; logged out
الرئيسية / تفاعل المنطقة مع القوى المتصارعة لحمايتها من الأطماع والاستفادة من المصالح

العدد 167

تفاعل المنطقة مع القوى المتصارعة لحمايتها من الأطماع والاستفادة من المصالح

الخميس، 28 تشرين1/أكتوير 2021

    أعلن قادة الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا في منتصف سبتمبر الماضي(٢٠٢١م) تأسيس شراكة استراتيجية جديدة بين دولهم في منطقة المحيطين الهندي والهادي في عمل نُظر إليه باعتباره تعزيزاً للتحالف الغربي في مواجهة الصعود الصيني في النظام الدولي عموماً وفي تلك المنطقة خصوصاً، لكنه انطوى في الوقت ذاته على تعميق الأزمة التي يشهدها التحالف الغربي منذ عقود على نحو غير مسبوق في هذه المرة بما نص عليه من مساعدة أستراليا على الحصول على غواصات تعمل بالطاقة النووية بما ترتب على ذلك من إلغاء لصفقة تزويد أستراليا بغواصات فرنسية تقليدية الدفع الأمر الذي أدى لردود فعل فرنسية شديدة الغضب وأوروبية متفهمة لها ومتعاطفة معها، وتبحث هذه المقالة في موقع هذه الأزمة من الأزمات الممتدة للتحالف الغربي، ورشادة قرار الشراكة الاستراتيجية الجديدة ودلالاته وتداعياته ودروسه المستفادة.

 

   دروس الخبرة

 

    أدى إعلان الشراكة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا في١٥سبتمبر، ٢٠٢١م، إلى أزمة غير مسبوقة في التحالف الغربي مع أن الهدف الرئيسي منه موجه نحو التصدي لتنامي النفوذ الصيني دولياً بصفة عامة وفي منطقة المحيط الهندي والهادي خاصة، غير أن الاتفاق نص على تزويد أستراليا بتكنولوجيا وقدرات تمكنها من نشر غواصات تعمل بالطاقة النووية، وهو ما ترتب عليه في اليوم التالي إعلان أستراليا فسخ عقد ضخم كانت قد أبرمته مع فرنسا في٢٠١٦م، لشراء غواصات تقليدية، وهو ما أثار غضباً فرنسياً عارماً وتفهماً وتعاطفاً أوروبياً متوقعاً مع فرنسا، واكتملت بذلك مقومات أزمة جديدة في التحالف الغربي، وليست الأزمات بالجديدة عليه، لكني أحسب أن هذه الأخيرة أخطرها، ففي١٩٦٦م، وقعت أولى الأزمات الخطيرة بانسحاب فرنسا من اللجنة العسكرية لحلف الأطلنطي انعكاساً للنزعة الاستقلالية عن السياسة الأمريكية التي ارتبطت بصعود الرئيس شارل ديجول للحكم في١٩٥٩م، واهتزاز صدقية الردع الأمريكي لتهديدات الأمن الأوروبي لديه، ومن ثم نزوعه إلى بناء قدرة فرنسية ذاتية على الردع كانت موضع تندر في الأوساط الاستراتيجية والسياسية الأمريكية، واستمرت هذه القطيعة الفرنسية العسكرية مع حلف الأطلنطي حتى٢٠٠٩م، حين صوتت الجمعية الوطنية في عهد الرئيس نيقولا ساركوزي على العودة للبنية العسكرية للحلف وإن لوحظ إن الاعتراض على العودة لم يكن هامشياً (٢٣٨معترض و٣٢٩موافق) بما يعني أن مؤيدي النزعة الاستقلالية في فرنسا عن السياسة الأمريكية لا يمكن اعتبارهم هامشيين، وفي منتصف السبعينات حدثت أزمة أخرى في الحلف عقب الغزو التركي لقبرص١٩٧٤م، بسبب اعتقاد اليونان أن الولايات المتحدة لم تتخذ الموقف الواجب تجاه السلوك التركي خاصة وقد كان الموقف السوڤيتي واضحاً ضد الغزو وضرورة انسحاب القوات التركية فيما كان الاهتمام الأمريكي منصباً على الحيلولة دون وقوع الحرب بين تركيا واليونان الأمر الذي أدى إلى أن تكرر الأخيرة السابقة الفرنسية بالانسحاب من الهيكل العسكري للحلف، وهو وضع ظل قائماً حتى١٩٨٠م، ثم كان السلوك التركي مجدداً سبباً لأزمتين أخريين داخل الحلف أولاهما بسبب الاعتراض الفرنسي الحاد على العمليات العسكرية المتكررة في سوريا في إطار الصراع الراهن فيها وما أدت إليه من احتلال عسكري تركي مباشر لأراض سورية أو السيطرة عليها من خلال وكلاء لها، وهو ما أدى غير مرة إلى تلاسن حاد بين الرئيسين الفرنسي والتركي ضرب صدقية حلف الأطلنطي، والثانية بسبب صفقة شراء تركيا لصواريخ س٤٠٠ الروسية التي اعتبرتها الولايات المتحدة تهديداً أمنياً للحلف وأدت إلى فرضها عقوبات على تركيا في أبريل٢٠٢١م، ولا ننسى بروز التوتر بين الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين في ظل ولاية ترامب الذي دأب على مهاجمتهم بسبب ضعف مساهمتهم المالية في ميزانية الحلف وتهديدهم بأن عليهم أن يدفعوا نفقات حمايتهم بما أوجد توتراً حقيقياً في صفوف الحلف.

