; logged out
الرئيسية / تطور قطر من الإمارة إلى الدولة

العدد 173

تطور قطر من الإمارة إلى الدولة

الإثنين، 25 نيسان/أبريل 2022

كانت قطر منذ مطلع العصر الحديث جزءًا من تاريخ المنطقة الشرقية للجزيرة العربية، خضعت لكل ما خضعت له هذه المنطقة من تطورات وأحداث، فلم يكن لها تاريخ مستقل كوحدة سياسية خاصة وإنما كانت، رغم تميزها الجغرافي، داخلة ضمن إقليم الأحساء الذي كان يتبع مقر الخلافة الإسلامية، سواء في الحجاز أو في الشام أو بغداد، وقد تتابع على حكم الأحساء كل من العيونيين والجبور وآل مغامس حتى جاء الأتراك العثمانيون وسيطروا على المنطقة في أواسط القرن السادس عشر، ومنذ ذلك التاريخ ارتبطت الأحساء مع القطيف بتاريخ سياسي واحد، وبالرغم من ذلك يجمع المؤرخون على أن الخليج العربي لم يشهد سيطرة عثمانية فعَّالة حتى الثلث الأخير من القرن التاسع عشر. لأن بنو خالد استطاعوا تأسيس سلطة قوية في إقليم الأحساء، تمتد من البصرة شمالًا وتضم مناطق الكويت والأحساء وقطر والبحرين، وإن أعلنوا ولاءهم للدولة العثمانية. وقد استمر هذا الوضع إلى أن نجحت الدولة السعودية الأولى في ضم الأحساء والقضاء على سلطة بني خالد عام 1793م.

لم يمكن لبني خالد سلطة مباشرة على قبائل قطر، وإنما كانوا يعتمدون على أصهارهم من "آل مسلم" في جمع خراج سنوي من أهالي قطر بعد أن  اكتسبوا نفوذا على الأهالي. واستمر الوضع هكذا حتى اكتسحت قوة الدولة السعودية المنطقة.  وكانت قبائل العتوب والمعاضيد وغيرها قد هاجرت من أواسط شبه الجزيرة العربية منذ أواخر القرن السابع عشر إلى الساحل الغربي للخليج سعيًا وراء الرزق بسبب القحط الشديد والصراعات القبلية، فاستقر العتوب بفروعهم الثلاثة (آل خليفة وآل صباح والجلاهمة) في ساحل قطر عند "الزبارة". ومع ذلك لم يستمر مقامهم فيها وهاجروا بسفنهم إلى ساحل الكويت الذي ازدهر بفضل نشاطهم التجاري، وإن اتجه آل خليفة بسفنهم إلى الزبارة التي اتخذوها نقطة للوثوب على جزر البحرين، واستطاعوا انتزاعها من الفرس بمعاونة آل صباح والجلاهمة والقبائل القطرية عام 1783م، واتخذوها مقرًا لحكمهم.

وعندما خضعت الأحساء للسعوديين عام 1793م، اتخذوها قاعدة تنطلق منها جيوشهم إلى قطر والبحرين وبقية بلدان الخليج، فبسطوا سيطرتهم على شبه جزيرة قطر وعلى البحرين، حتى أنهى محمد علي الدولة السعودية عام 1818م، وعادت البحرين تحت سيطرة آل خليفة. وبالرغم من زيارة المقيم السياسي البريطاني لساحل قطر عام 1823م، فإن بريطانيا لم تبد اهتمامًا كبيرا بها، إلى أن حدثت صراعات بين القبائل القطرية، وآل خليفة، ثم بين آل خليفة وبعضهم البعض، تلك الصراعات التي أبرزت شبه جزيرة قطر كوحدة سياسية، خاصة وقد ظهرت أسرة آل ثاني التي لعبت دورًا مهما في شبه جزيرة قطر؛ برز حين عاونت محمد بن خليفة في الاستيلاء على  البحرين عام 1843م. وتطورت الأحداث التاريخية التي أدت إلى استعادة الدولة السعودية (الثانية) وجودها، واستطاع الأمير فيصل بن تركي استرداد عرش آبائه عام 1843م، واستعادة الممتلكات التي فقدها السعوديون، ومنها الأحساء بطبيعة الحال.

