; logged out
الرئيسية / التقارب الخليجي ـ الإيراني في عهد رئيسي غير مرجح وأقرب للبقاء على الوضع الحالي

العدد 163

التقارب الخليجي ـ الإيراني في عهد رئيسي غير مرجح وأقرب للبقاء على الوضع الحالي

الثلاثاء، 29 حزيران/يونيو 2021

العلاقات الخليجية ـ الإيرانية أحد أهم الملفات المحورية التي تلعب دورًا مركزيًا في مسار التصعيد أو الاستقرار في الخليج والشرق الأوسط؛ وتاريخيًا لم تتخذ العلاقات بين الجانبين مسارًا واحدًا بل تفاوتت بين التعاون والصراع ، غير أنه منذ الثورة الإسلامية 1979م، فقد حملت العلاقة بين الجانبين تعقيدات أكثر إلحاحًا، ويأتي الحديث عن مستقبل العلاقات الخليجية ــ الإيرانية في مرحلة انتقالية حساسة تشهد العديد من التغيرات فيما يتعلق بالأوضاع الداخلية الإيرانية وتباينات موازين القوى الإقليمية ودخول فاعلين جدد، علاوة على وصول إدارة جديدة في أمريكا ورئيس جديد في إيران، وفي ظل مفاوضات نووية عالقة في فيينا، وأزمات في اليمن وممتدة للأمن الاقليمي.

أولاً-محددات العلاقات الخليجية-الإيرانية

هناك معطيات حاكمة للعلاقات الخليجية ـ الإيرانية ما بين اعتبارات جيوسياسية وديمغرافية، وأيضًا اجتماعية واقتصادية، وثقافية:

1-الموقع الجغرافي يربط دول الخليج بإيران علاقة تجاور جغرافي مباشر عبر سواحل مترامية على طول الضفة الشرقية للخليج العربي؛ ويعد هذا التقارب سلاح ذو حدين حيث يمكن استثماره لتحقيق تقارب وتكامل، وأيضًا أسهم في أوقات كثيرة في إثارة عدد من المشكلات بين الجانبين.

2-الامتدادات السكانية والاجتماعية: ساعد التقارب الجغرافي على خلق نمط من التواصل والانتقال بما أفرز امتدادات ديمغرافية وروابط اجتماعية بين الجانبين؛ تتميز بأنها متداخلة ومتشابكة ولا يمكن بسهولة تجاهلها أو فصلها.

3-الروابط الاقتصادية والأمنية: أسهم التداخل الاجتماعي في خلق شراكات تجارية وتعاملات متبادلة لم تعيقها الخلافات السياسية؛ مثل العلاقات التجارية الإيرانية مع الإمارات؛ وكانت إيران منذ 2011م، ثالث أكبر سوق تصديرية للإمارات مستحوذةً على ما يقارب 11% من إجمالي صادراتها، وتطورت العلاقات الاقتصادية لاحقًا. كما تتمحور عدة مصالح مشتركة بين دول مجلس التعاون وإيران حول قضايا الطاقة؛ وخاصة فيما يتعلق بإنتاج وتسعير النفط والغاز.

ثانياً-طبيعة ومسار تطور العلاقات الخليجية ـ الإيرانية

تتسم العلاقات الخليجية ــ الإيرانية بعدم الثبات والتأرجح ما بين مسارات مختلفة، ولم تكن بشكل دائم علاقات متوترة؛ لكنها في مراحل معينة كانت علاقات مقبولة وجيدة؛ فقد مرت العلاقات بدرجات متفاوتة ما بين الصراع والانفراج.

ومنذ قيام الثورة الإسلامية 1979م، انطلقت دول الخليج في تعاطيها مع إيران وفق مبدأ حسن الجوار وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، كما حكم السلوك الخليجي دائمًا الحرص على معالجة الخلافات والقضايا العالقة وفق معطيات القوانين والمعاهدات الدولية، والعلاقات الخليجية الإيرانية مرت بعدة مراحل متنوعة:

1-عِقد من الصراع (1979-1988م): غيرت ثورة 1979م، في إيران الجغرافيا السياسية بشكل كبير؛ ودخلت العلاقات في مرحلة "توترات خطيرة"؛ حيث تورطت إيران في مؤامرة محاولة انقلاب فاشلة في البحرين، واضطرابات في الكويت، وهجمات على منشآت أمريكية في دول الخليج. وفي عام 1980م، شعر الرئيس العراقي صدام حسين بخطورة الفوضى الثورية فكانت الحرب العراقية الإيرانية.

