; logged out
الرئيسية / موازين القوى في الخليج: المصالحات على أنقاض المحاور

العدد 169

موازين القوى في الخليج: المصالحات على أنقاض المحاور

الخميس، 30 كانون1/ديسمبر 2021

 

قبل أن يطوي عام 2021م، أوراقه، وضعت صفقات تسلح كبيرة الخليج أمام تقاطع مصالح دولية، وغيرت قراءة واقع موازين القوة في منطقة الخليج وتأثير ذلك على التوازن والردع وحفظ استقرار أمن المنطقة ، فإلى جانب وصول طائرات اليوروفيتر المقاتلة إلى الكويت، ورافال للإمارات جرت مباحثات سعودية ـ باكستانية حول تعزيز التعاون العسكري، لكن الأهم كان صفقات تسلح فرنسية-خليجية كبرى خلال جولة الرئيس الفرنسي ماكرون في دول خليجية، وكان عنوانها الأوضح مهما ارتفع من عناوين أخرى هو استغلال الفرصة لتعويض المماطلة الأمريكية

 حيث تشير صفقات المقاتلات إلى تدعيم استراتيجية تنويع الشركاء في الخليج، وتشير الصفقة القياسية إلى تبدل ميزان القوى في الخليج وعزمهم بحثًا عن شركاء جدد، بمواجهة خفض الولايات المتحدة مدى انخراطها في المنطقة. بالإضافة إلى صفقات طائرات الهليوكبتر مع دول خليجية أخرى، لكن ذلك لا يظهر أين تقف دول مجلس التعاون الخليجي على الخريطة المستقبلية للعالم، بل يجب النظر إلى أمور أخرى، مثل طي زمن إقليمي في الخليج بعد قمة العلا، وظهور المصالحات على أنقاض المحاور بتقاربات جديدة.

 أثر محاور واستقطابات الأزمة الخليجية على موازين القوى

ذهبت الأزمة الخليجية فهل بقيت استقطاباتها محاورها! سؤال مركزي يتطلب تشريح الأزمة منذ أن فشلت أطرافها في توطين أنها شأن خليجي عابر، وسرعان ما ستجد دول الخليج له مخرج عبر التحرك السريع الذي تعهده أمير الكويت، وستتحقق المصالحة، وإن طالت مدتها، فقد كان من تبعات الأزمة الخليجية تفاعلاتها مع تركيا، وإيران، ودول الخليج على طرفي الأزمة. فقد برزت تركيا، كالقوة الإقليمية صاحبة الدور الأكثر حيوية في الأزمة، وحاولت التوسط مبكرًا، بتحركات دبلوماسية للقاء المسؤولين في الرياض والدوحة؛ ثم مالت للدوحة بعد تعديل سريع لاتفاقية التعاون الاستراتيجي 2014م، لتشغيل القاعدة العسكرية التركية في قطر. وليس ثمة شك في أن وصول القوات التركية وإطلاق عملية نقل جوي كبيرة لتوفير المواد الغذائية للسوق القطري قد أكد تشكيل محور قطري ــ تركي ضد المحور السعودي /الإماراتي /البحريني/ المصري؛ لذا كان من ضمن مطالب العودة للبيت الخليجي طلب إغلاق القاعدة التركية، فرفضت الدوحة وانتقلت العلاقات القطرية-التركية إلى مستوى أعلى مما جعل تركيا طرف في توازنات الخليج الاستراتيجية.  كما ألقت الأزمة بثقلها على مجمل العلاقات الخليجية مع إيران، فرغم تبني الدوحة لمواقف ضد تحركات إيران الإقليمية خصوصًا في سوريا-ربما للعامل الإخواني فقد أخذت طهران موقفًا مؤيدًا لقطر ومناهضًا لإجراءات القطيعة، وهو انحياز إيراني نبع من المواجهة السعودية/الإيرانية، وإكمال لسياق منع السعودية من الهيمنة على الخليج أن فرضت موقفها على الدوحة، فعاد السفير القطري لطهران، وكانت الأجواء الإيرانية متنفسًا للطيران الدولي لمطار حمد الجديد الضخم.