 

   تفرد أزمة الشراكة الاستراتيجية الثلاثية

 

   يظهر إمعان النظر في الأزمات السابقة أن الأزمة الأخيرة التي ترتبت على إعلان الشراكة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة، وبريطانيا، وأستراليا هي الأخطر بين هذه الأزمات، فالأزمتان اللتان ترتبتا على الانسحاب الفرنسي من البنية العسكرية لحلف الأطلنطي والسلوك التركي في سوريا والمتعلق بشراء الصواريخ الروسية يعبران عن نزوع استقلالي لم تترتب عيه أضرار جسيمة تمس بنية الحلف أو مهامه، والأزمة اليونانية لم تكن سوى تعبير عن الغضب من قوة ثانوية في الحلف تجاه قيادة الحلف التي لم تبد التأييد الواجب لها في حين كان الموقف السوڤيتي أكثر تأييداً، كما أن انسحاب اليونان من البنية العسكرية للحلف فضلاً عن رمزيته لم يدم لأكثر من ست سنوات، أما التوتر الذي ترتب على سياسة ترامب تجاه حلفائه الأوروبيين فقد سبب امتعاضاً منضبطاً من حلفاء الولايات المتحدة تجاه مطالباتها المالية لهم التي لا يجب أن ننسى أنها لم تكن تخلو من منطق، أما الأزمة الراهنة فهي الأزمة الأولى التي يترتب عليها إلحاق ضرر جسيم بقوة رئيسية في الحلف، إذ انطوت على فقدان فرنسا لصفقة توريد ١٢غواصة ذات دفع تقليدي لأستراليا التي ستستبدل بها غواصات أمريكية ذات دفع نووي، وقد تباين تقدير قيمة الصفقة الملغاة بين المصادر المختلفة ما بين ٣٠-٥٠ مليار يورو، والضرر بالغ في الحالتين، ويبرر رد الفعل الفرنسي شديد الغضب وغير المسبوق ابتداءً من التصريحات التي اعتبرت العمل طعنة في الظهر وخيانة وعودة لأسلوب ترامب في التعامل مع حلفائه، ومروراً بإلغاء السفارة الفرنسية في واشنطن احتفالاً بالذكرى٢٤٠ لمعركة ساعدت فيها البحرية الفرنسية الأمريكيين في حرب الاستقلال١٧٨١م، وانتهاءً بسحب فرنسا سفيريها من العاصمتين الأمريكية والاسترالية للتشاور في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ أزمات التحالف الغربي، وقد حاولت المصادر الأمريكية والاسترالية الدفاع بالقول بأن فرنسا كانت على علم بالمباحثات التي أفضت للشراكة، لكن أحداً لم يدع أنها قد أُحيطت علماً بنوايا إلغاء صفقتها مع أستراليا، والمشكلة أن مصادر الاتحاد الأوروبي شاركت فرنسا وإن بحدة أقل الغضب من إعلان الشراكة وعدم التشاور مع الاتحاد الأوروبي بشأنه، وأكدت أن الحدث يجبر الاتحاد مرة أخرى على التفكير في الحاجة لتطوير استقلاله الاستراتيجي، أي أن نطاق الأزمة تجاوز فرنسا ليشمل الاتحاد الأوروبي كله. 