وعندما تقدم الأمير فيصل بقواته نحو قطر عام 1850م، وجد ترحيبًا من الأهالي، واستطاع محمد بن ثاني أن يجري تفاهمًا وصلحًا لحقن دماء قبائله مبتعدًا بذلك عن آل خليفة الذين كانوا على عدم وفاق مع آل سعود آنذاك، وبعد عدة مناوشات بين قوات آل خليفة مدعومة من حاكم أبو ظبي من جانب، وبين قوات الأمير فيصل والقوات القطرية من جانب آخر، انتهت الأزمة بصلح قبل فيه السعوديون خراجًا سنويًا من حاكم البحرين مقابل بسط نفوذه على قطر. ومع ذلك استمرت حالة العداء بين القبائل القطرية وآل خليفة. وقد انتهت الأمور بأن سجن آل خليفة الشيخ جاسم بن محمد بن ثاني عندما أحسوا بوقوفه مؤيدًا من قبائله ضد أية ممارسات من جانب آل خليفة للسيطرة على بلادهم عقب وفاة الأمير فيصل. وجاءت هذه الواقعة بداية لسلسلة من المعارك البرية والبحرية دارت بين شيوخ البحرين مدعومين من أبو ظبي، و بين القبائل القطرية، بدأت في يونيو 1868م، استطاع خلالها القطريون إطلاق سراح زعيمهم بعد أن أسروا بعض شيوخ آل خليفة. واعتبرت السلطات البريطانية أن آل خليفة خرقوا معاهدة السلم العام التي وقعوها معها، فتقدم المقيم السياسي البريطاني "لويس بيللى" بسفن بريطانية إلى سواحل قطر في سبتمبر 1868م، ووقع مع محمد بن ثاني معاهدة تنص على أن يقيم في الدوحة بسلام وألا يقوم بأعمال عدائية وأن يحتكم إلى المقيم إذا ما اختلف مع شيوخ البحرين.

وهكذا أدخلت هذه المعاهدة قطر ضمن معاهدات السلم العام التي وقعتها إمارات الخليج العربي مع الحكومة البريطانية. وهذا يعني اعتبار قطر إمارة مستقلة غير خاضعة لأي سلطة من جانب جيرانها، كما وقعها الشيخ محمد بن ثاني باعتباره "شيخًا لقطر" مما يسجل تاريخيا بداية حكم أسرة آل ثاني لقطر، وبداية مرحلة جديدة من تاريخها. وكان أول حاكم هو الشيخ محمد بن ثاني الذي بدأ يمارس سلطته منذ عام 1868م. ولم يلبث أن شاركه في هذه السلطة إبنه جاسم بن محمد الذي كان شخصية فتية قوية أرست أسس استقلال الإمارة، وحكم وحده منفردا خلال الفترة (1878-1913م) ولذلك أصبح يلقب "بالمؤسس" لأنه نجا بالإمارة الوليدة مما تعرضت له من أزمات وضغوط من جانب السلطات البريطانية في الخليج، ومن جانب الدولة العثمانية التي تعتبر أن الخليج العربي يرحب بسيادتها من منطلق ديني باعتبارها دولة الخلافة الإسلامية.