زمن المحاور في الخليج

أتصف العقد الحالي في الخليج وجواره الإقليمي بالاستقطابات الإقليمية، فتشكلت العديد من الهياكل الخيرة والهياكل الشريرة؛ فإلى جانب محور المقاومة الشيعي، والتقارب التركي ـ الإيراني في المسألة الكردية، والتقارب السوري ــ الروسي، المناهض للتحركات التركية شمال سوريا، إلى جانب تلك الهياكل تشكل المحور التركي-القطري لدواعي الأزمة الخليجية التي أسلفنا ذكرها، يقابله المحور السعودي-الإماراتي-المصري-البحريني، كما تشكل المحور الإيراني-القطري، يقابله المحور السعودي-الإماراتي-المصري-البحريني نفسه. وكان اللافت للنظر غياب جمهورية العراق عن هذه التفاعلات وظهر وكأنه الطرف الأضعف في هذا التوازن الإقليمي ربما لانشغال وتواضع طموحات صانعي السياسة في العراق أو لتغلغل اليد الإيرانية في بغداد عبر الأحزاب الولائية أو ربما أدرك العراقيون أن منافسة إيران وتركيا وكلفة الاصطفاف قد تكون كلفة على بغداد وليست شأنًا سهلًا يمكن الانخراط فيه بمردود جيد.

طي زمن المحاور بعد قمة العلا

لقد كان أمر أن الأزمة صنعت استقطابات ومحاور مدرك لدى من انخرط فيها، ومدركة عواقب تشكلها وصعوبة احتواؤها وتبعاتها. ففي كلمات حادة يمكننا القول إن الخلافات بين دول المجلس فتحت شهية أنقره للتوغل جنوبًا، فعرضت مساعدة قطر وأرسلت إليها جنودًا ليس نكاية سياسية بالمحور الآخر بل طمعًا بتوسيع نفوذها، كما فتحت شهية طهران فقدمت الدعم للدوحة بهدف ترسيخ جسر عبور لجزيرة العرب كما يتطلب الحلم التوسعي الفارسي. وفي قمة العلا قدّمت الجهات المتنازعة تنازلات للوصول إلى مصالحة لأنّ استئناف العلاقات بات من مصلحتها، فقمة العلا تؤسس لمرحلة جديدة من العمل الخليجي المشترك هو أمضى سلاح في مواجهة التحديات، ففي "قمة السلطان قابوس والشيخ صباح"، تم التأكيد على الأهداف السامية لمجلس التعاون، لتحقيق التعاون والترابط والتكامل بين دول المجلس في جميع المجالات، وصولاً إلى وحدتها، وتعزيز دورها الإقليمي والدولي، والعمل كمجموعة اقتصادية وسياسية واحدة للمساهمة في تحقيق الأمن والسلام والاستقرار والرخاء في المنطقة. لكن الأهم أن صانع القرار السياسي الخليجي قد وصل إلى أن المحاور أضرّت باستقرار المنطقة أكثر مما نفعتها، وأن المحاور أثّرت في الموارد السياسية والاقتصادية لجميع هذه الدول؛ فبدأت العواصم وكأنها فقدتَ زمام الفعل الدبلوماسي الواعي.

المصالحات على أنقاض المحاور

 كان لابد من تفكيك أطر المحاور، وقد ساعد على فتح الاقفال المقدسة  التي ظهرت جلية وحادة في التراشق الإعلامي الرسمي و على وسائل التواصل الاجتماعي  ساعد على تفكيكها أن الاستقطابات دخلت مرحلة الجمود من نفسها بحيث لم تعد تحقق أهدافًا لكل الأطراف لا من ناحية سياسية حيث كثر المصطادون في مياهها العكرة كما كشرت عن أنيابها الضباع الإقليمية، بالإضافة إلى التبعات الاقتصادية سواء من المحاصر أو المحاصرين له بعد انهيار الميزان التجاري بين الطرفين لذا دخلنا مرحلة المصالحات كالمصالحة الخليجية في قمة العُلا حيث بدأت أنقرة بشكل ملموس بالسعي للاستفادة من أجوائها الإيجابية وإعادة وصل الخيوط مع الرياض وأبوظبي والمنامة والقاهرة أيضاً، وبدأت الحوارات الثنائية التركية-البحرينية، والحوارات التركية-المصرية والانحناءات الدبلوماسية مع الرياض.  ورغم ان الامارات تشارك بقية دول مجلس التعاون المخاوف الإقليمية حول السياسات والأنشطة الإيرانية في المنطقة لكنها ترى أن المواجهة ليست السبيل الأمثل للمضي قدماً. لذا شاهدنا الحوارات الإيرانية-الإماراتية، بل والحوارات الإيرانية-السعودية التي لم يحالفها التوفيق في بعض مراحلها.

