; logged out
الرئيسية / انتقلت القنصليات لوظيفتها الدبلوماسية بعد قيام الدولة السعودية

العدد 173

انتقلت القنصليات لوظيفتها الدبلوماسية بعد قيام الدولة السعودية

الإثنين، 25 نيسان/أبريل 2022

بدايةً يعود ظهور وظيفة القنصل إلى الأزمنة الغابرة حين انتقلت المجتمعات من الحياة الزراعية إلى مرحلة التصنيع والتسويق، حين اندفع التجار إلى البحث عن أسواق لمنتجاتهم خارج نطاق مجتمعاتهم، واصطدموا باختلاف المفاهيم الأخلاقية والاجتماعية والسياسية. إضافة إلى نظرة العداء إلى كل ما هو أجنبي، لدرجة وصلت إلى إباحة أملاكهم ومصادرتها، بل واسترقاقهم. هنا برزت حاجة هؤلاء التجّار إلى تعيين شخص من مواطني المدينة التي يتاجرون في أسواقها ويقيمون مؤقتاً على أراضيها، لتولي حمايتهم وحماية مصالحهم، كذلك يقوم بدور الوسيط في حلّ الإشكالات التي قد تنشأ بينهم وبين السلطات العامة في تلك المدينة.   

وعن أصل لفظ (القنصل) فيعتبر الرومان أول من استخدمها، وذلك حين انهار النظام الملكي عام 509ق.م ونشأ نظام الحكم الجمهوري وعلى رأسه حاكمان يتوليان جميع السلطات. حملا لقب قنصل ومعناه الشركاء باعتبار أنهما كانا يحكمان سويًا، وقيل تعني الحاكم أو المستشار. جدير بالذكر فقد عرف المصريون القدماء النظام القنصلي، وطوره اليونانيون من بعدهم.

الوجود القنصلي في جدة:

ارتبط الوجود القنصلي بجدة بدخول محمد علي باشا بقواته إليها في 3 شعبان 1228هـ/28 أغسطس 1813م. ومن ثم تعيين إبراهيم باشا والياً على جدة. حيث كان للحكم المصري تأثيراته المباشرة وغير المباشرة على شبه الجزيرة العربية، وعلى الحجاز بالذات. فقد أسهم الحكم المصري في تقريبها ليس فقط إلى المعرفة الأوروبية، بل في إدخالها في إطار السياسات الأوروبية. فمحمد علي هو الذي سمح للرحالة السويسري بوركهارت بزيارة مكة والمدينة والإقامة بهما بعض الوقت، ولغيره من الأوروبيين على زيارة أجزاء أخرى من الحجاز.

ثم جاءت الحملة الفرنسية على مصر، والتي برهنت للغرب عن الأهمية السياسية التي يمكن أن تكون لشبه الجزيرة العربية، وقام الفرنسيون خلال فترة احتلالهم لمصر، بتنظيم ميناء السويس فدخل البحر الأحمر والموانئ المطلة عليه مرحلة تاريخية جديدة. وأصبح هذا البحر في مستهل القرن الـ13هـ/19م، من أهم شرايين المواصلات في العالم بين الشرق والغرب، خاصة بعد استخدام البخار في السفن، وبالطبع تضاعفت هذه الأهمية بعد افتتاح قناة السويس للملاحــة في عام 1286هـ/ /1869م. 

أوائل القنصليات ظهرت في جدة 

بسبب العامل الاقتصادي فهو الذي حدا ببريطانيا في أن تهتم بالجزيرة العربية، فمثلاً قدرت قيمة الواردات إلى جدة وحدها في سنة 1324هـ/1907م، بمليوني جنيه إسترليني، كان نصفها من الهند كما قُدّر أن ربع هذه التجارة كانت بيد رعايا بريطانيين. وأما العامل الآخر والأهم فهو أن بريطانيا كان لها اهتمام خاص بما يجري في الأراضي المقدسة، ففي كل سنة يأتي من مناطق تحت نفوذها الآلاف من المسلمين لتأدية فريضة الحج، إضافة على وجود جالية إسلامية كبيرة من رعاياها تقيم في هذه البلاد بصفة دائمة؛ لذا كان لابد من ممثل لهذه الجالية لكي يرعى شؤونهم.     

