array(1) { [0]=> object(stdClass)#12962 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 169

"البصيرة " المكون السري للنجاح في السودان والحاجة للتبصر الفعال ضرورة

الخميس، 30 كانون1/ديسمبر 2021

تقول الحكمة التقليدية إن طاقة العقل تتجه دائماً إلى الحديث عن الماضي لِثُبُوت حقائقه، التي اُخْتُبِرَتْ بما حاصرها من أحداث، وما أحاط بها من وقائع. لذلك، تجد الناس أقدر على توصيف ما مضى، أكثر من قدرتهم على توقع ما يمكن أن يحدث في الغد، لأن كل شيء يتجاوز الحاضر إلى المستقبل يصير إلى المجهول، ويخبئ معه معالم قراءته. وكثيراً ما نُجَابَهُ به هذه المُعْضِلَة كلما شارف عام على الانتهاء، وتساءلنا عن حصاده، وتوقعاتنا لما يليه، خاصة وأن أخبار بلدٍ كالسودان قد أتْخَمَت الأسماع والأبصار بكثافة حِرَاكِه وتواتر أحداثه. فجرد الحساب، في حالته، قد يكون سهلاً ميسوراً، لكن استشراف المستقبل، يبقى عسيراً، لأن تزاحم الأحداث وتناقض حيثياتها لا يُثَبِّتُ مواقفاً يقينية. لذلك يلزم اختيار المزاوجة بين زاويتي التحليل، التي تتفَحَّص الحاضر بعطاءاته والتباساته، وتُجَرِّد بَصِيرة التوقع على نحو يضيف لأهمية الموضوع التعريفية، وبرؤية نحسب أنها مُبْصِرَة لتحديات وفرص المآل. والسودان بتناقضات حاضره، وتواتر أزماته، ليس استثناءً في مُحيطه، مما يُبْعِدُ مِثَال القياس بينه وبين غيره، لاختلافات تُميزه. وقد تكون قراءة مستقبله هي الأصعب، لاضطراب أحواله أكثر من غيره، خاصة في عامه الماضي، الذي زادت فيه التقلبات بما يفوق ما سبقه من سني الانتقال السياسي المحتدم بِعَور السياسيين.

ورغم أن السياسة في السودان كانت تبدو أقرب للعمل الاحترافي، لكن سِمَةُ "الناشط" فيها؛ خاصة في تجربة الانتقال، أفقدها غير قليل من العقلانية، التي كان ينبغي أن يتحلى بها من يتولون الشأن العام، الذي يوجب عليهم إعطاء أولوية لتلبية احتياجات الناس، لا الانكباب على تصفية حساباتهم المرهونة بضيق انتمائهم الأيديولوجي. وكان عليهم أن يساعدوا في رسم "خرائط" الغد الحاضن للكل الوطني، وتحديد واغتنام الفرص، ومجابهة التحديات، أكثر من اللهاث خلف الشعارات. إذ أن السياسيين يفترض اشتراكهم، مع الآخرين، في شغفهم بالأفكار، واجتراح المبادرات حول الحاضر، والرغبة في النظر إلى الأفق لمعرفة ما يحدث حولهم وفي العالم، وما الذي يمكن أن يؤدي إليه التنافس، وما الذي يمكنهم فعله. إلا أن روح الثورات في السودان وغيره، غالباً ما يتقدمها الناشطون، الذين عادة ما يكونون مفتونين بـ"تسجيل" المواقف اللحظية، ولا يُظْهِرُون أنهم معنيون كثيراً بغير منطوق هذه الشعارات، لا منطقها. وقد لا يكون في هذا الوصف تجنٍ من واقع ما مضى من ممارسات، التي جعلت الكثيرين ممن كانوا بمعيتهم على غير دراية كيف يفكرون عند كل نازلة تستوجب. إذ لا يَصِحُّ أن يكون غالبهم ممن يطورون فهماً للأمور بما قد لا يأمر به الحال، ويتصرفون وفقاً لعاطفة اللحظة وليس لشروط ومقتضيات الراهن. فالرشد يستحث الجميع؛ بما أنهم شُركاء في الهم الوطني، أن يستنبطوا معاً مجموعة متنوعة من أدلة التفكير في المستقبل، وأن يستخدموا أساليب مُواءَمَةٍ مُلائمة، بما في ذلك توقع الأحداث الطارئة، وتقييمها بمقاييس عقلانية، وتقنيات تجريبية، ودراسات، وتجارب. وهذه الأساليب ليست حصراً على العمل السياسي، بل تحسينات لتقنيات المنطق، يستخدمها الناس في الحياة اليومية، لكنها تختلف تماماً عن ممارسات السياسة، والتي تتعدى الخاص إلى العام.

