; logged out
الرئيسية / عودة طالبان.. تداعيات جيوسياسية على الإقليم والعالم

العدد 166

عودة طالبان.. تداعيات جيوسياسية على الإقليم والعالم

الثلاثاء، 28 أيلول/سبتمبر 2021

لا يجب أن يقتصر الحديث عن الانسحاب الأمريكي من أفغانستان على المشهد الأخير في أغسطس 2021م، فقد سبق أن تدخلت الولايات المتحدة في الشأن الأفغاني منذ الثمانينيات، حين أدارت الولايات المتحدة أكبر عملية مخابرات سياسية في التاريخ عُرفت باسم "عملية اصطياد الدب السوفيتي". وكان الهدف الرئيسي لهذه العملية هو استهداف الجيش السوفيتي، ونجحت العملية وكانت من أهم أسباب سقوط الاتحاد السوفيتي. وفي هذا الإطار كان التدخل الأمريكي الأكثر وضوحاً في إطار عملية قامت بها المخابرات المركزية الأمريكية تحت مسمى "الإعصار"، ومن خلالها قامت بتكوين ودعم مجموعات عسكرية سمتها الولايات المتحدة آنذاك بالمجاهدين، الذين تولوا محاربة الجيش السوفيتي. وفور سقوط الاتحاد السوفيتي بدأ الانسحاب الأمريكي الأول من الشأن الأفغاني، لكن بعد أن تركت مجموعات مسلحة تعتنق الفكر الجهادي وشاركت في تلك الفترة في تشكيل حركة "طالبان" في باكستان. وجاء التدخل الأمريكي الثاني في 2001م، لضرب تنظيم القاعدة الذي ساند حركة "طالبان" لفرض هيمنتها على الدولة والتنظيمات الإرهابية الأخرى.

الحضور الأمريكي في أفغانستان في الحالتين قد جاء لأسباب مختلفة في كل منهما، لكنه في النهاية ترك الساحة الأفغانية مفتوحة أمام تنظيمات تلتزم الفكر الديني والقَبلي المنغلق، وكانت عبارة الرئيس الأمريكي جو بايدن حول أن الولايات المتحدة لم تكن مهمتها في أفغانستان لبناء الدولة، عبارة دالة بوضوح على طبيعة السياسة الأمريكية ليس في أفغانستان وحدها، بل في الشرق الأوسط بامتداداته أكملها.

ومنذ إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما جرت مباحثات كثيرة بين الولايات المتحدة وحركة "طالبان"، ولم يكن تغير الإدارة الأمريكية وانتقالها للجمهوريين مع الرئيس السابق دونالد ترامب عاملاً لتوقف هذه المباحثات، بل لقد زادت كثافة هذه الاتصالات منذ عام 2018م، مع غياب "طالبان" من القائمة الأمريكية للتنظيمات الإرهابية. ومع إدارة ترامب تم التوصل لاتفاق يرتب الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، كما تم الاتفاق على مبادئ عامة غير ملزمة لـ "طالبان"، مع تجاهل كامل للحكومة الأفغانية التي نصبتها وساعدتها الولايات المتحدة، أي أن الولايات المتحدة أعطت نوعًا من الشرعية لطالبان بمكوناتها المختلفة

 

ولا شك أن أحداث 11 سبتمبر كانت مبرراً قوياً لحضور أمريكي مباشر لها في أفغانستان وفي العراق، وأُسقطت الدولة في الحالتين، وكذلك وجدت الولايات المتحدة الأمريكية أسباباً عديدة للانسحاب بعد هذا الإسقاط. وكما كان حضور الولايات المتحدة لأفغانستان فاتحة للعديد من المتغيرات التي غيرت من شكل المنطقة، كذلك من المتوقع أن يكون الانسحاب الأمريكي من أفغانستان حدثاً فارقاً في تطورات المنطقة وما يمكن أن تشهده من تغيرات وتداعيات جيوسياسية قد يتسع تأثيرها ليتجاوز دول الجوار والإقليم.

 

فراغ أمني أم إعادة ترتيب أوراق

 

وفيما يتعلق بالانسحاب الأمريكي من الناحية العسكرية، فان رصد متغيرات الحضور العسكري الأمريكي في آسيا بعد الانسحاب لا يتم بمعزل عن وثيقة الأمن القومي الأمريكي 2021م، والمستجدات الهيكلية في نمط الاستجابة الأمريكية لتحدي الصين من خلال "مبادرة الردع في المحيط الهادئ"، وحجم التغيُّر في الميزانية الدفاعية لعام 2022م، عن سابقتها.

