; logged out
الرئيسية / دخول السعودية سوق الهيدروجين بداية التعامل مع "الحركة البندولية" لأسعار النفط

العدد 169

دخول السعودية سوق الهيدروجين بداية التعامل مع "الحركة البندولية" لأسعار النفط

الخميس، 30 كانون1/ديسمبر 2021

في 14 ديسمبر 2021م، سجل سعر برميل النفط 74.57 دولار، وذلك للعقود الآجلة لخام القياس العالمي برنت، التي تراجعت قيمتها بنسبة 13 % تقريبًا عن أعلى سعر سجلته منذ 7 سنوات، عندما وصلت إلى أكثر من 86 دولارًا للبرميل في 17 أكتوبر 2021م. وجاء هذا التراجع، في الغالب، نتيجة ظهور سلالة "أوميكرون" الجديدة المتحورة من فيروس كوفيد 19، ما أثار مخاوف من أن تلجأ الحكومات إلى إعادة فرض القيود وإغلاق الأنشطة الاقتصادية للحد من انتشار السلالة الجديدة، وهو ما قد يضر بالنمو الاقتصادي العالمي، وبالتالي بالطلب العالمي على النفط. إلا أن الارتداد في الأسعار العالمية للنفط، نحو الارتفاع مرة أخرى، بداية من 6 ديسمبر 2021م، يشير بوضوح، حسب كثير من المراقبين، إلى أن ردة الفعل تجاه تأثير متحور "أوميكرون" في الطلب العالمي على النفط اتسمت بالمبالغة المفرطة، وذلك قبل الاستطلاع الكافي لطبيعة المتحور وتأثيره من حيث الانتشار وشدة الأعراض. وبالتالي، تم تغليب وجهة نظر متفائلة نسبيًا، في السوق العالمية للنفط، ترى أن "أوميكرون" لن يؤدي، على الأرجح، إلى إغلاقات شاملة حول العالم، للحد الذي قد يؤثر على مستقبل الطلب في السوق العالمية للنفط. وبالتزامن مع هذا التفاؤل، بثت المملكة العربية السعودية كثيرًا من الثقة في الأسواق العالمية، برفعها سعر نفطها، الذي يكثر الطلب عليه، وهو النفط العربي الخفيف، إلى أعلى سعر له خلال عامين.

 

تطور سعر خام برنت القياسي خلال عام 2021 حتى 14، ديسمبر من العام

وإلى جانب ذلك، ساهم أيضًا في انتعاش الأسعار العالمية للنفط خلال الشهر الأخير من عام 2021م، الأنباء الصادرة عن تعثر محادثات إيران النووية. فهذا التعثر في المفاوضات، والذي ربما وصل إلى حالة فشلها شبه الكامل، طمأن السوق نسبيًا من زاوية عدم إمكانية ضخ المزيد من النفط الإيراني حال رفع العقوبات المفروضة عليها بسبب برامجها النووية والصاروخية وتدخلها في الشؤون الداخلية لدول الجوار. وفي هذا الصدد، يشار إلى أن كثيرًا من التقديرات تشير إلى أن طهران تستطيع أن تضخ على الفور أكثر من مليون برميل من مستوى إنتاجها الراهن، والذي يبلغ نحو 2.5 مليون برميل يوميًا، حال رفع العقوبات عنها.

وربما كان من المفاجآت الكبرى، التي شهدتها السوق العالمية للنفط وساهمت في ارتفاع أسعاره، قرار تحالف "أوبك بلس" (الذي يضم أعضاء منظمة أوبك ودولاً منتجة أخرى بقيادة روسيا) يوم 2 ديسمبر 2021م، بزيادة إنتاجه خلال شهر يناير 2022م، كما كان مقررًا بـ 400 ألف برميل يوميًا، بينما كانت آراء كثير من المراقبين تميل إلى أن هذا التحالف سوف يخفض هذه الكمية، أو حتى يوقفها بالكامل، بعد التراجع غير المتوقع للأسعار في الشهرين الماضيين. ولكن ثبتت حكمة القرار بعد العودة لتسجيل ارتفاع في الأسعار العالمية للنفط، خاصة في ظل الإعلان عن أن الاجتماع الوزاري لتحالف أوبك بلس في حالة انعقاد دائم حتى موعد الاجتماع التالي في 4 يناير 2021م، للتدخل فورًا إذا ما اعترى الأسواق أي تطورات مفاجئة.

