; logged out
الرئيسية / أحمد بن سعيد طرد الفرس من عُمان إيذانًا ببداية دولة البوسعيد سنة 1743

العدد 173

أحمد بن سعيد طرد الفرس من عُمان إيذانًا ببداية دولة البوسعيد سنة 1743

الإثنين، 25 نيسان/أبريل 2022

التاريخ أول المظاهر التي تُركَّز عليها الحركات والتيارات المناهضة للأمة؛ إذ كان التاريخ وما يزال يتبوأ مكانة خاصة في تكوين الشخصية العربية الإسلامية؛ فهو بما يحوي على مظاهر الوحدة والتنوع، يؤكد على ترابط واستمرار الأمة عبر العصور بكل قيمها ومثلها وإنجازاتها في: السياسة، الحرب، الحضارة، والنُّظم، وظهرت الطبيعة الإنسانية لتلك المنجزات من خلال انتفاع شعوب أخرى منها خارج ديار الإسلام. وقد أستطردُ في بيان أهمية التاريخ بالنسبة للشعوب، وأُشير إلى مسألة إعادة كتابة التاريخ؛ لكونها مسألة حتمية، وضرورة مُلحة لا ترف ولا رفاهية، إذ إن التاريخ كُتب، ويُكتب، وتُعاد كتابته، ولولا ذلك لكنا اكتفينا بما كتبه المؤرخون الأوائل مثل: البلاذري (ت279هـ/892م)، والطبري (310هـ/923م ) وانتهينا عند ذلك؛ لأن الظروف والمفاهيم والمستجدات والهواجس تتغير وتتبدل من عصر إلى آخر، و يجب أن يُنظر إلى التاريخ من خلال الظروف والمفاهيم الجديدة، وكما قيل: مَنْ لا يستذكِر التاريخ محكومٌ بإعادته بأخطائه وسلبياته مرةً تلو الأخرى. وعليه؛ فإن التاريخ مرتبطٌ بالشعب، وأن ما يكتبه المؤرخ في فترة من الفترات يُفترض أن يساعد الأمة على تبيُّن الاتجاه الذي يجب أن تسير فيه، والموقف الذي يجب أن تتخذه. كما أن ما يكتبه المؤرخ يجب أن يشحذ الهمة، والعزيمة أثناء الأزمات والمحن. هذه هي وظيفة التاريخ، ومن هنا وجبت إعادة كتابة التاريخ بين فترةٍ وأخرى، وحسب الظروف التي تمرُّ بها الأمة، والمفاهيم التي تسود فيها؛ فيكون التاريخ بذلك خير مُعين، وأقوى عامل في تحقيق الوحدة والتماسك، وشد العزائم، وبناء الصمود ضد التحديات.

إن الدعوة إلى إعادة كتابة التاريخ من خلال إبراز أحداث ووقائع ومُثل تتناسب ومفاهيم العصر ومتطلبات الظروف المستجدة يجب ألا تُزيف التاريخ، ولا تبالغ فيه، بل تكون موضوعية ومنهجية وعلمية، ممَّا يكسبها ثقة المواطن والمثقف العام قبل النُخبة المختصة. وبمناسبة الحديث عن أهمية التاريخ وما يحققه من مكاسب للشعوب، فإن هذه الأهمية تنطبق كليًا على تاريخ الدول المعاصر-تاريخ عُمان مثلًا-، وهنا يقع العبء الأكبر على عاتق الباحث والمؤرخ في كل دولة وأن يضطلع بدراسة تاريخ بلده وحضارته قبل غيرها، نظير تغير معطيات العالم العربي الذي أصبح مؤدلجًا على حد تعبير فوزي.