وقد كان حق تعيين من سيقوم برعاية المصالح البريطانية في جدة محصوراً بيد شركة ليفانت؛ ولذلك فإنه مسؤول أمامها وليس أمام وزارة الخارجية. هذا الوضع تغير بعد تفكك الشركة سنة 1236هـ /1821م، فأصبح القنصل يعين من قبل شركة الهند الشرقية، ولكنه مسؤول أمام وزارة الخارجية ومرتبط بها لا بالمصدر الذي عينه. على أن ذلك لم يستمر طويلاً فبعد مدة وجيزة من مقتل المستر بيج، ممثل الشركة ونائب القنصل في أحداث 1274هـ/ 1858م، صار تعيين القناصل وعزلهم ومسؤوليتهم تنحصر فقط في يد وزارة الخارجية.    

ورغم شح الأدلة، يبدو أنه في سنة 1248هـ/1832م، تم تعيين شخص أمريكي من أصل بَغدادي يدُعى المعلم يوسف وكيلاً لشركة الهند من جانب الحكومة، وعُقب ذلك بوقت قصير طالب بمرتب، وتم منحه مرتباً بشكل منتظم. وفي مرحلة ما في تلك الفترة، حصل يوسف على شارة (نائب) قنصل وبهذا بدأ العرف البريطاني في إرسال القناصل إلى جدة.

أمّا في مصادر الحجاز، فيذكر الحضراوي (ت 1327هـ/1909م): "أنه في سنة 1252هـ (1836م) كان أول وصول لقنصل انجليزي بجدة وتوطنه بها، ونصب له بها (بنديرة)" أي علم.   

بالنسبة لظهور القنصلية الفرنسية، فقد جادل الفرنسيون السلطات العثمانية إلى أن تم السماح لـ: دي فرسنل بالقدوم إلى جدة في بداية 1258هـ/1843م. وقد حاول العثمانيون المماطلة في قدومه؛ لأن التجارة الفرنسية-وهي سبب طلب التمثيل-كانت متواضعة في جدة.  

جدير بالذكر أيضاً أن إنجلترا وفرنسا لم تفتح في جدة قنصليات عامة، بل مكاتب يرأسها قنصل ثانِ أو نائب قنصل. بعد ذلك، سارعت الدول الأوروبية إلى فتح قنصليات لها، فأرسلت السفارة الهولندية تطلب الموافقة على تعيين قنصلاً لها في جدة، وصدرت الموافقة السلطانية على إعطائه براءة التعيين في 1289هـ/ 1872م.  

كان السبب الرسمي لإنشائها هو تسهيل تدفق الحجاج من الجزر الشرقية الهولندية. وحمايتهم من الأمراض المعدية التي يلتقطونها خلال رحلاتهم واعتداءات الأعراب، والمساعدة في إرشادهم إلى العودة إلى أوطانهم سالمين. أما غرض القنصلية الغير رسمي، فهو مراقبة وتوثيق المناخ الاجتماعي والسياسي في الحجاز بعد أن ازدادت الشكوك بأنه يتم في مكة أثناء فترة الحج التخطيط لسلسلة الثورات التي واجهت الهولنديين في بعض جزر إندونيسيا. وظهر للمستشرق كريستيان سنوك دور مهم في تربية الموظفين المدنيين الذين توجهوا للعمل في جزر الهند الشرقية. كما عين العديد منهم قناصل في جدة.  

 وفي 1293هـ/1876م، تم تعيين قنصل للسويد والنرويج وأوكل الملك السويدي له مهمة جمع ضرائب معينة من التجار السويديين أثناء مرورهم بالبحر الأحمر وتوقفهم في جدة. أيضاً طلبت كل من سفارتي النمسا واليونان الموافقة على تعيين مسيو انغراف قنصلاً للنمسا ومسيو أوانكليد اليوناني نائباً للقنصل. وتم تعيين المذكورين في 1293هـ/1876م. وسارت على النهج نفسه أسبانيا بطلب منح براءة تعيين دون خوان نائباً للقنصل والذي صدرت له براءة تعيين في 1301هـ/1883م. كما تقدمت إيطاليا في 1308هـ/ 1891م بتعيين مسيو كارلو قنصلاً لها لمتابعة شؤون رعاياها وتجارها الذين يأتون إلى جدة. وفي ذات العام تقدم الروس بطلب لفتح قنصلية لهم للنظر في شؤون مواطنيهم المسلمين الذين يؤدون فريضة الحج سنوياً، ويمرون بجدة. فجاء القرار بالموافقة، طالما أنه سيتم تعيين قنصل مسلم، وأسوة بالدول الأخرى.