إن الجميع؛ كما السياسيين، يُدْرِكون أن المستقبل مستمر مع الحاضر، وتبْنَى تقديراته على حصاد الماضي، لذلك يمكننا أن نتوقع من السياسيين التنبؤ بالكثير عما قد يحدث في الغد، من خلال النظر بشكل منهجي إلى ما قد مَرَّ اليوم وفي عام مضى. والنظر إلى ما يحدث الآن، ليس لمجرد جرده في رصدنا الإعلامي، أو تقييمنا الأكاديمي، وإنما دعوة أمينة لمعالجة السلبيات. فالشيء الرئيس، الذي يجب على السياسيين مراقبته ليس الأحداث العارضة، ولا التطورات المفاجئة، التي تحدث ليوم واحد، ولكن الاتجاهات والتحولات المستمرة طويلة الأجل، وتأثيراتها على أمورٍ ترتبط بأقضية واستراتيجيات السياسة والاجتماع والاقتصاد، ومتعلقات السيادة الوطنية، وما يرتبط بها من حاجيات السكان؛ مثل، المعاش وحركة السوق، واستخدامات الأراضي، وتطور التكنولوجيا، وفعالية الأنظمة الحكومية. ويستوجب عليهم أيضاً وضع السيناريوهات كطريقة مفيدة للتفكير في المستقبل المنشود، ليس لِعَامٍ فقط؛ مثلما نحاول استشرافه هنا في مجلة "آراء حول الخليج"، وإنما لأعوامٍ تأتي، إذا لم يتواضع الجميع على زمن أقصر يبلغون به أجل الانتخابات القادمة في السودان. وبهذا الفهم نطمئن إلى أن السيناريو؛ في العرف السائد، ليس مجرد تنبؤ شاطح يزعم فيه السياسي أنه متأكد مما سيحدث غداً، ولكنه وصف معقول للأحداث، التي قد تحدث بالفعل في المستقبل. فالسيناريوهات قد تبدو خيالية، لكنها قابلة، بمعطيات موضوعية أن تكون واقعية في مستقبل لاحق. وباستخدام هذه الكيفية في التوقع، يمكن التفكير بجدية فيما يجب أن نفعله بعد ذلك، في وطن دخل نفق التكهنات بأن يكون، أو لا يكون.

متغيرات وتناقضات: 