لقد اكتسبت عُمان عبر تاريخها أهمية واضحة لأسباب عديدة منها: موقعها الجغرافي، وازدهارها التجاري، وخصوبة أرضها، ووفرة مياهها وعذوبتها، وجبالها الشاهقة التي مكَّنت أبناءها من الاحتماء بها، والاعتصام بين جنباتها حال أي هجوم أجنبي غَازٍ، وأثَّرت هذه العوامل مجتمعة على ازدهار اقتصادها؛ الأمر الذي أكسبها أهمية خاصة؛ فكانت هدفًا لهجرات قبلية ونشاطات سياسية قبل الإسلام وبعده. بل أصبحت مقرًا لحركة دينية/ سياسية استطاعت أن تُشكّل كيانًا سياسيًا فيها؛ وهي الحركة الإباضية التي نازعت السلطة العباسية في السيطرة على هذا الإقليم، ثم تابعت انتشارها في أقاليم أخرى خارج حدودها. ثم أصبحت عُمان مركزًا مهمًا للتجارة البحرية العالمية؛ فازدهرت اقتصاديًا وحضاريًا في العصور الإسلامية الوسيطة، وبعدها كانت عُمان من أوائل النقاط التي شهدت محاولات التغلغل الأوروبي في الخليج مع بدايات القرن السادس عشر الميلادي؛ حين وصلت أول حملة برتغالية إلى الخليج للأسباب التي ذكرناها آنفًا، وشهدت عُمان في هذه الفترة وما أعقبها حِراكًا سياسيًا وفكريًا وحضاريًا كما كان لها من قبل.

        المصادر تُشير إلى أن تاريخ عُمان القديم يعود إلى الألف الثالث قبل الميلاد؛ وقد عُرفت عُمان بثلاث مسميات مختلفة: (مجان) وورد هذا الاسم في الكتابات المسمارية، ثم وردت باسم (عُمان) كما هو اسمها اليوم في كتابات الجغرافيين والرحالة العرب المسلمين، أما الاسم الثالث الذي عُرفت به عُمان فهو (مزون)، وأطلقه عليها الفرس في العهد الساساني. وخلال الألف الثالث ق.م، ارتبطت عُمان (مجان) مع حضارة بلاد الرافدين، ودلمون (البحرين)، وملوخا (وادي السند) بعلاقات تجارية وثيقة؛ فقد كانت الرحلات البحرية تتخذ من المراكز التجارية العربية في الخليج، موانئ وأسواق تجارية لها، وكان الملاحون يبحرون بمحاذاة الساحل مستعينين بهبوب الرياح الموسمية، فالرحلات القادمة من بلاد الرافدين كانت تمرُّ أولًا على جزيرة (فيلكا)، ثم جزيرة (دلمون)، وقبل خروجها من مياه الخليج العربي تتوقف عند (أم النار)، لتفريغ بعضًا من شحناتها وتنقل برًا إلى المدن في الداخل العُماني، ثم تستمر بعد خروجها من مياه الخليج العربي بمحاذاة خط الساحل العُماني، فتتوقف عند ميناء (دبا) في شمال عُمان، ثم ميناء (رأس الحد) في وسط عُمان، ثم ميناء (سمهرم) في جنوب عُمان، ثم تنقسم السفن؛ وقد تتوجه بعضها إلى موانئ (السند)، أو إلى الموانئ الحضرمية حيث تتوقف في مينا (قنا)، لتنتقل السلع التجارية منه عبر عواصم الممالك العربية في شبة الجزيرة العربية إلى شواطئ البحر المتوسط وشمال إفريقية.

