطيرة، بنمو اقتصاد العالم، خاصةً اقتصاديات الدول الصناعية الكبرى، في مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية.

 

إلى الآن، بالرغم من حالات الجزر، التي كانت تمر بها العلاقات السعودية الأمريكية، في أخطر منعطفات تطورها، لم يحدث تسجيل أي اختراق خطير يمكن أن يهدد العلاقات التاريخية الاستراتيجية التي تربط البلدين. قد لا نبالغ في القول: أن علاقة المملكة مع الولايات المتحدة، تتصف بنمطية قوية، قد لا تتوفر بين أي دولتين، خارج منظومة التحالف التقليدي الغربي بين الولايات المتحدة وحلفائها التقليديين في الناتو واليابان وكوريا الجنوبية، وربما يفوق العلاقات التاريخية الممتدة بين الولايات المتحدة وجيرانها في أمريكا الوسطى والجنوبية.

 

من أجل كل ذلك، لا يمكننا إلا أن نتفاءل بمستقبل العلاقات الثنائية السعودية الأمريكية. مرجع هذا التفاؤل أسس موضوعية، بعيدة عن أية اعتبارات غير واقعية وغير حقيقية، أو أمنيات "طوباوية". هذه العلاقات، بين البلدين، وطوال ما يقرب من تسعة عقود، تقوم على مصالح مشتركة ومقتضيات أمن متبادلة، وإلى حدٍ كبير إلى استقرار محلي، يمتد بعمر الدولتين... وبامتداد ما تطور من أحداث، في معظمها غير مستقرة في المنطقة، وعلى امتداد جغرافية العالم القديم، من شرق المحيط الأطلسي، إلى غرب المحيط الهادي.

مقالات لنفس الكاتب