 

وبالنظر إلى خريطة الانتشار العسكري الأمريكي نلاحظ أن، أفغانستان كانت تمثل قاعدة الانطلاق الرئيسية للولايات المتحدة في آسيا الوسطي، وبعد انسحاب واشنطن من هناك، فإنها ودعت آخر نقاط تمركزه في آسيا الوسطي، وإن كان ذلك الوداع السريع لم يوفر لواشنطن فرصًا حقيقية لإعادة تمركز بديل، وذلك نتيجة لارتباط الاحتياجات الأمنية والاقتصادية لجمهوريات آسيا الوسطى الست بكل من الصين وروسيا وهو ما يحد من محاولات واشنطن إقناعها بمزايا تفوق ما يحصلون عليه منه في مقابل استضافة قاعدة عسكرية للولايات المتحدة.

 

ويؤكد ذلك المناورات العسكرية الروسية الأخيرة مع كل من أوزباكستان وطاجيكستان، والتدريبات الصينية ــ الروسية المشتركة، والمناورات الجارية منذ مطلع سبتمبر في قيرغيزستان تحت مظلة منظمة معاهدة الأمن الجماعي التي تعطي مؤشراً على إغلاق مجال آسيا الوسطي في وجه واشنطن انطلاقاً من رفض كل من الصين وروسيا لخطط إعادة التموضع العسكري الأمريكي في المنطقة.

 

وقد تزامن ذلك مع اتجاه موسكو لتكثيف أدوار منظمة معاهدة الأمن الجماعي في آسيا الوسطي، التي أعلنت استعدادها لصد التهديدات القادمة من أفغانستان. كما بدأت في سبتمبر الجاري فعاليات المرحلة النشطة من مناورات "روبيج 2021" التي تنفذها دول المنظمة (روسيا – كازاخستان – قيرغيزستان – طاجيكستان) في قيرغيزستان وتشمل المناورات تنفيذ عمليات مشتركة لمكافحة الإرهاب والتدرب على العمليات القتالية بهدف القضاء على تشكيلات مسلحة غير شرعية تسللت إلى أراضي إحدى دول المنظمة، في رسالة واضحة بأن المنطقة تدخل تحت الغطاء الروسي وتمثل مجالًا حيويًا لموسكو.

ملامح ودلالات حكومة طالبان

انتظر العالم تشكيل طالبان لحكومتها الأولى لمحاولة فهم الملامح الرئيسية لتوجهاتها في التعامل مع عدد من الملفات المهمة، ومن بينها قضية التعدد القومي، ومدى استعدادها لتجاوز طابعها البشتوني، والانفتاح على قضية تمثيل المرأة في المواقع القيادية، والتحول من حركة سلفية دينية إلى جماعة سياسية.

وقد كشف تشكيل الحكومة عن هيمنة الحركة عليها، بخلاف ما أعلنته أنها ستكون حكومة شاملة للمكونات العرقية والمذهبية الأخرى غير البشتون السنة. ورغم انتماء بعض أعضاء الحكومة المُشكَّلة لعرقيات الأوزبك والطاجيك، إلا أنهم ينتمون سياسيًا وإيديولوجيًا لفكرة طالبان. كما أن استمرار هيمنة قيادات الحركة على المواقع الوزارية المهمة، يؤكد عدم نيتها في التمييز بين طالبان كحركة سلفية دينية ومرحلة إدارة الدولة الأفغانية الحالية.  وسينعكس غياب هذا التمييز على قدرة الحركة على مواجهة التحديات التي تنتظر الحكومة، داخليًا وخارجيًا. كما يعكس هذا التوجه تركيز طالبان بالوقت الراهن على عامل الثقة والولاء كمعيار أساسي لإسناد المناصب السياسية.

 

ومن الملفت أن عددًا من كبار أعضاء الحكومة مدرجين بقوائم الإرهاب الدولية، بما فيهم القائم بأعمال رئيس الحكومة، كما أن بعضهم على قوائم المطلوبين من مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI)، ومن اللافت للنظر أن الاتفاق الذي تم بين الولايات المتحدة وحركة "طالبان" بمكوناتها المختلفة، رغم الإدراك الأمريكي أن "شبكة حقاني" تمثل جزءًا أصيلاً من حركة "طالبان"، والتي اعتبرتها واشنطن واحدة من أخطر الفصائل التي تقاتل القوات الأفغانية وقوات حلف شمال الأطلسي على مدار العقدين الماضيين، ولذلك صنفتها بأنها إرهابية خاصة وأنها مقربة تاريخياً من تنظيم القاعدة.