        أما الفترة التي سبقت ظهور الإسلام، فقد ارتبط تاريخ عُمان بهجرة الأزد من اليمن إليها بقيادة مالك بن فهم الأزدي، الذي واجه الفرس المحتلين لمنطقة الساحل وأجزاء من داخلية عُمان، ورغم السجال الحربي الذي قام بين العُمانيين والفرس طيلة حكم أسرة مالك بن فهم، ومعولة بن شمس، إلا أن الوجود الفارسي ظل قائمًا بين صلح وصراع حتى دخول الإسلام إلى عُمان، فأُخرجوا كليًا منها خلال حكم عبد وجيفر ابني الجلندى. وشكَّلت رسالة الإسلام منعطفًا تاريخيًا في عُمان؛ إذ تسلّم عبد وجيفر ابني الجلندى كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم، وأسلما طواعية، وجاء فيه: "بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى جيفر وعبد ابني الجلندى، السلام على من اتبع الهدى. أما بعد، فإني أدعوكما بدعاية الإسلام، أسلما تسلما، فإني رسول الله إلى الناس كافة، لأنذر من كان حيًا، ويحق القول على الكافرين. وأنكما إن أقررتما بالإسلام وليتكما، وأن أبيتما أن تُقرا بالإسلام؛ فإن مُلككما زائل عنكما، وخيلي تطأ ساحتكما، وتظهر نبوتي على مُلككما". لقد بقي مبعوثو رسول-عمرو بن العاص وأبي زيد الأنصاري-في عُمان حتى وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يَحدّ وجودهما من سُلطة بني الجلندى في عُمان، بل احتفظت عُمان لنفسها بنوعٍ من الاستقلال السياسي خلال العهد الراشدي والفترة الأموية حتى عهد الخليفة عبد الملك بن مروان؛ لموقعها الجغرافي، وظروف نشأتها التاريخية والسياسية، والذي كَفلَ لها وضعيةً خاصة بمنأى عن أي سلطة مطلقة مستمرة. وأدى الارتباط الإداري بين عُمان وإقليم العراق دورًا كبيرًا في فسح المجال لوالي الخليفة عبد الملك بن مروان على العراق الحجاج بن يوسف الثقفي لضم عُمان إلى سلطة الدولة الأموية بعد تسييره جيوشًا عديدة؛ أبرزها حملته بقيادة مجاعة بن شعوة المزني؛ وانتهت بإخضاع عُمان، وظلت كذلك إلى سقوط دولتهم. وتتباين الروايات التاريخية حول إثبات قائمة بأسماء ولاة بني أمية على عُمان خلال هذه الفترة؛ إلا أن الثابت أنه لم يكن لهم سلطان حتى صارت السلطة لعبد الملك بن مروان، والولاة هم: محمد بن صعصعة الكلابي، عبد الرحمن بن سليم الكلبي، الخيار بن سبرة المجاشعي، سيف بن الهاني الهمداني، صالح بن عبد الرحمن الليثي، زياد بن المهلب، سعيد بن مسعود المازني، عمر بن عبد الله الأنصاري، والفيض بن محمد.

        وتؤكد قراءة التاريخ العماني أن قيام الإمامة الإباضية في عُمان سنة 132هـ/749م، تزامن وقيام الدولة العباسية في العراق؛ ورغم تشابه ظروف النشأة والتكوين لحركتي المعارضة العباسية والإباضية، ووحدة الهدف بإسقاط الدولة الأموية وتأسيس حكم جديد؛ إلا أن ذلك لم يمنع الدولة العباسية من مجابهة الإباضية، وقد كان لهم ذلك بعد عامين من قيامهم؛ حين أرسل أبو العباس السفاح جيشًا بقيادة خازم بن خزيمة، انتهى بهزيمة الإمامة الإباضية، ومقتل إمامهم في موقعة جلفار الثانية في سنة 134هـ/752م. وفي سنة 177هـ/793م أعلنت الإمامة الإباضية قيامها مرة أخرى في نزوى، وحكم من خلالها ثمانية أئمة.