وكان عام 2021م، قد بدأ بسعر منخفض لسعر برميل النفط، حيث وصل إلى مستوى 52 دولار تقريبًا، إلا أن هذا السعر ارتفع تدريجيًا خلال العام بسرعة مدهشة، رغم أن الحياة الطبيعية في كثير من أنحاء العالم لم تعد بعد إلى طبيعتها بسبب جائحة كوفيد 19. ويأتي الاستغراب في ضوء أن السفر والسياحة وقطاعات أخرى ما تزال تئن تحت وطأة تبعات هذه الجائحة. وبالتالي، وعلى ضوء توجه المزيد من الدول لرفع إجراءات الحظر المتعلقة بجائحة كوفيد 19، يتوقع كثير من الخبراء، من بينهم أولئك العاملين في البنك الدولي، المزيد من الارتفاع في أسعار النفط العالمية في عام 2022م.

 

آثار إيجابية على الاقتصادات الخليجية

كان الارتفاع في أسعار النفط والغاز الطبيعي، خلال عام 2021م، في مصلحة دول مجلس التعاون الخليجي الست. فمعظم هذه الدول عانت خلال السنوات الست الماضية من انخفاض الأسعار العالمية لهاتين السلعتين الاستراتيجيتين، بشكل أفقد الاقتصادات الخليجية نحو نصف عائداتها، وأدى إلى زيادة العجز في موازناتها. وهو الأمر الذي دفع عددًا من هذه الدول إلى الاقتراض الخارجي أو التمويل بالعجز وإصدار السندات بشكل لم يحصل من قبل. ومع الارتفاع في أسعار النفط والغاز في عام 2021م، من المتوقع أن تصل فوائض الدول الخليجية المصدرة لهاتين السلعتين الاستراتيجيتين، وعلى رأسها السعودية إلى 165 مليار دولار في عام 2021م، ونحو 140 مليار دولار في السنة التالية، حسب معهد التمويل الدولي. كما توجد أيضًا فرص واعدة لزيادة صادرات قطر من الغاز الطبيعي على ضوء الطلب العالمي المتزايد عليه. ومن شأن العوائد الجديدة من صادرات النفط والغاز أن تكفي لسد عجز الموازنات في دول مجلس التعاون الست، وللاستمرار في دعم أسعار بعض السلع والخدمات، إضافة إلى زيادة أرصدتها من العملات الأجنبية. وهو الأمر الذي سيتيح لهذه الاقتصادات الوفاء بالتزاماتها تجاه الدائنين، والاستثمار مجددًا في مشاريع البنية التحتية الحيوية، إضافة إلى فرملة سياسة رفع الضرائب والدعم الحكومي عن سلع وخدمات أساسية. وكانت الكثير من المشروعات في الدول الخليجية الست قد توقفت، أو تباطأت، كما زادت بعض الدول الخليجية من ضريبة القيمة المضافة، أو استحدثتها، بسبب تراجع عائدات النفط والغاز خلال السنوات الست الماضية.

توقعات متفائلة

ارتفاع أسعار النفط العالمية خلال عام 2021م، دفع كثيرًا من المؤسسات الدولية إلى إعلان تقديرات متفائلة لنمو الاقتصادات الخليجية الست، بعدما شهدت هذه الاقتصاديات انكماشًا ملموسًا في إجمالي الناتج المحلي بنسبة 4.8 % في 2020م، فعلى سبيل المثال، توقع البنك الدولي، في آخر تقرير صادر عنه في ديسمبر 2021 م، تحت عنوان "اغتنام الفرصة لتحقيق تعافٍ مستدام"، أن تعود الاقتصادات الخليجية إلى مسار النمو لتحقق 2.6 % نمواً كلياً في عام 2021م، مشيرًا إلى أن التعافي الاقتصادي القوي في هذه الدول سوف يعتمد على نمو القطاعات غير النفطية والارتفاع الذي شهدته أسعار النفط، والذي من المنتظر أن تتسارع وتيرته خلال عام 2022م، بالتوازي مع الإلغاء التدريجي لتخفيضات إنتاج النفط وفقاً لاتفاق "أوبك+"، وتحسن الثقة لدى مؤسسات الأعمال، وجذب استثمارات إضافية. ومع ذلك، لم يتجاهل البنك، في تقريره المشار إليه، إمكانية تعرض الاقتصادات الخليجية في المدى المتوسط للمخاطر الناشئة عن التباطؤ في وتيرة تعافي الاقتصاد العالمي، وتجدد تفشي فيروس كوفيد 19، وتقلبات قطاع النفط.