 

بل إن وزير الداخلية في حكومة طالبان ينتمي لهذه الشبكة "سراج الدين حقاني" كما تعهد مكتب التحقيقات الفيدرالي بدفع مكافأة تصل إلى 10 ملايين دولار مقابل أي معلومات قد تؤدي إلى اعتقاله، وهو الذي يجلس حاليًا في مقر وزارة الداخلية الأفغانية في كابول، ناهيك عن أن حكومة طالبان برئاسة القيادي المخضرم المدرج على قائمة سوداء للأمم المتحدة الملا محمد حسن أخوند، والذي يعد من الرعيل الأول للحركة.

 

ويعكس إصرار الحركة على تحدي المجتمع الدولي ووضعه أمام الأمر الواقع، تمهيداً لإجباره لاحقاً على حذف أعضائها من على هذه القوائم. إلا أن ذلك يؤكد عدم امتلاك الحركة كوادر سياسية ومهنية قادرة على إدارة الدولة، ما دفعها لتكليف قياداتها بأداء تلك المهام، وتحمل أعباء الموقف الدولي منهم، إذ أنه من الواضح أن القيادات الوسطى داخل الحركة هي قيادات عسكرية-ميدانية أي أنها تفتقد للمكون السياسي-الإداري.

 

ومن المُرجح أن طالبان ستركز على الحصول على الاعتراف الدولي، وهو ما بدا واضحًا من خلال إقامة علاقات جديدة مع الأطراف الإقليمية والمحلية، وتقديم موقف إعلامي أكثر اعتدالاً والأخذ في الاعتبار المصالح الأمنية المشتركة، وقد مكنت هذه الاستراتيجية الحركة من تعميق علاقاتها مع خصوم تقليديين مثل إيران، ومع قوى إقليمية مثل الصين وروسيا اللتين تسعيان إلى مد نفوذها في أفغانستان.

 

ورغم حرصها على توجيه خطاب إعلامي وسياسي يشير إلى أنها ستتبع نهجاً مختلفاً في الحكم هذه المرة، تواجه صعوبة فيما يتعلق بذلك، كما أن هناك حدوداً لمدى الاختلاف بين نظامي "طالبان" الجديد والقديم، فعلى الرغم من إصدار الحركة عفواً على جميع موظفي القطاع العام، وظهور مذيعة على القناة الوطنية في أفغانستان بالحجاب الذي يختلف عن نوع الحجاب الذي كان إلزامياً في ظل حكم الحركة، فإن أمراً صدر لاحقاً يحظر على المذيعات الظهور على شاشات التلفزيون. وبعد يومين من السماح لقافلة صغيرة من الشيعة لإحياء ذكرى عاشوراء بالسير عبر كابول، وردت تقارير تفيد بأن الحركة أزالت تمثالاً لزعيم محسوب على أقلية الهزارة الشيعية.

 

تحولات الإرهاب

ومن غير المرجح أن ينعكس الانغلاق الفكري والتشدد الأيديولوجي الذي يميز حركة طالبان بشكل مطلق على نظام حكمها في المرحلة الحالية، لكنها ستجتهد في الظهور بشكل ديني متوازن يحفظ ولاء أعضائها ويطمئن الدول التي تقيم علاقات معها لتكون العلاقات طبيعية، ومنفتحة اقتصاديًا، باعتبار أن الجانب الاقتصادي هو النقطة الأضعف في حكم طالبان، ووسيلة لجذب المواطنين الأفغان للقبول بالحركة إذا ما تحسنت الأحوال المعيشية. ولا يعني هذا توقع أن الحركة يمكن ان تتخذ نمطاً ديمقراطياً على النموذج الغربي، بل يعني أن الحركة ستعمل بنمط واقعي في سياستها الخارجية، مع الحفاظ على سياسة داخلية متشددة دينياً.

ومع نجاح حركة طالبان في السيطرة الكاملة على أفغانستان وترحيب عديد من المتطرفين بذلك كونه انتصارًا يحسب لهم، طرحت كثير من التساؤلات حول مستقبل الظاهرة الإرهابية، وانعكاس ذلك على مسارات عمل التنظيمات الإرهابية سواء القاعدة أو داعش.

وبخصوص القاعدة، هناك تباين في التقديرات المتعلقة بمسارات عملها في أفغانستان في أعقاب المتغيرات الحالية، ما بين احتمالية محدودية حركتها، ارتباطًا بالضعف والتفكك الذي تعاني منه القيادة المركزية هناك، وكذلك الضعف في الموارد البشرية، فضلًا عن وفاء طالبان بالتزاماتها مع الولايات المتحدة من أجل الحصول على اعتراف دولي. وترجح مصادر متعددة تركيزه في الفترة الحالية على تعزيز هياكله التنظيمية، حيث لا زال قادرًا على الاستقطاب والتجنيد، ولإتاحة الفرصة لتمكين طالبان من الهيمنة.