2-مرحلة بناء الجسور (1989-1997م): بعد وقت قصير من توليه الرئاسة في عام 1989م، أعلن أكبر هاشمي رفسنجاني، "إن إيران بحاجة إلى التوقف عن صنع الأعداء". وأشار إلى تحول جوهري في السياسة الخارجية من دولة ثورية عدوانية إلى تعايش براغماتي جديد. لم ير رفسنجاني دول مجلس التعاون أنها بيادق يجب إسقاطها، ولكن فرص استثمارية عليه جذبها؛ وهو ما انعكس على رغبة الأمير سعود الفيصل، وزير الخارجية السعودي بضرورة الانتقال إلى مرحلة العلاقات الإيجابية.

3-مرحلة التقارب (1997-2005): جاء الرئيس خاتمي عام 1997م، ليمهد للتواصل عبر إطلاق "حوار الحضارات"؛ ما انعكس على أجواء إيجابية مع استضافة طهران لقمة منظمة المؤتمر الإسلامي في ديسمبر 1997م، وزيارة ولي عهد المملكة آنذاك الأمير عبد الله بن عبد العزيز ما مهد لتسارع الانفراج السعودي الإيراني.

وأدت أحداث 11 سبتمبر 2001م، إلى تغيير ديناميكيات النفوذ الإيراني؛ حيث أن حرب أمريكا في أفغانستان عام 2001م، وفي العراق في عام 2003م؛ مهدت للإطاحة بصدام حسين وشعرت طهران وجود فرصة لتشكيل عراق ما بعد صدام والتأثير فيه، وهو ما أدى لنمو أدوار الحرس الثوري والمخابرات الإيرانية وبدأت ملامح عدم ارتياح خليجي، وأعرب وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل في 2005م: "لقد خضنا حربًا معًا لمنع إيران من احتلال العراق بعد طرد العراق من الكويت. الآن نسلم البلد كله لإيران بدون سبب ".

4-سياسة حافة الهاوية (2005-2013): أدى انتخاب الشعبوي محمود أحمدي نجاد عام 2005م، إلى تغيير مسارات السياسة الخارجية الإيرانية مرة أخرى تجاه الخليج؛ حيث استئناف تخصيب اليورانيوم. وأصبح برنامج إيران النووي النقطة المحورية لسياستها الخارجية، وقد كانت الدول العربية في حالة صراع إقليمي مستتر على النفوذ الإقليمي.

5-التفكك ومحاولات الدمج (منذ 2013):

كان فوز حسن روحاني في يونيو 2013م، بمثابة تفويض لتحسين الاقتصاد الإيراني، وفتح النزاع النووي مع الغرب، وإزالة العقوبات، وإعادة دمج إيران في المجتمع الدولي والاقتصاد العالمي. ما ساعد في يوليو 2015م، للتوصل للاتفاق النووي. جاءت جهود روحاني وسط لحظة فريدة من التفكك الإقليمي والاضطراب الجيوسياسي، مما شكل تحديات كبيرة لإيران. غير أنه جاءت الحرب في سوريا 2011م، لتؤكد مرحلة التفكك والقطيعة بعدما تحول المشهد إلى حالة خطيرة من التدهور والعنف والاستقطاب. وبدأ مرحلة مواجهة جديدة في اليمن بين التحالف العربي ضد جماعة "الحوثيين" المدعومة من إيران .

ثالثاً-قضايا العلاقات الإيرانية ــ الخليجية

        جملة من القضايا في العلاقات الخليجية ــ الإيرانية، والتي لا يمكن بدونها الحديث عن أي مستقبل للعلاقات، حيث تفسر طبيعة العلاقات وأساسها والمنطلقات الفكرية وطبيعة تلك القضايا وجوهر الخلافات:

1-أسطورة العظمة

تدرك طهران أن أي تعاون مع دول الخليج من شأنه أن يجعلها فقط شريكًا، وهي تتطلع للهيمنة بحيث لا تخضع مصالحها لتأثير القوى الكبرى، ورؤية النخبة السياسية الإيرانية تنطلق من منظور "الكبرياء الوطني" و"الإدراك المبالغ فيه" لأهمية الذات، وعدم الرغبة في ترتيبات تضم قوى أخرى. هذه التصورات للنظام الديني بشأن الأمن في الخليج قادت إيران إلى إنهاء تعاونها مع واشنطن في مرحلة سابقة؛ في الوقت نفسه، لم تشرك دول الجوار الأخرى في تشكيل نظام أمني للخليج.