وتشهد السنوات من عام 1871 حتى 1913م، تنافسًا شديدًا بين بريطانيا والدولة العثمانية للسيطرة على قطر. والعام الأول من هذه الفترة شهد إرسال الدولة العثمانية حملة إلى الأحساء سيطرت عليها وعينت حكامًا لها من قبلها، ثم توجهت حملة عثمانية من الأحساء إلى قطر، وأقامت حامية عسكرية فيها، مما أثار الانجليز، وقد رحب جاسم بذلك لتأييد حكمه في مواجهة الضغوط البريطانية التي شكلت قيدًا على والده منذ عام 1868م، ولذلك أعلن قائد الحامية العثمانية أن قطر صارت "قائمقامية" عثمانية، وأن جاسم بن محمد صار "قائمقام" عليها. ومع ذلك ظل جاسم سيد البلاد بلا منازع. غير أن الوجود العسكري العثماني في الدوحة لم يلبث أن تحول إلى قيد على شيخها، الذي بدأ يفكر في الاعتماد على بريطانيا للتخلص من نفوذ العثمانيين المتزايد على بلاده. وتدريجيا ساءت العلاقات بين جاسم وممثلي الدولة العثمانية خاصة عندما أرادت الدولة تعيين وكيل عثماني للشيخ ودعم وجودها العسكري وإقامة مبانٍ إدارية في قطر تابعة لها وتحصيل عوائد عن السفن القطرية، الأمر الذي رفضه جاسم عام 1892م، فأرسلت الدولة العثمانية حملة عسكرية عام 1893م، استطاع جاسم بن محمد بدهاء أن يُنزل بها هزيمة عسكرية فادحة في معركة شهيرة هي معركة "الوجبة" التي حاربت فيها قوات جاسم ببسالة مكبدة القوات العثمانية خسائر كبيرة اضطرت معها الدولة العثمانية إلى تسوية المسألة، وتنازل جاسم عن منصبه كقائمقام وأعاد الأسلحة والمدافع التي استولى عليها إلى الجيش العثماني وأصدرت الدولة عفوًا شاملًا عنه، الأمر الذي دعا الشيخ إلى التقرب من الانجليز وطلب حمايتهم وأن ترتبط بلاده ببريطانيا باتفاقية على غرار اتفاقياتها مع شيوخ الساحل العماني، لكنها لم تستجب حتى لا تحتج الحكومة العثمانية عليها. المهم أن ازدياد التنافس العثماني الانجليزي على قطر، مع ضعف الدولة العثمانية واضطراب أوضاعها الداخلية قبيل الحرب العالمية الأولى، أدى إلى دخولها في مفاوضات مع الحكومة البريطانية لإنهاء وجودها العسكري في الخليج، انتهت بتوقيع الاتفاق الأنجلو عثماني عام 1913م الذي تنازلت فيه الدولة العثمانية عن حقوقها في السيادة على قطر على أن يحكمها شيوخ آل ثاني.

ونتيجة لهذا الاتفاق تقرر سحب فلول القوات العسكرية العثمانية من الدوحة على سفن بريطانية إثر اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914م، ووقع الانجليز مع الملك عبد العزيز آل سعود، بوصفه وريثًا لأشلاء الدولة العثمانية في الخليج، معاهدة "دارين" عام 1915م، التي ضمنت عدم تدخله في شئون أراض شيوخ الكويت والبحرين وقطر وعمان. وكانت بريطانيا تنظر إلى قطر على أنها تحت حمايتها من الناحية الفعلية قبل أن ترتبط معها من الناحية الرسمية بمعاهدة، وهو ما حدث في عام 1916م، في عهد الشيخ عبد الله بن جاسم الذي خلف أباه في حكم قطر منذ عام 1913م.