وفي تقرير آخر صدر في أغسطس 2021م، تحت عنوان "جائحة كورونا والطريق إلى التنويع الاقتصادي"، أكد البنك الدولي على أن ارتفاع الطلب العالمي على النفط سيدعم الاقتصادات الخليجية بشكل كبير في 2021م، وتوقع التقرير أن ينمو إجمالي الناتج المحلي السعودي بنسبة 2.4 % في 2021م، م بمتوسط نمو قدره 3 % في العامين التاليين. أما بالنسبة إلى دولة الإمارات العربية المتحدة، فقد توقع التقرير أن تعود إلى مسار النمو في 2021م، مشيرًا إلى أنه سوف يبلغ 1.2 %، قبل أن تتسارع وتيرته إلى 2.5 % في عامي 2022 و2023م، بدعمٍ من النفقات الحكومية وإقامة معرض إكسبو 2020م، وفيما يتعلق بمملكة البحرين، أشار التقرير إلى أنها ستستمر في الاعتماد على تدابير دعم المالية العامة في 2021م، للتغلب على آثار الانكماش الاقتصادي الذي شهدته في 2020م، متوقعًا أن يصل معدل النمو فيها إلى 3.3 % في 2021م، وأن يستمر على الوتيرة نفسها في العامين التاليين. وفي الكويت، قال التقرير إنها سوف تشهد استمرارًا في نمو الصادرات النفطية مما سيعزز من ديناميات النمو، مشيرًا إلى أنه من المتوقع أن ينتعش النمو الاقتصادي الكويتي ليُسجِّل مستوى معتدلاً قدره 2.4 % في 2021م، قبل أن يرتفع في المتوسط إلى 3.2 % في السنتين 2022 و2023م، وبالنسبة إلى سلطنة عُمَان، توقع التقرير أن يتعافى الاقتصاد العماني في 2021م، بمعدل نمو قدره 2.5 % مع اشتداد زخم برنامج كبير للاستثمار في البنية التحتية. وفي الأمد المتوسط، من المتوقع أن يبلغ معدل النمو العماني في المتوسط 5.3 % خلال الفترة من 2021 إلى 2023م، أما بالنسبة إلى قطر، فقد توقع التقرير أن تشهد انتعاشاً قوياً لمعدل النمو، نتيجة زيادة الطلب على الغاز الطبيعي المسال في جنوب آسيا وشرقها. ومن المتوقع أن يسجل الاقتصاد القطري معدل نمو قدره 3 % في 2021م، قبل أن تتسارع وتيرته إلى 4.1 % في 2022 و4.5 % في 2023م.

وتتوافق هذه التقديرات المتفائلة بشأن النمو في الاقتصادات الخليجية الست من جانب البنك الدولي، مع توقعات عدد من المؤسسات الائتمانية العالمية. فعلى سبيل المثال، أكدت مؤسسة "فيتش" على تحسن الاقتصادات الخليجية الست، خلال فترة قصيرة مقبلة، في ضوء مقارنة أسعار النفط العالمية والمعدلات المطلوبة لتحقيق التوازن في الموازنات الخليجية، خاصة مع عدم توقع أن تتراجع أسعار النفط العالمية بسرعة في المستقبل المنظور. وفي هذا الصدد، أشارت "فيتش" إلى أن السعودية وعمان تحتاجان إلى سعر عند نحو 70 دولاراً، لتحقيق توازن في ميزانية 2021-2022م، وتحتاج الكويت أكثر من 80 دولاراً، وتحتاج البحرين إلى سعر عند نحو 100 دولار للبرميل. ومن ناحية أخرى، قالت وكالة "ستاندرد اند بورز" للتصنيفات الائتمانية، في نهاية مايو 2021م، إنه من المتوقع أن يتراجع عجز ميزانيات دول مجلس التعاون الخليجي الست تراجعاً حاداً في عام 2021م، بدعم من ارتفاع أسعار النفط. وأضافت الوكالة أنه من المتوقع أن يبلغ مجموع عجوزات الحكومات المركزية لمجلس التعاون الخليجي نحو 80 مليار دولار هذا العام، انخفاضاً من 143 مليار في 2020م مشيرة إلى أن أداء ميزانيات هذه الدول، باستثناء الكويت والبحرين، أقوى مما كان عليه في 2016م، عند الانهيار السابق لأسعار النفط.