2-محورية الأيديولوجيا على الحسابات السياسية

تحكمت هذه النظرة الأيديولوجية الإيرانية تجاه العلاقات وترتيبات الأمن مع دول الخليج؛ لأنه على الرغم من أن السياسة الخارجية الإيرانية أصبحت أكثر براغماتية وأقل عقيدة بعد نهاية الحرب الإيرانية العراقية، لكن ما زال تأثير الأيديولوجيا على القيادة الإيرانية قويًا. فقد فشل القادة الإيرانيون في رؤية أن للغرب مصالح مشروعة وحيوية في الخليج العربي. هذه المصالح وقوتها العسكرية تعني أنه لا يمكن استبعادها من أي نظام أمني للخليج. كما أعمت القيادة الإيرانية عن حقيقة أن تصورات دول الخليج للأمن متباينة للغاية وأن قوتها العسكرية بشكل فردي وجماعي ستجعلها رغم ذلك في حاجة لترتيبات جماعية وتعاون مع إيران نفسها لتحمل مسؤولية أمن الإقليم. لكن إغفال إيران لتلك النقطة قد فوّت فرص تكامل كبيرة بين الأطراف المختلفة.

3-البعد الطائفي العرقي وصراعات المكانة

    تعتمد إيران على توجيه وإدارة العلاقات مع دول الخليج بمنطق الصراع الطائفي؛ من خلاله جعل العلاقات ضمن معادلة تتعلق بالصراع السني / الشيعي، وهو ما يجعل الأزمات متجذرة خصوصًا مع الإصرار الإيراني على دعم التشيع وتأليب الشيعة في بعض الدول الخليجية ضد النظام، لا يتوقف هذا الأمر في الصراع على المكانة الدينية عند هذا الحد، بل أنه يطال تلك المكانة داخل الصف الشيعي والصراع حول مرجعية قُم والنجف بين طهران وبغداد.

4-النفوذ الإقليمي الإيراني والتدخل في الشؤون الداخلية

أحد أهم قضايا العلاقات الخليجية ـ الإيرانية هي مبدأ حسن الجوار والتدخل؛ حيث أن هذا العنصر قادر على فك تعقيدات كثير من الملفات والتي تتصل وتتعارض مع أدبيات الثورة الإسلامية ومبدأ تصدير الثورة الذي يعد أحد أهم ركائز السياسة الخارجية الإيرانية. فقد دعمت إيران العديد من الجماعات على أسس طائفية وهو ما اتضح في اكتشاف جماعات تابعة لإيران على أسس طائفية في دول الخليج، وليس ذلك فقط، بل تتبنى إيران نشاط استخباراتي يعتمد على خلايا إيرانية في الدول الخليجية تجمع المعلومات عن المنشآت المختلفة، وتسبب ذلك على سبيل المثال في أزمة بين الكويت وإيران؛ حيث اكتشفت أجهزة الأمن الكويتية في مايو 2010م، شبكة تجسس تابعة للحرس الثوري الإيراني. علاوة على دور إيراني في إغراق دول الخليج بالمخدرات.

5-أزمة الجزر الإماراتية

تاريخ طويل من الخلافات الحدودية بين إيران ودول الخليج؛ فقد كانت قضية السيادة البحرينية منذ عقود، وأثيرت دعوات إيرانية علنية لإعادة توحيد البحرين مع إيران في عام 2007م، من قبل حسين شريعتمداري (مستشار المرشد الأعلى علي خامنئي)، وفي عام 2009م، من قبل وزير الداخلية السابق ومستشار المرشد الأعلى. كما أن الكويت لم تحدد بعد حدودها البحرية مع إيران مما أدى إلى نزاع حول حقل الغاز البحري المشترك أراش / الدرة. ويعتبر احتلال إيران للجزر الإماراتية الثلاث، طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى، محور عالق في الترتيبات الخليجية الإيرانية.