لقد أوجبت ظروف الحرب العالمية الأولى على بريطانيا أن تربط إمارات الخليج العربي بعجلة السياسة البريطانية تمامًا، فضربت حول إماراته نطاقًا من المعاهدات التي أملتها القوة وإن بدت نظريًا تحمل طابعًا وديًا، وما إن نجحت في عقد معاهدتها مع قطر عام 1916م، حتى أصبح الخليج "بحيرة بريطانية". وقد عللت بريطانيا توقيع المعاهدة بأنها تتيح لها محاربة تجارة السلاح التي اعتبرت أنها مزدهرة في قطر، وانتشار "القرصنة" في مياهها، ومحاربة تجارة الرقيق، ودخول الدولة العثمانية الحرب إلى جانب أعدائها. وعندما قدم المقيم السياسي البريطاني نص مشروع المعاهدة للشيخ عبد الله بن جاسم لتوقيعها اعترض على قبول معتمد بريطاني في قطر، وعلى فتح بلاده للتجار البريطانيين، كما اعترض على إقامة مكتب للبريد والبرق في الدوحة، فقبلت بريطانيا اعتراضات الشيخ وقدمت وثيقة مرفقة بالمعاهدة توافق فيها على تعطيل البنود المتعلقة باعتراضات الشيخ. وكانت المعاهدة تنص على معاونة الشيخ لبريطانيا في القضاء على تجارة الرقيق والقرصنة وتجارة السلاح، والمحافظة على السلم البحري. وألا يقيم الشيخ علاقات مع أي دولة أو يتنازل عن جزء من أراضي قطر أو يقدم امتيازات لأي دولة دون موافقة بريطانيا. وفي المقابل تعهدت بريطانيا بحماية الشيخ ورعاياه وأراضيه ضد أي اعتداء من ناحية البحر، مع بذل مساعيها الحميدة إذا جاء الاعتداء من ناحية البر. باختصار جعلت المعاهدة من بريطانيا قيما على شئون الدفاع عن قطر، وكذلك على شئونها الخارجية، بينما تركت الشئون المتعلقة بالحكم والإدارة والقضاء للشيخ، مع ضمان استقلال البلاد استقلالًا مكفولًا بالحماية البريطانية.

ونتيجة لرغبة بريطانيا في الحصول على موافقة الشيخ منح امتياز التنقيب عن النفط للشركة الأنجلو فارسية عام 1935م، وافقت بريطانيا على تجديد المعاهدة والنص فيها على الدفاع عن الأراضي القطرية من ناحية البر، وكذلك اعتراف بريطانيا بولاية العهد لابن الحاكم (الشيخ حمد)، كما نصت المعاهدة المجددة على إلغاء النصوص المجمدة في معاهدة عام 1916م، وبات من حق بريطانيا أن يكون لها ممثلًا سياسيا في قطر، وأن يسمح للرعايا البريطانيين بالإقامة فيها، وإنشاء مكاتب للبرق والبريد ومطارا.

وفيما يتعلق بالنفط، فعلى الرغم من أن عمليات الكشف عنه بدأت عام 1935م، إلا أن عمليات البحث قد توقفت لأربع سنوات (1942-1946م) بسبب ظروف الحرب العالمية الثانية، وعندما استؤنفت تدفق النفط بكميات تجارية، لتبحر أول سفينة بنفط قطر إلى العالم عام 1949م، وليصبح هذا العام عام تحول مهم وخطير في حياة قطر والقطرين.

وقد شهد العام السابق (1948م) وفاة الشيخ حمد بن عبد الله ولي العهد ،الأمر الذي اضطر والده المسن أن يباشر شئون الحكم بنفسه، حتى عين ابنه الشيخ علي  وليا للعهد وطلب إلى السلطات البريطانية أن تعترف بذلك، وقد استجابت بريطانيا بعد أن تنازل الشيخ عن الحكم لولي عهده في أغسطس 1949م، خاصة وأن بريطانيا عينت "جون ويلتون" معتمدًا سياسيًا لها في قطر كما عينت مستشارًا بريطانيًا للحاكم الجديد، فأتى ومعه جهاز من المعاونين الانجليز ليتولوا إدارة المصالح والإدارات الحكومية، كالبوليس والجمارك والبريد والبرق والمياه والكهرباء، وذلك بهدف توسيع نطاق سيطرتها على البلاد التي بدت مقدمة على مرحلة جديدة بسبب النفط.

