; logged out
الرئيسية / المصالح الدولية صنعت الديكتاتوريات لشراء الولاءات وضمان الحصول على الموارد

العدد 162

المصالح الدولية صنعت الديكتاتوريات لشراء الولاءات وضمان الحصول على الموارد

الأحد، 30 أيار 2021

يشكل تداول السلطة في إفريقيا أحد أهم الأزمات الممتدة لعدة عقود وأصبحت هذه الأزمة مؤثرة على الأوضاع الداخلية في كل قطر إفريقي، من حيث مدى قوة أو هشاشة مؤسسة الدولة، فضلا عن التأثير السلبي لهذه الأزمة على الاستقرار الإقليمي، بل وعلى المصالح الدولية. فماهي ملامح أزمة تداول السلطة في إفريقيا، وما طبيعة عوامل تعقدها، وهل من دور دولي في هذه الأزمة، وأخيرًا ماهي طبيعة أدوار الاتحاد الإفريقي لوقف تداعيات الصراع على السلطة في إفريقية، ومحاولة دعم الاستقرار الإفريقي.

أولا: ملامح الأزمة

ممارسة تداول السلطة في إفريقيا تم في غالبية الدول الإفريقية بعد نهاية الحقبة الاستعمارية عبر نمطين غالبين من أنماط تداول السلطة الأول هو الانقلابات العسكرية، والثاني هو التعديل الدستوري، وذلك اعتبارًا من الألفية الثالثة، وذلك بهدف تمديد الولايات الرئاسية .حيث يمكن القول أنه خلال عقود ما بعد الاستقلال الوطني في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين سجلت الأدبيات السياسية  حوالي ١٨٧ من الانقلابات العسكرية في القارة الإفريقية ،وذلك إلى حد  أن  بعض الدول الإفريقية  لم يعرف نمطًا لتداول السلطة ،غير عبر الانقلاب العسكري ولعل تشاد من هذه الدول التي تم  اغتيال رئيسها إدريس ديبي مؤخرًا بعد انتخابه للمرة السادسة مباشرة، وربما تكون موريتانيا من أعلى الدول في معدلات الانقلاب العسكري حيث نجح فيها16 انقلابًا عسكريًا  منذ استقلالها في ستينيات القرن الماضي، حتى تسلمت السلطة في البلاد حكومة ديمقراطية بانتخابات نزيهة هي الأولى في تاريخ البلاد بعد انقلاب عام 1984م، لكن سرعان ما تم الانقلاب على الحكومة المنتخبة بعد صعود رئيس المجلس العسكري الموريتاني إلى السلطة من خلال انقلاب عسكري جديد على رئيس الحكومة المنتخبة "سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله“ ، ولم تنقطع سلسلة هذه الانقلابات في موريتانيا حتي عام 2008م، حيث كان عام1999 م،  هو الأعلى من حيث نجاح المحاولات الانقلابية في كل من النيجر وساحل العاج  وغينيا بيساو .

وإلى جانب الانقلابات العسكرية تشهد إفريقيا حاليًا ثلاث ظواهر سلبية مرتبطة جميعها بمسألة تداول السلطة أولهما توطن الديكتاتوريات الممتدة، والثانية الاتجاه نحو التعديل الدستوري لتمديد الفترات الرئاسية، أما الظاهرة الثالثة فهي وجود دول لم تقدم أصلاً على تحديد الفترات الرئاسية.

فيما يتعلق بالديكتاتوريات الممتدة يٌذكر أنَّ سبعة من الرؤساء العشرة الأطول بقاءً في السلطة على هذا الكوكب هم أفارقة، ومن بين هؤلاء الكاميروني بول بيا، الذي حكم البلاد منذ عام 1982م، وتيودورو أوبيانغ نغويما مباسوغو الذي تربَّع على رأس غينيا الاستوائية منذ عام 1979م،

أما آلية التعديلات الدستورية لتمديد الفترات الرئاسية نرصد أن بعض الدول الإفريقية قامت بحذف تحديد المدد الرئاسية في دساتيرها ولكنها تراجعت عن ذلك تحت الضغوط الداخلية مثل أوغندا التي أعاد برلمانها تحديد عدد الفترات الرئاسية في عام 2017م، ومع ذلك، فإن يويري موسيفيني، الذي كان في السلطة منذ 34 عامًا يمكن أن يُعيد ترشيح نفسه.