 

   تحليل قرار الشراكة الجديدة

 

    يثير القرار الأمريكي-البريطاني-الأسترالي بتأسيس شراكة استراتيجية عدداً من القضايا التحليلية لعل أهمها ما يتعلق بمدى رشادته، إذ يمكن ولو بقدر من المخاطرة التحليلية وصف هذا القرار بعدم الرشادة، وهي مخاطرة لأن القرار صادر عن القوة الأولى في العالم ويُفترض أن تكون قوة كبرى كبريطانيا وقوة إقليمية مهمة كأستراليا قد شاركتا فيه، وهذه الدول الثلاثة تتبنى نظماً ديموقراطية ليبرالية تتميز بالمؤسسية والحرية التي تسمح بأكبر قدر من المشاورات التي تفضي إلى رشادة القرارات، وهو وضع سمح بوصف عملية صنع القرار في هذه النظم بالرشادة واعتبارها نموذجاً في هذا الصدد، فهل ينطبق وصف الرشادة على قرار الشراكة الاستراتيجية الثلاثية الجديدة؟ بطبيعة الحال فإن الإعلان الأخير عن هذه الشراكة الاستراتيجية يُفترض أن يعزز قدرات التحالف الغربي في مواجهة الصعود الصيني الذي تراه الولايات المتحدة بحق خطراً على قيادتها للعالم، وهو ما يُحسب للقرار ويدعم وصفه بالرشادة، لكن المسألة ليست بهذا التبسيط بالتأكيد،  ذلك لأن معايير الرشادة بالغة التعقيد وأبسطها حسابات العائد/التكلفة، فالقرار قد يُوصف بأنه رشيد إذا زاد عائده عن تكلفته، وهو معيار يسهل أو يمكن تطبيقه في الصفقات التجارية، لكن الأمر يتعقد كثيراً في الحسابات السياسية التي تنطوي على أمور يصعب بل يستحيل التعبير عنها بلغة الأرقام بدقة، وكثيراً ما يكون الخلاف حول تقييمها شديداً، فالقرار السوري بالاستعانة بروسيا وإيران في مواجهة المعارضة المسلحة لنظام الأسد على سبيل المثال لا شك أنه ساعد كثيراً في الحفاظ على هذا النظام، لكن الوطأة الروسية والإيرانية على القرار السوري تثير إشكاليات كثيرة تُحسب على القرار، ولا شك أن قرار الرئيس الأمريكي جورج بوش في١٩٩١م، بالتدخل العسكري لتحرير الكويت بعد غزو صدام حسين لها في أغسطس١٩٩٠م، يُعتبر قراراً بالغ الرشادة لما سبقه من حسابات داخلية أمريكية ودولية ولما أدى إليه من خروج الولايات المتحدة منتصرة بأقل تكلفة، لكن غزوها للعراق في٢٠٠٣م، وإن أسقط حكم صدام حسين كلفها الكثير وقوض من صدقيتها وقدم العراق لقمة سائغة لنفوذ إيران التي تعتبرها الشيطان الأكبر، بل إن حسابات الرشادة في القرار تتعقد أكثر عندما ينطوي على قيم عليا كالاستقلال الوطني يتحتم الدفاع عنها مهما كانت تلك الحسابات تشير إلى خسارة أكيدة، فهل نصم قرار المرء دفاعاً عن شرفه وماله والقائد دفاعاً عن استقلال وطنه رغم الخلل في موازين القوى في غير صالحه بعدم الرشادة لأنه انتهى بالهزيمة؟ ومع ذلك فإن هذا التعقيد لا يمنعنا من الاجتهاد لتقصي درجة الرشادة في القرارات المختلفة، فأين قرار الشراكة الاستراتيجية الأخير بين الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا من هذا الجدل؟

