; logged out
الرئيسية / 4 متغيرات تحكم علاقات إيران و"طالبان" وتفرض تبني سياسة الاحتواء أو الاستعداء

العدد 166

4 متغيرات تحكم علاقات إيران و"طالبان" وتفرض تبني سياسة الاحتواء أو الاستعداء

الثلاثاء، 28 أيلول/سبتمبر 2021

عشرون عاماً مضت بين سقوط حكم حركة "طالبان" في أفغانستان، عقب اندلاع الحرب الأمريكية على الإرهاب في 7 أكتوبر 2001م، وبين عودة الحركة إلى السلطة في كابول من جديد في 15 أغسطس 2021م. في هذه الفترة، جرت مياه كثيرة في مجرى العلاقات بين إيران وحركة "طالبان" تحولت فيها الأخيرة من "العدو الإقليمي" اللدود لطهران، الذي كاد أن يدفعها إلى الانخراط في حرب مباشرة معه بعد مقتل دبلوماسييها في مدينة مزار شريف في أغسطس 1998م، إلى "الجار" الذي يمكن التعايش والوصول معه إلى تفاهمات أمنية وسياسية عديدة لمواجهة الخصم المشترك وهو الولايات المتحدة الأمريكية.

ومع ذلك، فإن ما جرى من تفاهمات بين الطرفين على مدى الأعوام الماضية، خلال فترة الوجود العسكري الأمريكي في أفغانستان، قد لا يستمر بالوتيرة نفسها، خلال مرحلة ما بعد الانسحاب الأمريكي في 5 سبتمبر 2021م، وهو ما يعود في المقام الأول إلى أن هناك متغيرات عديدة سوف تحكم المسارات المحتملة للعلاقات بين إيران و"طالبان"، يتمثل أهمها في موقف الحركة من القوميات العرقية والمذهبية، لاسيما الهزاره والطاجيك، فضلاً عن موقفها من التنظيمات الإرهابية، لاسيما تنظيمى "داعش" و"القاعدة".

مواقف مرتبكة:

ربما لم تكن سيطرة حركة "طالبان" على السلطة في أفغانستان، في 15 أغسطس 2021م، مُفاجِئة لإيران. فالأخيرة تبدي اهتماماً كبيراً بما يحدث داخل جارتها الشرقية، لاسيما في ظل الوجود العسكري الأمريكي، فضلاً عن أن أفغانستان هى إحدى الدول الرئيسية التي تدخل ضمن نطاق عمليات "فيلق القدس" التابع للحرس الثوري، خاصة أن قائده الحالي إسماعيل قاآني يمتلك خبرة طويلة في إدارة علاقات إيران مع حلفائها في الداخل الأفغاني على مدار الأعوام العشرين الماضية، وكان له دور بارز في تأسيس قنوات تواصل مع حركة "طالبان" من أجل التنسيق بين الطرفين لمنع تنظيم "داعش" من مهاجمة أراضي إيران أو مصالحها.

لكن ما فاجأ إيران، وقد يكون أربك حساباتها نسبياً، هو السرعة التي تمت بها عملية السيطرة على الحكم في كابول. فقبل انتهاء عملية الانسحاب العسكري الأمريكي، في 5 سبتمبر 2021م، كانت الحركة قد وصلت إلى العاصمة وسيطرت على القصر الرئاسي، في 15 أغسطس من العام نفسه. ونجحت في 6 سبتمبر 2021م، في الهيمنة على إقليم بانشير الذي كانت تنطلق منه حركة المقاومة ضدها بقيادة أحمد مسعود.

هنا، بدأت إيران في توجيه رسائل مباشرة تفيد أنها لا تبدي ارتياحاً تجاه التطورات السياسية والميدانية التي طرأت على الساحة الأفغانية. فبعد سيطرة الحركة على العاصمة كابول، أكدت إيران أنه لا يوجد حل عسكري لمشكلات أفغانستان، داعية إلى ضرورة إجراء حوار بين القوى السياسية المختلفة من أجل تسوية الأزمات التي تواجهها الدولة. وبعد إعلان الحركة، في 7 سبتمبر 2021م، تشكيل حكومة مؤقتة، وجّهت إيران انتقادات لتلك الخطوة، معتبرة أن التشكيلة الحكومية الجديدة لا تتطابق مع رؤية إيران والمجتمع الدولي لمسارات تسوية الأزمة في أفغانستان. كما نددت طهران باجتياح الحركة لإقليم بانشير وإعلان السيطرة عليه.