 وقد تكثر التفسيرات السلبية أكثر من التفسيرات الإيجابية حول التحركات الأخيرة كتحرك ملك الأردن الذي زار  قبل شهر كل من البحرين والإمارات . وزيارة  سلطان عمان لقطر في الوقت نفسه، وزيارة ولي عهد أبوظبي لتركيا، وكبير المفاوضين النوويين الإيرانيين علي باقري كني الذي زار أبو ظبي والكويت، وجولة ولي العهد السعودي لدول الخليج حيث في تقديرنا أن هذه التحركات ليست فارغة من المضامين، بحكم تغيرات الخطاب حول بعض القضايا بلغت درجة التناقض أحيانًا ،لدرجة أن البعض اعتبرها إعلاء شأن لطرف وتقليل شأن لطرف آخر والعكس بالعكس. أما أسباب الانعطافات الاستراتيجية الخليجية فبسبب متغيرات عدة منها كورونا وما تمخض عنها من تداعيات اقتصادية، ووصول إدارة ديمقراطية إلى البيت الأبيض قلبت الكثير من ثوابت العلاقات الخليجية الأمريكية، وحرصها على تهدئة التوترات في الإقليم وتخفيف حدة الاستقطابات في المنطقة، وتخفيف البصمة العسكرية الأمريكية بيننا مما ولد قناعة إقليمية بتراجع إمكانية الاعتماد على الدور الأمريكي لرعاية حالة التوازن بما يحفظ الأمن والاستقرار في المنطقة. فكان لابد من هدم هياكل الاستقطابات الإقليمية، ونستطيع استشراف توجهات إقليمية جديدة عمادها إصلاح العلاقات وتخفيف التوترات بمبادرات الحوار والحفاظ على أن تكون السياسة الخارجية مدفوعة بأولوية الاقتصاد.

التقاربات الجديدة

1-ذهبت أميركا شرقًا فسبقناها

بعد انسحاب واشنطن من منطقة الخليج ، دعا الأمر دول المنطقة أن تبحث عن حليف أمني، والبديل يتبلور عبر ترتيبات اقتصادية هذه المرة وألا تخلو من الجوانب الأمنية والسياسية، فقد أصبح ثقل العالم في المحيط الهادي بسبب قوة الصين المتصاعدة التي تهدد عرش واشنطن على العالم، ومنذ عام طفح قلق أمريكي من تنامي العلاقات العسكرية الخليجية / الصينية، وصولاً إلى ما قيل حينها وجود مؤشرات على احتمال إقامة بكين قاعدة عسكرية في أبو ظبي، فكان أن حذرت واشنطن أبو ظبي من أن أي وجود صيني عسكري على أراضيها سيهدد علاقاتهما .وبحسب تقرير البنتاغون لعام 2020م، حول الطموحات العسكرية الصينية، فإن الإمارات العربية المتحدة كانت من بين الدول التي كانت بكين "على الأرجح تفكر فيها بالفعل وتخطط لإنشاء مرافق لوجستية عسكرية إضافية في الخارج فيها، حيث لا تزال منطقة الخليج من أكثر المناطق ديناميكية في العالم، فهي تخوض تحولات اقتصادية وجيوسياسية وأمنية يمتد تأثيرها إلى القوى العالمية التي تتنافس على كسب النفوذ، وتُعتبر العلاقات بين إيران والصين محركاً أساسياً للتغيرات الحاصلة سواء في التقارب الخليجي الصيني أو الغضب الأميركي من هذا التقارب.