غني عن الذكر فإن مساكن قناصل هذه الدول كانت هي أجمل مباني المدينة، لفتت هذه الدور إبراهيم رفعت باشا في رحلته الأولى عام 1318هـ/1901م، لأنها جمعت بين الموقع الجميل والمنظر البهيج، ووافقه البتنوني سنة 1329هـ/1910م، على رأيه، وامتدح بشكل خاص منزل الوكالة الروسية والذي شبهه بقصر الرصافة في بغداد.  

تعيين القناصل بعد الثورة العربية

اندلعت الثورة العربية في 9 شعبان 1334هـ/11يونيو 1916م، واستسلمت لها جدة سريعاً. وفي رمضان من نفس العام اقترح الانجليز إرسال مندوب يعرف شيئاً من اللغة العربية، ليكون ممثلاً للحكومة البريطانية لدى الشريف، برفقته: عضو من السلك القنصلي لشغل منصب قنصل بريطاني؛ لأن جدة ستكون بعد الحرب، ميناء ذا أهمية كبيرة. وضابط أو موظف بريطاني يعرف العربية وله خبرة سابقة مع العرب. طبيبان أحدهما بريطاني والآخر مسلم لتنظيم الخدمات الصحية. موظفان كتابيان ووكيلا استخبارات قديران.

وأنه من الواجب على الشريف أن يخبر وكلاءه في جدة بتداول وقبول مشورة الوكيل البريطاني مع اتخاذ حيطة شديدة في التعبير عن هذا الطلب للشريف للتخفيف من إثارة أية مخاوف من أن الحكومة البريطانية تعتزم السيطرة على جدة والتدخل بصورة فعالة في إدارة الحجاز. والتي اعتبرها الكابتن جورج لويد منطقة تحت النفوذ الوحيد لبريطانيا العظمى. كما أقرّ بأن لهم كل الحق في مقاومة أي محاولات لتدخل الدول الأخرى اقتصادياً أو سياسياً في الحجاز.

 ورغم كل هذا الحرص من بريطانيا كان هناك بعثة فرنسية وإيطالية وهولندية في جدة. وكان رئيس البعثة الهولندية د. رينكار طالب بتنظيم قنصليته لتقوم بدور أكبر بعد الحرب، حيث صرح بأنه "يمكن القيام بأكثر من مجرد ختم الوثائق والمسائل الإدارية البسيطة الأخرى مع وجود مكتب مخابرات لائق، شيء لا يقدر بثمن للحكومة الهولندية"، وأضاف: "من المهم تشكيل لجنة أوروبية للسيطرة على الحكومة المحلية، حتى يكون لها صوت يمثلها في جميع المصالح".

ولاحقاً عينت بلجيكا قنصلًا لها ووصل إلى جدة في شوال 1340هـ/1922م. أما الروس فنجحوا في إرسال أول بعثة دبلوماسية سوفيتية رسمية برئاسة كريم حكيموف في محرم 1343هـ/ أغسطس 1924م. عندما توترت العلاقات بين البريطانيين والملك حسين، حين أقدم الأخير على إعلان نفسه خليفة للمسلمين. وكان لوصول القنصل الروسي وقعه الشديد بين باقي الممثلين الأوروبيين خوفاً من نشر الفكر الشيوعي بين رعاياهم.

بالإجمال فإن الناظر إلى حال التمثيل القنصلي بجدة في العهد العثماني، ثم يقارنه بالعهد الهاشمي فإن أول ما يظهر له هو الفرق في عدد الممثليات الأوروبية في العهدين، ففي الأولى وصل عددها إلى عشرة بينما في الثانية كانت ستة فقط.

مهام القناصل الحقيقية

رغم ما ورد في براءة تعيينهم -كما سبق ومر -بأنه لمتابعة شؤون رعاياهم في الحجاز، إلا أن الوثائق تكشف لنا عن مهام أخرى لهؤلاء الموظفين أبرزها:

  • الدور الاستخباراتي الذي كلف به موظفو القنصلية الروسية من مراقبة الحج بغية جمع المعلومات وتحليلها، كذلك أنيطت بالقنصل مهمة مراقبة الحجاج، ومراقبة أولئك المنحدرين من مناطق خارج حدود روسيا، ومن خانات آسيا الوسطى، ونوعية تفكيرهم، لأنهم قدموا إلى الحجاز لأغراض سياسية، وتضمنت التزامات القنصلية التعرف على دروب انتقال الحجاج، وجمع المعطيات الإحصائية عن تعدادهم وموطن أصولهم. أيضاً أرادت السفارة الروسية معرفة التأثير الذي تخلفه الرحلة إلى مكة والمدينة في الشعوب الإسلامية بوجه عام، وإلى أي حد يحظى لقب الخليفة الذي يحمله السلطان العثماني بالتبجيل في الأوساط المسلمة. هذا العمل التجسسي اشتركت فيه ممثليات أخرى.
  • كما حوت قائمة المهام الخفية للقناصل الأجانب: التدخل في سياسة الحجاز، بل وتغيير الحاكم فيها، وهو الأمر الذي قام به القنصل أوجلفي الذي وجد أن الشريف محمد بن عون لا يساعد على تمكين النفوذ البريطاني في الحجاز، فبعث التقارير عنه إلى حكومته متهماً إياه بالوقوف أمام المصالح البريطانية، بادر وزير الخارجية البريطانية بالمرستون إلى إصدار تعليماته إلى سفيره في الآستانة ستراتفورد كاننج لكي يخبر الباب العالي بأنه إذا لم يكن باستطاعته إحقاق الحق للرعايا البريطانيين وحفظ ممتلكاتهم في جدة، فإن بريطانيا تعرف كيف تفعل ذلك. وأمام هذا التهديد أصدر السلطان العثماني محمود الثاني أمرًا بنقل الشريف محمد بن عون وولديه عبد الله وعلي من مكة إلى الآستانة سنة 1267هـ/1851م، وعين مكانه الشريف عبدالمطلب. كان عزل الشريف محمد بن عون لطمة قوية للسياسة الفرنسية في الحجاز، لذا بعث القنصل الفرنسي إلى حكومته مذكراً إياها بمواقف هذا الشريف الطيبة تجاه فرنسا، فمن الوفاء أن تعمل فرنسا على تقديم المساعدة له. وبالفعل بذلت فرنسا جهدها لدى الباب العالي حتى نجحت في إعادة الشريف محمد بن عون ثانية إلى شرافة مكة. كذلك طالت يد القناصل تغيير الباشوات الأتراك أيضاً.
  • ومن المهام التي قام بها القناصل أيضاً، تسهيل عمل الرّحالة الأوربيين وتوفير كل ما يحتاجون إليه، مثال ذلك: وصول سنوك إلى جدة في 1301هـ/1884م، مع القنصل الذي كان عائداً إلى عمله بعد الإجازة. أقام سنوك في القنصلية مدة أربعة أشهر، حتى حصل على شقته الخاصة بداية 1302هـ/1885م، وفيها قام بالتقاط العديد من الصور للحجاج في باحة القنصلية. بالإضافة إلى أن مجموعة سنوك الفوتوغرافية تضم عدداً من الصور التي أرسلها إليه القناصل الهولنديون بعد مغادرته الحجاز. ولما أرسل سنوك سنة 1306-1307هـ/1889م، جهاز الفونوغراف إلى جدة لتسجيل أصوات من الحجاز. نفذ له القناصل خلال السنوات 1324-1325هـ/1907م و1338-1339هـ/1920م، حوالي 150 إلى 200 أسطوانة شمعية.   
  • استخدام القناصل الدين في السياسة وهو الأدهى، فحين حث الشيخ أحمد بن إبراهيم الشريف عون على هدم القباب والمباني على القبور لمخالفتها الإسلام اجتهد الشريف في هدمها بمكة وغيرها ولما قصد هدم قُبة قبر أمنا حواء قام القناصل وحالوا بينه وبينها بدعوى أنها ليست أم المسلمين وحدهم.
  • وجهت لهم اتهامات بمحاولة إثارة الفتنة: مثاله، عندما أبرق فؤاد صدقة -وزير خارجية الحجاز بالنيابة -إلى وزارة الخارجية البريطانية عبر القاهرة بتاريخ 18 صفر 1343هـ/17سبتمبر 1924م: إن أعمال قنصلها في جدة ضد الملك حسين وحكومته قد تجاوزت الحدود، فقد حرّض حسين زينل وأتباعه على العصيان. وهذا ما لا ينتظر من أصغر موظف بريطاني.  

إلى غير ذلك من المهام الخفية، إلى جانب حقيبتهم الدبلوماسية وما حوته من تقارير أعطت صورة عن حالة الحجاز بشكل عام.    