أكد النص الأساس في الوثيقة الدستورية، التي يُفترض أن تحكم المرحلة الانتقالية على بعض الأحكام الموضوعية لزيادة مشاركة أصحاب التأهيل والكفاءة في المؤسسات، والتي أنشئت، أو التي كان ينبغي إنشاؤها؛ مثل، المجلس التشريعي والمحكمة الدستورية والمفوضيات المختلفة. لكن تسارع الناشطين المؤدلجين إلى كراسي الحكم جعل إدراك أصول النجاح المنشود والموعود؛ القائم على التوافق، بعيد المنال. فالنجاح على المدى الطويل يتطلب استقرارًا، لم تجعل له هتافات وتصرفات الناشطين مدخلاً يستوي فيه على سوقه. فبينما يُراد للسودان، بكل تنوعاته الديمغرافية، وتعددياته السياسية، وأبعاده الجغرافية، أن يحرز تقدماً في الانتقال إلى الديمقراطية، سيحتاج القائمون على الأمر إلى نهج عقلاني لمعالجة أسباب التناحر بين القوى السياسية في الخرطوم، ليتوقف تبعاً لذلك الاقتتال بين المجموعات المسلحة، وبعض الجماعات القبلية المختلفة في أطراف البلاد المترامية، أو الهامش، الذي جعلت منه بعض هذه القوى مادة مطالباتها، ومركب تطلعاتها. والحل، في تقدير أهل الرأي، يتلخص في تشجيع الدفع المتزايد نحو التوافق الوطني، وصياغة دستور جديد دائم، وتنظيم الانتخابات في الموعد، الذي نصت عليه الوثيقة الدستورية في نسختها الأولى. ويا حبذا لو سبقت ذلك عدة تطورات إيجابية، بما في ذلك اتخاذ خطوات جادة للتصدي لإشكالات النزاعات المؤدية لأعمال العنف في دارفور، وفي غيرها من مناطق الهشاشة الأمنية، كجنوب كردفان والنيل الأزرق وشرق السودان، وإجراء إصلاحات اقتصادية تُجدد الأمل، وتُعِيد الثقة في التغيير السياسي.

بطء تنفيذ هذه الإصلاحات، وتراجعات من كانوا مُتنفذين عن وعود الثورة في الحرية والسلام والعدالة، ونظام الشراكة المضطربة، وغياب المؤسسات العامة، التي لم يكتمل تشكيلها بعد، ساهم في إزكاء الصراع السياسي، وزيادة وتيرة العنف، الذي أثر بدوره في عجلة الإنتاج، وألقى بظلاله على اقتصاد البلاد الهش. فالاحتياجات الآنية والإنسانية المتزايدة، مدفوعة بالصعوبات الاقتصادية، والصراع بين المجتمعات المحلية، فضلاً عن تأثير أزمات الدول المجاورة، خاصة إثيوبيا، التي دخل السودان معها في توترات على الحدود، بشأن منطقة الفشقة، إضافة مأزق سد النهضة. إذ أن صراع إثيوبيا وجنوب السودان وإفريقيا الوسطى أدى إلى استضافة السودان لأكبر عدد من اللاجئين من أي بلد إفريقي آخر، مما يزيد ثقل المسؤولية، وقد يُعيق عملية الانتقال. ما يعني أن الاستقرار في السودان لن يكتمل حتى تنتهي جميع النزاعات؛ داخله وفي جواره. فالعنف والاشتباكات مع الجماعات المسلحة في دارفور و جبال النوبة، وفيما بينها، تشهد على الحاجة إلى معالجة الأسباب الجذرية لهذه النزاعات.  في وقت تشهد فيه الموارد المالية والتقنية الكافية نقصاً حاداً؛ يستحث دعم الأشقاء والأصدقاء. ويتعين على القائمين على الأمر؛ عسكريين ومدنيين، مواءمة الشعارات مع الأولويات الاستراتيجية للبلاد، مع تكثيف الجهود للحفاظ على استقرارها وسلامة حياضها وحدودها.