وشهدت قطر خلال عقدي الخمسينيات والستينيات تحولات عميقة في حياتها السياسية والاقتصادية، فلم يعد المجتمع القطري مجتمع البداوة والغوص وإنما أضحى مجتمعًا مختلفًا، ينفتح على معطيات الحضارة الحديثة في شتى نواحيها السياسية والإدارية والاقتصادية مع ما يصاحبها من تطورات اجتماعية في شتى المجالات. وتوافد التجار الإنجليز إلى الدوحة. وإن لم تعرف قطر وجود حامية عسكرية بريطانية بها. وتدفق الأجانب على البلاد للعمل في شركات النفط والمشروعات العمرانية الجديدة.

وعندما توفي الشيخ حمد ولي عهد الشيخ عبد الله، وعين هذا ابنه الشيخ علي وليًا للعهد، قرر في نفس الوقت بأن يخلف عليًا في الحكم نجل الشيخ حمد وهو الشيخ خليفة بن حمد، الذي كان لا يزال صغيرًا. والمعروف أن خليفة بدأ يظهر على مسرح الحياة العامة في قطر منذ أواسط الخمسينيات، وبرز كشخصية عامة عندما شغل عدة مناصب مهمة أبرزها وزارة المالية عام 1960م. غير أن عمه الشيخ علي تجاوزه في ولاية الحكم وتنازل عنه لإبنه الشيخ أحمد بن علي ليصبح حاكمًا، وإن جدد البيعة في نفس الوقت للشيخ خليفة ليكون وليا لعهد الشيخ أحمد ونائبًا له. ويلاحظ أن قطر خلال الخمسينيات لم تعرف تنظيمًا وزاريًا يقوم بمهام الحكومة، غير أن الجهاز الإداري الذي كان يقوم بمهامها شهد استحداث منصبين وزاريين أحدهما للمعارف عام 1957م، والآخر للمالية عام 1960م، وعندما أُلغي منصب المستشار الحكومي البريطاني للشيخ، تولاه الشيخ خليفة الذي أصبح بمثابة رئيس للحكومة، واستطاع القيام بسلسلة من الإجراءات المهمة لتطوير البلاد، أهمها إصدار القانون المتعلق بتنظيم الإدارة العليا للحكومة عام 1962م، والذي نص على إنشاء إدارة علي للحكومة، تتألف من ثلاث إدارات رئيسية (للشئون المالية، والشئون الإدارية، وإدارة شئون البترول) ثم أضيفت إدارة للشئون القانونية، ودائرة للعمل والشئون الاجتماعية. 

وفيما يتعلق بالشئون الخارجية التي كان يتولاها المعتمد البريطاني، فقد شهدت تطورًا مهمًا بعد قرار بريطانيا الانسحاب من منطقة الخليج بأسرها عام 1968م، فصدر قانون بإنشاء إدارة للشئون الخارجية في قطر، أصبحت نواة لوزارة الخارجية. وعندما صدر أول دستور في قطر حمل اسم "النظام الأساسي المؤقت للحكم" في ابريل 1970م، تضمن تأليف أول مجلس للوزراء في تاريخ البلاد يتولى رئاسته نائب الحاكم وولى عهده الشيخ خليفة بن حمد. وقد تضمن عشرة مناصب وزارية في يونيو 1970م، وكانت الخطوات السابقة تطورًا إيجابيًا يدفع بقطر نحو تأسيس دولة عصرية، صاحب ذلك خطوات لتعريب الإدارة وتقطيرها، بما يتفق مع تضاؤل النفوذ البريطاني والذي انتهى بشكل رسمي مع إعلان استقلال قطر في سبتمبر 1971م. وعندما تولى الشيخ خليفة بن حمد، نائب الحاكم وولى عهده، السلطة في فبراير عام 1972م، رأى ضرورة تعديل هذا النظام، فصدر "النظام الأساسي المؤقت المعدل للحكم" في إبريل 1972م، وقد صدر قرار بتغيير لقب رئيس الدولة من "حاكم" إلى "أمير"، وكانت الدولة المستقلة حديثًا قد انضمت في سبتمبر 1971م،  إلى عضوية جامعة الدول العربية وهيئة الأمم المتحدة لتمارس دورها كاملًا كدولة مستقلة ذات سيادة، تنفتح على معطيات الحضارة الحديثة، بعد أن امتلكت زمام شئونها وإداراتها الداخلية والخارجية. وحصلت بعائدات النفط على الأساس المادي لبناء اقتصاد قوي وتطور اجتماعي كبير.