وقد انعكس اهتمام إيران بالتداعيات التي يمكن أن تفرضها تلك التطورات على مصالحها وأمنها في عقد جلسة مغلقة في مجلس الشورى الإسلامي (البرلمان) حضرها قائد "فيلق القدس" التابع للحرس الثوري إسماعيل قاآني، في 7 سبتمبر الماضي، والذي أكد أن "شيعة أفغانستان مهمون للغاية بالنسبة للجمهورية الإسلامية، وإيران تحاول حل قضية أفغانستان، لكن ليس بالحرب، وتسعى إلى أن تشارك جميع القبائل الأفغانية في حكم البلاد".

اعتبارات عديدة:

يمكن تفسير هذا الارتباك في الموقف الإيراني إزاء التطورات في أفغانستان، في ضوء اعتبارات عديدة، يتمثل أبرزها في:

  • إحكام السيطرة: ترى إيران أن التطورات الميدانية التي تشهدها الساحة الأفغانية في الوقت الحالي توحي بأن حركة "طالبان" تحاول إحكام سيطرتها على الحكم مع استبعاد أو تهميش المكونات المجتمعية الأخرى. وبدا ذلك جلياً، وفقاً لرؤية طهران، أولاً في خلو التشكيلة الحكومية المؤقتة، تقريباً، من أى تمثيل للقوميات العرقية الأخرى. وعلى الرغم من أن الملا عبد السلام حنفي نائب رئيس الوزراء يتحدر من قومية الأوزبك، وقاري الدين محمد حنيف وزير الاقتصاد ينتمي لقومية الطاجيك، فإنهم في النهاية لا يعبرون عن تلك القوميات، ولا يعكس انضمامهم للحكومة محاولة من جانب "طالبان" لاستقطاب دعم تلك القوميات، لاسيما أنهم يتبنون التوجهات المتشددة للحركة على المستويات المختلفة.

وهنا، فإن إيران ترى أن إحكام "طالبان" سيطرتها على الحكم في أفغانستان لا يتوافق مع مصالحها، خاصة أن ذلك قد يعني عودة الأخيرة إلى تبني التوجهات نفسها التي سبق أن اتبعتها خلال الفترة الأولى لحكمها (1996-2001)، والتي شهدت تصاعداً في حدة التوتر بين الطرفين، كادت أن تصل إلى مرحلة الحرب المباشرة، بعد أن وجّهت طهران اتهامات مباشرة للحركة بالمسئولية عن مقتل ثمانية من دبلوماسييها فضلاً عن مراسل وكالة أنباء "إرنا" في القنصية الإيرانية بمدينة مزار شريف، في 8 أغسطس 1998م. وقد حشدت إيران نحو مائتى ألف جندي على الحدود تمهيداً لاجتياحها، إلا أنها فضلت التراجع في اللحظة الأخيرة، وتحت ضغوط من رئيس الجمهورية آنذاك محمد خاتمي، الذي سعى إلى منح الأولوية للخيار الدبلوماسي على العسكري.

وبعدها، كان لإيران دور في إسقاط حكم "طالبان"، عقب بدء الحرب الأمريكية ضد الإرهاب، في عام 2001م، حيث تبنت ما يسمى بـ"سياسة الحياد الإيجابي" التي أدت إلى غياب خصمها الأبرز في تلك اللحظة عن المشهد السياسي في أفغانستان.

وربما يمكن من خلال ذلك تفسير أسباب مسارعة إيران إلى إدانة العمليات العسكرية التي شنتها "طالبان" للسيطرة على إقليم بانشير الذي تمركزت فيه قوى المقاومة بقيادة أحمد مسعود، حيث قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية سعيد خطيب زاده، في 6 سبتمبر 2021م، أن "الأنباء التي نسمعها من بانشير مقلقة (...) نحن ندين هجوم ليلة أمس على هذه المنطقة بشدة". بمعنى آخر، فإن إيران كانت تسعى، أو تحاول الضغط، من أجل إشراك قوى أخرى في الحكم للحيلولة دون انفراد "طالبان" به، وهو سيناريو ترى إيران أنه قد يفرض في النهاية عواقب عديدة على أمنها ومصالحها.

