; logged out
الرئيسية / النزعة الإنسانية لدى شعراء الخليج: الصحراء والبحر والسندباد في لوحة الشعر

العدد 168

النزعة الإنسانية لدى شعراء الخليج: الصحراء والبحر والسندباد في لوحة الشعر

الأحد، 28 تشرين2/نوفمبر 2021

ليس مستغربًا موقف الشعراء العرب في الخليج من قضايا الإنسان، وتطلعاته إلى آفاق بعيدة من السمو بالإنسانيات والارتفاع بها على مستوى الشعر العالمي الإنساني في منطلقاته وتطلعاته العامة والخاصة في آن معًا. فقد عاش العرب القدماء حياة قاسية مبعثها قلة الموارد، ونضوب الماء، وضيق الحياة ومن ثم كان الغزو مصدرًا مهمًا من مصادر الإعاشة بالنسبة إلى الأعراب يلجؤون إليه أيام الشدة والمحنة لغناء أهل القرى والمدن بالنسبة إلى أهل البادية. ومن هنا فقد صارت هذه المواضع هدفًا مقصودًا للأعراب ومصدرًا من أهم مصادر الرزق عندهم. وأيضًا لضرورة الدفاع عن النفس، وللوقوف أمام طمع القبائل القوية في القبائل الضعيفة، اضطرت أكثر القبائل إلى التحالف والتكتل لمنع الغزو فيما بينها مقاومة أي غزو يقع عليها.وقد صور الشعر الجاهلي صورًا من ذلك الصراع مع البيئة، صورته امرأة عربية تنسب إلى بني أسد:

ألمْ تَرَنَا غَبَّنَا مَاؤنَا  

 

زَمَاناً فَظَلْنَا نَكُدُّ البِئارَا

 

 

فَلَمَّا عَدَا الماءُ أَوْطَانَهُ  

 

وَجَفَّ الثِّمَادُ فَصَارَتْ حِرَارَا

وإذا انتقلنا إلى الوقت الراهن سنجد ولعًا بالصحراء لدى شعراء الخليج بشكل لافت، وكأن لم يعرف العرب حياة المدنية والاستقرار، فهذا محمدالثبيتي يرتمي في أحضان السكون.

تمتلك نصوص الثبيتي قدرة خاصة على استبطان النفس، وإخراج ما بها من مكنون؛ لأن انتماء الشاعر إلى الصحراء والفضاء الساحر فيها يؤجج المشاعر الذاتية، ويؤلب النفس الإنسانية ضد السكون الكامن في فضاءات البيد؛ فهو سيد البيد، وحارس روح الصحراء" الثبيتي بهذا المعنى هو المعبر الأمثل عن روح المكان وجماليات الصحراء وصدى الحدوس الجمعية. وهو أكثر من أقام تضرعات استسقاء رمزية للأمطار المحتبسة في أحشاء الغيوم الحرون".

هنا أنحرُ الليلَ، أغنّي الزمان/هنا أتلقَّى حديثَ القمرْ/ هنا أقتلُ الشِّعرَ عند الغروبِ/وأبعثهُ حينَ يأتي السحرْ/هنا أصهرُ النورَ حتَّى يذوب/وألقي في عيونِ الزهرْ/هنا يرقدُ الهمُّ في خاطري/ويسلبني أملي المنتظَرْ.

تدلنا العتبة النصية (في أحضان السكون) على جملة منقوصة، ففي أحضان السكون (شبه الجملة) هناك مبتدأ محذوف، والحذف هنا يذهب في تأويله العقل كل مذهب، ترى ما الذي يكون في أحضان السكون؟ هل روح الشاعر التائه في بحر السكون؟ أم التعبير عن محبة الشاعر إلى الصحراء والاقتراب من سحر الفضاء والابتعاد عن صخب المدينة ومن فيها من كائنات وموجودات؟ فالعنوان يحمل ما يحمل من إثارة ودهشة.

يستوقفك الظرف(هنا) بإحالته إلى الزمان والمكان معًا، فالصحراء هي غناء الزمان، حديث القمر، مبعث الشعر، والدافع إليه، صهر النور حتى يذوب، وسلب للأمل المنتظر. وإذا تأملنا العنوان، والكلمة المفتاح في بداية القصيدة فسنجد أنها ظرف للمكان(هنا) وكأن الشاعر يريد أن يلقي الضوء بواسطة كاميرا خاصة ليضع نقطة ضوء مسلطة على المكان؛ ففي أحضان السكون إشارة إلى الصحراء، ثم ينتقل إلى الظرفية المكانية هنا، وكأنه يضعنا مباشرة أمام مسرح أحداث القصيدة، ونلاحظ تكرار "هنا" خمس مرات متتالية في المقطع الأول من القصيدة، ومرة واحدة في المقطع الثاني؛ فتجد أن كلمة (هنا) قد اكتسبت جرسًا موسيقيًا شجيًا إثر تكرارها في سياق مشبع بالحرارة والعاطفة. لأننا بدأنا نتفاعل مع روح المكان وكل ما يجري فيه؛ ولذا كان التكرار بمثابة التمهيد والتعرف بالمكان وأحداثه.