وتُصور المصادر العُمانية عهود الأئمة الأوائل حتى تنصيب الإمام السادس الصلت بن مالك الخروصي بروايات تكاد تكون متطابقة، إذ تشير إلى أن هذه الفترة تُعد أزهى فترات الإمامة وأكثرها قوة على حد تعبير الإزكوي. ورغم الازدهار الحضاري الذي شهدته الإمامة خلال هذه الفترة؛ إلا أن حادثة عزل الإمام الصلت الخروصي أدخلت البلاد حروبًا أهلية قبلية مدمرة انتهت بسقوط الإمامة الإباضية الثانية بعد اتصال شيوخ النزارية بوالي البحرين العباسي محمد بن نور، واتفقا معًا على التكاتف ضد الإمامة، فاقتنصت الدولة العباسية الفرصة، وأعادت عُمان إلى سيطرتها بعد دخولها نزوى. وعليه؛ فقد تدهورت أحوال عُمان عقب سقوط الإمامة الثانية؛ إذ قادت هذه المسألة البلاد إلى سلسلة من الحروب الأهلية، إضافة إلى أنها مَهَّدت بعد ذلك للتدخل الأجنبي الذي تمثل في دخول عُمان تحت سيطرة بني سامة، وبني وجيه، والقرامطة، وبني بويه، وبني مكرم؛ نتيجة تصدع الإمامة، وعدم مقدرتها على توحيد البلاد والتصدي لأي عدوان خارجي. وبالتالي؛ استمرت عُمان في تنصيب مجموعة من الأئمة خلال فترات متقطعة، وتزامن ذلك مع قيام دولة بني نبهان التي حكمت عُمان خلال الفترة (549-1034ه/1154-1624م)، إذ شهدت عُمان في عصرهم تطورًا، كان أبرزه في مجالات: الأدب، العمران، والزراعة.

        أما تاريخ عُمان الحديث؛ فيبدأ في عشرينيات القرن السابع عشر الميلادي بقيام دولة اليعاربة (1624-1743م) وهو الحدث الذي يُمثل تحولًا في تاريخ عُمان الحديث، وميلادًا لأول الوحدات السياسية العربية في منطقة الخليج والجزيرة العربية؛ خصوصًا وأن قيامها جاء أعقاب حالة من عدم الاستقرار السياسي، وغياب الوحدة الوطنية أواخر حكم دولة النباهنة التي حكمت عُمان خمسة قرون. لقد حقق الإمام اليعربي ناصر بن مرشد إنجازات عدة، تمثلت في: توحيد الداخل العُماني، وتحقيق الوحدة الوطنية بضم المدن العُمانية إلى نفوذه، كما وجه جهوده ضد الوجود البرتغالي في صحار، وخورفكان، وصور، وقريات، ومسقط، لتستمر مطاردة العُمانيين للبرتغاليين حتى مطلع القرن الثامن عشر الميلادي في عهد الإمام سلطان بن سيف الأول (قيد الأرض)، الذي انتزع مسقط ومطرح، ومعظم المراكز البرتغالية في الخليج وشرق إفريقيا، وسواحل الهند، وكلوة، وممباسا، وزنجبار. وتحولت عُمان في عهد سلطان بن سيف الأول إلى أكبر قوة بحرية في المحيط الهندي؛ لأسطولها البحري الذي مكّنها من المناورة عسكريًا وتجاريًا؛ فأصبحت مسقط واحدة من أهم الموانئ في المحيط الهندي وسواحل الخليج العربي وشرق إفريقيا؛ وتزامن ذلك مع ظهور الأطماع الاستعمارية في الخليج؛ إذ ظهر الهولنديون، والإنجليز، والفرنسيون، كذلك الفرس؛ الذين كانت علاقتهم مع عُمان عدائية بصورة كبيرة خلال الفترة (1650-1743م).

وتزامنًا مع دخول دولة اليعاربة مرحلة من الضعف والتفكك منذ عهد سيف بن سلطان الثاني، وانقسام القبائل العُمانية بين مؤيد ومعارض له؛ دخلت البلاد سلسلة من الحروب الأهلية انقسم خلالها المجتمع العُماني إلى تجمعين (هناوي)، و(غافري)؛ الأمر الذي سمح للأطماع الفارسية بتسيير مجموعة من الحملات آخرها على صحار زمن الإمام سلطان بن مرشد اليعربي؛ الذي أوكل بدوره مهمة مقاومة الفرس إلى والي صحار أحمد بن سعيد البوسعيدي.