   لا أخفي دهشتي من هذا القرار توقيتاً ومضموناً، فهو يأتي في سياق التداعيات الكارثية للتطورات الأفغانية وأول دروسها أن القوة العسكرية على أهميتها ليست بالضرورة هي الأكثر فاعلية في مواجهة المخاطر، ولا يعني هذا إهمالها بطبيعة الحال في إدارة التنافس الأمريكي مع الصين، ولكن المؤكد أن الولايات المتحدة متفوقة على الصين عسكرياً حتى الآن، وحتى مع تعزيز الصين قوتها العسكرية في السنوات الأخيرة على نحو لافت فإن أقصى ما يمكن أن تصل إليه هو حالة من توازن الردع مع الولايات المتحدة، وهو ما يعني من الناحية العملية تحييد القوة العسكرية كأداة لحسم الصراع بين الولايات المتحدة والصين كما هو الحال عموماً، وآخر الأمثلة في هذا الصدد الهزيمة الأمريكية في أفغانستان، ولذلك فقد كان متوقعاً أن تقوم الولايات المتحدة بإعادة النظر في أساليبها المتمثلة في توظيف القوة المسلحة بالتدخل العسكري والعقوبات والتي قد لا نبالغ بوصفها بالبالية على ضوء عجزها المتكرر عن النجاح في تحقيق أي هدف عن طريق هذه الأساليب، وبدلاً من قرار الشراكة الذي كان من الطبيعي أن يثير غضب الصين لكنه أيضاً أثار غضباً عارماً من حلفاء كان من الممكن أن تخرج علينا السياسة الأمريكية في هذا التوقيت بمبادرات اقتصادية ودبلوماسية وثقافية تستطيع بها تطويق ما تراه بحق خطراً صينياً على مكانتها القيادية وهي المبادرات التي برعت الصين فيها حتى الآن، أما من ناحية المضمون وبافتراض أن القرار سيفضي فعلاً إلى نقلة عسكرية نوعية في المواجهة مع الصين فإنه قد أحدث أزمة غير مسبوقة في التحالف الغربي نتيجة الغضب الفرنسي العارم وغضب المصادر القيادية في الاتحاد الأوروبي سواء بسبب دلالات القرار بالنسبة لمكانة فرنسا والاتحاد الأوروبي في السياسة الأمريكية، ناهيك بأن ذلك الغضب الفرنسي العارم يرجع إلى ما ترتب على الشراكة الاستراتيجية الثلاثية الأخيرة من ضرر جسيم لحق بالمصالح الفرنسية نتيجة ضياع صفقة بناء غواصات فرنسية قدر بعض المصادر  قيمتها بحوالي٦٠مليار دولار على أساس أن أستراليا ستستبدل بالغواصات الفرنسية ذات الدفع التقليدي أخرى ذات دفع نووي، وليست الخسارة مادية فادحة فحسب ولكنها ضربة قاسية لمكانة الصناعة العسكرية الفرنسية التي تلعب بالإضافة إلى دورها الأمني دوراً مهماً في الاقتصاد الفرنسي، ومن الواضح أن مصالح المجمع الصناعي العسكري الأمريكي هي القوة الدافعة الأولى وراء هذا القرار، فصفقة كهذه يسيل لها لعاب أي صناعة عسكرية مهما بلغ حجمها، وهو ما يذكرنا بتحذير الرئيس الأمريكي الأسبق دوائر أيزنهاور من سطوة المجمع الصناعي-العسكري على القرار الأمريكي، ولهذا جاء رد الفعل الفرنسي شديد الغضب فاستُخدمت كلمات مثل طعنة في الظهر وكذب وخداع وانتهازية، ثم جاء القرار غير المسبوق في العلاقة بين القوى الغربية الكبرى وهو سحب فرنسا سفيريها في الولايات المتحدة وأستراليا، لكن الأقسى من ذلك كانت إجابة وزير الخارجية الفرنسي على السبب في عدم سحب السفير الفرنسي من بريطانيا في حين تم سحبه من عضوي الشراكة الآخرين، ومفادها أن فرنسا تعودت الانتهازية من بريطانيا، ويبدو أن السؤال سيبقى قائماً عن المدى الذي ستواصل فيه بريطانيا انقيادها الأعمى للسياسة الأمريكية رغم عديد من المغامرات الفاشلة آخرها غزو العراق وأفغانستان، والمشكلة أن الاتحاد الأوروبي يؤيد فرنسا في موقفها وإن بحدة أقل وتتحدث مصادره القيادية عن الحاجة إلى تطوير الاستقلال الاستراتيجي للاتحاد الأوروبي.

 

رؤية للتداعيات

 

    رأينا ما أدى إليه إعلان الشراكة الاستراتيجية الثلاثية الجديدة من تداعيات شديدة الغضب على الصعيد الفرنسي مع تعاطف أوروبي واضح مما يفضي إلى ضرورة التأمل في تأثير هذه التداعيات على صعيد التحالف الغربي من المنظور الاستراتيجي، كما أنه من الضروري بطبيعة الحال النظر في رد فعل الجانب المستهدف بهذه الشراكة وهو الصين.