 

ابراهيم رفعت باشا

حادثة (فتنة جدة)

إن حادثة بهذا الوصف كان لأسبابها جذور عميقة، لكن اختصاراً أكتفي بالسبب المباشر لها: وهو سفينة إيراني أو إيريني إحدى أملاك التاجر المسلم إبراهيم جوهر. والتي تنازعها بعد وفاته مملوكه صالح وابنه حسن، حتى قرر صالح جوهر التخلي عن الحماية البريطانية والانتقال إلى الحماية العثمانية مع الأملاك التي تم الاعتراف له بها في المحكمة المحلية المنعقدة في 1272هـ / إبريل1858م، وكانت سفينة إيراني جزءاً منها. عندها اتصل الابن حسن بمندوب القنصل البريطاني ليعترض على القسمة، وأوضح أن صالحاً انتقل إلى الحماية العثمانية للإفلات من القضاء البريطاني. هنا اعترض مندوب القنصل بيج على قرار المحكمة، وبناء على أمر القنصل صعد قائد السفينة البريطانية سيكلوبس -المتواجدة آنذاك أمام جدة -على متن إيراني لإنزال الراية العثمانية، وشاع أنه لما أنزلها وطأها بِرجله ومزقها، وتكلم بكلام غير لائق فغضب لذلك الأهالي. كما أمر القنصل بحبس صالح جوهر في سيكلوبس.

إزاء هذا اجتمع أعضاء الميناء والقائم مقام وانضم إليهم المحتسب (أو قائد الشرطة). وفي الاجتماع طلب البعض تسليح العامة لمواجهة أي ردة فعل للإنجليز، ووافق القائم مقام على ذلك، وأصدر تعليماته بنقل المسلحين إلى الميناء بعد صلاة المغرب، وبحسب شهود العيان فإن المحتسب دخل وسط الزحام واختلط بالجموع وقام بتوجيههم إلى القنصلية الإنجليزية.  

توجه جمع غفير من الأهالي بلغ حوالي ثمانية آلاف إلى دار القنصلية البريطانية، فخرج لهم القنصل بيج وأخذ يؤنبهم بكلمات نابية، مما زاد في إثارتهم، كما أخذ يهددهم بإطلاق النار عليهم، بل ذُكر أنه رمى بالرصاص من داخل داره. لم يمنعهم ذلك عن مداهمة منزل مستر بيج وقتله ونهب بيته، بعد ذلك وصل المهاجمون إلى القنصلية الفرنسية. وقتلوا القنصل الفرنسي إيفيلارد، إضافة إلى ما يقارب العشرين شخصاً آخرين وتدمير محتويات القنصليتين الإنجليزية والفرنسية.

ردود الفعل

ما إن تلقت لندن أنباء ما حدث حتى أصدرت تعليماتها إلى القيادة البحرية البريطانية بعودة سيكيلوبس إلى جدة لإنزال العقاب بالقتلة، وأن يترك لقائدها حرية استخدام القوة، وبعثت تحيط فرنسا بما حدث وتدعوها إلى الانضمام لها في عمل حربي انتقامي ضد جدة وسكانها.  

قصف جدة  

عاد بولن كابتن سيكيلوبس إلى جدة وأصدر في 11 ذي الحجة 1274هـ / 23 يوليو1858م، إنذاراً نهائيًا بأنه ما لم يتم إعدام القتلة خلال 36 ساعة، فإنه سيقصف المدينة، وهذا ما فعله، وفي أوقات متتابعة. وقد أجبر القصف كثيراً من الناس على الخروج، ركاباً ومشاة هاربين إلى مكة وما جاورها.    

ردود الفعل حيال القصف

أبلغ الصدر الأعظم السفير الإنجليزي بالآستانة عن انزعاجه لأنباء القصف، حاولت الحكومة البريطانية احتواء الموقف فبعثت إلى سفيرها السير بولور لإبلاغ الحكومة العثمانية بأسفها لما قام به قائد السفينة الحربية.

التحقيق في الحادثة

وفي أواخر شهر محرم 1275ه/ سبتمبر 1858م. وصل إلى جدة مأمورون من طرف الدولة العليّة ومعهم رجال من كبار الإنجليز والفرنسيين، تولوا رئاسة جلسات التحقيق مع المتهمين واستنطاقهم على انفراد، وتوالت الاعترافات. وبعد انتهاء التحقيق تبين أن قصر الجمرك (مبنى البنط) كان هو مكان التخطيط للهجوم، وقرر المحققون أن المتهمين على ثلاث درجات:  

الدرجة الأولى: مثيرو الفتنة، وهم من قام بتسليح الجماهير، والمحتسب الذي قام بإخافة وتهديد القنصل الانجليزي، ونحو اثني عشر شخصاً من عوام الناس، وهم الذين قاموا بعمليات القتل، وقد حكم عليهم بالقصاص. في حين حكم على المتهمين من الدرجة الثانية بالحبس المؤبد والنفي خارج البلاد. وهم تسعة عشر رجلاً قضوا سنة في إستانبول، ثم صدر الأمر السلطاني بترحيلهم إلى جزيرة قبرص. أما المتهمون من الدرجة الثالثة فهم أولئك الذين تواجدوا بالجمرك وقت الأحداث، وتم اتهامهم بالمشاركة فيما حدث.