ونتيجة للدور الريادي الذي قام به أحمد بن سعيد، وفقدان اليعاربة للقيادات السياسية المؤهلة، تهيأت الظروف لوالي صحار لأن يكون على رأس القيادة سياسيًا؛ فواصل جهوده بطرد الفرس من صحار، ثم محاصرتهم في مسقط ومطرح إلى أن طلب الفرس الاستسلام، وبالتالي خروجهم كليًا من عُمان؛ فكان ذلك إيذانًا ببداية دولة البوسعيد في عُمان في سنة 1743م. لقد تمكّن الإمام أحمد بن سعيد من تثبيت أركان دولته، وتوحيدها بعد حروب أهلية دامت ما يقارب عشرين عامًا، كما أدخل الإمام تحديثات جديدة شملت الأنظمة الإدارية والمالية والقضائية، إضافة إلى بناء مجموعة من العلاقات مع القوى الإقليمية والعالمية، والتي تميزت بالطابع التجاري تارة وبطابع المواجهة تارة أخرى. وفي القرن التاسع عشر الميلادي؛ شهدت عُمان أحداثًا كبيرة، أبرزها تولية السيد سعيد بن سلطان، الذي حكم عُمان وشرق إفريقيا، واتخذ من زنجبار عاصمة لعُمان وشرق إفريقيا في سنة 1832م. ورغم تنوع القوى الإقليمية والدولية في عهده؛ وتداخل المصالح الاقتصادية بالصراعات السياسية، واستمرار بعض الاضطرابات داخليًا؛ إلا أن السيد سعيد استطاع تأسيس إمبراطورية واسعة الأرجاء ضَمَّت عُمان وشرق إفريقيا والساحل الشرقي لبحر عُمان، كما بَنى علاقات تجارية مع الدول الكبرى؛ إذ فتحت كلُّ من: الولايات المتحدة الأمريكية، فرنسا، وبريطانيا؛ قنصليات لها في مسقط وزنجبار، كما عَيَّنت البرتغال، وإيطاليا، وألمانيا، والنمسا، والمجر قَنَاصِلَ لها في زنجبار، إضافة إلى ذلك؛ فقد وثَّق السيد سعيد علاقاته مع أشراف الحجاز ومصر.

        وأحْدَثتْ وفاة السيد سعيد بن سلطان تصدعًا في الإمبراطورية العُمانية التي تم تقسيمها في سنة 1856م، وما تبع ذلك من تدهور الأوضاع الاقتصادية في الجانبين -زنجبار وعُمان- على المدى القريب والبعيد، خصوصًا وأن ذلك صاحبه تحرك المطامع الخارجية والصراعات الداخلية بين الإمامة في الداخل ومسقط، وقد تولى عُمان عقب وفاة السيد سعيد بن سلطان ولده ثويني، ثم خلفه ابنه سالم بن ثويني الذي انتهى حكمه بالثورة التي تزعمها الشيخ صالح بن علي الحارثي، ثم حكم السيد تركي بن سعيد الذي واجه مخاطر عدة، تمثلت في: استمرار الصراعات الداخلية بينه وبين الإمامة، ورفض بلاد فارس تجديد إيجار بندر عباس للسلطان، إضافة إلى ما شهدته ظفار من تزعزع أمني عندما أعلنت تبعيتها للدولة العثمانية؛ إلا أن ذلك لم يستمر، فانتهى بعودتها للسلطان، وتعيين سليمان بن سويلم واليًا عليها.