وفيما يتعلق بداعش، فمن المتوقع أن يسعى التنظيم إلى تعزيز نشاطه في أفغانستان في ضوء رغبته في تأكيد زعامته الجهادية، حيث أن فرع "داعش" أفغانستان يعتبر أقوى فروع التنظيم ويتمتع بالمرونة والقدرة على التكيف مع الضغط العسكري ويقدر مقاتلوه بحوالي 4000 إلى 5000 مقاتل، كما اتسعت صفوفه بسبب عمليات الهروب الأخيرة من السجون التي أعقبت انهيار الحكومة، فضلَا عن مراهنته على حدوث خلافات داخل طالبان يمكن أن تجعل من ولاية خراسان جاذبة لمن يختلفون مع قيادات الحركة مستقبلًا

مواقف دولية وإقليمية متباينة

إن الانسحاب الأمريكي من أفغانستان قد أضر الاستراتيجية الأمريكية في توجهها نحو الشرق، حتى وإن كانت لها أهدافاً أخرى غير مباشرة كإرباك خصومها الدوليين وفتح بؤرة للتوتر في إقليمهم الرئيسي. وذلك لأن هذا الانسحاب قد أنشأ حالة من الفراغ الاستراتيجي في منطقة شديدة الأهمية للمصالح الاستراتيجية الأمريكية في آسيا، والذي أصبح مجالا متاحاً لتمدد النفوذ الصيني بالأساس، وربما اتساعاً نسبيا ً في النفوذ الروسي سواء بشكل منفرد أو بالتعاون مع بعض القوى الإقليمية المستفيدة من رحيل الولايات المتحدة مثل تركيا، وبدرجة أقل إيران، وهذه القوى لديها صلات وقبول من حركة طالبان.

 

وقد جدد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان حالة الجدل السياسي حول قضية مدى وكيفية الانخراط الأمريكي في القضايا والمناطق الإقليمية الأخرى. ولم تكن هذه القضية أمرًا جديدًا على الخطاب السياسي الأمريكي، فلقد أثيرت من قبل، غير أنه في هذه الفترة الراهنة تدور في سياق مختلف عالميًا وفي الداخل الأمريكي ذاته

 

وتعد التداعيات الناتجة على الأمن الإقليمي من جراء الانسحاب الأمريكي من أفغانستان وسيطرة حركة طالبان على الحكم هناك هي الأكثر خطورة وتهديداً على استقرار هذه المنطقة الاستراتيجية في آسيا الوسطى، وذلك لأنها أوجدت حالة من السيولة في العلاقات بين دول الجوار الإقليمي لأفغانستان، والتي يمكن أن تشهد تهديدات أمنية واجتماعية مباشرة وغير مباشرة من جراء الوضع الراهن في أفغانستان. فما بين التنافس الإقليمي بين كل من الصين والهند من ناحية وباكستان والهند من ناحية أخرى، تحاول الهند ألا تغيب تماماً عن التواصل مع أفغانستان، لتوازن إلى حد ما تأثير الدولتين السابق ذكرهما. وكذلك فإن كل من طاجيكستان وأوزبكستان اللتين ترتبطان بروسيا بالأساس يمكن أن يزداد احتياجهما لمزيد من الحضور الأمني الروسي لتعزيز أمنهما في مواجهة طالبان، وربما تكون إيران داعمًا لهما أيضاً بنمط مختلف عما يمكن أن تقدمه روسيا، وتزداد المخاوف هنا من أن يكون الحضور الروسي المتزايد عبئاً على استقلالية القرار السياسي فيهما. وبعبارة أخرى، فإن عدم الاستقرار في المحيط الإقليمي لأفغانستان يحمل معه تهديدات أمنية عابرة للحدود بين دول الإقليم

ومن الممكن أن تمتد تداعيات الوضع غير المستقر في أفغانستان إلى الشرق الأوسط، من خلال فتح ساحة جديدة للتنافس على النفوذ الإقليمي بين القوى المتنافسة فيه خاصة تركيا وإيران، وكذلك انتقال التهديدات الأمنية المختلفة من إرهاب أو جرائم منظمة أو قضايا اللاجئين إلى دول المنطقة.

