array(1) { [0]=> object(stdClass)#12962 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 173

في البداية كان اللؤلؤ وإحياء تراث الغوص لبعث الحياة في ذاكرة الأجيال

الإثنين، 25 نيسان/أبريل 2022

إن اللؤلؤ مجسـد لتاريخ الخليج، فقد ارتبط هذا الحجر الكريم بالخليج العربي عبر التاريخ وعكس فيما عكس العديد من أوجه حضارة شعبنا ومجتمعنا الخليجي. كما عكست معاناة صيد اللؤلؤ نضال هذا الشعب على المستويات الاقتصادية والحضارية كافة، بل وحتى العسكرية.

مارس سكان الخليج العربي الغوص بحثاً عن اللؤلؤ منذ أقدم العصور.  وقد أثبتت أعمال التنقيب أن اللؤلؤ استخدم كحلية في الخليج، منذ أكثر من سبعة آلاف عام. وقد عثر في مدفن يعود إلى خمسة آلاف سنة ق.م. في إمارة أم القيوين في دولة الإمارات على لؤلؤة تعتبر الأقدم من نوعها يتم اكتشافها حتى الآن في الخليج العربي، وربما في العالم أجمع.

كان الغوص هو الحرفة الرئيسية في الساحل العربي للخليج حيث تتواجد أكثر مغاصات اللؤلؤ إنتاجاً. ولم تكن صناعة الغوص على اللؤلؤ مجرد حرفة، وإنما كانت تشكل عصب الاقتصاد لبلدان الخليج العربي، وليس أدل على أهمية اللؤلؤ في اقتصاد المنطقة من أن بريطانيا كانت كقوة إمبريالية كثيراً ما تستخدم اللؤلؤ كوسيلة للضغط على مشايخ الخليج للاستجابة لمطالبها. وهذا ما حدث على سبيل المثال عندما رفض الشيخ شخبوط بن سلطان آل نهيان حاكم إمارة أبوظبي (1928- 1966م) توفير الحماية للمطار الذي أنشأه البريطانيون لمهبط طائراتهم على جزيرة صير بني ياس الظبيانية وأصر على موقفه وخاصة أن المطار أقيم دون إذن مسبق منه، وحاول الوكيل السياسي البريطاني في البحرين جوردن لوخ ثني الشيخ شخبوط عن موقفه ولكن جميع محاولاته باءت بالفشل أمام صمود الشيخ شخبوط، وعندئذ هدد لوخ بمحاصرة أسطول الغوص التابع لأبوظبي ومنعه من الوصول إلى مغاصات اللؤلؤ مما يعني شل اقتصاد أبوظبي الذي يعتمد أساساً على صيد اللؤلؤ، ولذلك لم يكن أمام الشيخ شخبوط من خيار سوى الاستجابة للمطالب البريطانية.

إن الشـعب الخليجي مثل الشعوب الأخرى، له من تراثه ما يميزه ويسبغ عليه خصوصية تاريخية ثقافية، وما يؤكد صلته العميقة ببقية الشعوب الأخرى. أما الخصوصية فمصدرها الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وطبيعة البيئة أيضاً، وطبيعة الظروف التي فرضت على الآباء والأجداد أن يبذلوا الغالي والنفيس من أجل حياة أفضل لنا جميعًا.

كان اللؤلؤ ثروة كبرى بمقياس الماضي، ثروة لأنه فريد في حقيقته، وذلك لندرة وجود مثله. إنه ثروة طبقاً للطريقة التي تم بها استخراجه، وهو لنا ثروة لا تعادلها ثروة، لأن اّباءنا وأجدادنا كانوا كثيراّ ما يدفعون حياتهم ثمناً للحصول عليه.

 اللؤلؤ ليس تحفة جمالية فقط، إنه تاريخ شعبنا وأهلنا وصورتنا التي كنا عليها، والتي انتقلنا عبرها إلى ما نحن فيه الآن. إن بريق اللؤلؤ الذي ارتبط بلحظات انتظار عوائل الغواصة كان ملهمهم لمزيد من العمل. كان اللؤلؤ يعكس حياتهم الدفينة في أعماق البحر، حيث واجهوا المخاطر. فلقد كان الغوص يشكل معاناة الاّباء والاّجداد لكسب لقمة العيش المغمسة في الكد والشقاء والتعب.

ولم تكن المرأة الخليجية بعيدة عن نضال الرجل في عصر اللؤلؤ. لقد كانت المرأة الخليجية تقوم بتنظيم شؤون البيت ورعاية شؤون الأسرة في غياب الزوج وتربية الأولاد، وممارسة الزراعة وتربية الحيوانات الداجنة والطيور. وقد تحملت تلك المرأة الكثير من الإرهاق في غياب زوجها عنها وكانت دائماً شديدة القلق على مصيره من مخاطر البحر. وكانت الحياة آنذاك تتسم بالقسوة نظراً إلى الظروف والمعطيات السائدة. لكن الوضع الاقتصادي الصعب، قاد إلى اتساع ظاهرة التضامن الاجتماعي.