6-البرنامج النووي الإيراني

        تشكل الأنشطة النووية الإيرانية وسعيها لامتلاك قنبلة نووية خطرًا كبيرًا لدول المنطقة خاصة في ظل العقلية الإيرانية وممارسات النظام غير المنضبطة؛ وقد كان خروج واشنطن من الاتفاق النووي 2018م، عاملًا مهمًا في تصعيد إيران والتخلي عن التزاماتها النووية ما انعكس على زيادة نسبة التخصيب لمستويات 60%، والحديث حول الرغبة في وصول النسبة 90% بما يؤهلها لإنتاج قنبلة نووية بعد أسابيع، وبخاصة مع استخدام أجهزة طرد مركزي متقدمة من الجيل الخامس والسادس، ووجود آثار أنشطة نووية في ثلاث منشآت نووية وفق تقرير الوكالة الدولية الفترة الأخيرة، خاصة أنه لا يوجد رقابة مباشرة من الوكالة وتعنت إيران واشتراطها التوصل لاتفاق في فيينا حتى تخضع أنشطتها للمتابعة.

رابعاً-محددات مستقبل العلاقات الخليجية الإيرانية

        تسيطر حالة من التوتر على العلاقات الخليجية ــ الإيرانية وبخاصة في مرحلة ما بعد 2011م؛ حيث استغلت إيران نجاحاتها في بسط نفوذها في الداخل العراقي بعد 2003م، لتبدأ مرحلة جديدة من الهيمنة بعد فترة الاضطراب في محيط الدول العربية وبخاصة في الداخل السوري بعد 2011م؛ وأيضًا وفقًا للتصعيد في الملف اليمني ودعم الحوثيين، والحديث عن مستقبل تلك العلاقات يرتبط بعدة ملاحظات أساسية:

1-الإرادة السياسية

مستقبل العلاقات الخليجية ـ الإيرانية مرتبط بإرادة سياسية حقيقية؛ ودول الخليج سعت كثيرًا للتهدئة مع إيران؛ لكن الأزمة الحقيقية في الإرادة السياسية للنظام الإيراني الذي يسعى لإعادة التموضع، والحصول على اعتراف أمريكي بكون إيران قوة رئيسية في المنطقة، دون تقديم تنازلات. ففي كثير من الأحيان، هناك دعوات إيرانية للحوار مع دول الخليج والتهدئة، لكن سرعان ما تتراجع وتؤكد أنها لا تعدو كونها مجرد دعوات تكتيكية للإيحاء بأن إيران ليس لديها تحفظات على هذا التقارب، وهي تراوغ لتسريب الضغوط الواقعة عليها وتهدئة الغرب.

2-متطلبات بناء الثقة

أحد أهم العناصر المهمة في العلاقات الخليجية ـ الإيرانية هي أزمة غياب الثقة لخبرات تاريخية بنت جدارًا من عدم اليقين والشك. وأزمة بناء الثقة المرتبطة بجملة من الحسابات حول القواعد المنظمة للعلاقة بين الجانبين وحدود التدخل التي يجب فرضها وبخاصة على الجانب الإيراني.

وعملية بناء الثقة قد تنطوي على جملة محددات دقيقة تزيل المخاوف ولا بد أن تضمن عدة اعتبارات؛ ومنها الأسس التي يقوم عليها الحوار، ووضع القرارات الدولية كمرجعية محتملة لتلك المسارات، وفرص الحوار المؤسسية بين إيران ومجلس التعاون كمنظمة بعيدًا عن الخيارات المنفردة والتعامل مع كل دولة على حدة، كما أن عملية بناء الثقة لا بد أن تتضمن فض التشابكات وإعادة تفكيك القضايا العالقة بين الطرفين وبخاصة الأمن الإقليمي في الخليج ومضيق هرمز، والملف النووي، وملف الميليشيات.

3-الوجود الأمريكي في الإقليم

ترتبط العلاقات الخليجية ـ الإيرانية بطبيعة العلاقات الأمريكية ـ الإيرانية، حيث أدى التراجع الأمريكي من العراق إلى هيمنة إيرانية، وأيضًا أية حديث عن تراجع أمريكي في المنطقة من شأنه أن يوجد فراغًا دائمًا ما تعمل طهران على ملأه.