2- التقرب من الصهاينة

 من وجهة النظر الإسرائيلية، قد تمهد المصالحات وسقوط الاستقطابات القديمة لتحالف إقليمي أوسع قد يشمل تل أبيب، فحل الأزمة الخليجية سيؤدي إلى مزيد من توحيد مجلس التعاون الخليجي وسيساعد على تحسين التوازن الاستراتيجي. "ويمكن أن تكون الآثار المترتبة على مثل هذا التطور جبهة موحدة بشكل أكبر لمواجهة "النشاط الخبيث" لإيران في المنطقة وتفكيك المحور الإسلامي ـ التركي -القطري الذي يهدد بزعزعة استقرار جيران إسرائيل". ويبدو أن الرؤية الإسرائيلية آخذة في التحقق فهناك دول التقرب الإبراهيمي التي ترى جدوى الرهان على إسرائيل، وقيام المحور الخليجي-الإسرائيلي. رغم أن هناك تحدي الواقع العسكري الإسرائيلي فكيف لتل أبيب أن تكسر شوكة طهران وهي بالكاد تشكل قوة ردع ضد حزب الله ولا يمكنها توفير الحماية لدول تبعد عنها ألفي كلم!

 توازنات القوى في الخليج

 تقودنا توازنات القوى في الخليج، إلى الدول التي تعد لاعبا أساسيًا في حلبة الصراع:

1- إيران: لا زالت طهران تعد من الدول المؤثرة في سياسات النظام الإقليمي، من خلال مقومات الموقع والغنى كونها من الدول النفطية و ثاني أكبر احتياطي في الغاز الطبيعي، كما تمتلك  تحالفات إقليمية عبر محور المقاومة الذي يطول الخليج بالحشد الشعبي وحزب الله والحوثيين في اليمن وتحالفات دولية عديدة، فهي حليف استراتيجي لموسكو وللصين عبر صفقة الربع قرن بين البلدين 2020م. بل إنه في في الخطاب الافتتاحي لقمة 2021م، أعلن الرئيس الصيني انضمام إيران لمنظمة شنغهاي المكونة من الصين، وروسيا، وكازاخستان، وقيرغيزستان، وطاجيكستان وأوزبكستان، والهند، وباكستان. وهي واحدة من أهم وأكبر وأغنى المنظمات الإقليمية في العالم، فالأعضاء من أكبر منتجي ومستهلكي الطاقة في العالم. مساحتها ربع مساحة الأرض وسكانها 43٪ من سكان العالم. وحجم اقتصاد منظمة شنغهاي 20 % من الاقتصاد العالمي. فضلاُ عن ذلك لا زالت زوارق الحرس الثوري الإيراني تسيطر على مضيق هرمز، ناهيك عن القوة العسكرية باعتبارها من الدول التي تعيش لحظة العتبة النووية.

2-  تركيا: برزت كقوة إقليمية منذ عقد، وتستند عسكريًا وهي تنظر للخليج على  حلف الناتو، وعلى حجم جيشها، الذي يعد أكبر قوة برية في حلف شمال الأطلسي ، وهي  قوة اقتصادية صاعدة، على الرغم من الانهيارات في عملتها  ورغم خلافاتها الكثيرة مع جوارها الآسيوي والأوروبي ورغم فكر أردوغان التوسعي.

3-  دول مجلس التعاون بقيادة المملكة العربية السعودية التي  تصنف قائد أوبك+ الكارتيل النفطي العملاق وتمتلك قوات درع الجزيرة وهي قوة عسكرية ومنظومة دفاع متطورة، بالإضافة إلى الإطار الثالث لأمن الخليج وهو الاتفاقيات الأمنية مع الدول العظمى فهناك  تحالفات ومعاهدات على المستوى الإقليمي أو المستوى الدولي ، بالإضافة إلى صفقات التسلح المتجدد وآخره اليوروفايتر للكويت وتوقيع عقود هليوكبتر ضخمة بين فرنسا والإمارات والسعودية.

4-إسرائيل: تعد قوة إقليمية مرتقبة في منظومة أمن الخليج بعد الاتفاقيات الإبراهيمية، وتغري تل أبيب الخليجيين بالتحالف معها انها تمتلك قوة عسكرية متطورة.