وفي المقطع الثاني للنص: هنا يومضُ اللحنُ في أضلعي/وينزعُ أسرارَهُ من دمِي/وينحتُ من مقلتيّ الرؤى/وتطربُ أوتاره أنجمي/ويغرقني في الشقاء اللذيذِ/وتملأ أوهامه عالمي.

يعتمد الثبيتي على التكرار في رسم صوره، وينتقي من الأزمنة المختلفة المضارع الدال، ففي المقطعين معًا يتردد الفعل المضارع سبع مرات، على شكل متوالية زمنية يستحضر من خلالها بهاء المكان وسحره، وينتزع الأسرار، وينتثر المضارع في المقطعين بشكل لافت؛ فلو تأملنا توالي المضارع كالتالي:

 سبعة أفعال مسندة إلى ضمير المتكلم.. أنجز.. أغني.. أتلقى.. أقتل.. أبعث.. أصهر.. ألقي..

وثمانية أفعال مضارعة منسوبة لضمير الغائب هو .. يأتي.. يذوب.. يرقد..يسلب.. يومض.. ينزع.. ينحت.. يغرق..

وفعلين مضارعين منسوبان إلى ضمير الغائبة.. تطرب .. تملأ ..

وهذا التوزيع ليس عشوائيًا، بل جاء عن قصد، ليدل على أهمية الضمير وتوزيعه على الرقعة الشعرية ليحدث تفاعلاً حواريًا ناشبًا بين الضمائر بعضها ببعض، وذلك لمنح القصيدة بعدًا دراميًا بتعدد الأصوات، والضمائر هنا تنوب عن الأشخاص، والأسماء الظاهرة، والأشخاص غائبون بالفعل في ظل هذا المكان الموحش الذي يتصارع فيه القتل والبعث والصهر والذوبان والسلب .. في منظومة درامية ناجزة. وإقصاء الماضي عن المشهد الشعري برمته يجعل من النص مشاهد ريؤية معبرة كبديل تلقائي لشاشة العرض السينمائي في ظل مكان أشبه بالسينما أو المسرح تتفاعل فيه الضمائر/الشخوص.

فعلى الرغم من البعد الزمني الملاحظ عن شاعرة الجاهلية التي رأت في الوصول إلى الماء مشقة كبيرة، ولكن القصيبي يرى في أرض الخليج ما لايراه غيره فهي زاهية الأضواء، بادية المنارات، فيقول، وقد أحدثت يد العمران أكناف الخليج وأركانه، فغدا مزارًا للوافدين عليه، يحفه الضوء من كل جانب:

الضوء لاح فديت ضوءك في السواحل يا منامة/فوق الخليج أراك زاهية الملامح كابتسامه/المرفأ الغافي وهمسته يهنيء بالسلامة/ونداء مئذنة مضوأة ترفرف كالحمامة/ياموطنى ذا زورقي أوفي عليك فخذ زمامه.

ومن هنا نلتقط طرف الخيط لنعرف ما المقصود بالنزعة الإنسانية حسبما جاء في معجم المصطلحات الأدبية، حيث ينص على تحديد المفهوم؛ فالنزعة الإنسانية نسق من الفكر أو الفعل يعتبر أن المصالح والقيم والكرامة الإنسانية لها الصدارة .. حيث أكدت جدارة الإنسان الجوهرية وكرامته ومقدرته، فالإنسان هو مركز الكون، وأنه جدير بأن يحيا حياة العقل والكرامة والأخلاق، وأن السعادة من حقه.  وإذا نظرنا إلى غاية الأدب في تنمية الحياة البشرية ونشر القيم الإنسانية النبيلة دون أن يقع في أشراك الدعاية والخطابة وجدنا النص الأدبي يستطيع أن يخاطب الحقائق الجوهرية التي تعرفها الروح والنفس وأن يتوجه إلى جوهر الإنسان بغض النظر عن مظهره. ومن ثم وجدنا القصيبي يعود في شعره إلى جوهر الإنسان، يرنو إلى النفس كالطفل الغرير، متقلبًا بين غربة الروح ونجيب النفس:

أنا ذلك الطفل الغرير /رمته للدنيا الخطوب /تركته في صخب الجموع /يكاد يخنقه النحيب /أبدا تمر به العيون /تكاد تصرخ يا غريب.