أما الظاهرة الثالثة فهي عدم وجود تقييد لفترات حكم رأس السلطة أي الرئيس ومن ذلك أن هناك خمس دول في إفريقيا مازال لديها نظام رئاسي غير مقيَّد المدة مثل إريتريا والصومال والكاميرون وجنوب السودان وجيبوتي.

في هذا السياق يمكن رصد أن هناك اتجاه متزايد لتجاوز حدود التفويضات في إفريقيا اعتبارًا من عام 2015 م، حيث عانت إفريقيا من نكسات في الحفاظ على معايير حدود المدد الدستورية للفترات الرئاسية، ومنذ ذلك الحين أضعف قادة في 12دولة، القيود المفروضة على حدود الولاية التي كانت موجودة سابقًا. وقد ساهم عدد من العوامل في تمرير التعديلات الدستورية التي أفضت إلى التمديد في الفترات الرئاسية، وهذه العوامل تنقسم بين ما هو داخلي وبين ما هو إقليمي أو دولي. ويمكن القول إن الحالة المصرية قد تداخلت فيها العوامل الداخلية، والإقليمية ،حيث تم فيها التعديل الدستوري عام ٢٠١٩م، تحت مظلة قبول سياسي وشعبي  نسبي على المستوى الداخلي ، تأسس على ثلاث معطيات منها  المشروع التنموي للبني التحتية، وأبرزها ازدواج طريق الملاحة بقناة السويس، والثاني طبيعة عدم الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط على الصعيدين الوطني والإقليمي، والثالث وهو المرتبط بممارسات الإخوان المسلمين للسلطة في مصر ما بين عامي ٢٠١٢ و٢٠١٣م، وتداعياتها على وحدة الأمة المصرية بمكونيها المسلم والمسيحي ،من ناحية، وطبيعة ممارستها العنيفة من ناحية أخرى لإضعاف النظام المصري، وكذلك موقف الإخوان المسلمين السلبي من المرأة الذي تأسس عام ٢٠٠٧م، في وثيقة إصلاح تم نشرها وكذلك في دستور ٢٠١٢ م، الذي أعطى سلطة للدولة على الأسرة وعلى الحريات الشخصية  للأفراد .

أما في حالة بورندي فقد أثارت مساعي الرئيس "بيير نكورونزيزا" الرامية إلى تعديل الدستور للظفر بولاية ثالثة اضطرابات سياسية وأمنية عاصفة وصلت درجة التمرد العسكري على النظام في 13مايو 2015م،  والسيطرة على المراكز الحساسة داخل العاصمة لعدة أيام، قبل أن تتمكن القوات الموالية للرئيس من استعادة السيطرة على العاصمة وعودة الرئيس "بيير نكورونزيزا" من الخارج، لقد تشجعت قوى المعارضة البوروندية، وأعادت التأكيد على وجوب احترام الرئيس وحزبه لاتفاق أورشا عام 2000م الذي أنهى الحرب الأهلية، والذي يعتبر بمثابة وثيقة "فوق دستورية" تنص على أنه "لا أحد يمكنه البقاء في الحكم لأكثر من فترتين رئاسيتين"،  فيما جادل حلفاء الرئيس "بيير نكورونزيزا" عن أنه لم يُخلَّ باتفاق “أروشا”، فالمرة الأولى كان انتخابًا من البرلمان وغير محتسبة بينما كان انتخابه من الشعب مباشرة عام 2010 م، بمثابة الفترة الأولى وبالتالي تكون انتخابات 2015 م، بمثابة الفترة الرئاسية  الثانية وليست الثالثة، وهذا التفسير لاتفاق أورشا هو الذي اعتمدت المحكمة الدستورية البوروندية التي اعتبرت أن الرئيس له الحق وفق المادة 298 من الدستور في اللجوء مباشرة إلى الاستفتاء إذا أراد أن يراجع الدستور، حيث كان الرئيس" بيير نكورونزيزا" يريد تعديل المادة 301 من الدستور التي تمنع إعادة ترشيح نفسه للانتخابات الرئاسية في العام 2015، م، وقد تم له ما أراد وأعيد انتخابه يوم 21يوليو 2015 م، بنسبة وصلت 69,4% من الأصوات. وحل أبرز المعارضين، اغاتون رواسا الذي يقود تحالف "مستقلو الأمل"، في المرتبة الثانية بحصوله على 18,99% من الأصوات رغم أنه دعا إلى عدم الاعتراف بنتائج هذه الانتخابات الرئاسية وإلى إعادة تنظيم انتخابات حرة وديمقراطية شفافة فيما قاطعت بقية أحزاب المعارضة ما وصفته بالمهزلة الانتخابية.