وتوجه الإدارة الأمريكية المُعلن من وقت لآخر نحو إقليم آسيا والمحيط الهادي باعتباره ذات أهمية استراتيجية أعلى لها يعني بداية فك ارتباطها بإقليم الشرق الأوسط والصراعات التي لا تنتهي بداخله، وهو ما انعكس في تراجع الاهتمام الأمريكي بالأزمة السورية واليمنية والذي أفضى لهيمنة إيرانية، على عكس تدخل واشنطن المباشر في العراق عام 2003م.

غير أن هذه التخوفات قد تبدو مبالغ فيها حيث أن العديد من الرؤى تؤكد أن أمن الخليج ما زال يشكل أولوية بالنسبة للولايات المتحدة، ولازال الشرق الأوسط أحد المناطق الحيوية التي لا يمكن التخلي عنها، لما قد تؤدي الصراعات بداخله إلى تهديدات عابرة للحدود لمصالح أمريكا.

4-محورية الدور الروسي والصيني

على الرغم من التهديدات الأمريكية لإيران وحلفائها خلال إدارة ترامب، كان البنتاغون غير راغب في متابعة المواجهة العسكرية، مما قلل من مصداقية أمريكا كحليف موثوق به. وبدأت دول الخليج في التحوط من رهاناتها والسعي إلى وسطاء وشركاء آخرين لدعم مصالحهم، وخاصة روسيا والصين.

ومنذ عام 2013م، عندما أطلق الرئيس الصيني شي جين بينغ مبادرة الحزام والطريق مع التركيز على منطقة الخليج الذي يعد مركز الطاقة ويغذي الصين. ويعد هذا الإطار الجديد للتعاون وفق شراكات استراتيجية شاملة مع دول الخليج وإيران، فرصة كبيرة للتقارب عبر المحور الاقتصادي حيث تبلغ قيمة التعاون حدود مئات المليارات من الدولارات، ما يجعل الصين دائمًا تجلب الموارد المالية إلى طاولة المفاوضات، وتوجد أيضًا مساحة كبيرة لروسيا التي استطاعت تأكيد وجودها في الشرق الأوسط عبر الدبلوماسية والعسكرية وفرضت نفسها كرقم مهم في معادلة التوازن خاصة في سوريا، وفي ظل تفاهماتها مع إيران، ما جعل روسيا تدخل إلى منطقة لم تكن تمثل أولوية لها منذ عقود.

ولا بد من الاستفادة من الظرف التاريخي ومحاولة التقارب مع تلك القوتين وبخاصة مع توقيع الصين في مارس 2021م، شراكة استراتيجية شاملة مدتها خمسة وعشرون عامًا مع إيران، وبصرف النظر عن مدى الاستفادة من تلك الاتفاقية وتفاصيلها، إلا أن دول الخليج في حاجة للانفتاح على الجانب الصيني والروسي حتى تقف أمام وضع إيران على الخريطة الإقليمية، ومحاولة توجيه العلاقات نحو إعادة الترتيبات الأمنية الإقليمية بما يحقق الاستقرار وليس الهيمنة الإيرانية.

5-مفاوضات فيينا و"الحزمة الواحدة"

تشكل مفاوضات فيينا نقطة مهمة في العلاقات الخليجية ـ الإيرانية؛ في ظل رغبة واشنطن وإدارة الرئيس بايدن للتوصل لاتفاق في ظل تبنيه للتهدئة مع إيران. غير أن التعاطي الأمريكي واقتصار المفاوضات على الملف النووي فقط سيكون خطأً كبيرًا في ضبط السياسة الإيرانية، وهو ما يتطلب التعامل مع إيران كجملة من الملفات وتبني استراتيجية الحزمة الواحدة في المفاوضات بما يضمن تحقيق استقرار حقيقي وليس شكلي؛ لأن اتفاق 2015م، فسرته إيران على أنه ضوء أخضر للمضي في سياساتها التدخلية وبسط نفوذها من خلال الميليشيات وهو ما أحدث شرخًا وأزمات عديدة، هذا الأمر يتطلب حسم ملف الصواريخ البالستية، والأنشطة الانشطارية، وسلوك إيران الإقليمي ودعمها للميليشيات.

6-مستجدات الأزمة الخليجية وبيان قمة العلا

شكلت الأزمة الخليجية والعلاقة مع قطر نقطة مهمة في العلاقات الخليجية ـ الإيرانية في ظل تقارب قطري إيراني أفرزته معطيات المرحلة وأسهم في زيادة الفجوة وأحدث هزة. لكن تلك الفجوة تم تداركها في قمة العلا، والتي أكد بيانها على دعم توحيد الموقف الخليجي في مواجهة إيران ليعيد ضبط بوصلة العلاقات الخليجيّة، وليؤكِّد على ضرورة تماسُك دول الخليج في مواجهة التحدِّيات والتهديدات.