وفيما يتعلق بتطور أوضاع قطر في المجال الاقتصادي والاجتماعي أيضًا نلاحظ أنها مرت بمرحلتين متميزتين: أولهما مرحلة المجتمع التقليدي، مرحلة البداوة والغوص على اللؤلؤ، التي اسثمرت من نشأة الإمارة حتى نهاية النصف الأول من القرن العشرين. وثانيهما مرحلة المجتمع الحديث، مجتمع عصر النفط، تلك المرحلة التي شكلت تحولًا مهمًا في حياة قطر والقطرين، والتي بدأت مع بداية النصف الثاني من القرن العشرين، وفيها نمت الصناعات الوليدة المرتبطة بالنفط والغاز، وتأسست البنوك والشركات، وشهدت قطر ارتفاعًا كبيرًا في معدل النمو الاقتصادي مع بداية السبعينيات من القرن الماضي.

وقد انعكست الأوضاع الاقتصادية على البنية الاجتماعية ونمو السكان وتطور التعليم ومؤسساته، بالإضافة إلى التطور الثقافي، فاندمج المجتمع القطري في الحياة الحضرية، ودخلت المرأة القطرية مجال التعليم بكل مستوياته وخرجت إلى ميدان العمل في مختلف المجالات، خاصة بعد التوسع في التعليم العالي منذ إنشاء جامعة قطر في السبعينيات من القرن العشرين، وشغلت المرأة القطرية وظائف مهمة على رأسها رئاسة الجامعة والمناصب الوزارية. وفي المجال الصحي وخدماته فقد ألزمت الدولة نفسها بتقديم الخدمات الصحية للمواطنين والمقيمين مجانًا. وأنشئت العديد من المستشفيات، كما تأسست وزارة للصحة عام 1970م. وفيما يتعلق بالثقافة فقد أنشئت دارًا للكتب وتألفت مؤسسات صحفية تصدر صحفًا ومجلات دورية، وتشكلت فرق مسرحية، كما أنشئت إذاعة قطر عام 1968م، وبدأ البث التلفزيوني عام 1971م، وبدأت البلاد تعرف دور السينما منذ عام 1970م، بعد تأسيس شركة قطر الوطنية للسينما. كذلك بدأت الصحافة الرسمية بصدور "الجريدة الرسمية" عام 1961م. كما أصدرت وزارة الإعلام مجلة "الدوحة" الشهيرة، والتي صدرت إلى جانبها الصحف والمجلات الأهلية منذ أواخر الستينيات. وهكذا عرفت قطر تطورات كبيرة في المجال الاجتماعي بعد الانفتاح على منجزات العصر الحديث وتوفر الأساس المادي لهذه التطورات، فنهضت البلاد نهضة شاملة في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية.

وهكذا شهدت قطر في عهد الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني (1972-1995م) تطورات سياسية وإدارة كبيرة، أرست بنية التحديث الأساسية، سواء فيما يتعلق ببناء الدولة المستقلة سياسيًّا وإداريًّا أو في وضع أسس بنائها الاقتصادي والاجتماعي.

كما شهد عصره إدخال تعديلات على النظام الأساسي المؤقت للحكم، فتألف " مجلس الشورى" من أعيان البلاد، وبالرغم من أنه لم يكن مجلسًا تشريعيًّا، إلا أنه كان يناقش مشروعات القوانين والميزانية والأمور التي كانت تعرض عليه لاستشارته فيما قبل إصدارها، وكان المجلس متفقًا مع ما بلغته البلاد من تطور آنذاك.