إننا إذ نقلب أوراق شعر الخليج تستوقفنا تجربة الشاعر الكويتي فهد العسكر وهو يئن بالشكوى من بني الإنسان، ويضجر من آثارها وصداها، والشكوى ثيمة إنسانية فيها يجأر الشاعر نتيجة ضغوط الحياة وآلامها المريرة، فقدم فهد العسكر نموذج الشكوى باعتباره نزعة إنسانية تتجاوز الخاص إلى العام، وتتخطى الشخصي والمحدود إلى جوهر الإنسان، دون أن تفقد الشكوى حرارة حاضرها الخاص، وسياقها المحدد، ومن ثم تكتسب الشكوى عند الشاعر كثيرًا من رونقها وجمالها. فيقول:

يا ناس قد أدمى اغترابي مهجتي والدار داري

أصغي فلم أسمعبها غير النهيق أو الخوار

أنا لم أجد فيها غيورا قام من درك العثار

فمظاهر خلابة والآل يخدع في الصحاري          

وما من ريب أن الشكوى تعمل على إزالة الهم من الصدر، وتخفيف الهموم والكروب، إذا صدقت معالمها وتحددت تخومها، فهنا تكون الشكوى دواءً لكثير من العلل التي لا يُعْرَفُ مصدرها العضوي. ففي تجربة الشكوى "لا بد أن يتوافر في التجربة صدق الوجدان فيعبر الشاعر فيها عما يجده في نفسه ويؤمن به"، وذلك لأن "أقدر الناس تعبيرًا عن الشقاء من كان الشقاء في نفسه، وأقدرهم تعبيرًا عن الغضب من استطاع أن يملأ بالغضب قلبه" وفي الشكوى ضعف، ووهن، وألم، وانحناء. إذا قصدت الذاتُ من هو أقل من المطلوب، وأضعف من تلبيتها، وفيها عزة وكبرياء وحب إذا قصدت الذات من هو أعلى منها شأنا ومكانة وقدرة. فقد لجأ يعقوب النبي – عليه السلام-إلى ربه وقال: "قَالَ إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّى وَحُزْنِى إِلَى ٱللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ"(يوسف 86).

والسعي إلى تصوير جوهر الإنسانية يتم من خلال تحويل النماذج الفردية إلى أنماط، والحوادث والأحداث إلى أنساق، والعلامات إلى رموز. النماذج الفردية تتمثل في تحويل نموذج المديح الشخصي إلى مديح قومي، يتغنى الشاعر الخليجي غناء كوثرا على مر العصور، فهذا محمود شوقي الأيوبي، شاعر الكويت الكبير، يتغنى بقومه، ويصف حبه لهم، في أغرودة بيضاء، فبدل أن يتغنى الشاعر بشخص ما، أو موقف ما، أصبح يتغنى بقوم الكويت جميعًا، فيقول: 

إن الكويت صغيرها وكبيرها    قوم إلى مجد العروبة أعنقوا

إني تلوت بحبهم أغرودة       هي من ضميري شعلة تتألق              

النسق الشعري هو نظام من الممارسات الفردية يشكله فكر الجماعة، ويصير فيه الشاعر أداة يحقق بها النسق الثقافي أهدافه. وحتى يتم تحويل الحوادث والأحداث إلى أنساق فإننا ننظر في شعر شعراء الخليج نظرة متأنية مستبعدين فكرة الزمن التاريخي، فالشعر الديني في المناسبات الدينية تعبير عن روح الجماعة، وإن جاء على يد أفراد، صورة البحر ورمزيته عند شعراء الخليج صورة تعبر عن روح المكان، وحب أهل الخليج للبحر وتصويرهم له في أشعارهم صورة ممتدة عبر أزمان قديمة حتى الآن، يقول محمد الفايز:

سأعيد للدنيا حديث السندباد/ماذا يكون السندباد؟ /شتان بين خيال مجنون، وعملاق تراه/يطوي البحار على هواه/بحباله، بشراعه/بإرادة فوق الغيوم/بيد تكون عروقها الزرقاء ترتجل النجوم.