سـيبقى الغوص من أجل الحصول على اللؤلؤ أحد أهم ملامح نضالات شعبنا الباسل في ماضي تاريخه ومستهل تراثه. فمن خلاله أعطي شعبنا مثلاً حياً لإرادة الصمود والتحدي، يومئذٍ أكد رجالنا أنهم لا يعرفون المستحيل. وأن الحصول على لقمة العيش يستحق هذا العناء وتلك المخاطر التي ترتبت على الغوص وجمع اللؤلؤ، الذي كان مصدر الدخل الأساسي لمجتمعنا الخليجي وعليه اعتمد في توفير متطلبات الحياة. وجاءت زراعة اللؤلؤ الصناعي، الذي ابتدعه اليابانيون لتوجه ضربة موجعة لنشاطات شعبنا في مجال تجارة اللؤلؤ، ولكنهم صبروا على هذا التحول الاقتصادي والأوضاع المعيشية السيئة، وكانوا على موعد مع البترول وأن تتغير معالم حياتهم، ليصبحوا من الدول الغنية، وليعيشوا مجتمع الرفاهية والسعادة.

لعب اللؤلؤ دوراً في التأثير في جوانب التراث الشعبي كافة المادية والمعنوية، وكان رمزاً للاقتصاد التقليدي. كما أن استخراجه لم يكن عملية سهلة، فقد تطلب ذلك مهارات خاصة، وركوب المخاطر البحرية وهذا أدى بدوره إلى صقل شخصية الإنسان الخليجي. الذي اعتاد شظف الحياة وطفق يبحث عن لقمة الخبز في البحر فكان الموت في كثير من الأحيان في انتظار البحارة الشجعان، الذين لم يتهيبوا لقاءه. لهذا فقد اكتسبت شخصية البحار أهمية خاصة، فنظم الشعراء القصائد والروايات وقصص الخيال عن نضال البحارة. وهكذا فقد أصبح اللؤلؤ جزءاً من التاريخ الثقافي والاجتماعي ومكوناً أصيلاً من مكونات التاريخ الاقتصادي للمجتمع الخليجي. ولا نبالغ إذا قلنا إن اللؤلؤ وحد الفكر الاقتصادي الخليجي ووحد لغة التعامل المالي كما وحد الفكر الاجتماعي، فقد لامس بوجوده ليس فقط شغاف القلوب، بل تعدى ذلك إلى ملابسنا وأوانينا وألعابنا الشعبية وأدبنا وأشعارنا واقتصادنا.

لقد كان للؤلؤ الدور الجوهري في تعدد مسارات تحسين المعيشة. وهذا واضح في الأزياء التي انتشرت فترة ازدهار الطلب العالمي على اللؤلؤ وفيما بعد. كما كان له الدور الإيجابي في تحسين معالم المعيشة لدى المواطنين في مختلف مجالات الحياة حتى في الغذاء وتنوع اطباقه. مما يؤكد أن اللؤلؤ كان سبباً في شيوع الرخاء لدى أهلنا، وأنه كان سبيلهم للحياة الأفضل وهل ننسى أن كبار تجار اللؤلؤ قد سخّروا جزءاً من ثروتهم لبناء المدارس في بدايات القرن العشرين ونشـر التعليم فكان اللؤلؤ وراء انطلاق الحركة الثقافية في الخليج عامة وبالتالي يعتبر اللؤلؤ وقود التقدم الذي أحرزته المنطقة في ذلك الوقت. وقد وجد أهل الخليج قديماً في هبة الله لهم من اللؤلؤ ما ساعدهم على تجاوز محن الحياة وأزمات الاقتصاد ووفر لهم سبل العيش الكريم.

إن تاريخنا هو امتداد وجودنا، وأداتنا لإثبات الذات والتصدي لكل المعوقات التي تحاول تشويه مسيرتنا العظيمة. إن التاريخ هو ذاكرة الأمة، ولا يمكن لأمة أن تعيش بلا ذاكرة. إن الماضي يتصل بالحاضر الذي يفضي إلى المستقبل. وحتى نفهم قانون التواصل لابد لأجيالنا الحالية أن تستوعب التاريخ في حركته الديناميكية تفاديًا للأخطاء ولكي نبعد شبح الجهل بالهوية ونضمن تواصل الرخاء والاستقرار.

