; logged out
الرئيسية / أهمية مشروع ثقافي ينسجم مع العصر ويدخل في مداره ونقله للمتلقي

العدد 168

أهمية مشروع ثقافي ينسجم مع العصر ويدخل في مداره ونقله للمتلقي

الأحد، 28 تشرين2/نوفمبر 2021

أبدأ بوضع خط تحت وصف: الثقافة الناعمة؛ هذه النعومة، في دلالتها على نفاذ التأثير الثقافي، تُقدمُ معنىً إيجابيًا مستقرًا من معاني رقي التلقي وحضاريته ببذر حالة من حالات التنمية الرفيعة للشعوب التي تسعى إلى أخذ موقعها في حركة النمو والتطور آخذة من الثقافة وسيلة لها. 

   يفتح السؤال عن  دور الثقافة كقوة ناعمة في خدمة  قضايا المنطقة إلى النظر في مرتكزات خطابنا الثقافي كي يتحقق هذا التأثير الناعم للثقافة وأجده يشدني إلى الاقتراب من حالة توصيف المثقف الذي سيحمل على عاتقه تقديم هذه الثقافة، وتبرز أمامي أصابع مُشهرة تشير إلى مناطق لا بد من حسمها وفي مقدمتها طبيعة المشرع الثقافي الذي نبشر به، فلا بد من وجود مشروع ثقافي منسجم مع إيقاع العصر يتفهمه ويعرف كيف يدخل في مداره ومن ثم يصبح قادرًا على نقله إلى المتلقي وجذبه إليه لتتفتح عواطفه ومداركه العقلية وينضم إلى هذا العصر المتوثب في حركته العلمية والثقافية.  

ومن أهم منطلقات هذا المشروع هو البدء بتفريغ الساحة الثقافية مما دخلها من هواء فاسد، ومن تهميش لثقافة العصر المتفتحة ومن سيادة خطاب منكمش يخاطب نفسه وكأنه يعيش في عالم القيود والسدود الذي كان قائمًا في عصور سابقة.

 ولأن الخطاب الديني له حضور كاسح في ثقافتنا القائمة ومتصدر في قلب صورتنا التي نقدمها أجدني منجذبًا ليكون نموذجي الذي أستشهد منه مشيرًا إلى ركيزته الأساسية المتمثلة في أنه فكر يرى من الصورة الإنسانية العامة الجانب الذي يقف فيه فقط وليس ما عداه. إذن علينا أن نواجه هذه الحقيقة، وننفض من خطبنا وكتبنا ومناهجنا كل فكر يضيق بالآخر، ولا يشجع على التفهم والقبول والتعايش، وأن نُخلِّص خطابنا من لعن الآخرين والدعاء عليهم مكتفين بالدعاء لأنفسنا بالخير ولهم بالهداية إذا لم نتجه بقوة إلى هذا التوجه وننزع الشوكة القاتلة المزروعة في أفكارنا لن نستطيع أن نصل إلى أي كان؛ فلنبدأ برفض أي فكر يتغذى على نبذ الآخرين. " ولو كنت فظًا غليظ القلب لا نفضوا من حولك " ..

ولبناء هذا الفكر الإيجابي لابد من خطوتين أساسيتين، أولاهما تحصين واستجلاء ما في الفكر الديني من جانب إنساني سمح رفيع، كما تنص نصوصه نفسها. وهذا واجب المؤمنين والدعاة المستنيرين.

والثاني أن يلتفت مفكرونا إلى إيجابيات الفكر البشري قديمًا وحديثًا، بما فيه من أفكار أخلاقية عالية وقيم رفيعة نتبناها ونشيعها ولا نخلق بيننا وبينها ستار الشك أو حساسية الرفض، فالحكمة ضالة المؤمن يبحث عنها، وهي أداة كل مفكر حريص على بناء مجتمعه.

إذا نجحنا في تقويم هذا الخطاب ستصبح خطاباتنا الأخرى مستهدية بهذا المنهج الإنساني القويم.

     وهذا الهدف النبيل، هدف التنمية الثقافية، لا يمكن أن يتحقق إلا بخلق مناخ مناسب له وخير أساس نبدأ بالاشارة إليه هو الحرية ورفع سقفها، وبخاصة حرية التعبير. إن تحديد مساحة الحرية ووضع القيود عليها يصيب بالضرر أول ما يصيب عملية التنمية الثقافية وينصرف إلى تقييد وتحجيم إمكانيات التفكير عند الإنسان.

  عندما ننظر إلى مفهوم التنمية في كل العصور، وفي عصرنا الحديث بوجه أخص، نجد أن المقدمة الأولى لأية تنمية إنما تأتي من الإبداع الخلاق، فالأمة المبدعة، من خلال أفرادها المبدعين الذين يتجاوزون ما هو سائد أو مقيد، يطلقون خيالهم دون حدود أو موانع أو زواجر أو عقوبات وملاحقات. كانت المقولة المبدعة التي تبنتها ثقافة التنوير " دعه يمر دعه يمضي ". لذلك نجد أن كل دول العالم الناهضة الآن تبحث عن المبدعين دون النظر الى جنسهم أو وطنهم أو عقيدتهم.