   أما عن التداعيات على الصعيدين الفرنسي والأوروبي فقد سبقت الإشارة بدرجة كافية إلى ردود الفعل الفرنسية الحادة والمبررة، وإن كان مما لا شك فيه أن وقوع الانتخابات الرئاسية الفرنسية القادمة على مقربة أشهر من إعلان الشراكة ربما يكون قد زاد من حدة ردود الأفعال، أما الاتحاد الأوروبي فقد كان من الطبيعي أن يتعاطف مع الموقف الفرنسي ويتبناه وإن بدون التعبيرات شديدة الحدة التي اتسم بها، فلا شك أن لفرنسا وزنها القيادي في الاتحاد كما أن اتفاقية الشراكة الثلاثية وإن أصابت المصالح الفرنسية بضربة قوية مباشرة إلا أن دلالتها بالنسبة لأوروبا غير خافية، خاصة وأنها تجئ في سياق تسلسل يشي بخللٍ ما في النظرة الأمريكية لأوروبا، وإذا اكتفينا بالسنوات الأخيرة سوف نجد إرث سنوات ولاية ترامب الذي تعامل مع حلفائه الأوروبيين بفجاجة حتى وإن كان محقاً في بعض مطالباته، ولم يخف عداءه للاتحاد الأوروبي، وبعد أن بدا أن خلفه جو بايدن يصلح ما أفسده فإن وقائع مثل التجسس على قادة أوربيين وعدم التشاور مع حلفائه الأوروبيين في إدارة الكارثة الأفغانية وأخيراً وليس آخراً عدم التشاور أو الإبلاغ عن تأسيس الشراكة الاستراتيجية الثلاثية الجديدة كلها مؤشرات على استخفاف أمريكي بأوروبا لابد وأن تكون له تداعياته المستقبلية، وإذا كانت ردود الفعل الفرنسية والأوروبية الحادة يمكن أن تذوى على المدى القصير خاصة مع التصريحات الأمريكية الرسمية التصالحية عن قوة العلاقات مع فرنسا واستدامتها بما في ذلك في مجال التعاون العسكري فإن الآثار الاستراتيجية بعيدة المدى لا يمكن تفاديها خاصة وأن النزوع إلى بناء خيار دفاعي أوروبي مستقل قديم قِدَم الحلم الأوروبي ذاته، وإن كان عدم التوافق الأوروبي حوله قد سبب تعثره، لكن أنصاره المتحمسين له لم يتخلوا عنه أبداً، ومع كل واقعة تشير إلى عدم إيلاء السياسة الأمريكية الاعتبار الكافي لأوروبا في قراراتها المصيرية فإن هؤلاء الأنصار يجدون المزيد من الحجج لتأكيد وجاهة منطق الخيار الدفاعي الأوروبي المستقل عن الولايات المتحدة، وربما يكون التنافس الأمريكي-الصيني قد عزز هذا المنطق نظراً للتباين بين الرؤيتين الأمريكية والأوروبية للصين، فبينما تضعها الولايات المتحدة على قمة المخاطر التي تواجهها يرى الجانب الأوروبي وبالذات الفرنسي والألماني ضرورة تبني مقاربة متوازنة تجاه الصين نظراً لحالة الاعتماد المتبادل القوية القائمة معها، وقد مارست الولايات المتحدة في الاجتماع الأخير لحلف الأطلنطي ضغوطاً حقيقة كي يعبر البيان الصادر عن الاجتماع عن وجهة نظرها بشأن الخطر الصيني إلا أن البيان عكس في النهاية الإصرار الألماني-الفرنسي على ضرورة تبني مقاربة متوازنة تجاه الصين، ويعني هذا أن إدارة العلاقات مع الصين سوف تمثل شرخاً جديداً في التحالف الغربي.

   أما الصين فمن البديهي أن تعترض على الاتفاق باعتبارها المستهدفة الأولى منه فاعتبرته تقويضاً للاستقرار الإقليمي وتحريضاً على مزيد من سباق التسلح في المنطقة بالنظر إلى ما تضمنه من تعزيز القدرات الدفاعية لأستراليا وما دل عليه من مزيد من استمالتها للصف الأمريكي ضد الصين التي اعتبرت الاتفاق أيضاً بالإضافة لما سبق متجاهلاً لمعاهدة منع انتشار الأسلحة النووية، ومن المؤكد أنه مهما كانت دلالات الاتفاق سلبية بالنسبة للصين فإنها ستمضي في نهجها الناجح حتى الآن في الشؤون الدولية بالاعتماد أساساً على المقاربات الاقتصادية ذات النفع المتبادل لأطرافها، وهو ما يخلق لها شراكات دولية قائمة على المصالح بالإضافة إلى المضي قُدُماً في تعزيز قدرتها العسكرية وتعاونها مع روسيا، والواقع أن القطار الصيني المتجه بثبات إلى القمة الدولية لن توقفه سوى مشكلات داخلية.