وفي عام 1976م، قرر الشيخ خليفة تعيين إبنه الشيخ حمد وليا للعهد، وكان يتولى منصب قائد قوات الدفاع القطرية، الأمر الذي مهد السبيل للشيخ حمد لتقلد زمام الحكم خلفًا لوالده بعد مبايعة أفراد الأسرة الحاكمة في 25 يونيو 1995م، في انتقال هادئ للسلطة، لتشهد قطر تحت قيادة الأمير الشاب نهضة شاملة، كانت بمثابة طفرة في شتى المجالات في عهدها الجديد (1995-2013م).

وفي البداية سعت قطر إلى تصفية مشكلاتها الحدودية مع المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات، كما انتهى نزاعها مع البحرين بقبول حكم محكمة العدل الدولية عام 2001م، كذلك أجريت أول انتخابات بلدية في تاريخ البلاد عام 1999م، وشكلت لجنة لوضع دستور دائم لقطر استجابة لما طرأ على البيئة الإقليمية من تطورات أدت إلى تنامي المطالب الشعبية بالتغيير والإصلاح السياسي. فشكلت لجنة لإعداد الدستور الجديد، طرح للاستفتاء العام على الشعب في أبريل 2003م، وحظي بموافقة الأغلبية، وبدأ العمل به في يونيو 2005م، فكان بداية لمرحلة جديدة في تاريخ قطر المعاصر. واستكمالًا للإصلاحات التشريعية صدر قانون إنشاء "المحكمة الدستورية العليا" كهيئة قضائية مستقلة عام 2008م. وقد شهد هذا العهد أيضًا تولى قطر رئاسة منظمة المؤتمر الإسلامي (2000-2003م). كما اتخذت قطر خطوات رشيدة لتثبيت مكانتها الدولية مما أهلها لأن تلعب دورًا فعالًا ومؤثرًا وفق سياسة واقعية متوازنة. كما حرصت الدولة على دعم مسيرة مجلس التعاون الخليجي لتحقيق التكامل بين دولة من خلال حضورها الدائم ومشاركتها الفعالة في المؤتمرات الخليجية ومواجهة التحديات التي تواجه المنطقة.

وفيما يتعلق بأهم التصورات الاقتصادية، فالمعروف أن قطر تمتلك ثاني أكبر احتياطي للغاز الطبيعي في العالم. لذلك أنشأت "مدينة راس لفان الصناعية"، وطورت "شركة قطر للغاز المسال" و"شركة راس غاز" لتصدير الغاز الطبيعي المسال من خلال شركة عملاقة. كما أنشأت الدولة أكبر مصنع للألمونيوم في العالم. وقد نتج عن هذه التطورات أن أصبح الاقتصاد القطري من أسرع الاقتصادات نموًا في العالم لحسن توظيف العائدات في مشروعات عملاقة ذات مردود اقتصادي كبير. وفي مجال التطور الاجتماعي أنشئت عام 1995م، "مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع" لدعم مسيرة الدولة نحو اقتصاد المعرفة، وقد أنشأت المؤسسة مدينة تعليمية لتقديم التعليم المتميز للقطرين وغيرهم، كما استقطبت فروعًا من الجامعات العالمية إلى قطر، كما أنشأت الدولة "المجلس الوطني للثقافة والتراث" لدعم التطور الثقافي والإبداعي، وأنشأت "متحف الفن الإسلامي" الذي وضع قطر على الخريطة العالمية للمتاحف.

وفي تقليد غير مسبوق في دول الخليج العربية أعلن الشيخ حمد بن خليفة في يونيو 2013م، تسليم مقاليد الحكم لولي عهده وابنه الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، ليفتح بذلك صفحة جديدة في مسيرة قطر يتولى فيها المسؤولية جيل جديد بطاقة أقوى وأفكار جديدة، ولتبدأ قطر عهدها الجديد منذ ذلك التاريخ.

مقالات لنفس الكاتب