  • التفاهم مع الإرهابيين: رغم أن "طالبان" حرصت على توجيه رسائل مباشرة بأنها لن توفر ملاذاً آمناً للتنظيمات الإرهابية، لاسيما تنظيم "القاعدة" وسوف تحارب تنظيم "داعش"، وفقاً لما يقضي به اتفاق السلام الذي أبرمته مع الولايات المتحدة الأمريكية في الدوحة في فبراير 2020م، إلا أن إيران تبدي شكوكاً في التزام الحركة بذلك في ظل العلاقات القوية التي تؤسسها مع تنظيم "القاعدة" تحديداً.

ومع أن إيران نفسها سبق أن توصلت إلى تفاهمات مع "القاعدة" حالت دون تعرض أراضيها لهجمات من جانب التنظيم، رغم الخلاف المذهبي بين الطرفين ورغم وجود عناصره في بعض الدول المحيطة بها على غرار أفغانستان والعراق، حيث استغلت وجود بعض قادة وكوادر التنظيم على أراضيها كورقة ضغط لمنع الأخير من مهاجمتها، فإن هذه التفاهمات قد لا تستمر، فضلاً عن أنها لا تنسحب على تنظيم "داعش"، الذي قد يتجه إلى استهداف مصالحها داخل أفغانستان، أو محاولة تكوين خلايا تابعة له على أراضيها. وربما تستغل حركة "طالبان" ذلك لتعزيز موقفها أمام خصمها الإقليمي السابق، في ظل احتمال بروز خلافات بين الطرفين في التعامل مع بعض القضايا الحيوية. أو محاولة إيران ممارسة ضغوط عبر آليات مثل وقف صادرات الطاقة إلى أفغانستان.

  • الخيارات المتعددة: تدرك إيران أن هناك فارقاً بين حكم "طالبان" في منتصف التسعينيات من القرن الماضي، وبين حكمها في الوقت الحالي. في الفترة الأولى، أو حسب ما تسميه كتابات عديدة "الطبعة الأولى"، لم تكن للحركة علاقات متعددة على المستويين الإقليمي والدولي، وتحولت إلى خصم للولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية بعد أحداث 11 سبتمبر 2001م، والتي كانت بمثابة المتغير الأساسي الذي دفع الأخيرة إلى شن الحرب ضد الإرهاب التي انتهت بإسقاط حكمها في العام نفسه.

أما في الطبعة الثانية، فالمسألة مختلفة. ففضلاً عن أن "طالبان" نفسها حريصة على عدم المغامرة بإسقاط حكمها من جديد، عبر فتح قنوات تواصل مع القوى الدولية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، التي توصلت معها إلى اتفاق سلام في الدوحة في فبراير 2020م، فإن تلك القوى حريصة بدورها على عدم التعامل مع الحركة وفقاً للسياسة التي سبق أن اتبعتها قبل عشرين عاماً. صحيح أن تلك القوى لم تعترف بعد بـ"طالبان" أو بحكمها لأفغانستان من جديد، لكنها في الوقت نفسها مصرة على مواصلة فتح قنوات تواصل معها، بهدف حماية مصالحها أو عدم دفعها إلى استهداف تلك المصالح.

وهنا، كان لافتاً أن الولايات المتحدة الأمريكية سارعت، بعد أسبوع من سيطرة الحركة على العاصمة كابول، وتحديداً في 23 أغسطس 2021م، إلى إيفاد مدير وكالة الاستخبارات الأمريكية ويليام بيرنز إلى كابول، حيث التقى القيادي البارز في الحركة والذي عين نائباً لرئيس الوزراء عبد الغني برادر، بهدف تأمين عمليات الانسحاب العسكري والإجلاء التي كانت تقوم بها واشنطن لموظفيها ومواطنيها من أفغانستان إلى دول أخرى تمهيداً لإعادتهم إلى أراضيها.