وتعود قدرة الرئيس "بيير نكورونزيزا" بالأساس على تمرير التعديل الدستوري إلى جملة من الاعتبارات من بينها: التضامن العميق الذي يحظى به من طرف قادة دول شرق إفريقيا،  بالإضافة إلى ذاكرة الصراع الهوتي-التوتسي في بورندي وروندا في التسعينات الذي خلف مئات آلاف الضحايا في أبشع عمليات إبادة في العقود الأخيرة،  وتجدد المخاوف من انهيار الأوضاع واستئناف الاقتتال العرقي من جديد بعد أحداث العنف الأخيرة التي نزح بسببها 200ألف بورندي إلى دول الجوار، وهي التطورات التي جعلت مجلس الأمن الدولي يصدر قرارًا مؤيدًا بشكل ضمني لمساعي الرئيس "بيير نكورونزيزا" ونظرائه في قادة دول شرق إفريقيا، لقد ساهم الغطاء الإقليمي والدولي والمخاوف من تجدد العنف العرقي في توفير غطاء داعم للتعديل الدستوري في بورندي.

وفيما يخص الكونغو برازافيل فإن الرئيس ساسو انغيسو (71عامًا) قد اجتاز العوائق الدستورية  لتمكينه من الظفر بولاية ثالثة، وهو الذي قاد البلاد لفترتين رئاسيتين الأولى (1979-1992) والثانية من (1997-حتى الآن)،وكان الدستور الكونغولي المعدل عام 2000م قد حدد الولايات الرئاسية باثنتين وعلى أن لا يتجاوز عمر الرئيس 70سنة، ورغم  هذه التحديات فقد تم تعديل الدستور، وهو التوجه الذي أيدته نتائج الاستفتاء الذي تم يوم 25 أكتوبر/تشرين الأول 2015 م، والذي توج بموافقة 92.32% من المقترعين بما سمح للرئيس ساسو برفع العقبات الدستورية أمام ترشحه في انتخابات 2016م الرئاسية.

وقد استطاع الرئيس ساسو انغيسو على تمرير التعديلات الدستورية، بسبب طبيعة ميزان القوة المائل لصالحه بفعل موقع الكونجو الجيواستراتيجي وثرواته النفطية إلى جانب قوة وتجذر نظام الرئيس ساسو وما يتمتع به من علاقات مع شبكات الشركات متعددة الجنسيات، يضاف إلى كل ما سبق ضعف المعارضة الكونغولية وانقسامها وعجزها عن التأثير إلى جانب ذاكرة الشعب المتوجسة من تجربة الحرب الأهلية في التسعينات.

ثانيًا: عوامل الصراع على السلطة:

  • الانقسامات العرقية:

تشكل الانقسامات العرقية أحد أهم أسباب الصراع على السلطة خصوصًا في إفريقيا

حيث نجحت حركة الكشوف الجغرافية الممهدة للاستعمار الأوروبي في خلق كيانات اصطناعية معقدة حيث أن ما يمكن أن نطلق عليه الدولة في إفريقيا تجاوزًا تتداخل فيه جملة من الولاءات الفرعية ولا تتطابق فيه حدود الجغرافيا مع مكونات الولاء، ولا حدود السياسة مع حدود الأمة، فالدولة بهذا المعنى لا تعكس أي تطور تاريخي تفاعلي بين القوميات والأعراق ولعل المشهد الإثيوبي الراهن مؤشر رئيسي في هذا السياق.

وطبقا لذلك نستطيع القول إن الحدود السياسية التي ورثتها معظم الدول الإفريقية عن الحقبة الاستعمارية لم يراع فيها خصوصيتها الاثنية والثقافية واللغوية والدينية، وعليه قد أصبحت الكثير من الدول الإفريقية المستقلة مجرد كيانات مصطنعة تضم بين جنباتها تعددًا وتنوعًا كبيرًا خلقت نوعا من ولاءات فرعية دون وطنية تنتمي إلى مرحلة ما قبل الدولة، وساهمت بشكل فعال في تعويق حالة الاندماج الوطني اللازمة لنشأة كل من الأمة والدولة في آن.