كان السودان، خلال الفترة الماضية، يعمل بجدٍ على تحسين العلاقات مع العالم، واجتهد في عقد مُصالحات مع فصائل من المعارضة المسلحة، وسار في اتجاهات مختلفة في بناء روابط بين "قوى الحرية والتغيير" كحاضنة سياسية لحكومة الفترة الانتقالية، وإن تباينت معايير المسعى مع القوى الأخرى؛ بين إقصاء ناعم، كتلك التي تَخَفَّتْ كوادرها في مفاصل السلطة، وأشرعت إعلامها وناشطيها للمعارضة، أو انتقام خشن، لمن كان نصيبهم المواجهةٍ المفتوحة فأقصوا وحُوربوا. وهذه الإجراءات المفارقة لشعارات الثورة لم تسلم من آثارها الحاضنة، التي ائتلفت واختلفت، وتحالفت وتحاربت، فتمرد الشرق والشمال بسببه، وبقيت خارج دائرة التصالح، في دارفور وجبال النوبة، قوىً مسلحة "تمترست" في مواقفها، رغم الزيارات، والتلويح بالتنازلات، والمفاوضات، والتوقيعات. ولكن، على صعيد آخر، تمكنت البلاد من إخراج نفسها من قائمة أمريكا الراعية للإرهاب، وتأهلت "نظرياً" للحصول على حزمة إعفاء من الديون بقيمة 50 مليار دولار، مع وعد للمساعدة في انتقالها إلى الديمقراطية. ومع ذلك، وبسبب وجود شك في تصرفات الحكومة السودانية، علقت إدارة بايدن مبلغ 700 مليون دولار من صندوق المساعدات الطارئة، الذي كان يُنظر إليه من قِبَل حكومة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك على أنه حاسم للنهوض الاقتصادي في السودان. وحذا البنك الدولي حذو واشنطن، إذ أوقف جميع مدفوعات العمليات إلى البلاد، بُعَيد إجراءات رئيس مجلس السيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان في 25 أكتوبر 2021م.  

قادت إجراءات البرهان، رغم ما وجدته من تأييد قطاعات مهمة في المجتمع، إلى حالة احتقان جديدة مع شرائح اجتماعية أخرى، ترجمها السياسيون الرافضون لها في عمليات تحشيد للشارع، ودفع الشباب لمزيد من التظاهر. ومع تغيير تشكيلة الضِلع التنفيذي للحكم في أكتوبر الماضي، والذي أدى إلى حل جزئي لاتفاق تقاسم السلطة بين الجيش والقوى المدنية، نزل المتظاهرون إلى شوارع الخرطوم مجدداً، مطالبين بإعادة تشكيل الحكومة المدنية، وعودة حمدوك على رأسها. فعاد حمدوك، لكن المتظاهرين اعتبروه خائناً، ليستمر الشارع في تدفقه المنتظم ضد قوى الحكم المختلفة؛ من عسكرٍ ومدنيين. الأمر الذي جعل جدوى استمرار حالة الحِرَاك الجماهيري محل تساؤل وقلق على إمكانية تعافي الشراكة السياسية بين المدنيين والعسكريين. فبعد سنوات من الانقسام في القيادة السياسية والتنفيذية، وما رافقها من صعوبات اقتصادية، وعزلة عن المجتمع الدولي، يأتي هذا السلوك السياسي، الذي يبدو متمرداً على أشكال النُظُم المختلفة، كعقبة أخرى على طريق السودان نحو ديمقراطية فاعلة ومستدامة. ومن المتوقع أن يؤدي استمرار هذه الاحتجاجات في شوارع المدن السودانية إلى عرقلة هذا التحول الديمقراطي أكثر مما يمكن أن يدفع به إلى التحقق، خاصة مع ضبابية موقف المتظاهرين، أو "توجسات" من يُظَنُّ أنهم يقفون خلفهم من قوىً مدنية؛ تخشى الانتخابات أكثر من خشيتها من حكم العسكر. وما يدعو للسخرية أن الفريق أول عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة الانتقالي، يُلَوِّح بإجراء انتخابات مبكرة، وأن الجيش يهدف إلى الإشراف على الانتقال الديمقراطي في السودان، بحلول يونيو 2023م، في تهديد واضح لناشطي القوى السياسية الصغيرة ذات الصوت الأعلى في الشارع. ويبقى أن نرى هل سيصمد دعاة الديمقراطية من المدنيين أمام التهديد بالانتخابات، وما إذا كان هذا سيكون ممكناً، أو أن وعد البرهان سيُشارك فيه الراحل سوار الذهب صِدق التوجه.  