دفع تعويضات

حث مجلس الوكلاء بإستانبول في 8 ذي الحجة 1274هـ/19 يوليو 1858م، على ضرورة دفع تعويضات لأسر المقتولين؛ وذلك لتهدئة الرأي العام في أوروبا. وتم دفعها من الخزينة الجليلة مع ما جمع من الأهالي رغم فقرهم. وكان أن تركت هذه الحادثة آثارها من تعيين شريف جديد للحجاز. إلى تغيير والي جدة. وتعيين قناصل أوربيين بدل المتوفين.     

 لم تكتف الدولة العلّية، بعد هذه الحادثة المشؤومة، بمتابعة التقارير الصادرة عن جدة، بل فعلت ما في وسعها لضبط أحوالها لتجنب وقوع أمثالها مستقبلاً. وبالرغم من ذلك قامت ثورة الأعراب على وكلاء القناصل، وفي تفاصيلها الآتي:  

بينما كان قنصل إنجلترا وروسيا ورئيس كتّاب القنصلية الفرنسية يتجولون قبل الساعة السابعة من مساء 6 ذي الحجة 1312هـ/31 مايو 1895م، في منتزه واقع على مسافة 500 متر خارج جدة تم الهجوم عليهم بالأسلحة النارية فقُتل وكيل القنصل الإنجليزي عبد الرزاق، وجُرح الباقون جروحاً خطيرة. وقد أرجعت السلطات الاعتداء إلى أسباب عدة، ويرى أحد الباحثين: أن النظرية الأكثر قبولاً التي ظهرت بعد ذلك في المحيط القنصلي هي إن الهجوم كان معنياً به الطبيب عبد الرزاق بالدرجة الأولى. لقيامه بدور مهم في الضغط على العثمانيين لتحسين الأحوال الصحية في جدة ومكة، مما سبب الكثير من السخط الشعبي.          

ولكشف ملابسات الاعتداء أتى إلى ناظر الخارجية العثمانية في 7 ذي الحجة 1312هـ/1 يونيو 1895م، رؤساء المترجمين في السفارات الفرنسية والروسية والإنجليزية، وطلبوا إخطارهم بالمعلومات التي تلقاها والتي سيتلقاها في هذا الشأن، كما طالبوا بسرعة إلقاء القبض على الجناة ومعاقبتهم، والعمل على استتباب الأمن في الحجاز.  

وبالفعل تم اعتقال أكثر من ثلاثين بدوياً من ضمنهم واحد من كبار الشيوخ. علاوة على ذلك حُظر على تجار الحجاز جميعاً أن يبيعوا للبدو المواد الغذائية الضرورية. بيد أن التدابير المتخذة زادت من اضطراب العلاقة بين البدو والسلطات العثمانية. كما طالبت السفارات الأجنبية اسطنبول بدفع تعويضات مالية مبالغ فيها. في حين خفض الصدر الأعظم في 22 رجب 1313ه، هذه التعويضات لتبلغ في إجمالها 24 ألف ليرة وهو تقريباً ما دُفع.      

ومع قيام الدولة الحديثة وتأسيس المملكة العربية السعودية بقيادة المغفور له الملك عبد العزيز عام 1351هـ / 1932م، انتقلت القنصليات إلى وظيفتها الدبلوماسية المعتمدة دوليًا ضمن إطار مؤسسة وزارة الخارجية، وتأسست في حينه البعثات الرسمية لمختلف الدول الخارجية بالتوازي مع تأسيس المملكة أيضًا لبعثاتها الدبلوماسية الرسمية في مختلف تلك الدول، وبذلك انتهت العلاقات الوظيفية للشكل القنصلي الذي تأسس في القرن التاسع عشر الميلادي، وبدأت مرحلة جديدة من العلاقة المتوازنة بين الدول وبخاصة بين المملكة العربية السعودية ودول العالم بما فيها الدول الأوروبية المشار إلى قنصلياتها.

مقالات لنفس الكاتب