ب توطين الانقسامات العرقية في المؤسسة العسكرية الإفريقية:

لعل ما يضاعف خطورة هذه الانقسامات العرقية هو تأثر الجيوش الوطنية الإفريقية من حيث التكوين بالانحيازات العرقية التي ورثتها عن العهود الاستعمارية، حيث تم بناء القوات المسلحة الإفريقية على مخلفات الجيوش الاستعمارية وورثت بذور التحيز العرقي التي زرعها المستعمرون، ما مهد الطريق للنقص في المهنية العسكرية، في هذا السياق تم هندسة غالبية الجيوش الإفريقية بحيث تشكل الأقليات العرقية الجزء الأكبر من القوات المسلحة الاستعمارية من أجل موازنة العرقيات الأقوى تاريخيًا. على سبيل المثال، كانت أقلية التوتسي في بوروندي ورواندا والأقليات الرعوية من الأجزاء الشمالية من غانا ونيجيريا وتوغو هي السائدة في القوات الاستعمارية الفرنسية والبريطانية قبل الاستقلال. وكان لهذا التحيز العرقي الأولي تأثير كبير على تشكيل جيوش ما بعد الاستقلال.

كما أن موجة الانقلابات التي اكتسحت بعض أنظمة ما بعد الاستقلال الأولى، في كثير من الحالات، قام بها ضباط عسكريون من هذه الأقليات العرقية. ومن بين القادة البارزين لهذا النمط إتيان إياديما في توغو عام ١٩٦٣م، وسانجولي إيميزانا في بوركينا فاسو (التي كانت تعرف آنذاك باسم فولتا العليا) عام ١٩٦٦م، وجين بيدل بوكاسا في جمهورية أفريقيا الوسطى عام ١٩٦٦م، وعيدي أمين دادا في أوغندا عام 1971م، وإدراكًا منها بأن موقعها المميز سيهدده حكم الأغلبية، لم يكن لدى هذه الجيوش التي كانت تقودها الأقليات أي حافز لدعم التغيير الديمقراطي. وفي الوقت نفسه، لم تر القوات الاستعمارية فائدة تذكر في إعداد الضباط الأفارقة من أجل انتقال الحكم وبالتالي، كان هناك عدد قليل من الضباط المؤهلين لتولي القيادة.

وفي هذا السياق مارست بعض الدول التي لم يتم استعمارها أنماطا من الهندسة العرقية والأيدولوجية لجيوشها ولعل خير مثال علي النموذج الأول هوً رئيسا من قواتها المسلحة، فيما مارست السودان كنموذج ثان توطينا أيدولوجيًا في مؤسستها العسكرية مترتب على الانقلاب العسكري الذي قام به تنظيم الجبهة القومية الإسلامية بزعامة د. حسن الترابي عام 1989م.

 وهو الأمر الذي ترتب عليه تحديات مستمرة للاحتراف العسكري في إفريقيا، وضعف القدرات التشغيلية على المستوى المهني العسكري، ولعل ذلك ما يفسر في تقديرنا أحد أسباب فشل منظومة G5 التي تتشارك فيها فرنسا مع جيوش خمس دول إفريقية في منطقة الساحل الإفريقي لمحاربة الإهاب.

ج -مناهج الشركات المتعددة الجنسيات في إفساد النخب السياسية الإفريقية:

لا يمكن فصل المصالح الدولية التي تمثلها الشركات المتعددة الجنسيات عن ظاهرة صناعة الديكتاتوريات خصوصًا في الدول التي تملك مواردًا أولية ضخمة، مثل المعادن، أو مصادر الطاقة، ذلك أن مصالح هذه الشركات تحتم شراء الولاءات السياسية، ومساندة البعض لضمان استمرار المصالح أو حتى دعم الانقسامات والصراعات المسلحة، بل والحروب الأهلية، وذلك كسبيل لضمان الحصول على الموارد بعوائد غير عادلة وربما هذا ماي فسر مفارقة أن القارة الإفريقية غنية، بينما شعوبها هم من الفقراء. ولعل الحالات التي أوردها منصور كابا عن شبكة الفساد في انجولا، وطبيعة علاقاتها العضوية بالشركات متعددة الجنسيات ومكاتب المحاسبات في صناعة ثروة الرئيس الكونغولي وابنته تؤكد حالة التردي، وذلك إلى درجة أن صحفيً فرنسيًا هو مارك فرانسيليه قد تحول إلى رجل أعمال لاحقًا حيث فتح اتصالاته الأنغولية مع إيف بوفييه، تاجر الفن السويسري الذي يجر وراءه كمًّا هائلاً من الإحالات والملاحقات القضائية. وبناء على توصية من مارك فرانسيليه، استثمر إيف بوفييه عشرة ملايين يورو في أنجولا في مشاريع تتعلق بالصحة وصناعة الأغذية، وفي المقابل، ربح إيف بوفييه ما يقرب من 250 مليون يورو من الرئيس دوس سانتوس.