ثم ماذا بعد؟

أدت التوترات المتصاعدة في الفترة الانتقالية المضطربة إلى دق ناقوس الخطر، وكان لافتاً للنظر أن الانتقال المتعثر في السودان قد وصل بالمشاركين فيه إلى حد بعيد من "التشاكس"، أوجد حالة مستعصية من الضبابية، بلغت برئيس الوزراء العائد إلى منصبه مرحلة اليأس والحديث عن الاستقالة. على الرغم من أن المتابعين من السودانيين، وغيرهم، لم يتفاجؤوا بما كان يجري، إذ ألفوه في تجارب حُكم حزبية مضت، وكأن ما يحدث الآن ما هو إلا تكرار لمشاهد قديمة يُعاد عرضها بوجوه جديدة. والقياس على التجارب الحزبية السابقة، التي قصم ظهر القائمين عليها هذا الشقاق، قبل أن تُجْهِز الانقلابات العسكرية على ما يتبقى من أيام دوراتها، يُعيد إلى الأذهان هذه المَشَاهِد. ورغم كل ذلك، لا يزال القادة المدنيون متشككين في نيات بعضهم، أكثر من تشككهم في نوايا الجيش، في حين يعلم الجيش أنه ملاذ المدنيين الأخير عندما تُشكِل عليهم علاقات التنافس السياسي. وذلك، قراءة لما سبق من تجارب، التي لم تكن تشتمل ما استجد الآن من أهداف مُعلنة تتحدث عن إعادة هيكلة الجيش، التي تعني؛ فيما تعني، تطهيره من حلفاء البشير، ومصادرة أصوله، ووضع مشروعاته الاقتصادية تحت السيطرة المدنية. وطفق المعسكران يتبادلان الانتقادات بشكل متكرر؛ منذ المحاولة، التي يبدو أنها انقلاب مصنوع، في أواخر سبتمبر الماضي، إذ طالب قادة الجيش بعدها بإصلاح وزاري، واتهم السياسيون الجيش بالتخطيط للاستيلاء على السلطة. 

وأسرع مسؤولون مدنيون بإلقاء اللوم على الموالين للمعارضة والجيش في إثارة الاضطرابات، بما في ذلك في شرق البلاد، حيث كان المتظاهرون يمنعون الواردات والصادرات من وإلى ميناء بورتسودان الحيوي على البحر الأحمر، مما أدى إلى تفاقم النقص الناجم عن الأزمة الاقتصادية المستمرة منذ فترة طويلة في البلاد. وقاد هذا بدوره إلى اتساع الانقسامات داخل قوى الحرية والتغيير، وهي مظلة التحالف المدني، التي تداعت للثورة على حكومة الرئيس البشير، في عام 2019م، وتطوعت معها اللجنة الأمنية الحكومية لإنجاح الانقلاب، مُستَخْدِمَة الجيش باعتباره الكيان المتماسك الوحيد، مقارنة بتيارات الثورة المدنية المتباينة. وبعد عامين من الإطاحة بالبشير، شجب المتظاهرون في السودان الإصلاح السياسي البطيء، إذ أثبت المدنيون هذه الحقيقة بعدم مقدرتهم على تنظيم عملهم، كلما وضعوا الجيش في تناقض حاد مع مفهومهم للثورة. وراجت اتهامات من سياسيين لقادة الجيش بأنهم يستغلون الانقسامات في المعسكر المدني، وتأجيج السخط الشعبي ضد الحكومة الانتقالية. وأشاروا إلى اختلاف المعاملة حتى بين المتظاهرين الموالين للجيش والمناصرين للحكومة المدنية. وقد انتقلت هذه المزاعم إلى وسائل التواصل الاجتماعي، مُؤجِّجة الشارع لمزيد من التظاهر والتحريض على العصيان المدني، الذي يقول معارضوه إنه يصرف الانتباه عن المخاوف الحقيقية والاستياء من تردي الوضع المعيشي، الذي عبّرت عنه أصوات أخرى من الشعب السوداني حول أداء الحكومة المدنية. وليس هناك شك في أن العديد من المدنيين نفد صبرهم لضعف وتيرة الإصلاح والانتعاش الاقتصادي، وكانوا مذعورين من الاقتتال الداخلي داخل الحكومة الانتقالية، الذي صرف الانتباه عن معالجة القضايا الاجتماعية.