النفط في عام 2022

يبقى الرهان على مستقبل أسعار النفط خلال عام 2022م، متوقفًا على عدة عوامل، لعل من أهمها: تخفيف الإجراءات الاحترازية الخاصة بعدم تفشي وباء كوفيد 19 والسلالات المتحورة عنه، والتقدم المحرز في المفاوضات النووية مع إيران، واستمرار التماسك داخل تحالف أوبك بلس.  كذلك، سوف تتأثر هذه الأسعار، بمدى وجود توازن أو فائض عرض في السوق العالمية للنفط نتيجة بدء السحب من الاحتياطي الاستراتيجي للولايات المتحدة وغيرها من الدول.

ومع ذلك، يتوقع عدد من المؤسسات المالية، مثل بنك "جي بي مورجان"، أن أسعار النفط العالمية سترتفع خلال 2022م، ربما لتسجل حسب تقدير البنك 125 دولارًا للبرميل، وذلك على خلفية نقص الاستثمارات المتاحة للحفر، إلى جانب أن العالم سيشهد دورة اقتصادية نشطة، وتحديدًا إذا ما انتهت الجائحة. كما يرى فريق من المراقبين أيضًا أن أسعار النفط العالمية سوف تشهد صعودا مستمرًا خلال العام القادم وما بعده، إذا ما استمرت أزمة الغاز الطبيعي في أوروبا، نتيجة تصاعد الخلافات والتوتر مع روسيا بفعل الأزمة الأوكرانية، وعرقلة خط أنابيب نورد ستريم - 2، واستمرار فرض العقوبات الاقتصادية على موسكو. حيث يؤكد هؤلاء على أن وجود مستوى منخفض جدًا من المخزون من الغاز الطبيعي في أوروبا خلال 2022م، سوف يقود إلى دفع أسعار النفط والغاز الطبيعي والفحم إلى الارتفاع في مختلف أرجاء العالم. وهنا يشار، على سبيل المثال، إلى أن أسعار الفحم في أوروبا ارتفعت، إلى أعلى مستوى لها في 13 عامًا، في عام 2021م، مع وجود محدودية في عرض الفحم لأوروبا والاتجاه إلى استخدام مزيد من الفحم مع الارتفاع الكبير في أسعار الغاز الطبيعي، وذلك رغم تعهد الاتحاد الأوروبي بالوصول إلى "صافي صفر انبعاثات كربونية" بحلول عام 2050م. ومن جهة أخرى، يؤكد عدد من المحللين أن ارتفاع أسعار الغاز والفحم عالميًا سيؤدي إلى زيادة الطلب على النفط الخام كبديل خلال عام 2022م، وهو ما سيرفع أسعار النفط، على الأرجح، إلى 90 دولارا للبرميل خلال فصل شتاء 2022، وربما يرتفع السعر إلى 100 دولار للبرميل مع نهاية عام 2022م، حسب توقعات بنك "جولدمان ساكس".