د-تحديات الاندماج الوطني:

ورثت الدول الإفريقية الكثير من التناقضات و التعقيدات الاجتماعية الحادة التي تركت أثارها على كافة الهياكل و الأنشطة في مرحلة ما بعد الاستعمار، ومن أبرز هذه التناقضات قوة الانتماءات الفرعية القبلية وسيادتها على الانتماء الوطني و هو ما يؤدي إلى غياب مفهوم الولاء الوطني، حيث يكون ولاء الفرد لمجموعته الاثنية بوصفها رمزًا لهويته وتشكل القبلية مستويات متدرجة من التعصب المطلق، المؤدي إلي نزاعات اثنية حول القضايا السياسية والاقتصادية والثقافية، ولعل الصراع السوداني راهنا في مناطق دارفور ، وجبال النوبة يقدم نموذجًا فعليًا لهذه الحالة، بينما جاء تقسيم السودان الكبير عام ٢٠١١ م، كانعكاس واضح لحالات صراعات الهوية بعد حرب أهلية طويلة استمرت نصف قرن وكان ضحاياها بالملايين.

 وطبقا لذلك تصف وانغاري ماتاي في كتابها:” إفريقيا والتحدي”، الدولة الإفريقية الحديثة ككيان سطحي متضمن مجموعة مفككة من المجتمعات العرقية أو الدول المجهرية (يُقْصَد بِها القبائل أو الجماعات الاثنية والعرقية) جرى توحيدها في كيان واحد أو دولة كبيرة من قبل القوى الاستعمارية وتضيف أن السلطات الاستعمارية مسؤولة عن بعض هذه المفاهيم الذاتية عن طريق محاباة إحدى الجماعات على أخرى وعندما وضعت الجماعة المفضلة عند رحيلها.

ويمكن الاستناد لحالة روندا للتدليل على مسؤولية المصالح الدولية عن الصراعات الإفريقية، حيث اندلعت  الحرب الأهلية استنادًا إلى أسباب عرقية، فعلى الرغم من بساطة التركيبة الاثنية في رواندا من ثلاثة جماعات فقط: (الهوتو 85%) ، والتوتسي،  وعلى الرغم أيضًا من التجانس الملحوظ بين المواطنين من حيث اللغة و الديانة و نمط التنظيم فإن العنف الاثني الذي وصل إلى درجة التطهير العرقي أو الإبادة الجماعية جاء ليس نتيجةً لظاهرة التعددية في حد ذاتها، و إنما نتيجة لتفاعل مجموعة من العوامل، حيث لعبت فيها سياسات الاستعمار التي اتبعتها القوى الامبريالية دورًا مهما في تعميق تناقضات المجتمعات الإفريقية، و لاسيما التناقضات الاثنية بإتباع سياسات فرق تسد، حيث عمل المؤرخون الانثروبولوجيون الاستعماريون على إضفاء ظلال عنصرية على الاثنية في رواندا من خلال التأكيد على اختلاف الأصول العنصرية للجماعات الرواندية و أن بعضها يتمتع بالتفوق العنصري إزاء الجماعات الأخرى، بما يشعر فيه التوتسي بالتفوق العنصري بينما يشعر الهوتو بالضعف و الدونية، بالإضافة إلى تركيز السلطة في يد جماعة على حساب الأخرى،  و هو ما أدى في النهاية إلى تفجر العنف الاثني و الحرب و عدم الاستقرار في رواندا. 