 

تحديات المستقبل:

 إن موقع الجيو -سياسي والجيو-استراتيجي، وما يمثله جواره مع سبع دول؛ وقد تُصبِح أكثر، يربطه بجميع الأزمات الرئيسة الجارية في القرن الإفريقي، ووسط، وشمال، وغرب إفريقيا. مثلما يمكن لسودان آمن مستقر أن يساعد في تحقيق الاستقرار في المنطقة بأسرها. ومنذ توقيع اتفاق السلام الشامل عام 2005م، تلقت جهود بناء السلام بين الشمال والجنوب الدعم من مجموعة واسعة من الجهات الفاعلة الإقليمية والدولية. رغم مشاركة بعض اللاعبين الأساسيين، الذين سبق أن دعموا الانفصال، في هذه الجهود قد ثبت أنها غامضة، لأنهم سعوا في كثير من الأحيان؛ ولا يزالون لتحقيق غاياتهم الخاصة بدلاً من ذلك. الأمر، الذي خلق تعقيدات بالغة؛ ليس أقلها مسألة ترسيم الحدود بين الشمال والجنوب، ويبقى مستقبل منطقة أبيي قضية خلافية، ولا يزال يتعين على السودانيين في الشمال والجنوب التفاوض على قضايا كثيرة وخطيرة في إطار ما انعقدت عليه اتفاقية السلام الشامل بين الطرفين، التي أفضت إلى استفتاء الانفصال في 2011م. في حين أن مخلفاتها في جنوب النيل الأزرق، وجبال النوبة، وأزمة دارفور، جميعها ما زالت بعيدة عن الحل، لأن وجود جماعات متمردة أخرى في هذه المناطق خارج دائرة السلام يجعل من خطر الانتكاس إلى الحروب الأهلية أمر حقيقي. 

وبغض النظر عن نتيجة ما جرى من توقيع اتفاقيات مع حَمَلَة السلاح في جوبا، فإن بعض عيوب هذه الاتفاقيات، كما أظهرتها ترتيبات مسار الشرق، تحتاج إلى معالجات جذرية، تستوعب مطالب المخالفين لها، وتستجيب إلى ما طرأ من تحولات في المشهد السياسي في الفترة الماضية. وللتوصل إلى تجديد التوافق بشأن هذه القضايا الحاسمة، هناك حاجة للحوار الوطني الصريح مع كل القوى الفاعلة، بما في ذلك القوى السياسية، التي لم تُشْرَك في معادلة الحكم في العامين الماضيين، ولها من الرصيد الوطني ما يؤهلها أن تكون في الحدث، بلا إقصاء. وقد تُظهر متابعة تنفيذ ذلك أنها مهمة شاقة تتطلب جهوداً مستمرة وتعبئة من جميع الجهات الفاعلة. وقد تتطلب الكثير من الجهد، الذي يعزز مسألة الجدوى السياسية والاجتماعية والاقتصادية للحوار الوطني الشامل.

المشكلة تكمن في أن السودان يُعاني من الصراعات، حرمته، إلى حد كبير، من المتطلبات الأساسية لانتقال ديمقراطي ناجح، مثل الأحزاب السياسية، التي تقوم على بنيان ديمقراطي داخلي، وتداول للقيادة فيها، يتجاوز استدامة الوارثين، وتمدد عهد القائد الأوحد، حتى صار الموروث والمكتسب على شاكِلة واحدة، في احتكار السلطة والهيمنة على مؤسسات الدولة. علاوة على ذلك، ينبغي أن يكافح المدنيون لإيجاد أرضية مشتركة بينهم تتجاوز معارضتهم لنظام سياسي مضى إلى نهايته قبل أكثر من عامين، حتى لا تقوض تباينات مواقفهم مستقبل بلد مترامي الأطراف، يُعاني من كثير من الصراعات، وتكتنفه الأزمات الاقتصادية.