هذا المتغير تحديداً يثير قلقاً ملحوظاً لدى طهران. ففي الفترة الأولى، فرض التوتر والتصعيد الذي اتسمت به العلاقات بين "طالبان" والدول الغربية خيارات محدودة أمام الحركة وكان من ضمن الأسباب التي أدت في النهاية إلى إسقاط حكمها. أما الآن، فإن تلك القنوات المستمرة والعلاقات التي يمكن أن توصف بأنها "ليست عدائية"، تساهم في توسيع هامش المناورة والخيارات المتاحة أمام "طالبان" وبالتالي تعزيز موقعها في مواجهة الضغوط التي يمكن أن تحاول دول الجوار، ومن بينها إيران، ممارستها في حالة اتساع نطاق الخلافات بين الطرفين حول ملف أو قضية معينة.

  • الميليشيات الجوَّالة: لا تستبعد إيران أن تتحول أفغانستان، في مرحلة ما بعد سيطرة "طالبان" على الحكم فيها، إلى ساحة تسعى قوى إقليمية ودولية عديدة لتوسيع نطاق نفوذها فيها، بما يمكن أن يهدد مصالحها وأمنها بشكل مباشر. ومن دون شك، فإن التهديد الأكبر الذي يمكن أن يفرضه ذلك يكمن في أن بعض القوى يمكن أن تتجه إلى استقدام ميليشيات تابعة لها للانخراط في المشهد الأفغاني. وهنا، فإن اتجاهات عديدة لا تستبعد أن تقدم تركيا على تبني تلك السياسة، في ظل مساعيها للتمدد داخل منطقة وسط آسيا وتعزيز حضورها فيها، على غرار ما فعلت خلال تصاعد حدة الأزمة بين أرمينيا وأذربيجان حول إقليم ناجورني قره باغ، في 27 سبتمبر 2020م، حيث استقدمت مقاتلين تابعين لها من ليبيا وسوريا لمساعدة أذربيجان خلال المواجهات المسلحة التي انتهت لصالح الأخيرة.

ورغم أن التعاون، وربما بمعنى أدق التعايش، يمثل سمة رئيسية للعلاقات بين إيران وتركيا، حتى رغم خلافاتهما المستمرة حول التطورات الميدانية والسياسية في سوريا، فإن ذلك لم يحل دون بروز اتجاهات في إيران تدعو إلى تبني سياسة أكثر حذراً تجاه التحركات التركية في أفغانستان، التي يمكن أن تهدد أمن ومصالح طهران بشكل مباشر.

إذ أن أي ميليشيات قد تسعى أنقرة إلى استقدامها للانخراط في الصراع الأفغاني ربما تحاول اختراق حدود إيران وتهديد أمنها ومصالحها، لاسيما في ظل العداء- الظاهري على الأقل- مع الأخيرة، بسبب وقوفهما على طرفى نقيض في الصراع السوري.  