ثالثًا: تطورات الموقف الدولي من تداول السلطة:

تلعب فرنسا تاريخيًا دورًا حاكمًا في أزمة تداول السلطة في عدد لا بأس به من الدول الإفريقية وخصوصًا في شرق ووسط إفريقيا أي دول نفوذها الاستعماري القديم، وإذا كان لفرنسا أدور إيجابية مشهودة في تسعينيات القرن الماضي فإن أدوارها الحالية محل تساؤل كبير!! ذلك أنه في نهاية الثمانينات كانت إفريقيا مسرحًا لسلسة انتقالات ديمقراطية، بعد التطورات التي أعقبت سقوط جدار برلين عام 1989م،حيث انتقلت 38 دولة إفريقية من نظام الحزب الواحد أو الحكم العسكري إلى اعتماد نظم تعددية، وتميزت التحولات الجديدة بأنها جاءت نتيجة ضغوط خارجية بالأساس من قبل الدول المانحة ولا سيما تلك التي تملك نفوذًا تقليديًا كبيرًا، فبنسبة للمجموعة الفرانكفونية مثلا، خاطب الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران قادتها المجتمعين في مدينة لابول بفرنسا في يونيو /حزيران 1990 م، بضرورة الإسراع في اعتماد الديمقراطية وإجراء انتخابات حرة.

وقد دعمت واشنطن بشكل عام قضايا التحول الديمقراطي خصوصًا مع ولاية كلينتون، كما أنها حذرت من قضية التعديلات الدستورية في إفريقيا، حيث أطلقت تحذيرات، خلال القمة الأمريكية –الإفريقية في أغسطس 2014م، حول قضية التعديلات الدستورية في البلدان الإفريقية، وخاطب الرئيس الأمريكي باراك أوباما الزعماء الأفارقة في الكلمة التي ألقاها في مقر الاتحاد الإفريقي بأديس أبابا، يوم 28-07-2015م، قائلا: "إن تقدم الدول الإفريقية معرض للخطر عندما يرفض القادة الأفارقة التنحي عن الحكم عند نهاية مأمورياتهم الرئاسية." وأضاف "عندما يحاول القائد تغيير اللعبة وسط الطريق فإنه يعرض البلد للخطر“.

ويمكن القول إن الدعم الدولي للتحول الديمقراطي في إفريقيا كان دعمًا لفظيًا الى حد كبير، وربما هذا ما ساعد على تدشين ما يعرف بالنظم الهجينة فلا هي دكتاتورية ولا هي ماضية بوضوح نحو الديمقراطية. فبعد مرحلتي الحزب الواحد والحكم العسكري تشكلت ظاهرة سلطوية جديدة تعتمد على علاقات الولاء المتبادلة في النظام السياسي، مع تلبية احتياجات الرعية في الأمن والمتطلبات الحياتية لو بشكل نسبي.

وقد تطور الموقف الفرنسي سلبيًا خلال الأعوام الأخيرة لنشهد صمتًا فرنسيًا مشهودًا للتعديلات الدستورية في أكثر من دولة في دول الساحل الإفريقي التي تملك فيها نفوذًا مؤثرًا ومن ذلك الصمت الفرنسي على التعديلات في تشاد، عام 2018  م، وهي التعديلات التي أتاحت تمديد للفترات الرئاسية للرئيس ادريس ديبي لست مرات، وهو ما أفضى في النهاية إلى اغتياله مؤخرًا، حيث تولي السلطة مجلسًا عسكريًا برئاسة ابنه محمد ديبي، وهو إجراء لم تقاومه فرنسا على الإطلاق، وذلك في سياق حسابات سياسية مرتبطة بالدور المركزي الذي تلعبه تشاد في منظومة  G5 التي تمارس جهودًا أمنية ضد التنظيمات الإرهابية في منطقة الساحل الإفريقي .

في هذا السياق سمحت باريس بتعديلات دستورية في غينيا وهو ما أسفر عن استمرار الرئيس ألفا كوندي الذي جاء من صفوف المعارضة، وتولَّى السلطة في عام 2010م، بعد فوزه في أول انتخابات تعددية نُظِّمت في غينيا بعد وفاة لانسانا كونتي، في عام 2008م، ثم أعقب ذلك تشكيل حكومة انتقالية عام 2010 م، تم فيها اعتماد دستور جديد وانتخابات جديدة.

في هذا السياق سمحت فرنسا باستمرار ألفا كوندي 82) ) الذي كان معارضًا شرسًا لـ"لانسانا كونتي" الرئيس السابق عليه حيث عارض تحت ولايته التعديل الدستوري لعام 2003م، الذي يسمح لخصمه بالترشح لولاية ثالثة؛ لكن بمجرد تولّي كوندي القيادة، في عام 2010م، عزّز سلطته بسرعة من خلال هيمنة حزبه "تجمّع الشعب الغيني" قبل إعادة انتخابه في عام 2015م.