لهذا، وبوضع كل هذه الحيثيات قيد النظر، يحدو الناس الأمل أن تشكل بداية عام 2022م، مهما تنوعت "تَشَكُّلات" الحكم فيه، ملامح مرحلة مغايرة لنهاية عام 2021م، التي مثلت تحدياً جوهرياً ووجودياً للسودان. ولا شك أن القدرة على الخروج من تعقيدات العام الماضي بنجاح ستعتمد، إلى حد كبير، على إعادة الثقة في مؤسسات الحكم، وإنشاء ما تعطل، من مجالس ومفوضيات، وتوسيع قاعدة التوافق الوطني، واسترضاء المحتجين بأن شعار "حرية سلام وعدالة" لا يتجزأ، وأن مضامينه ينبغي أن تكون لهم ولسواهم، ومن ثم تجديد العلاقات مع المجتمع الدولي، بدءاً من جوار لا تنفصم الروابط معه، وانتهاءً بأبعدين مؤازرين، وفقاً لشروط الندية وعدم التدخل.

 

تبصر واستنتاج:

الوضع في السودان لا يزال محفوفاً بالمخاطر، وليس في الأفق ما يؤشر على أن العقل السياسي يُدرك كل أبعاد ما يعتمل في البلاد ويحيط بها من مهددات. فقد مضى عام آخر من عمر الثورة والسياسة أكثر سيولة، والمتظاهرون يواصلون تنظيم "مليونياتهم"، ولا يُظْهِرُون أي بوادر للتراجع، ومن يناصرونهم، أو يُعارضُونهم، لا يقدمون بدائلاً تُخرج الوضع من عُنق الزجاجة. ويعتقد البعض أنها قد تكون مسألة وقت فقط قبل أن تتراجع الأطراف المتصارعة؛ في الحكومة والمعارضة، عن مواقفها تجاه اشتراطات بعضها البعض، ولكن ذلك لا يبدو حلاً عقلانياً لأزمة تتعقد كلما تأخر عليها الحسم. ويعتقد العقلاء أن لا مخرج آمن غير الحوار الوطني الشامل، وإذا حدث توافق سياسي أوسع مما كان عليه الحال، فعندئذ فقط سيتمكن السودان من التركيز على تشكيل نظام سياسي فاعل، وحكومة مستقرة. لذلك، فإن أي تحالف مدني في السودان، ليس أمامه خيار آخر سوى مواصلة الحوار، على أمل بناء شكل من أشكال التوافق السياسي العريض في السنوات المقبلة. فالسودان يواجه مشكلة وجودية في كيفية بناء وطن يسع كل أهله. والشرط المُمَهِّد لذلك هو في الوصول إلى قدر من الإجماع الساسي، الذي يستوعب، في المقام الأول، فهم المؤسسات، التي يجب بناؤها لترسيخ التحول الديمقراطي.

لهذا، فإن السودان، الذي تأثر سلباً باضطراب أوضاعه الخاصة، وما حدث ويحدث في جواره، والعدد المتزايد للاجئين، وتراجع الإنتاج، وارتفاع التضخم، وانتشار وباء كورونا، يحتاج لدفع العملية الانتقالية إلى الأمام، مع تركيز الجهود على حل الخلافات بين الأطراف الحاكمة والمعارضة، وأن يبتدر الجميع مرحلة تراضٍ جديدة، لا يكون فيها التنافس إلا لخير الوطن. عند ذلك وحده، يمكن أن يكون لتدخل الأشقاء والأصدقاء نتيجة إيجابية، فالسودان طالب بوضوح مد يد العون له فيما أقدم عليه من مصالحات، وأنه يتوقع دعماً لوجستياً ومالياً من المجتمع الإقليمي والدولي لتنفيذ الترتيبات الأمنية مع شركائه من الجماعات المسلحة، التي جاءت بعد اتفاق جوبا، بما فيها من مشروعات بناء وإعمار. وإذا كان العالم يريد حقاً الأمن والاستقرار في دارفور، وفي غيرها من المناطق، فلا بد من الإسهام في إتاحة الموارد الكافية لتحقيق هذا المطلب الملح. مع ذلك، يجب على الحكومة السودانية أن تتحمل مسؤوليتها الخاصة في تنفيذ الترتيبات الأمنية والإصلاحات السياسية والمعالجات الاقتصادية المُسْتَوعِبَة لتوقعات القادمين من ميادين القتال. 