فالبحر والسندباد رمزان ثريان لدى شعراء الخليج، فصورة البحر غالبًا توحي بالخوف والأمان في آن معًا، والسندباد الأسطوري رمز لمغامرات الملاح الذي يرغب في اكتناز الصيد والرحلة. فالبحر إذن يزخر بالكنوز، ويمتلئ بالرعب والفزع، وله مع شعراء الخليج حكايات دفينة، يقول علي عبد الله خليفة:

إيه يا بحر حكايانا كثيرة/ملّها الليل، ومجتها الظهيرة/كدّني الغوص ومازلت أسيره/هاهم قد خلفوني/كالبقايا ... من نفايات حقيرة

ومن النزعة الإنسانية أيضًا استلهام التاريخ في سبيل إعادة قراءته وإسقاطه على الحاضر، والتأكيد على وحدة التجربة الإنسانية، رغم اختلاف تجلياتها، ففي عام 1968م، يكتب غازي القصيبي قصيدة (بعد سنة) ليشير إلى هزيمة 5 يونيو 1967م، مع العدو الإسرائيلي، عندها

إنني أذكر ذاك اليوم ...

-هل مرت سنة؟

عندما خضنا مع المذياع

حطين الجديدة

عندما عشنا مع المذياع

مجد القادسية

...

هزمت أشعار عنتر

رجعت خيل أبي الطيب

لم تصهل مع النصر المؤزر

وارتمى سيف أبي تمام   

وارتاع الغضنفر

فتلاحظ ترديد حطين، القادسية، أبي تمام، عنتر، أبي الطيب المتنبي، وكلها أسماء تاريخية حكت تاريخًا مهمًا في حياة العرب، فحطين تستدعي صلاح الدين والصليبين، والقادسية تستدعي سعد بن أبي وقاص والفرس، وكأن القصيبي يستلهم من هذه المعارك الكبرى للمسلمين نصرًا مؤزرًا قادمًا، ويبث الطمأنينة في نفوس الجنود المصريين والعرب. وإعادة قراءة التاريخ القديم في معارك النصر على الفرس والصليبيين يثبت أقدام الجنود المصريين ويعدهم بالنصر بعد الهزيمة التي رجت الدنيا أنذاك. وكذلك أسماء الأبطال من رموز العرب القدامى، كعنتر، والغضنفر، وأبي تمام، وأبي الطيب المتنبي، وأدوات القتال آنذاك السيف والخيل .. كلها لتذكير الجنود باقتراب النصر، والالتفاف حول القيادة.

واستلهام تاريخ الأمم الأخرى للعبرة والعظة؛ فكل الشعوب تسعى للنضال والتحرر، وما أشبه شعبًا بشعب، في النظال والصراع من أجل الحرية، وقد كانت هزيمة 1967م، وبالاً على الشعودب العربية، فكتب القصيبي أيضًا قصيدة "الهنود الحمر" يستلهم فيها تجربة الأمم الأخرى ومحاولة الاستفادة من تجارب هذه الأمم حتى لا تصبح معاركنا شموعًا في متاحف الشموع. فيقول:

مرت سنون/واليوم ماذا عن حضارتهم؟ /نقوش/ملء المتاحف .. أو بقايا من سلالتهم/على السواح تعرض.. ثم يبتسم الدليل:

"عاشوا كما تحيا الوحوش/كانوا يحبون الطبول/ويزمجرون على الخيول/ويلقبون زعيمهم صقر الجبال"/قل يا أخي/والنجمة المعقوفة الشوهاء/تلمع في المنائر/والمسجد الأقصى يردد ما/يرتله اليهود من الشعائر/هل يبصر السواح يوما ما/حضارتنا بقايا/ملء المتاحف/أو سبايا/في حانة في تل أبيب؟

تقدم الشعرية النسوية في الخليج نماذج إنسانية راقية فيما يتعلق بصورة المحبوب حيث تفاجئك بروين حبيب بصورة آسرة لمحبوب سارق الأسى من حديقة فارسية، صورة تتكئ على الأساطير القديمة التي كانت تعتقد في أسطورة العقيق الأحمر، والحدائق الفارسية، وأعمدة النار؛ ففي الديانة اليهودية العقيق رمز الروح الإلهية، ويعتقدون أن له القدرة على تحقيق الاستقرار العاطفي والوقاية من الاكتئاب، وفي الشرق الأول هناك اعتقاد أن العقيق الأحمر يكون تأثيره أكبر إذا كان مستخرجا من اليمن والعراق وفي الحضارة العربية عرف العقيق الأحمر قديمًا بقدرته على الحماية من لدغات العقارب في الصحراء وكذلك الثعابين والحشرات، ويحمي الإنسان من شرور الصواعق والحظ السيء.فتقول في قصيدة "سرير يتيم".