 

ويصعب على كافة الدول التي تبحث عن مد نفوذها في أفغانستان في المرحلة الحالية الانفراد بالنفوذ هناك، ولذا قد تزداد فرص التحالف بين هذه الدول أكثر من فرص التنافس، وفي أقصى تقدير قد يكون التنافس المحكوم بينها، الأمر الذي يزيد من فرص طالبان للاعتراف بها كسلطة شرعية لحكم أفغانستان، وواقع الأمر إن هذا الاعتراف رغم أهميته الدبلوماسية والقانونية لكنه سيقر واقع قائم بالفعل لوجود علاقات بين طالبان والعديد من الدول سواء في جوارها الإقليمي أم لا.

 

كما أن الانسحاب الأمريكي من أفغانستان يقدم نموذجًا يصعب تكراره في كل من العراق وسوريا رغم تخفيض القوات الأمريكية، فالمعطيات مختلفة والظروف المحيطة مختلفة أيضًا. ولا يمنع هذا من إعلان الولايات المتحدة إنهاء مهام قواتها في الدولتين، لكن مع الإبقاء على بعض القوات سواء تحت غطاء حلف شمال الأطلسي أم قوات أمريكية محدودة بمهام جديدة وتكلفة أقل، وذلك من أجل الموازنة بين التوجهين للحفاظ على المصالح الاستراتيجية لها في الشرق الأوسط وكذلك خفض تواجدها المباشر فيه. وبالتوازي مع هذا محاولة تكوين شبكة من الحلفاء أو الأصدقاء الإقليميين للحفاظ على المصالح الأمريكية في المنطقة.

 

وفيما يتعلق بتركيا فإنها ترى في الحالة الأفغانية فرصة لتدعيم قواعد مشروعها للتوسع الإقليمي، ومناوئة أو قطع الطريق على القوى المتنافسة معها كإيران. فضلًا عن تعزيز روابط القوميات التركية في آسيا الوسطى، واستثمارها في تدعيم مكانتها بتلك المنطقة. وتشبيك أنشطتها مع المحور الذي صاغته بالشراكة مع الدوحة بالسابق، وتوظيف الملف الافغاني كصيغة دامجة لقوى إقليمية صاعدة مُتقاربة بالفعل معها مثل باكستان.

 

كما تسعى لتوظيف الفراغ الحادث في أفغانستان، بعد انسحاب الولايات المتحدة وصعود طالبان للحكم، لحصد أقصى درجات النفوذ في الدولة الراغبة باستعادة اتزانها بكافة المجالات، وتتطابق أنماط الحركة التركية مع المراحل المبكرة لتدخل أنقرة وترسيخ نفوذها في عدد من المناطق والدول، والتي صارت تاليًا نقاط ارتكاز لتطبيق استراتيجيتها للتوسع الإقليمي والمعروفة بـ "العثمانية الجديدة".

 

وتمثل الحالة الأفغانية نموذجًا مثاليًا لتطبيق الاستراتيجية التركية للتوسع الإقليمي، حيث صعود قوة تتوافق إيديولوجيًا مع رؤيتها الداعمة لوصول تيارات الإسلام السياسي للحكم، ووجود قوميات تركية ترتبط بها بشكل وثيق، بالإضافة للخبرة التي اكتسبتها بالميدان الأفغاني عبر عملها ضمن حلف الناتو على مدار (20) عام، فضلًا عن رصيدها المتعلق بعمليات التنمية والإغاثة المُرسخ لقبول أنشطتها في كابول.

 

وبصفة عامة، يمكن القول إن الانسحاب الأمريكي من أفغانستان سوف يصبح متغيرًا كبيرًا في طبيعة التفاعل الجيوسياسي، ليس بين أفغانستان ودول جوارها فقط، ولكن على اتساع المنطقة والعالم، فنحن أمام نموذج لدولة دينية سنية تجاور دولة دينية شيعية، فهل سيبقى التعايش بينهما؟، وهل ستتمكن طالبان من إدارة الدولة وتحقيق الاستقرار؟ لعدم تهيئة المناخ لإعادة تمركز فصائل الإرهاب، وهل تنجح القوى الدولية والإقليمية المتنافسة في تجنب المواجهات والحرص على مساحة من التفاهم وتجاوز الهيمنة؟

وإن كان التساؤل الرئيسي هو إلى أي مدى تستطيع الكوادر الرئيسية لطالبان خاصة التي انخرطت في المفاوضات التحكم في عملية صنع القرار؟ في ظل أن البنية الأساسية للحركة حاليًا من الشباب الذين تربوا في الجبال والعمل العسكري ويرفضون الحياة المدنية التي جاء بها الاحتلال الأمريكي.

مقالات لنفس الكاتب