  • النفوذ الأمريكي: رغم أن طهران ما زالت ترى أن الانسحاب العسكري من أفغانستان يمثل "هزيمة" للولايات المتحدة الأمريكية، إلا أنها لا تستبعد أن يكون ضمن أهداف هذا الانسحاب توريط إيران في "المستنقع الأفغاني"، على نحو انعكس في تصريحات إسماعيل قاآني في الجلسة المغلقة لمجلس الشورى، في 7 سبتمبر 2021م، والتي قال فيها أن "المؤامرة الأمريكية هى إدخال إيران في حرب مع العالم السني، فعلينا أن نتصرف بطريقة لا تعرض إيران للخطر"، مضيفاً أن "إيران بفضل بركة الولي الفقيه كانت الدولة الأكثر حكمة وتدبيراً في المنطقة واتخذت المواقف الجيدة حيال التطورات في أفغانستان".
  • ضغوط اللاجئين: كانت إيران من أولى دول الجوار التي بدأت موجات اللاجئين الأفغان تصل إليها بعد سيطرة "طالبان" على الحكم، على نحو زاد من حدة الأعباء والضغوط التي يفرضها وجود اللاجئين الأفغان على أراضيها. ووفقاً لتقديرات عديدة، فإن عدد اللاجئين الأفغان المسجلين رسمياً في إيران يصل إلى 950 ألف شخص، في حين يقيم نحو مليون ونصف المليون أفغاني بشكل غير رسمي على الأراضي الإيرانية. ورغم أن إيران استفادت من وجود اللاجئين على أراضيها، لاسيما لجهة استغلالهم في تشكيل ميليشيا "فيلق فاطميين" الذي انخرط في الصراع السوري إلى جانب القوات النظامية والميليشيات الأخرى التي قامت إيران بتكوينها وتدريبها منذ عام 2011م، فإن استمرار وجود هذا العدد الكبير بات يفرض أعباءً على إيران لجهتين: أولاهما، تصاعد تأثير العقوبات الأمريكية على الاقتصاد الإيراني، بشكل بات يقلص من قدرة إيران على تقديم الخدمات المعيشية للإيرانيين واللاجئين في آن واحد، على نحو انعكس في تنظيم احتجاجات إيرانية مستمرة في المدن المختلفة اعتراضاً على تدني الأوضاع المعيشية وانهيار البنية التحتية. وثانيتهما، تفاقم تأثيرات انتشار فيروس "كورونا"، الذي كانت إيران إحدى أكثر الدول في منطقة الشرق الأوسط التي عانت منه. ومن هنا، كان لافتاً أن وزير الداخلية الإيراني أحمد وحيدي أعلن، في 26 أغسطس 2021م، أن السلطات الإيرانية أعادت بعض اللاجئين الأفغان الذين دخلوا أراضيها جراء الأحداث الأخيرة إلى أفغانستان.
  • التداعيات الاقتصادية: تمثل أفغانستان شريكاً تجارياً مهماً لإيران، حيث احتلت المركز الرابع في قائمة أكثر الدول المستوردة للسلع الإيرانية، في عام 2020م. وحسب بعض التقديرات، فإن حجم التبادل التجاري بينهما وصل إلى 4 مليار دولار في العام الماضي. كما أن أفغانستان كانت إحدى الدول التي حاولت من خلالها إيران تهريب النفط أو الحصول على الدولار، وذلك لتقليص حدة الضغوط التي تفرضها العقوبات الأمريكية. ومن هنا، فإن إيران تبدي مخاوف عديدة من غموض مسار العلاقات الاقتصادية بين الطرفين عقب سيطرة "طالبان" على الحكم، حيث لم تحدد بعد موقفها من هذا الملف تحديداً.

خيارات محدودة:

على ضوء ذلك، يمكن القول إن إيران تواجه خيارات محدودة في التعامل مع المعطيات الجديدة التي فرضتها سيطرة "طالبان" على الحكم في أفغانستان، وهي:

  • استمرار التفاهمات: سوف تحاول إيران الحفاظ على قنوات التواصل مع حركة "طالبان" خلال المرحلة القادمة، رغم الانتقادات التي وجهتها سواء لتشكيل الحكومة الجديدة التي استبعدت فيها المكونات المجتمعية الأخرى أو لإصرارها على الهيمنة على مجمل الأراضي الأفغانية وتصفية جيوب المقاومة التي تأسست ضدها. وتسعى إيران عبر ذلك إلى تحقيق هدفين: أولهما، تجنب استعداء الحركة، أو بمعنى أدق، عدم تكرار ما حدث في الطبعة الأولى من حكمها (1996-2001م)، على أساس أن ذلك يمكن أن يفرض تهديدات جديدة لأمن ومصالح طهران، في الوقت الذي تبدو منشغلة في إدارة ملفات أخرى لا تقل أهمية، ولاسيما الملف النووي، والتصعيد مع إسرائيل الذي قد يتخذ منحى أكثر حدة خلال المرحلة القادمة سواء تم التوصل إلى صفقة في مفاوضات فيينا أو لم تنجح تلك المفاوضات في تحقيق أهدافها. وثانيهما، استغلال العلاقات مع الحركة في تقليص احتمالات تعرض مصالح طهران للاستهداف من جانب التنظيمات الإرهابية الموجودة في أفغانستان، والتي لم تتحدد بعد اتجاهات علاقاتها مع "طالبان" رغم الرسائل الإيجابية العديدة التي وجهتها الأخيرة في هذا الصدد.
  • توسيع نطاق التنسيق مع دول الجوار: لاسيما الصين وروسيا، في ظل الاهتمام البارز الذي تبديه الدولتان بما يحدث داخل أفغانستان، وتطلعهما إلى تأسيس قنوات تواصل مع "طالبان"، من أجل تجنب استهداف مصالحهما في أفغانستان، أو تحول الأخيرة إلى نقطة انطلاق لهجمات على أراضيهما. ورغم أن هذا الخيار قد يكتسب أهمية وزخماً خاصاً، لاسيما في ظل وجود قواسم مشتركة تجمع الدول الثلاث على غرار مناوءة السياسة الأمريكية، إلا أنه لا يوجد ما يؤشر إلى أن هذا الخيار سوف يحظى بأولوية لدى الدول الثلاث، التي قد تتجه إلى تفضيل الانخراط في تفاهمات ثنائية مع "طالبان" بالتوازي مع الحفاظ على مستوى معين من التنسيق المتعدد للتعامل مع الاستحقاقات المقبلة التي قد تشهدها أفغانستان على أكثر من مستوى.
  • استعداء "طالبان": أو بمعنى أدق الانخراط كطرف مباشر ومناوئ للحركة في التفاعلات التي تجري على الساحة الأفغانية. لكن هذا الخيار قد يكون مُكلِّفاً بالنسبة للطرفين. فإيران بدورها تنخرط في أزمات عديدة على الساحة الإقليمية. و"طالبان" بدورها تبدو حريصة على منح الأولوية للتعامل مع ملفات قد تكون أكثر إلحاحاً، على غرار إدارة شؤون الدولة والتعامل مع الأزمة الاقتصادية، فضلاً عن محاولة استقطاب دعم الخارج للحصول على اعتراف دولي وإقليمي بحكومتها.