        لقد تولى السلطان فيصل بن تركي البلاد في سنة 1888م بعد وفاة والده، وقد تميز بداية عهده بتقارب العلاقات مع بريطانيا، وازدهار تجارة السلاح الذي أكسب عُمان موردًا اقتصاديًا اُستخدم مردوده على تطوير الخدمات الصحية؛ فأُنشئ مستشفى مطرح، وجيشًا نظاميًا، وصك عملة نحاسية "بيسة"، كما أُدخلت خدمة البرقية. وفي 1912م؛ اتفقت بريطانيا مع الهند على احتكار وتقنين بيع السلاح، رافقه إحياء الإمامة بتنصيب سالم بن راشد الخروصي إمامًا في نزوى من قبل نور الدين عبد الله بن حميد السالمي، والشيخ حمير بن ناصر النبهاني. وعليه؛ دخل السلطان تيمور صراعًا مع الإمام سالم عقب وفاة والده، وانتهى ذلك باتفاقية السيب الموقعة في أكتوبر 1913م، التي قسَّمت مناطق النفوذ بين الإمامة والسلطنة، ثم تولى السلطان سعيد السلطة في عُمان، وقد كَرَّس جهوده في توحيد البلاد عقب وفاة الإمام محمد بن عبد الله الخليلي سنة 1945م، وتخليص الدولة من الديون، والتنقيب عن البترول، ونشر الخدمات التعليمية والصحية، وقد كان له ذلك، رغم ظروف قيام الحرب العالمية الثانية، وأزمة البريمي، وأزمة الجبل الأخضر.

        في 23 يوليو من عام 1970م؛ أشرقت عُمان من جديد بتولي السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور -طيب الله ثراه-مقاليد الحكم في البلاد، معلنًا بداية نهضة شاملة، تغير فيها وجه عُمان بصورة سريعة في شتى المجالات السياسية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية؛ فأصبح رحمه الله-أعظم المصلحين في المنطقة. ولكون المعروف لا يُعرّف؛ فكل مظهر حضاري على هذه الأرض من شمالها إلى جنوبها، ومن شرقها لغربها إنما يدل في الأساس على السلطان الراحل. ولم تكن بصمة السلطان الراحل مقتصرة على الداخل، بل صاحبها دوره الريادي والمتفرد في العالم أجمع؛ خاصة حين احتفظ لعُمان بخط واحد من العلاقات مع دول العالم أجمع وهو خط السلام والتعايش والحياد وتجنيب البلاد التدخل في الشؤون الداخلية للغير؛ ليس هذا فحسب بل كان الوسيط الفعّال لحل الكثير من النزاعات، وتقريب وجهات النظر حول العديد من الملفات في المنطقة، وهو ما أشار إليه صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم-حفظه الله ورعاه-: "إن رجل مثل السلطان قابوس لا يمكن لخطاب أن يوفيه حقه، وأن يعدد ما أنجزه وما بناه فلقد بنى دولة عصرية شهد لها القاصي قبل الداني، وشيد نهضة راسخة تجلت معالمها في منظومة القوانين والتشريعات التي ستحفظ البلاد، وتنظم مسيرتها نحو مستقبل زاهر أراده لها، وأقام بنية أساسية غدت محطة أنظار العالم..". وأكد السلطان هيثم بن طارق في خطابه الأول، في11يناير 2020م على مواصلة المسيرة التي انتهجها -أعز الرجال وأنقاهم-، قائلًا: "والسير على نهجه القويم، والتأسي بخطاه النيرة التي خطاها بثبات وعزم إلى المستقبل، والحفاظ على ما أنجزه والبناء عليه هذا ما نحن عازمون -بإذن الله وعونه وتوفيقه-على السير فيه والبناء عليه؛ لترقى عُمان إلى المكانة المرموقة التي أرادها لها وسهر على تحقيقها فكتب الله له النجاح والتوفيق".