وإذا كان واجباً علينا أن نستخلص العبر من مرحلة البحث عن اللؤلؤ فإن علينا إعداد أنفسنا لمهمات الحاضر والمستقبل في مرحلة النفط وما بعدها ولابد في هذا السياق من أن نرسم صورة واقعية لذلك المستقبل في ضوء الواقع الذي ساد في ماضينا القريب، كي تأتي مرامينا وجهودنا متسقة معها فلا نتخبط في تفكيرنا وأعمالنا بشكل عشوائي. وكي لا نهدر مواردنا وإمكاناتنا النفطية في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلى الانضباط والفاعلية وتصعيد وتيرة الإنتاج، فلنحاول رسم هذي الصورة ولنمهد لهذه المحاولة آخذين في الحسبان اعتبارات ثلاثة:

أول هذه الاعتبارات هي أن المتغيرات الحضارية التي نعيش في خضمها منذ منتصف القرن العشرين تحتاج إلى مقومات التواصل مع المستقبل. وأن علينا أن نستعد لكل طارئ حتى لا نجد أنفسنا في وضع مشابه لوضع آبائنا وأجدادنا حين تلقت صناعة اللؤلؤ ضربة قاضية.

أما الاعتبار الثاني فيتعلق بكيفية النفاذ إلى الآفاق الممتدة أمامنا على ضوء أوضاعنا الحاضرة وما يحيط بها من تحديات استراتيجية.

والاعتبار الثالث يشير إلى الاعتقاد بأن ما ينتظرنا يتطلب المزيد من التفكير والمزيد من التضحيات والحذر الشديد وحين يخلي الكلام ساحته للأفعال نكون قد جسدنا فلسفة الآباء والأجداد من أن الثروة الحقيقية تتمثل في قوة الإرادة والتصميم على الحياة بكرامة.

تؤكد الوثائق التاريخية إن اهتمام الأوروبيين بتجارة اللؤلؤ على نحو كبير قادهم إلى محاولة السيطرة على تجارته في الخليج. وليس هذا فحسب وإنما بلغ بهم الأمر أن خططوا للسيطرة على عمليات الغوص واستخراجه، وذلك بمحاولة جلبهم معدات غوص حديثة من أوروبا. ولكن وعلى الرغم من محاولات الأوروبيين المتكررة للسيطرة على مغاصات وتجارة اللؤلؤ إلا أنهم لم يتمكنوا من ذلك، فقد حافظ أجدادنا على عروبة (إنتاج اللؤلؤ) ومنعوا القوى الأجنبية الطامعة من انتزاع مصدر رزقهم عنهم وأبقوا على مواقع المغاصات الغنية باللؤلؤ سراً لا يعرفه إلا أبناء المنطقة.

حين يتفاعل الإنسان مع ماضيه ويستخلص العبر الصحيحة، فإنه يعيد صنع تاريخه ويحافظ على الذات الحضارية. التي تكتسب عناصر الاستمرار من استنساخ نفسها دهراً بعد دهر. فتحفظ لنا الهوية التي تميزنا بها عن غيرنا. فالحفاظ على سلامة الهوية وشخصيتنا الاعتبارية يعد الهدف الأساسي من التطرق إلى تراثنا. ذلك أن التراث هو التاريخ الحي الذي يعيش بيننا. فالأمم تستمد هويتها واستمرارها من تجذرها في أعماق التاريخ، لذا فإن الاستمرار مع الماضي أمر واقع، لأن الماضي يعيش بداخلنا ويحفزنا إلى مزيد من العطاء.

وعلى هذا النحو فإن إحياء تراث الغوص على اللؤلؤ لا يعني بالضرورة أن نعود إلى الماضي فقط ونقف عنده بل أن ما نتوخاه من إحياء التراث هو بعث الحياة في ذاكرة الأجيال فمن حق الأجيال الحالية والقادمة أن تطلع على الصفحات المشرفة التي خطها الآباء والأجداد. والتراث باق مع وجود المجتمع وهو يؤكد معاني التواصل التي لم تختف من قاموسنا الاجتماعي فتراثنا شكل على الدوام سداً منيعاً أمام المؤامرات والأطماع كما أن التراث والتجارب الماضية تمتلك ميكانيزمات دفاعية تجعلها قادرة على استنفار الشعوب وحشد طاقتها. ومن ثم الانتصار في معركة البقاء. من هنا وجب علينا الأخذ بثمار تجارب الآباء والأجداد، لأن ذلك ينير لنا الطريق في معارك الوجود الحضاري، ويؤهلنا للمضي قدماً لتحقيق أهدافنا المتعددة. وقديماً قيل: ومن وعى التاريخ في صدره أضاف أعماراً إلى عمره.

مجلة آراء حول الخليج