خاتمة:

على ضوء ذلك، يمكن القول إن ثمة متغيرات أربعة رئيسية سوف تحكم اتجاهات العلاقات بين إيران و"طالبان" خلال المرحلة القادمة. وبعبارة أخرى، فإن اتجاه إيران إلى تبني سياسة الاحتواء أو الاستعداء في التعامل مع "طالبان" سوف يعتمد في النهاية على مدى تحقق تلك المتغيرات على الأرض.

المتغير الأول، يتعلق بمدى استعداد إيران للعودة مجدداً إلى دعم قوى مناوئة لـ"طالبان" على غرار ما كان قائماً في منتصف التسعينيات من القرن الماضي، حيث دعمت إيران "تحالف الشمال" الذي كان يسيطر عليه الطاجيك- وهم ثاني أكبر قومية عرقية في أفغانستان- ضد "طالبان".

والمتغير الثاني، ينصرف إلى مدى اعتماد الحركة على توجهاتها الأيديولوجية في إدارة علاقاتها مع إيران. فإلى الآن لم تُظهِر الحركة أية إشارات تفيد أنها سوف تتبع سياستها السابقة في التعامل مع إيران، فضلاً عن قنواتها الخاصة مع الأخيرة ما زالت قائمة.

والمتغير الثالث، يتمثل في مدى إمكانية قيام التنظيمات الإرهابية باستهداف مصالح إيران سواء داخل أفغانستان أو على أراضيها انطلاقاً من الأخيرة، واستغلالاً لانشغال "طالبان" بمحاولة تكريس سيطرتها على الأرض وتصفية أى مقاومة قد يتم تشكيلها ضدها.

أما المتغير الرابع والأخير، فيرتبط بمدى انخراط قوى إقليمية ودولية عديدة في التفاعلات الأفغانية على نحو قد يفرض تهديدات مباشرة لأمن ومصالح طهران، على غرار استقدام مقاتلين من دول الصراعات بالمنطقة، مثل سوريا وليبيا، لتعزيز حضور بعض تلك القوى داخل أفغانستان.

هذه المتغيرات الأربعة تحظى في الوقت الحالي باهتمام خاص من جانب إيران، التي ما زالت تترقب تطورات الأوضاع في أفغانستان، وتأثيرها على الترتيبات السياسية والأمنية التي سوف يجري العمل على إعادة صياغتها خلال الفترة القادمة، وبعدها ستبدأ في تبني الخيار الذي ترى أنه الأنسب لحماية مصالحها وأمنها في مرحلة ما بعد وصول "طالبان" إلى الحكم في أفغانستان.

مقالات لنفس الكاتب