لقد قدَّم العُمانيون دورًا حضاريًا منذ القدم، وأسهموا بنصيب وافر من المعرفة والبناء، فأثّروا وتأثّروا وأثروا بإنجازاتهم العالم، وعملوا على مد جسور التواصل، ونقل قيمهم وثقافتهم إلى العالم الخارجي وأسسوا لأنفسهم مكانًا حضاريًا مرموقا. فعلى المستوى الاقتصادي، قامت الموانئ العُمانية بدور ريادي في التجارة على مختلف الفترات التاريخية؛ إذ برزت في البداية موانئ، مثل: أم النار، ورأس الحد، وأوفير (ظفار)، ثم ازدهرت موانئ: سمهرم، وقلهات، ودبا، وصحار، وصور، ومسقط، وريسوت، كما برع العُمانيون في صناعة السفن التي تعد من أعقد البنى الهندسية التي أنتجتها العقلية العُمانية منذ الألف الثالث قبل الميلاد. وارتباطًا بالبحر؛ امتلكت عُمان أسطولًا بحريًا كان الأقوى زمن دولة اليعاربة والبوسعيد، كما يُعد الملاح العُماني أحمد بن ماجد أيقونة الإنجازات العُمانية في العلوم البحرية، وما إدراجه ضمن برنامج الشخصيات المؤثرة عالميًا باليونسكو؛ إلا اعترافًا بإسهاماته وإنجازاته. أما في مجال الفكر والأدب؛ فقد قدَّمت عُمان أبرز اللغويين، هم: الخليل بن أحمد الفراهيدي، محمد بن يزيد المعروف بالمبرد صاحب كتاب (الكامل)، ومحمد بن الحسن صاحب كتابي (الاشتقاق) و(الجمهرة). وفي مجال التأليف، فقد أغْنت المؤلفات العُمانية المكتبة العربية والعالمية في الفقه، والأدب واللغة، وأصول العقيدة، والتاريخ، والأنساب، إذ تميزت مؤلفاتهم بالموسوعية، فكان بيان الشرع في 72 جزءًا، والمصنف في 41 جزءًا، والضياء في 24 جزءًا، وقاموس الشريعة في 90 جزءًا، ناهيك عن كتب الجوامع والسير والجوابات.

وقد جذب الإرث الحضاري العريق لسلطنة عُمان لجنة التراث العالمي في منظمة "اليونسكو"؛ إذ أُدرجت قلعة بهلا، والأفلاج الخمسة (دارس، الخطمين، الملكي، الميسر، والجيلة)، وأرض اللبان بمواقعها الأربعة (البليد، سمهرم (خوروري)، وادي دوكة (محمية أشجار اللبان)، وبار(شصر)، إضافة إلى مواقع بات، الخطم، والعين، وقلهات إلى قائمة التراث العالمي. أما التراث غير المادي الذي أُدرج في قائمة اليونسكو؛ فيتمثل في: فن البرعة، العازي، الرزفة، العيالة، التغرود، عرضة الخيل والإبل، وسباقات الهجن، بالإضافة إلى القهوة، والفضاءات الثقافية للمجالس، والنخلة، والخط العربي. كما صنفت اليونسكو عددًا من الشخصيات العُمانية ضمن أكثر الشخصيات المؤثرة عالميًا؛ نظير دورهم الكبير في خدمة العلم والمعرفة الإنسانية، وإثرائهم المجتمعات دينيًا واجتماعيًا وسياسيًا، وهم: الخليل بن أحمد الفراهيدي، الطبيب راشد بن عميرة، أبو عبد الله محمد بن عبد الله الأزدي، نورالدين عبد الله بن حميد السالمي، أبو مسلم البهلاني، أحمد بن ماجد. إضافة إلى ذلك فقد أُدرجت مخطوطة "معدن الأسرار في علم البحار" ضمن سجل ذاكرة العالم؛ إذ تُعد هذه المخطوطة أول تراث وثائقي تسجله السلطنة ضمن هذا السجل، والذي يتبع اليونسكو للاهتمام بالتراث الوثائقي البشري.

مقالات لنفس الكاتب