أنت سارق الأسى من حديقة فارسية/ أنت قرار الوتر النازف ساعة العاصفة/ أنت دم العقيق ونهايات الروح/ وأنا على مرمى جبهتك العصية/ أعمدة النار العارية/ هائمة في انطفاء الجسد/مقبلة/ في بوحك السري/ أتمدد فيها بتناوب كسير/ خيط نور في وجهك المتلفت/ أحبك، وأترك الشاي يتيما عند الأريكة الزرقاء/ أحملك وأفتح نهار العابرين.

 تعتمد بروين حبيب على ترصيف الكلمات وتنضيد الجمل واصطفاف البنيات اللفظية عبر حمل متوالية لها نسق بنائي واحد تقريبًا، تبدأ بجمل اسمية تؤكد من خلالها على حالة استاتيكية ساكنة شكلاً، ومتفجرة مضمونًا، ترسم من خلالها صورة أسطورية لمحبوب خيالي، له قدرة عجيبة على محو آثار الحزن من الجبين المُعَنّى، يتمدد في وجهه خيط نور قادر على تعديل مسارب الوجه المتعب، والتعبير عنه بالضمير (أنت) ثلاث مرات عبر متوالية تعبيرية لصيغ متوازنة متوازية  إشارة إلى حضوره وغيابه في آن واحد، ويأتي التعبير بضمير المتكلم (أنا) في إشارة للحضور الأنثوي كسارد عليم في هيئة التفات بلاغي مجدول، ولعلها ترمز بهذا التكثيف البلاغي الطاغي إلى توجيه خطاب أنثوي إلى مجتمع ذكوري طاغ في العنف واضطهاد للمرأة.  

أما فاطمة التيتون فترى في المحبوب خلاصًا من رتابة الحياة وقسوتها، فتمتزج به امتزاجًا قويًا، وتصفه وصفًا أسطوريًا يبدو بين الضباب، هابطًا من السماء، يحيطه وهج العطر ويلبس لؤلؤة في الجبين، ممسكا بين يديه المنى..

أسميك عطري وعشقي وميلاد يومي الجديد/ ووجهي الذي لا يراه الضباب، ولا أنت تغني، ولا تلبس الشوق، ولا تستجيب/ أراك بعيدًا، يحيطك وهج العطر، وتلبس لؤلؤة في الجبين، وتمسك بين يديك المنى، ويمطرك الشهد/ أراك بعيدًا، ولست هنا/ أيها القمر عندما تنضج وتحين ليلتك قل لنا.     

  تفتن نبيلة زباري بكاف التشبيه لتسبغ على محبوبها أوصافًا مضيئة، فهي ترى محبوبا ، كضوء قنديل، كصبح، كرسالة، كرشفة ماء .. فتقول عن إحساسها بالمحبوب

أحسك/ كضوء قنديل يتلمس المكان/ كصبح يبحث عن فرح المرافئ/ كرسالة لا تحتاج إلى الكلمات/ ورشفة أعادت الكون/ من شفاه الظمأ

ويلاحظ على صورة المحبوب عند شواعر الخليج عامة والبحرين خاصة اقترابها من لغة الأساطير؛ فالرجل الأسطوري لديهن صورة مكررة عند كثير من شواعر البحرين، صورة متخيلة في شعرهن، ترتقي إلى وصف خيالي لا واقعي ملموس، كما أن صورته أيضًا تكاد تصل إلى درجة الاكتمال، والفتوة، والقوة، واللذة، والعشق. وهي صورة متخيلة ليس لها من الواقع شيء، كما تبدو المرأة الشاعرة ذات أنا متضخمة، فهن ملكات ولسن من البشر. بيد أنهن يبحن لسلطان الشعر بما شاءت لهن الأسرار. ويغلب على صورة المحبوب عند شواعر الخليج إضفاء لمسة حزينة، تتجلى في فقدهن إياه غالبًا، فتشيع لمسة الحزن والألم والموت.  وفي شعرهن عمومًا جرأة وتجاوز ربما يَلْقَين بسببها قلقًا اجتماعيًا أو ثقافيًا، ولاسيما تجاوزهن في شعر وصف المحبوب، وكان يجب أن ينتبهن إليه مخافة الوقوع في ضيق الوعي.

هذا، وقد استقر مفهوم "النزعة الإنسانية وتبين عند المتخصصين بأنها مركزية إنسانية متروية، تنطلق من معرفة الإنسان، وموضوعها تقويم الإنسان، وتقييمه، واستبعاد كل ما من شأنه تغريبه عن ذاته، سواء بإخضاعه لقوى خارقة للطبيعة البشرية، أم بتشويهه من خلال استعماله استعمالاً دونيًا، دون الطبيعة البشرية".

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*ناقد أكاديمي

مقالات لنفس الكاتب