تحديان كبيران

ومع كل هذه التوقعات المتفائلة باستقرار أسعار النفط العالمية، عند مستويات مرتفعة، في عام 2022م، سوف تواجه هذه المستويات تحديان رئيسيان. الأول قصير المدي والثاني متوسط وطويل المدى. التحدي قصير المدى يتمثل في عدم رضا الإدارة الأمريكية الحالية عن هذه المستويات المرتفعة لأسعار النفط. حيث نشرت وسائل الإعلام الأمريكية والروسية والخليجية تقارير كثيرة، في الآونة الأخيرة، عن اتصالات مباشرة بين البيت الأبيض والكرملين ودول الخليج النفطية الكبرى، كان هدفها الأساس هو التعبير عن رفض هذه الإدارة لاستمرار أسعار النفط في مستويات مرتفعة، لما لذلك من تداعيات سلبية على ازدياد معدلات التضخم في البلاد (من أعلى المعدلات خلال ثلاثة عقود)، وبالتالي إمكانية التأثير السلبي على فرص نجاح مرشحي الحزب الديمقراطي في انتخابات التجديد النصفي للكونجرس الأمريكي في نوفمبر 2022م، وهنا يشار إلى أن إدارة الرئيس جو بايدن ضغطت علناً وتكراراً من أجل زيادة إنتاج مجموعة أوبك بلس عن 400 ألف برميل يومياً. وأعلنت المتحدثة باسم البيت الأبيض جين بساكي، أن الإدارة الأمريكية تشعر بإحباط إزاء ارتفاع أسعار البنزين في السوق الأمريكية، مشيرة إلى أن البيت الأبيض على اتصال منتظم مع الدول الأعضاء في تحالف أوبك بلس، ويأمل أن يتخذ التحالف الإجراءات المناسبة. كما بادرت إدارة بايدن في الإفراج عن كميات من الاحتياطي النفطي الاستراتيجي (50 مليون برميل)، ودعت دولاً آسيوية مستهلكة كبرى (الصين والهند وكوريا الجنوبية) لاستعمال الاحتياطيات النفطية الاستراتيجية المتوفرة لهم أيضاً، من أجل دفع الأسعار العالمية للنفط إلى الهبوط. وتمتلك الولايات المتحدة ما يقرب من 600 مليون برميل من النفط الخام في كهوف عملاقة في تكساس ولويزيانا، ويبلغ مخزونها الحالي عند أدنى مستوياته منذ عام 2003م.

اما التحدي الثاني متوسط وطويل المدى أمام استمرار أسعار النفط العالمية المرتفعة فهو التوجه العالمي المتسارع نحو "تحول الطاقة" من أجل تحقيق "الحياد الكربوني" وبالتالي مواجهة التغير المناخي العالمي. حيث من المتوقع أن يكون لهذا التوجه أثرًا واضحًا وعميقًا على تراجع الطلب العالمي على مصادر الطاقة التقليدية، وبالتالي احتمال تراجع الأسعار العالمية لها، مما سيؤثر بشدة على العوائد المالية للدول الخليجية المصدرة للنفط والغاز. ويشار إلى أن قمة المناخ الأخيرة في جلاسجو باسكتلندا كشفت بوضوح عن وجود إرادة سياسية لدى عدد متزايد من الدول، وخاصة الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، من أجل إحداث تحول جذري في هيكل الطاقة العالمي، نحو الابتعاد عن النفط والغاز والفحم وزيادة الاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة كطاقة الشمس وطاقة الرياح، وذلك تماشياً مع التزامات اتفاق باريس الرامية إلى تقليص الانبعاثات الكربونية العالمية. فحتى كتابة هذه السطور، أكدت أكثر من 150 دولة، تمثل أكثر من 25 % من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون العالمية وأكثر من 50% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، عزمها الوصول إلى "الحياد الكربوني" مع حلول منتصف القرن الحالي. كما قدمت أكثر من 80 دولة حتى الآن خطة عملٍ وطنية جديدة أو محدثة -تسمى المساهمات المحددة وطنيًا (NDCs) – لخفض انبعاثاتها المتسببة في ارتفاع درجة حرارة الأرض، كما هو مطلوب بموجب اتفاقية باريس لمواجهة التغير المناخي. كما تكشف حملة " السباق إلى حيادية الكربون" أيضا أن 733 مدينة و31 منطقة و3067 شركة و173 من أكبر المستثمرين و622 مؤسسة للتعليم العالي في جميع أنحاء العالم قد التزموا بنفس الهدف.

ومما ساهم في حدوث هذا التطور المهم في قمة جلاسجو تبني الإدارة الأمريكية الجديدة للرئيس جو بايدن توجهًا مغايرًا لما كانت عليه الإدارة الأمريكية السابقة للرئيس دونالد ترامب، بشأن إنقاذ كوكب الأرض من الآثار الكارثية المدمرة للتغير المناخي العالمي. فعلى خلاف ترامب، الذي رفع شعار أن التغير المناخي "مؤامرة" تهدف إلى الإضرار بالاقتصاد الأمريكي، أعادت إدارة بايدن، بمجرد توليها المسؤولية في يناير 2021م، واشنطن رسمياً إلى اتفاقية باريس لمواجهة التغير المناخي (وهي الاتفاقية التي انسحب منها ترامب)، ثم استضاف الرئيس بايدن قمة المناخ في 22 أبريل 2021م، حيث قدم التزامًا واضحًا بتخفيض الانبعاثات الكربونية الأمريكية (15 % من إجمالي الانبعاثات العالمية) إلى النصف بحلول سنة 2030م؛ مع الوصول إلى "الحياد الكربوني" سنة 2050م، ومن جهتها، أعلنت الصين (ثاني أكبر منتج للانبعاثات الكربونية في العالم بعد الولايات المتحدة) عن نواياها لتخفيض انبعاثاتها الكربونية في عام 2025 م، بنحو 60 %، على أن تصل إلى "الحياد الكربوني" في عام 2060م. كما أعلنت الهند أيضًا خفض انبعاثاتها بما بين 30 و35 % بنهاية هذا العقد. وأعلنت اليابان وكوريا الجنوبية عن عزمهما الوصول إلى "الحياد الكربوني" في منتصف القرن الحالي.