إذا سلمنا بهذه البديهية التي لا يختلف حولها العقلاء من أن أي مناقض لها، من تحديد أو تقييد إنما هو معوق للتنمية، لأنه سبب معطل، والتعطيل إنقاص للإمكانيات، والإنقاص يقود إلى التوقف ومن ثم التخلف.

إن الطفل المبدع يولد في نيويورك أو طوكيو أو في الكويت أو الرياض أو في أي مكان من العالم، وهو مشروع عالم مخترع وفنان مبدع، ورجل أعمال ناجح وسياسي حكيم، الفرق فقط هو في إطلاق حرية الإبداع أو كبحها. ينطلق الأول، الحر، فيشكل ثروة قومية ويكبح الثاني فيصبح عالة معوقة.

إن القيود والسدود عندنا كثيرة وتزداد تراكماً كل يوم متظللة بمقولات هلامية عامة، فنجد مثلا:

في السياسة مقولة: الصالح العام.

في المجتمع: تقاليدنا وعاداتنا.

في الفكر: أصولنا الثابتة.

كـل مقولة تقضم طرفًا من الحرية فتصبح حرية الإبداع هيكلاً عظميًا عليلاً لا يملك موهبة ولا يحسن تفكيرًا. ومن ثم لا تتوفر أية شروط موضوعية للتنمية إذا لم نواجه هذه المقولات وما ترتب عليها من أفعال ..

 

نفرغ من هذه الصفحة لنتجه إلى النظر في طبيعة المثقف الذي تُوكل إليه مهمة التبشير ونشر المشروع الثقافي الذي نرى أن أخص خصائصه هو تجاوزه حالة الخطاب المرتجف الموشك أن يكون والصمت سواء وذلك حين يأتي خطابه مقيدًا بحذر الخوف، فالثقافة مغامرة ومخاطرة، ومن ثم فالحضور الإيجابي للمثقف يقدم دفقة انطلاق وجدنا شواهدها في كل نهضة، والدور الثقافي للمفكر الأوروبي في قرون بدء النهضة وانطلاقها معروف، تجدها ساطعة في أي سرد لتاريخ هذه الحضارة كما أن للتاريخ العربي شواهده؛

 فالمأمون، مثلا، لم يصبح درة لامعة في تاريخنا إلا بفضل وجود المثقفين على يمينه ويساره، يفهم لغتهم ويعرف مقاصدهم ويتبنى مفاهيمهم فقد كان يدير مناظرات فكرية، يقودها كأي خبير لأنه يعي ويدرك دور الثقافة. وتستدعي ذاكرتي، في هذا المقام، موقفًا دالاً على مبادرة المثقف وخروجه من منطقة الصمت إلى الصدع برأيه؛ إنه عبد العزيز بن يحيى الكناني صاحب مناظرة (الحيدة)، فقد كان بمكة وسمع عن جدل خلق القرآن في بغداد ورهبة الناس وتخوفهم وإحجامهم عن إبداء الرأي خوفًا، فازعجه، كما قال، قلقُه وأسهر ليله وأدام فكره وأطال غمه وهمه فخرج من مكة إلى بغداد وقد أجمع رأيه على إظهار نفسه وإشهار قوله ومذهبه على رؤوس الأشهاد، وكان في موقفه وفعله يقدم نموذجًا للمثقف صاحب الرأي المدافع عن رأيه.  

   هذا هو المثقف المنشود المبادر المؤثر والذي وجدنا أمثاله مع انبثاق النهضة العربية الحديثة حين لعبت الطليعة الثقافية دورًا مهمًا فلمعت أسماء ثقافية تمثلت فيها حركة المجتمع المستنيرة والتي يسير وراءها موكب المجتمع، فعندما نذكر الربع الأخير من القرن التاسع عشر يبرز الأفغاني ومحمد عبده واليازجي والطاهر حداد، وفي حقبة تالية طه حسين والعقاد وجبران وساطع الحصري، عبد العزيز الرشيد وكل واحد من هؤلاء صدع برأيه وتحمل ما تحمل من مشاق.

لقد أُجهضت إشعاعات الاستنارة وعشنا، في مراحلنا الأخيرة، تحت سيطرة القوة الخشنة لا الناعمة، وكان صوتها المسوغ لها مذيعٌ مُلقن بجعجعة تصنع له شهرة وحضورًا ومن ثم تأثيرًا يفوق أي مفكر.

 إذا لم يتول المثقفون زمام قيادة التفكير والاختيار سيخمد عقل الأمة وتستسلم للتخلف وتختار الانكفاء ومن ثم يضمر الجسم الثقافي ويصبح صوته همسًا لا يُسمع.            