7-فرص البناء على القيم المشتركة

رغم الخلافات الخليجية ـ الإيرانية، إلا أنه دائمًا هناك هامش من المصالح الاستراتيجية المشتركة كانت حاكمة للعلاقات بما يجعل هناك فرصة دائمًا للبعد عن التحليل "الصفري" في فهم طبيعة العلاقة، ومن ثم يمكن البناء عليها؛ للحفاظ على استقرار العبور في مضيق هرمز، والبناء على مساحة الاقتصاد حيث تظل السوق الإيرانية والاستثمارات الإيرانية مهمة لاقتصادات الخليج بدرجات متفاوتة، علاوة على العنصر البشري والعامل الشعبي الذي يشكل عامل مؤثر في تعقيد هذه العلاقة.

خامساً-تأثير فوز إبراهيم رئيسي على العلاقات الخليجية ـ الإيرانية

        شكلت الانتخابات الرئاسية الحدث الأهم في الداخل والخارج الإيراني، كونها تعيد تشكيل النظام من الداخل، وصياغة الدبلوماسية الإيرانية في الخارج، وبعد انتخاب رئيسي، برزت العديد من الملاحظات سواء في مستقبل النظام الإيراني وسياسته الخارجية وعلاقته بدول الخليج:

1-محددات سياسة رئيسي المتوقعة:

  • تاريخ إبراهيم رئيسي يبدو أنه مطلق الولاء للمرشد الأعلى علي خامنئي وللحرس الثوري، ما جعله رئيسًا لمحكمة الثورة في الثمانينات، ثم رئيسًا للسلطة القضائية، وكان أداة مهمة في يد النظام، ما يعني أنه لن يكون قادرًا على صياغة سياسة خارجية مستقلة بعيدًا عن المرشد.
  • رئاسة رئيسي تسهم في تشكيل حالة وحدة الخطاب الإيديولوجي الإيراني الموجه للداخل والخارج، وهو ما يطمح إليه خامنئي الذي عانى من تضاد ومعارضة في مفردات هذا الخطاب في ظل وجود حسن روحاني ووزير خارجيته محمد جواد ظريف، وهو لا يريد تكراره حتى لا يهدد مستقبل جمهوريته.
  • مع انتخاب رئيسي (60 عامًا) يعود المحافظون الإيرانيون إلى السلطة بعد ثماني سنوات من حكم الإصلاحيين بقيادة روحاني، ما يعطي مساحات كبيرة لتقارب بين ثلاثية المرشد، الحرس، الرئيس.
  • من المتوقع أن يكون رئيسي قوة سياسية ونافذة في النظام الإيراني، ليس فقط لأنه يحظى بثقة قائد الثورة الإيرانية، ولكن لقدراته وخبراته على رأس المؤسسة الخيرية "أستان قدس رضوي" المكلفة بشؤون ضريح الإمام رضا (ثامن خليفة حسب المذهب الشيعي) في مشهد منحه ذلك قوة سياسية ونفوذ كبير في أروقة الدولة، فيما حظي بدعم غالبية السياسيين والعسكريين الذين يسيرون البلاد. وقد عمق ذلك تعيينه رئيسًا للسلطة القضائية الإيرانية في مارس 2019م، في منصب حساس وتكليفه بـ"مكافحة الفساد" وقام بمحاكمة مسؤولين إيرانيين كبار وقضاة، واستغل المحاكمات القضائية لإبعاد بعض المرشحين الذين كانوا من الممكن أن ينافسونه بقوة مثل صادق لاريجاني، أخو علي لاريجاني المستبعد هو أيضًا.
  • رئيسي سيعمل على دعم الامبراطورية الاقتصادية للحرس والدفاع عن الاقتصاد المؤسساتي؛ حيث يعتبر من المدافعين عن الاقتصاد المسير فليس من المتوقع أن يفتح اقتصاد إيران للشركات الأجنبية، علاوة على وجود مصالح اقتصادية كبيرة مع الحرس الثوري.
  • دعم الخط المحافظ المناهض للانفتاح الديمقراطي؛ ما سينعكس على مزيد من غلق المجال العام؛ وسيشكل مع الحرس الثوري ثنائية منسجمة ومتسقة فيمجال حقوق الإنسان الذي لا يحظى فيه إبراهيم رئيسي بسمعة طيبة خاصة أن اسمه يذكّر بـ"الساعات المظلمة" التي مرت بها إيران عندما كان مسؤولاً عن السلطة القضائية.