وكل هذه التطورات التي يشهدها العالم الآن في مجال الطاقة والتحول الطاقي إلى مصادر أقل إصداراً لانبعاثات الكربون، والتغيرات التقنية والثورة الصناعية الرابعة، وكهربة كل شيء، والحياد الكربوني ومحاربة الوقود الأحفوري، تعني أن أسعار النفط العالمية، على الأرجح، سوف تواجه هبوطًا، إن آجلاً أو عاجلاً، الأمر الذي سيكون له آثار سلبية متعددة على الاقتصادات الخليجية الست، التي تعتمد بشكل كبير ورئيس على عائدات صادراتها من النفط والغاز. وهنا يثور التساؤل التالي: هل ستتمكن الاقتصادات الخليجية من التكيف مع هذه التغيرات الهيكلية طويلة المدى في قطاع الطاقة العالمي؟ أم أنها ستنكمش إذا ما توقف العالم يوماً ما عن حرق الوقود الأحفوري لخفض الانبعاثات المسببة لاحترار الأرض.

الإجابة على هذا التساؤل تحتاج إلى نقاش ممتد في عدة مقالات قادمة، ولكن يمكن القول باختصار إن استمرار ارتهان الاقتصادات الخليجية لاحتياطاتها الضخمة من النفط والغاز، ليس في صالح تحقيق هدفها الرئيسي المتمثل حاليًا في تنويع مصادر دخلها، لاسيما وأن الصناعة الاستخراجية لكلتا الثروتين لا تولد الكثير من الوظائف ولا توطن الصناعات التحويلية باستثناء مصافي التكرير. وإذا ما أخذنا تغيرات السنوات الأخيرة بعين الاعتبار، فإن من متطلبات هذا التنويع الاستثمار في قطاعات مستقبلية كمشروعات نشر الطاقات المتجددة وتقنياتها، بدلا من الاستمرار في ضخ الأموال بأسواق المال والعقارات والسياحة. إن مثل هذه القطاعات المستقبلية يمكنها توليد ملايين الوظائف الجديدة، والمساهمة بشكل فعال في تقليص نسبة البطالة التي تصل في صفوف الشباب الخليجي إلى 25 %. كما أن هذه القطاعات المستقبلية سوف تنهي، على الأرجح، حالة الارتهان الحالية في الاقتصادات الخليجية لتقلبات أسعار النفط والغاز التي لم تشهد الاستقرار على مدى العقود الخمسة الماضية. يضاف إلى ذلك أن الاستثمار في مشروعات نشر الطاقات المتجددة أضحى على المدى الطويل أكثر جدوى من مثيله في الطاقات الأحفورية، خاصة وأن الدول الخليجية الست تمتلك مقومات نجاحها على صعيد توفر الظروف المناخية والأنظمة القانونية والإدارية والاستثمارية الملائمة. ولعل مبادرة "الشرق الأوسط الأخضر"، التي أعلنها سمو ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، في نهاية شهر مارس 2021م، وإعلان المملكة دخولها سوق الهيدروجين بمختلف ألوانه (الأخضر والأزرق)، وتبنيها مبدأ الاقتصاد الدائري للكربون، والمشروعات المستدامة الكبرى مثل مشروع نيوم ومشروع البحر الأحمر، هو بداية الطريق الأمثل لتعامل الاقتصادات الخليجية الست مع "الحركة البندولية" المتأرجحة باستمرار في أسعار النفط والغاز في السوق العالمية.

 

مقالات لنفس الكاتب