أما التوازنات في الخليج على مستوى النظام الدولي، في الوقت الراهن فهناك الولايات المتحدة التي لا تزال اللاعب الرئيس وذات التأثير الأكبر في نظام أمن الخليج ، فهي تمتلك مقومات القوة الشاملة مثل، الأسطول الأمريكي الخامس الذي يتخذ من المياه الإقليمية المقابلة للبحرين قاعدة له. ويصفه خبراء أمريكيون بأنه أكثر الأساطيل الأمريكية الاستراتيجية أهمية في منطقة الخليج العربي ويضم الأسطول الخامس حاملة طائرات أمريكية وعدداً من الغواصات الهجومية والمدمرات البحرية وأكثر من سبعين مقاتلة، إضافة لقاذفات القنابل والمقاتلات التكتيكية وطائرات التزويد بالوقود. لكن أمريكا الديمقراطيين غير جديرة بثقة الخليجيين، فقد شنت قبل شهر حملة شيطنة وأخذ دول الخليج واحدة بعد الأخرى بل وقد يتوسع ليشمل شيطنة «أوبك +»، والمحرك واحد وهو ارتفاع أسعار النفط، ولن يفاجئنا خروج من يدعو لعودة المغامرة الأمريكية القديمة لاحتلال منابع النفط عام 1973م، وإحياء مشروع وزير الدفاع الأمريكي جيمس شيلزنغر وأخذ حقول النفط بالقوة.  ولابد من التوقف عند حقيقة أن العلاقات الأمريكية ـ الخليجية لا تمر بأفضل أوقاتها فمن بين الرؤساء الأمريكان كلهم ينظر الرئيس جو بايدن إلى دول الخليج بوصفها خصمًا وليس بوصفها شريكًا، هذا الموقف بناه على وعود انتخابية تفرضها توجهات حزبية أكثر منها قناعات استراتيجية بدليل تراجعه عن أغلبها، وقد طبعت فترة رئاسته خلال عام نهجه مسارين هما ترميم مكانة أمريكا دوليًا، وترتيب الأولويات الأمريكية. ومن التبعات السيئة التي مرت على الخليج حتى الآن التعاطي مع إيران، حيث كان من ضمن إجراءات ترميم مكانة أمريكا إحياء المفاوضات مع إيران، بطريقة لا تخطئ العين فيها أن طهران هي من تقوم بخلق المسارات، حتى وصلت لمرحلة العتبة النووية، وهاهي تضع شروطها التعجيزية، بالتعهد الأمريكي بعدم الخروج، واستبعاد انضمام الخليج للمفاوضات، وغيرها الكثير.

والأمر الثاني هو سحب الأسلحة من الخليج ولا نعلم كيف تحقق ترميم مكانة أمريكا دوليًا، أو ترتيب الأولويات الأمريكية، مع سحب الباتريوت ووقف بيع الذخائر لخلق انكشاف خليجي يتسبب بالإخلال العملي والمعنوي بقيمة أمريكا كحليف. والأمر الثالث هو اليمن فللديمقراطيين عن اليمن تصاريح عن حرب إعادة الشرعية مطعّمة بمبالغات ومزاعم لا أدلّة أو قرائن عليها جراء خلل في التعاطي الأمريكي ما دامت واشنطن لم تُعِيد الحوثيين إلى قوائم الإرهاب، وأيضًا غياب التحرك الأمريكي الجاد، وهناك الكثير الذي لا يتسع المجال لذكره لكن سنة من حكم بايدن قوضت الكثير من الرؤى والمفاهيم التي لطالما عشنا أسرى لها وحددت مساراتنا في التعاطي مع واشنطن.

 أما الصين فتسير  في الخليج بخطى ثابتة منطلقة من القوة الاقتصادية حيث أصبحت عبر دبلوماسيتها شريكًا تجاريًا لثلثي دول العالم وهي عضو في الكثير من التكتلات الاقتصادية، وإن كانت قد غيرت نهجها مؤخرًا بصفقة القرن مع إيران لبناء قواعد ولتدريب مائة رجل كل عام بالإضافة إلى علو النبرة العسكرية بعد تشكل تحالف "أوكوس" كشراكة أمنية جديدة تجمع أمريكا وبريطانيا وأستراليا وضد الصين بما تعنية الكلمة من معاني الإحاطة، وما تحركاتها حيال تايوان إلا خطوة نحو تحركات أخرى قد تشمل الخليج العربي للخروج من الحصار العسكري المتشكل بتروي. أما روسيا الاتحادية فقد بدأت بثوبها الجديد تزاحم الولايات المتحدة في السيطرة على النظام العالمي الجديد، وذلك عبر بناء ودعم المحاورة المناوئة لواشنطن وهي بالتبعية مناوئة للخليج.