2-إبراهيم رئيسي والعلاقات الخليجية الإيرانية

    مما سبق نؤكد على أنه لن يشكل وصول رئيسي لمنصب الرئيس تغير كبير في سياسة إيران تجاه الخليج، إلا إذا توافرت أصلًا إرادة سياسية لدى المرشد الأعلى والحرس الثوري ووفق معطيات جديدة، خاصة أن رئيسي ليس لديه شخصية انفتاحيه على الجوار والرغبة في التهدئة، علاوة على أنه حتى وإن امتلك الرغبة والإرادة، فإنه لا يمتلك القدرة منفردًا ؛ حيث يتحكم المرشد الأعلى في معظم القرارات ولديه صلاحيات واسعة.

وبالرغم من وجود مقدمات إيجابية، بإعلان رئيسي، وفي أول خطاب رسمي له في 21 يونيو 2021م، بعد فوزه، أنه لا يمانع في إعادة العلاقات الدبلوماسية مع السعودية وإعادة فتح سفارتي البلدين، مشددًا على ضرورة وقف الحرب الدائرة في اليمن، إلا أنه لا يجب الإفراط في التفاؤل فيما يتعلق بهذا الأمر، كما أنه تحدث أيضًا عن الدفاع عن حقوق الإنسان، ومكافحة الفساد وبناء نظام إداري حقيقي، وأعتقد أن تلك التصريحات تتنافى مع تاريخه في الانتهاكات والإعدامات، أو حتى مكافحة للفساد. في ظل هيمنة الحرس الثوري على الاقتصاد ووجود شبكة مصالح بين أجنحة النظام والمرشد نفسه، وبالتالي يمكن وضع حديث الرجل في سياق كسب التعاطف وتعويض شرعية منقوصة جراء ما حل بالانتخابات من جدل، علاوة على أنه لا يمتلك أدوات الفعل والتأثير والتغيير، إذا كانت أصلًا تلك الإرادة موجودة.

وفي خبرات تاريخية متعددة، كان هناك حديث حول عودة العلاقات الخليجية الإيرانية ورغبة إيران في التهدئة والانفتاح مع دول الجوار، غير أن هذا الخطاب لم يصل إلى مرحلة الفعل، وهذ التصريح يستدعي تغير في السياسة الخارجية الإيرانية، ويستدعي حل مسائل عالقة مثل ارتباط إيران بالحوثيين ودعم الميليشيات، ويتطلب تغيير في مدركات إيران السلبية في منطقة الخليج، وهو أمر ليس بالسهل، خاصة في ظل هيمنة المتشددين على مفاصل الدولة.

    وبالرغم من تهنئة أربع دول خليجية الرئيس الإيراني الجديد بفوزه، امتنعت السعودية والبحرين عن التعليق على فوز رئيسي ضمن سياسة "التريث"، خاصة أن هناك مساحة زمنية مطلوبة من جس النبض وتكشُّف النوايا وحتى يمكن الحكم على صدق الرغبة الإيرانية، خاصة أن تلك العلاقات تفتقد للثقة، وتحتاج إلى ما هو أكبر من مجرد تصريحات.

ومستقبل العلاقات الخليجية / الإيرانية ملقاه بالأساس على الجانب الإيراني الذي يحمل رؤى صدامية مع استعداد خليجي للتقارب؛ حيث تُبدي دول خليجية مثل قطر وسلطنة عُمان، استعدادًا لعقد وساطات تُنهي الخلافات بين الجانبين، علاوة على ترحيب السعودية بالحوار على أكثر من مستوى سياسي ودبلوماسي وجلوسها بالفعل لمناقشة عدة ملفات في أواخر عهد روحاني، وبالتالي فإن التحدي الحقيقي سيكون على عاتق رئيسي ومدى قدرته على رعاية واستمرار مثل تلك اللقاءات.