 وفي عام 2019م أعلنت الحكومة الغينية عن عزمها على اعتماد دستور جديد يهدف إلى التحايل على بندٍ يَحْظُر تعديل الحدّ بفترتين رئاسيتين، وهو ما أسفر عن اندلاع الاحتجاجات الشعبية ولكن ذلك لم يحل دون اعتماد الدستور الجديد الذي لا يتعرَّض للفترات الرئاسية لكوندي التي تم قضاؤها قبل دخول التعديلات الأخيرة حيّز التنفيذ؛ مما يترك للرئيس إمكانية البحث عن تفويضين جديدين، والبقاء على رأس البلاد حتى عام 2032م.

في هذا السياق مررت فرنسا أيضًا التغييرات الشكلية في هرم السلطة ومن ذلك الحالة في النيجر التي نصبت وزير الداخلية محمد بازوم رئيسًا للبلاد مؤخرًا بعد عمله لفترة طويلة مع الرئيس المنتهية ولايته محمدو إيسوفو كوزير للداخلية.

رابعًا: دور الاتحاد الإفريقي من أزمة تداول السلطة:

نشط الاتحاد الإفريقي في دعم تداول سلمي للسلطة يدشن تحولات ديمقراطية اعتبارًا من مطلع الألفية الثالثة، حيث أتخذ موقفًا قويًا من ظاهرة الانقلابات العسكرية وقام بتجريمها وذلك في قمة لومي عام ٢٠٠٢م، وأصدر قرارات من شأنها عدم الاعتراف بأي انقلاب عسكري بإفريقيا وتوقيع عقوبات عليه إقليمية ودولية في حالة عدم قيامه بتهيئة البيئة السياسية لانتخابات دستورية بعد فترة انتقال لابد وأن تكون قصيرة.

وبالفعل نجحت قرارات الاتحاد الإفريقي في الحد من ظاهرة الانقلابات العسكرية، وبرز بديلاً عنها أنماط لتغيير السلطة على نحو ديمقراطي صحيح، ولعل بعض دول غرب إفريقيا قدمت نموذجًا لهذه الممارسة الإيجابية مثل غانا على سبيل المثال وتبرز في الجنوب الإفريقي دولة جنوب إفريقيا، وكذلك موريشوس.

ويمكن القول أن الاتحاد الإفريقي مارس أدوارًا نشطة في بعض نماذج انتقال السلطة المؤسسة على الانقلابات العسكرية في عدد من الدول منها موريتانيا ومالي، وكان آخر دور ملموس له في زيمبابوي عام ٢٠١٨م، ولكن هذا الدور قد تراجع كثيرًا ولعل افتقاده في أزمة تشاد لهو دليل عن نوع من التراجع لإرادة الاتحاد الإفريقي في دعم الديمقراطيات الإفريقية خصوصًا مع حجم المقاومة لجهوده في مسألة التعديلات الدستورية المفضية إلى تمديد الفترات الرئاسية خصوصًا في تنظيمات الاتحاد الفرعية حيث أن الرغبة التي أبدتها المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (ECOWAS) في وَضْع حَدّ للتمديدات الرئاسية قد قُوبِلَتْ في عام 2015م، بمعارضة غامبيا إبَّان الرئيس يحيى جامي، وتوغو، التي لا تحتوي دساتيرها على حدودٍ زمنيةٍ معيَّنةٍ للفترات الرئاسية وقتذاك.

إجمالا بالتطبيق على أحدث حالات الصراع على السلطة في إفريقيا وهما الصومال وتشاد فإن غياب التداول السلمي للسلطة لابد أن يكون مؤثرًا ليس فقط على الاستقرار السياسي ولكن أيضًا على الأمن الإقليمي في منطقتي القرن الإفريقي في شرق القارة الإفريقية  ، ومنطقة الساحل في غرب إفريقيا، ولعل أهم نتائجه المباشرة هي تقوية تنظيم الشباب في الصومال بما قد يشكله ذلك من مخاطر على البحر الأحمر، بينما معركة  G5مع الإرهاب خصوصًا مع تنظيم بوكو حرام سوف تتأثر سلبيًا، إذ أن الاعتماد على الشخص وليس المنظومة لابد وأن يكون له كل النتائج السلبية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مقالات لنفس الكاتب