 

وعندما نواصل النظر في طبيعة مثقف هذا المشروع الثقافي الذي نتناوله نجد أننا في حاجة إلى مثقف يقف رأسه منتصب بعقل يتحكم بأدواته غير مستسلم لاستعلاء ثقافة الآخرين، ليس مُستَلَبا ولا مرآة سلبية فيأتي عطاؤه هجينا يُقال له كما قال المشرقيون للأندلسيين حين جاءهم كتاب العقد الفريد (بضاعتنا ردت إلينا) .إن المدخل السليم لحامل الثقافة أن يكون قد استكشف مكونات ثقافة شعبه وتبين أصالتها منميًا لها قادرًا على تقديمها لمجتمعاتنا وللآخرين أيضًا، ليس بقفاز ناعم بل بيد دافئة، لتقدم مدخلاً صحيًا سليمًا للتبادل الثقافي . 

وهذا الدخول السليم يتطلب منا إعادة النظر في خطابنا الثقافي منتبهين لما فيه من لغة متعالية خلقت حالة انفصال بين جمهور المتلقين وحملة هذا الخطاب ومن ثم علينا أن نتبيّن مستويين للخطاب: مستوى لغة التخصص وهذه ليس مجالها الثقافة العامة، ومستوى آخر موجها إلى الجمهور الواسع من المتلقين. رحم الله بشر بن المعتمر الذي تكلم عن حالات عرض الخطاب: ينبغي للمتكلم أن يعرف أقدار المعاني، ويوازن بينها وبين أقدار المستمعين، وبين أقدار الحالات، فيجعل لكل طبقة من ذلك كلامًا، ولكل حالة مقامًا داعيًا إلى تجنب المصطلحات الخاصة والحدود والتعريفات والتوعر والتعقيد وهو شائع في لغة المثقفين فخلقت حالة من النفور ومن ثم لن تفلح لغة الخطاب هذه ببذر أي فائدة أو تأثير.   

 

وأخيرًا:

في هذا العصر لسنا في حاجة إلى أن نلتفت يمينًا أو يسارًا لنبحث عن الوسائل التي نتكئ عليها في تعزيز موقعنا في هذا العالم الذي تتصارع رغبات البحث عن موقع في هذا العالم المتشابك الذي انهارت من حوله كل الحدود والسدود ليكون الانفتاح الواسع الأبواب سيد الموقف. إنه عصر لن نستطيع أن نوصد أمامه بابًا أو نؤمن نافذة فهو عالم الاتصال الذي بث عيونه خارج غلافه الجوي ليتسع مدار رصدها ...

هذا المشهد الرحب يخبرنا في كل لحظة أن هذا زمن تم إلغاء الحدود بين الثقافات، فطبيعة العصر ومعطيات التكنولوجيا، ووسائل الاتصال على التحديد، شكلت مزيجًا لا يمكن الفصل بين السياسي والاجتماعي والاقتصادي والنشاط اليومي وما يسكن وراءها من مرتكزات علمية وفكرية.

إنه مشهد رهيب ممتع ولكنه محير ومخيف، فيه انفتاح واسع للمعرفة فتتوهم أنك أصبحت حرًا في اختيارك وتفكيرك ورأيك، ولكنك في الوقت نفسه تصاب بالرعب إذا تصورت الأرضية والخلفية التي تدير آلة هذا العالم فتجد نفسك، والآخرين معك، في هذا الحصار الضخم يفرض عليك أن تسمع وتتمثل وتعي وتحصن نفسك من ضعف الخضوع وتحرك في ذاتك حس الحرية الواعية فثمة مشهد يقول إننا أحرار في الدخول إلى هذا العالم وإنه مفتوح أمامنا، ولكن ثمة حقائق تقول غير هذا، فهذا عالم مفتوح من حيث النظر ولكنه مغلق من حيث الرؤية، ثمة محاولات تسعى لجعلنا نرى بواسطة الآخرين لا من خلالهم، الأولى تسليم والثانية تفكير، وللتوضيح نقول إنك عندما تنظر لمنظر من نافذة أنت لا تراه بواسطتها، أي هي التي تحكم نظرك، ولكن تنظر من خلالها ولك حرية التفسير والتحليل والاختيار. وهنا نقول: كم من هؤلاء البشر الذين يتلقون هذه المعلومات غير المفلترة والتوجيهات غير المبرأة من الغاية والهدف يستطيعون التمييز فلا يقعون تحت سيطرة تفكير مفروض عليهم!

هذا هو الحاجز الذي يجب أن نتخطاه بثقافتنا، فهذا زمن علينا أن نتبين أنه زمن ديمقراطية معرفةٍ مقدمةٍ بأشواك دكتاتورية من يتحكم بهذه الآلة الضخمة المؤثرة، تأمل معي واقع التواصل الاجتماعي، ومن فَهْمِ هذا الواقع ندرك أنه لا مفر من اعتماد المنهج الفكري السليم واعتماد آلية عقلية مدربة تنجيه وتنقذه من الخضوع الأعمى.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*ناقد وباحث وقاص وأستاذ جامعي كويتي

 

مقالات لنفس الكاتب