 

   أين نحن من هذه التداعيات؟

 

    لعله من الممكن أن نلخص أهم تداعيات الشراكة الاستراتيجية الثلاثية الجديدة في ثلاثة هي تعميق الشرخ الأمريكي-الأوروبي داخل التحالف الغربي، وتصعيد التوتر في المسرح الدولي بين كل من الولايات المتحدة وحلفائها والصين وحلفائها بغض النظر عن الدرجة التي سيصل إليها هذا التوتر، وتأكيد تراجع الأهمية الاستراتيجية لمنطقتنا من العالم في السياسة الأمريكية، وهذا هو أكثر ما يعنينا، فتعميق الشرخ في التحالف الغربي بين الولايات المتحدة والدول الأوروبية لا يحمل لنا فائدة بحد ذاته، والأمر نفسه ينطبق على زيادة التوتر الدولي بين الولايات المتحدة والصين، فقد مضى زمن الاستقطاب الأيديولوجي الذي كان يسهل فيه حصد المكاسب من أحد طرفيه بالانضمام إليه ضد الطرف الآخر، وليس من المصلحة العربية على أي حال أن نتخذ في هذا السياق مواقف مبنية على انحيازات سياسية وليس حسابات مصلحية، وهو معنى يتأكد مع كل تطور دولي جديد مهم وآخر الأمثلة ما أكدته التطورات الأفغانية الأخيرة، ويبقى لنا أن نهتم بتداعيات ما يُقال عن تراجع الاهتمام الأمريكي بمنطقتنا أو حتى الانسحاب منها.

   يثير هذا الأمر أسئلة عديدة لعل أهمها سؤالان أولهما هل حقاً يمكن أن تنسحب الولايات من المنطقة؟ والثاني هل هذا التراجع ينطوي على مضامين إيجابية بالنسبة لنا؟ وبناءً على الإجابة على هذين السؤالين يمكن محاولة الإجابة على سؤال: ما العمل؟ أما انسحاب الولايات المتحدة من المنطقة فهو مستحيل على الأقل في ظل الالتزام الأمريكي الصارم بأمن إسرائيل والمصالح الاقتصادية الضخمة للولايات المتحدة في المنطقة العربية وعلى رأسها مبيعات السلاح وشركات البترول، فالولايات المتحدة تدرك بالتأكيد أن الدول العربية قادرة على إيجاد بدائل لها في تلبية احتياجاتها الحيوية، وليس منطقياً أو ممكناً أن تضحي بسهولة بمصالحها لدينا، وكل ما في الأمر أنها قد تغير من أدوات تنفيذ سياستها في المنطقة كالعزوف عن المغامرات العسكرية مثلاً، أما السؤال الخاص بمدى إيجابية تراجع الاهتمام الأمريكي بالمنطقة بالنسبة لنا فمن المؤكد أن هذا التراجع ينطوي على أبعاد إيجابية بالنسبة لنا على الأقل لأنه يقينا شر المغامرات الأمريكية غير المحسوبة في المنطقة كمغامرة غزو العراق التي أدت إلى تأجيج الفتنة الطائفية في النظام العربي وتفاقم الإرهاب على نحو غير مسبوق واستشراء النفوذ الإيراني في العراق، غير أن هذا لا يمثل سوى بعد واحد من أبعاد تداعيات التراجع الأمريكي في المنطقة، أما البعد الثاني المهم الذي يجب علينا إعطاءه حقه من الاهتمام الواجب فهو أن ذلك التراجع سوف يفتح شهية القوى الإقليمية الرئيسية المحيطة بنا لمزيد من اختراق المنطقة، ولكل منها مشروعه الذي ينطوي على تصادم واضح مع مصالحنا، ولذلك فإن مهمتنا الرئيسية من الآن يجب أن تركز على ضرورة التوصل إلى الصيغة المثلى من وجهة نظرنا للعلاقة بهذه القوى والتي من شأنها أن تحمينا من أطماعها وتتيح لنا فرص الاستفادة من التلاقي المحتمل ولو الجزئي بين مصالحنا ومصالحهم، ولن يكون في مقدورنا التوصل إلى هذه الصيغة فرادى ومن ثم فإن الخطوة الأولى في هذا الصدد يجب أن تبدأ بإصلاح النظام العربي.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*أستاذ العلوم السياسية ـ كلية الاقتصاد والعلوم السياسية ـ جامعة القاهرة

مقالات لنفس الكاتب