لقد كان المسؤولون المدنيون يحتفلون، قبل شهر واحد فقط، ببوادر تدل على أن الأزمة الاقتصادية المطولة في السودان تنحسر بعد وعود بإعفاء الديون وانسياب التمويل الدولي. لكن أدت الاضطرابات في الشرق إلى معاناة الناس، وتسببت في نقص حاد في الخبز والسلع الأساسية المستوردة. وقد أثار هذا بدوره الغضب تجاه الحكومة وطغى على إنجازاتها المُدعاة، والتي يقول المواطنون إنها غير ملموسة، فظلت مسألة الخبز والكهرباء والمواصلات هي الشواغل الملحة الحقيقية، وربما تُجهض تجربة الديمقراطية الرابعة في البلاد. لذلك، يتعين على الدولة الوفاء بالتزاماتها تجاه مشاكل السودان الاقتصادية الأليمة والمتفاقمة، والعمل على تحفيز الإنتاج وتخفيف أعباء المعيشة، ومن ثم، معالجة حالة الاحتقان السياسي، ومساواة الجميع أمام القانون، وما يرتبط بشعارات الحرية والسلام والعدالة، حتى تكون هذه الشعارات متسقةً مع المعايير، التي يُنْتَظَر أن تَتَنَزَّل إلى الواقع.

وبقراءة خاتمة لما يتوفر من مُعطيات، يمكن الإخبار بالعديد من الأشياء، التي قد تحدث في المستقبل، أو تلك التي يكاد يكون من المؤكد حدوث بعضها، خاصة عندما يُنظر إلى الأحداث الأخرى على أنها أقل احتمالاً بكثير، ولكنها قد تكون مهمة للغاية إذا حدثت، مثل سلام يستوعب جميع المتمردين على السلطة المركزية في البلاد، وتوافق وطني لا يستثني أحدًا، وإقصاء شعارات الإقصاء من الحياة السياسية في السودان، وإلى الأبد. فالبصيرة هي المكون السري للنجاح، لأنه بدون البصيرة لا يمكننا الاستعداد للمستقبل. ولطالما كان التبصر الفعال مهماً في معالجة ما يعتور الحياة السياسية من أدواء، فالحاجة إليه تبقى عاجلة، غير آجلة. رغم ما قد يبدو أنه من الصعب استدراك جدواه الآن، لأن حركة السياسة في الشارع، ووتيرة تناقضاتها في قمة هرم السلطة، تجعل من مجرد التفكير فيه ترف ومزايدة. لذلك، فإن المواقف والوظائف والمؤسسات، وحتى بعض القيم وأساليب التفكير الثمينة كلها تتغير جذرياً، مما يجعل من الصعب جداً التخطيط للغد، والاستعداد للتحديات والفرص المستقبلية. في الواقع، إن ما يمكن أن يُطلق عليه عصر "التغيير المفرط" في السياسة السودانية، لا يجعل لدى الكثير من الناس فكرة عن نوع المستقبل، الذي يجب أن يستعدوا له. قد يقررون، بشكل عاطفي، أو جبري، أنهم لا يستطيعون معرفة، أو فعل أي شيء بشأن هذا المستقبل.

 

مقالات لنفس الكاتب