أهم الملامح العسكرية لـ 2022 في الخليج

يمكن أن تتخذ معادلة التوازن الإقليمي في الخليج أحد السيناريوهات التالية :

1 - استمرار الوضع القائم حيث تهيمن فيه قوتان رئيسيتان على معادلة توازن القوى الإقليمي؛ هما إيران و الولايات المتحدة من خلال تواجدها العسكري في أنحاء الخليج .

2-دخول الخليجيين إلى معادلة التوازن من خلال الخروج من الاستقطابات والمحاور غير المفيدة إلى المحاور المفيدة وتطوير قدراتها العسكرية الذاتية أو عبر شراكات أمنية جديدة كروسيا والصين وفرنسا والاتحاد الأوروبي عمومًا.

3-أن يجتاز الإيرانيون ما يسمى «العتبة النووية» وهي حالة البلد الذي يمتلك التكنولوجيا اللازمة لصنع أسلحة نووية بسرعة دون أن يقوم بذلك بالفعل، وأن يقتنع العالم أن طهران على وشك تفجير قنبلتها النووية فينصاعون لمطالبها وستستمر في تفتيت المطالب الدولية بكف طهران يدها عن العبث الإقليمي بالجيوش الموازية وتطوير الصواريخ الباليستية فعبر العتبة النووية تكون طهران قد حققت كل ما تريد تحقيقه من مكاسب استراتيجية دون أن تفجر قنبلة نووي.

4 ـ التخلي التام عن التوازنات العسكرية وبلورة صيغة جماعية توافقية لتحقيق الأمن في الخليج.

ولم يعد التعويل على السيناريو الأول كما كان قبل عقد أو عقدين من الزمن فواشنطن لا تظهر ما يهمها إن تشكل الفراغ أو قفز أحد فيه، وكأن واشنطن لا تخسر في حال ملأته الصين، أو روسيا، أو إيران. وقد تعددت أسباب الرحيل الأمريكي، كتقليص البصمة العسكرية الأمريكية في الخليج للاهتمام بحسابات داخلية أمريكية، كالتعافي الاقتصادي، ومواجهة كورونا، وإيجاد حل سريع للانقسامات في الداخل الأمريكي. أو بدافـع توجيـــه الأولويات والموارد صــــوب شرق آسيا، ومواجهـــة التحدي الصيني المتصاعد. أو الوجود العسكري ليس السبيل الأوحد لتأمين المصالح الأمريكية، فالنهج الدبلوماسي يحقق نتائج مثمرة بالقوة الناعمة بدل القوة الخشنة، ومبدأ الردع سيتحقق بهذا النفوذ الناعم. أو أن القوات الأمريكية الموجودة كافية وعدم زيادتها بل إن تقليلها لا يخلّ بأمن الخليج. أو نزع مفجرات الصراع في المنطقة ممكن بالعودة للاتفاق النووي الإيراني، وانتهاز الاتفاقيات الإبراهيمية لخلق ترتيبات بديلة لتسد الغياب الأمريكي في المنطقة.

 أقوى اللاعبين ليس من أهل الدار

يقول "مارتن بيك"، أستاذ دراسات الشرق الأوسط المعاصرة في جامعة هامبورج بألمانيا، في أحد مؤلفاته: "إن منطقة الشرق الأوسط لم تفرز قوى إقليمية حرة، وإنما ظهرت تلك القوى نتيجة تأثيرات متداخلة ومعقدة لعوامل داخلية وخارجية، وإن أقوى اللاعبين السياسيين في الشرق الأوسط ليسوا أولئك الذين يعتبرونه بيتهم، ولكن أولئك الموجودين خلف المحيط الأطلنطي في الولايات المتحدة، وقبل ذلك القوى الاستعمارية كفرنسا وبريطانيا إبَّان الحرب العالمية الثانية".

 

مقالات لنفس الكاتب