سادساً-سيناريوهات مستقبل العلاقات الخليجية ـ الإيرانية

الحديث عن أية سيناريوهات لمستقبل العلاقات الخليجية ـ الإيرانية لا ينفصل عن أمرين؛ الأول هو وجود تطورات إقليمية ودولية متسارعة، وثانيًا تشابك ملفات وقضايا التعاون والنزاع. وهذا ما يؤكد صعوبة التنبؤ بمسار محدد؛ لكن دائمًا يظل هناك سيناريوهات مختلفة:

1-مسار التهدئة والتقارب

ويدعم هذه الفرضية وجود مؤشرات تؤكد وجود قنوات مفتوحة ومساحات للحل؛ ومنها كلمة الملك سلمان بن عبد العزيز خلال الدورة الخامسة والسبعين لانعقاد الجمعية العامة للأُمم المتحدة في سبتمبر2020 م، التي أشار فيها إلى رغبة المملكة وسعيها لبناء علاقات حسن جوار مع إيران. علاوة على حديث متكرر عن مفاوضات غير معلنة بين إيران والسعودية برعاية عراقية، وهو ما أكده الرئيس العراقي، برهم صالح، الذي أكد أن بغداد استضافت أكثر من جولة حوار واحدة بين السعودية وإيران، وأيضًا سعيد خطيب زاده المتحدث باسم الخارجية الإيرانية، قال إن "المباحثات الإيرانية السعودية متواصلة وتشمل قضايا ثنائية وإقليمية ودولية".

ويأتي ذلك الخط من التواصل نتاج تعقد وتأزم الوضع في اليمن بما لا يخدم مصلحة أي طرف؛ وهو ما انعكس في حديث وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف خلال زيارته إلى العاصمة السورية دمشق، قال فيها إنه "يأمل أن تؤتي المحادثات الأخيرة بين الجانبين ثمارها"، وأن "تؤدي إلى مزيد من التعاون لتحقيق الاستقرار والسلام في المنطقة، خصوصًا في اليمن"، مؤكدًا على جاهزية بلاده دائمًا "لعلاقات وثيقة مع السعودية". وهذه الرغبة انعكست أيضًا في حديث ولي العهد سمو الأمير محمد بن سلمان في لقاء متلفز، أنه "لا يريد أن يكون وضع إيران صعبًا، على العكس يتمنى أن تكون إيران مزدهرة وتنمو... ويكون لدينا مصالح فيها ولديهم مصالح في السعودية، لدفع المنطقة والعالم للنمو والازدهار".

2-سيناريو استمرار التصعيد

وهناك أسباب عديدة تساعد على تنامي فرص هذا السيناريو، وهي؛ أولاً، احتمالات تعثر مفاوضات فيينا بخصوص الاتفاق النووي مع إيران وفرض عقوبات جديدة؛ خاصة أن هناك 6 جولات لم تفض لتوافق نهائي مع بقاء بنود كبيرة خلافية، وثانيًا، صعود رئيس من المتشددين للسلطة في إيران، حيث أن وجود إبراهيم رئيسي، علاوة على وجود المحافظين على رأس السلطات الثلاث سيفرض نوع من الهيمنة الأحادية على المشهد بما يعكس سيطرة المرشد الأعلى والحرس الثوري على جملة الخيارات والمسارات. وثالثاً، قيام إسرائيل باستهداف المنشآت النووية الإيرانية، وهو ما سينعكس على التصعيد الإقليمي، ويدخل دول الخليج في صراع عبر مناطق مواجهة في العراق، لبنان، اليمن، الخليج العربي.

3-استمرار حالة المد والجزر

وهذا السيناريو يؤكد على عدم القدرة على الحسم، واستمرار الملفات العالقة، وقد يفرض هذا السيناريو وجود ضغوط على النظام الإيراني بما يدفعه مضطرًا لمحاولة تحييد وتجنب المواجهة مع دول الخليج بشكل مباشر لكن دون حل نهائي للقضايا والأزمات. وهذه الحالة ربما تمتد لفترة في ظل عدم وضوح الرؤية وطبيعة العلاقة مع واشنطن، وأيضًا في ظل مرحلة انتقالية وتحديات إقليمية صعبة للنظام الإيراني، علاوة على تنامي حالة عدم اليقين والشك وهو ما يجعل أية فرص للتقارب غير مرجحة بشكل كبير، وهي حالة أشبه بالجمود والإبقاء على الوضع الحالي لكن بدرجة أقل.

مقالات لنفس الكاتب